قراءة في نهج السلطة في عمان
قبل سنوات نصحني أحد الإخوة بقراءة كتب عالم الاجتماع العراقي الشهير الدكتور علي الوردي، وادهشني أسلوبه في الكتابة، مما جعلني أقتني كتبه كلها تقريبًا، الوردي هو خير من شرّح وقرأ المجتمع العراقي بأسلوب شيق. قد تختلف معه في كثير من أفكاره، لكن لا يمكنك أن تختلف في روعة أسلوبه في الكتابة.
يقارن الدكتور بين المجتمع العراقي والمجتمع الشامي (دول الشام ) بوصف مدهش، منطلقًا من الحدث التاريخي الأكبر في التاريخ الإسلامي، الذي ما زال يثير النقاشات، وهو مقتل الحسين.
يرى الوردي أن هذه الحادثة خلفت في نفوس العراقيين الثورة الاجتماعية ضد الظلم، وهو ما نشهده في التاريخ العراقي، بعكس المجتمع الشامي، الذي هو بطبعه يحب الزعامات السياسية بسبب الأمويين ومقرهم في دمشق، وحب الزعامة نستطيع أن نراه في المسلسلات السورية(التقليدية) جليًا في ما يعرف بشخصية المعلم.
السلطات في عمان ليست قمعية ولا هي ديمقراطية؛ مقارنة بغيرها من دول الخليج. فهي تقريبًا في المنطقة الرمادية.
السؤال هنا؛ هل للمجتمع العماني نمط معين على هذا النحو والقبيل؟ هل هنالك كتابات تقدم وصف دقيق للمجتمع العماني؟ والسؤال الأهم؛ كيف تتعامل السلطة مع المجتمع؟ التي هي حتما تعرف المجتمع العماني، أكثر مما يعرفه الدكتور الوردي عن المجتمع العراقي بحكم الإمكانيات والأدوات.
قرأت العديد من الكتب العمانية، ولم أجد الكتاب الذي يتحدث عن طبائع المجتمع العماني، وفجأة أعطاني أحد الأخوة كتابًا صدر قبل سنوات لكاتب فلسطيني اسمه عبدالرزاق التكريتي، وعنوان كتابه ثورة الرياح الموسمية، يتحدث الكتاب عن الحقبة بين (1965م-1976م)، والأحداث التاريخية المهمة، مستندًا على الوثائق البريطانية في هذه الفترة.
المدهش في هذا الكتاب، أنه يورد دليل التعامل مع الجنود العمانيين في الجيش، الذي كان يوزع بين الضباط البريطانيين، هذا الدليل يمثل في اعتقادي طبيعة المجتمع العماني، ويغوص في أعماق النفس العمانية.
صحيح أن المجتمع العماني تغير كثيرًا بسبب التعليم وابتعاث الشباب للخارج والطفرة النفطية التي شهدتها المنطقة، لكن السلطة تتعامل مع المجتمع وفق هذا الدليل؛ سواء كانت تعرف عنه أم لا.
وقبل الحديث عن هذا الدليل لابد معرفة حقيقة تاريخية، أن عمان جغرافيًا بعيدة عن الدول العربية الصاخبة بالأحداث التاريخية مثل مصر والعراق؛ فالأفكار والقضايا الفكرية تصل متأخرة وتتدافع بين النخب الثقافية بعد فترة، وهذا سبب من أسباب حالة التسامح والتعقل في طرح القضايا بين العمانيين.
والسلطة في عمان تدرك هذا جيدًا، ورسمت سياستها الخارجية على هذا المسار، وفي الداخل أيضًا لا تريد من المجتمع أن يتواصل أو يبدي رأيًا حول الأحداث الخارجية، ومن وجهة نظري أن سياستها الخارجية ممتازة، ونالت قبولاً في الداخل والخارج، لكنني لا أعتقد أنها تستطيع أن تستمر في سياستها الداخلية، بحكم عصر برامج التواصل الاجتماعي والضغوط الخارجية .
وأحب أن أشير هنا إلى أن النخب الثقافية في الكويت كان لديهم تأثير كبير في الدول المجاورة، مثلما شارك أحمد الربعي بصورة مباشرة في ثورة ظفار، وكان ايضًا في المقابل الدكتور عبدالله النفيسي يقف مع السلطة.
لكن الأمر اختلف بعد قوانين تجريم الإساءة إلى “الدول الشقيقة والصديقة”، وأعتقد أن هنالك توافق بين سلطات دول الخليج، حول تجريم الانتقاد أو الإساءة لرؤساء دول مجلس التعاون.
