ظروف قاسية دفعت الأسر الغزاوية لترك أراضيهم والنزوح لأماكن أخرى داخل القطاع، أو لرام الله بعد أن قصفت قوات الاحتلال الإسرائيلي منازلهم، لتهدم أحلامهم وطموحاتهم وذكرياتهم، كما هدمت بيوتهم؛ فلم تعد الأسر قادرة على توفير الطعام والمياه والوقود؛ فضلًا عن قصف جيش الاحتلال لأغلب مستشفيات القطاع، ليحرم آلاف المرضى من تلقي العلاج الضروري للعديد من الأمراض النادرة والإعاقات، من بين هؤلاء مرضى نزف الدم الذي يعد أحد الأمراض النادرة والخطيرة التي تهدد حياة حاملها إذا لم يتلق العلاج، مع ضرورة توفير الرعاية الصحية والمعيشية اللازمة، دون ذلك تصبح حياتهم مهددة.
يُدرج حاملو هذا المرض ضمن فئة المعاقين، وتشمل أمراض نزف الدم الخلل بأحد عوامل تجلط الدم الثلاثة عشر، ولعل الهيموفيليا أبرزها؛ باعتبارها الأكثر شيوعًا. تواصلت “مواطن” مع عدد من المرضى من أبناء قطاع غزة، والذين دفعتهم الحرب والحصار القائم منذ 17 عامًا للنزوح لخان يونس ورام الله.
الهيموفيليا تفتك بأوصال عائلة نزهة
شاء القدر أن يصاب ثمانية أفراد من عائلة السيدة نزهة فوزي (39 عامًا مواليد مدينة غزة) بأمراض نزف الدم، ولا تستطيع أن توفر لهم العلاج أو الغذاء اللازم، نتيجة الحرب التي يشنها جيش الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة حاليًا، لتبقى عائلة نزهة مهددة إضافة لأهوال الحرب، بفقد أحد أبنائها نتيجة لعدم توفر العلاج اللازم
تحكي نزهة تفاصيل معاناتهم قائلة: “شاء القدر أن يولد أبنائي الثلاثة محمد 23 عامًا، تيسير 15 عامًا، ويوسف 7 سنوات مصابين بالهيموفيليا من النوع B؛ علاوة على إصابة حفيدي و4 من أبناء شقيقاتي بالمرض ذاته؛ حيث إن نسبة المعامل المسؤول عن تجلط الدم لديهم جميعًا صفر؛ ما يدفعهم للمواظبة على حقن الفاكتور أسبوعيًا، وإلا تعرضوا للنزيف وفقدان الحياة في أي لحظة حال عدم تلقي العلاج، يأتي ذلك في وقت أجبرتنا فيه قوات الاحتلال الإسرائيلي على الانتقال إلى الإقامة بإحدى مدارس خان يونس قبل أيام بعد قصف منزلنا بغزة”.
وتضيف لـ “مواطن “: “للأسف العلاج غير متوفر قبل الحرب بأسبوعين بالمستشفيات، والبديل أمامنا هو البلازما، لكن أولادي لا يمكنهم استخدامها بعد أن كونت أجسادهم أجسادًا مضادة؛ ما يعوق نقلهم البلازما ومشتقات الدم الكاملة؛ حيث أصيب ابني الأكبر بنزيف داخلي في الأمعاء، وتكون كتل دموية علاوة على إصابته بمغص معوي جراء مرضه والمياه والطعام الملوث ليُحْتَجَز بالمستشفى، ليعيش على نقل المحاليل والمضاد الحيوي؛ نظرًا لعدم توفر علاجه، إلى جانب تدهور وضعه الصحي؛ حيث بات يستخدم الكرسي المتحرك نتيجة النزيف المفصلي الذي تعرض له جراء عدم تلقي العلاج منذ ما يزيد عن الشهر والنصف؛ فيما تعرض “تيسير” لتأكل في عظام مفصل الركبة”.
وبحسب جاد الطويل رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم: “هناك، وفقًا لآخر تحديث، 600 مريض مسجل بسجلات الجمعية كأمراض نزف الدم المختلفة، والتي تشمل الخلل في أحد عوامل تجلط الدم الثلاثة عشر ك” الهيموفيليا بنوعيها A و B و فون ويلبراند”، بالإضافة للعوامل ” الأول، الخامس، السابع والعاشر “، من بين هؤلاء 200 مريض بقطاع غزة وحده، يمثل الأطفال 50% من جملة الإصابات، مشيرًا إلى أن نحو 30% من المصابين إناث “.
ويضيف الطويل لـ”مواطن“: “نعاني نقصًا حادًا في أدوية مرضى أمراض نزف الدم بالضفة الغربية وقطاع غزة، نتيجة سوء التوريد بالشركات الموردة للعلاج، ولعب الحصار المطبق على القطاع أثرًا سلبيًا في توريد الأدوية قبل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر؛ حيث كان يتم تخصيص 4000 وحدة فاكتور لكل مريض شهريًا؛ في وقت تعد تلك الجرعة ضعيفة للغاية بما لا يناسب غالبية الحالات، كما أن مرضى نزف الدم لا يمثلون أولوية للوزارات والسلطة الوطنية، باعتبارهم مصابين بأمراض نادرة، بالإضافة إلى أن علاجهم باهظ الثمن”.
كما أعلنت جمعية بنوك الدم في غزة عن توقفها عن العمل نتيجة القصف المتواصل لقوات الاحتلال الإسرائيلي، بينما مازال بنك الدم المركزي يعمل في الضفة. بحسب الطويل.
تناشد الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم كافة المؤسسات الدولية، وكل أصحاب القرار بوضع أدوية مرضى نزف الدم في فلسطين على قائمة الأولويات وتوفير العوامل المخثرة وإدخالها لمستشفيات قطاع غزة
السفر للعلاج بأمر الاحتلال وحده
يعاني أحمد زعرب (29 عامًا من مواليد غزة)، والذي اكتشفت أسرته وهو في عمر الثالثة بمرض الهيموفيليا، كغيره من المرضى من الحرب الدائرة التي تهدد حياته، وتزيد من احتمالية وفاته في أي لحظة حال انقطاع العلاج عنه. يحكى أحمد تفاصيل معاناته لـ”مواطن” قائلًا: “منذ أن اكتشف الأطباء مرضي، وأنا أعيش على نقل فاكتور 8؛ حيث إن نسبة المُعامل في جسمي 60%؛ ما يجعلني أحتاج إلى نقل 1000 وحدة فاكتور أسبوعيًا بما يعادل 4000 وحدة شهريًا، لكن بعد اندلاع الحرب بتُّ أنقل 25% من الكمية بما يعادل 1000 وحدة شهريًا، آخر مرة نقلت فاكتور كانت قبل أسبوعين للأسف ونتيجة ذلك والآلام تفتك بجسدي، وأعاني من نزيف مفصلي”.
“الحصار المفروض على قطاع غزة منذ سنوات، دفعني للانتقال من غزة إلى رام الله عام 2018، لأقوم بإجراء عملية تغيير مفصل في 2019؛ حيث إن المرضى بفلسطين لا يجدون العلاج، ونظرًا لـ عملي المجهد كحارس عقار؛ اضطررت لترك العمل قبل 6 أشهر كي لا أتعرض للحركة، وأنزف بشكل متزايد في وقت لا يتوفر علاجي”. يضيف زعرب
كما يعمل على مساعدة زملائه للانتقال إلى رام الله للعلاج بعد قصف مستشفى الصداقة التركي بغزة، والذي كان يعالج فيه مرضى الهيموفيليا، لم يعد لديهم إمكانية الوصول للمستشفى، في وقت يحتاج غالبيتهم لإجراء عمليات تغيير مفصل الكاحل والركبة، من بين هؤلاء أطفال كثر، يقول زعرب: “حاول بعض المرضى الانتقال لرام الله بالضفة الغربية في محاولة منهم لتلقي العلاج، لكنهم قُصِفُوا وهم في الطريق، ليعيش المرضى في غزة في وضع مأساوي، رغم حاجة البعض الملحة للسفر للعلاج بالخارج، إلا أن قوات الاحتلال الإسرائيلي لا تسمح لهم بذلك”.