حول دليل التعامل مع الجنود العمانيين
يتحدث دليل التعامل مع الجنود العمانيين في الجيش عن عدة نقاط، سأذكر منها ثلاثًا فقط، وهي: أنهم يبنون أحكامهم على ظواهر الأمور بطريقة سطحية، ويملكون حسًا حاضرًا بالدعابة والأضحوكة ، وتربكهم الأفكار الجديدة وغير المألوفة.
بالنسبة للنقطة الأولى، المجتمع العماني تغير جدً،ا وصار يبني أحكامه على بواطن الأمور؛ فقد انتهى وقت التباهي الحكومي ببناء عشرات المدارس، ولكن للأسف، لايزال الإعلام إلى الآن يتباهى ببناء المدارس والمستشفيات، غافلاً عن جودة التعليم والخدمات، وصار المجتمع يناقشها في مواقع التواصل. والشخص الذي يدافع عن الحكومة ببناء المدارس والمستشفيات “ظواهر الأمور”، ينظر إليه المجتمع على أنه من الجيل القديم!
إذا طرحت سؤالاً على أي شخص في عمان؛ ما رأيك في صناعة فيلم كالأفلام الغربية باللهجة العمانية؟ حتمًا ستأتيه ضحكة تلقائية؛ هذا هو الحس الذي أقصده،
وهنا أيضًا يقودنا إلى مسألة أخرى، وهي أن الإعلام العماني لم يبرز لهجة رسمية، كما في دول الخليج مثل الكويت والسعودية، وهذه هي مسألة في غاية الخطورة. تابعت قبل مدة مقطعًا لشخصية سياسية تقول كلامًا خطيرًا يخص اللهجات المحلية؛ حيث يقول: إن بداية المزاح والضحك على اللهجات في الدولة الواحدة ما هي إلا بداية وإثارة “نزعات الانفصال”، في القطر الواحد على المستوى البعيد.
السلطة في عمان رفعت سقف حرية التعبير عن الرأي، مقارنة بالفترات السابقة، وهذا من محاسنها، ولكن هل يكفي هذا؟
وبالنسبة للنقطة الثالثة، بحكم أن عمان لفترات متقطعة عبر تاريخها كانت في عزلة عن الدول المجاورة، من وجهة نظري أن هذه العزلة سبب من أسباب اكتسابهم لهذه الطبيعة؛ “تربكهم الأفكار الجديدة وغير المألوفة”، لذلك تحاول السلطة أن تقطع كل فكرة تأتي من الخارج.
وأبسط مثال على ذلك هو حين أصدر رئيس مجلس الشورى قرارًا يحذف كلمة برلمان من مسميات دوائر وأقسام مجلس الشورى، رغم أن المجلس صلاحياته ضئيلة، وهو أقرب إلى مجلس استشاري.
لكن كلمة “برلمان” لها مدلولات عند قائلها ومتلقيها؛ فهي تعطي صورة عن طبيعة المتكلم وثقافته وتواصله المباشر وغير المباشر مع الوضع الإقليمي والعالمي، ومعرفته بالبرلمانات؛ طبعًا لا أغفل عن طبيعة المجتمع المحافظة وقلقه من الثقافة الأوروبية (العلمانية) وخطابات القريبين من السلطة تعزز هذا الخوف!
يقول ناصر بن سعيد العتيقي في كتاب، الأوضاع السياسية العمانية في عهد السلطان سعيد بن تيمور: “ويتضح النفوذ البريطاني في إدارة شؤون البلاد أنه يخدم سياستهم، الذين عزلوا عمان تمامًا عن أي نشاط اقتصادي أو سياسي عن إمارات الخليج العربي، وبقية أقطار الوطن العربي، لمنع انتقال الأفكار الوطنية والقومية”.
ومن باب الإنصاف؛ فالسلطات في عمان ليست قمعية ولا هي ديمقراطية؛ مقارنة بغيرها من دول الخليج. فهي تقريبًا في المنطقة الرمادية.؛ فهل ستستمر هذه الحالة؟ اللافت في الموضوع أن السلطة قد سُحبت منها منذ عقد من الزمان “سلطة الأسماء” بحكم برامج التواصل الاجتماعي.
وظهرت عدة مصطلحات قبل سنوات مثل ” وطني وغير وطني”، للدلالة على أن السلطة تصف من ينتقدها “باللا وطني”، وخلال العقد المنصرم ظهر مصطلح “مطبل “؛ فلأول مرة ينتزع المجتمع سلطة التسمية! والتدافع الحاصل في برامج التواصل يؤكد هذا.
وأخيرًا، السلطة في عمان رفعت سقف حرية التعبير عن الرأي، مقارنة بالفترات السابقة، وهذا من محاسنها، ولكن هل يكفي هذا؟ القادم يحمل الكثير من المفاجآت، هل ستستمر في المنطقة الرمادية؟ أم أن الوضع سيتغير؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.