وشددت الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم على مرضاها ممن تمكنت من التواصل معهم عقب اندلاع الحرب، على ضرورة حصولهم على وحدات الدم الكاملة إن توفرت أو البلازما أو الكاريو أو أي أدوية أخرى تساعد على التجلط، كما نصحتهم الجمعية بعدم المشي أو وضع أوزان على مفاصلهم ووضع الثلج عليها، يأتي ذلك في وقت يحتاج هؤلاء لعوامل مخثرة تتمثل في الإبر الوريدية التي تؤخذ على مدار الساعة منذ ولادتهم، وتعطى لهم من أجل منع النزف أو إيقافه، وغالبًا ما يحدث النزف لديهم تلقائيا في المفاصل والعضلات والأعضاء الداخلية؛ حيث إن الأدوية تعمل على منع الإعاقات والحد من الموت.
يحتاج المريض لهذا العلاج أكثر من مرة أسبوعيا، وحذر “الطويل” في حديثه لـ”مواطن” من أن عدم تناول المرضى لجرعاتهم من الفاكتور، يعرضهم لتلف المفاصل والعضلات، والإعاقة التي قد تتزايد معدلاتها في ظل الظروف التي يعيشونها وسط الحروب واحتمالية الإصابة من القصف، وسقوط المباني والتشرد والضغوط النفسية التي يعانونها؛ في وقت بات غالبيتهم مشردين كنازحين في أروقة مستشفيات، أو في مراكز إيواء مؤقتة.
انتهاكات إسرائيلية في حق مرضى نزف الدم
لم يسلم أحد مصابي الهيموفيليا الذي يعاني في الوقت ذاته من فقدان بصره من اعتقال قوات الاحتلال الإسرائيلي له، بحسب ما أخبرنا رئيس مجلس إدارة الجمعية الفلسطينية لأمراض نزف الدم في أول أيام الحرب، بعد أن دخل الشاب الثلاثيني الذي تتحفظ الجمعية على ذكر اسمه أحد المستشفيات الإسرائيلية لإجراء عملية تغيير مفصل بعد ما أتلف النزف المستمر مفصله، إلى أن اندلعت الحرب؛ ففر هاربًا من المشفى قبل إجراء العملية، لينتهي به المطاف على أحد المعابر بنطاق مدينة الخليل، وهناك اعتقلته قوات جيش الاحتلال لينقل لسجن عوفر الإسرائيلي برام الله، قضى أسبوعين بالسجن دون علاج أو اهتمام بنظافته واحتياجاته الشخصية؛ في الوقت الذي كانت الجمعية تبحث عنه في كل مكان، إلى أن تدخل الصليب الأحمر الدولي، ونُقِل لمجمع فلسطين الطبي للعلاج، ثم انتقل للعيش مع بعض العائلات برام الله ينتظر إجراء عملية تغيير المفصل المؤجلة لعدم توفر العامل المخثر التاسع؛ حيث يأمل الشاب أن يعود إلى العيش مع عائلته النازحة بإحدى مدارس الأونروا.
وتتواصل الجمعية مع الجهات المعنية بهدف إدخال الفاكتور لفلسطين عامة، وقطاع غزة تحديدًا، إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، يضيف الطويل: “خلال تواصلنا الأخير مع الوزارة، أبلغونا بأن هناك كمية جاهزة من الفاكتور يفترض أن تشحن لقطاع غزة، لكن الجهات المعنية لم تتمكن من إدخال الشاحنات بسبب القصف المتواصل على المعابر، وتجري محاولات إدخالها عبر معبر رفح عن طريق الهلال الأحمر المصري.
ولم تتمكن الجمعية إلا من التواصل مع 65 مريضًا من أبناء قطاع غزة، لكن تضاءل عددهم لنحو 20 مريضًا خلال الأسبوع الماضي بعد أن فقدنا الاتصال بالباقين؛ بحسب الطويل.
كما يناشد كافة المؤسسات الدولية، وكل أصحاب القرار بوضع أدوية مرضى نزف الدم في فلسطين على قائمة الأولويات وتوفير العوامل المخثرة وإدخالها لمستشفيات قطاع غزة؛ في محاولة لإنقاذ حياة المرضى، والمساعدة على البحث عنهم؛ خاصة بعد أن انقطعت الاتصالات بيننا وبين عدد كبير منهم.
التعليقات 1