عندما نتحدث عن الكبت الجنسي في المجتمعات الشرقية؛ فإننا ندخل عالمًا سريًا مليئًا بالتحفظات والقيود، لنثير الفضول ونتساءل عن أسراره وتأثيراته على الحياة اليومية، وتكوّن شخصية المجتمعات، والفعاليات التي تنشأ عنه بصفته عملية قمعٍ ذاتيّ من جهة، وعن طرق الهروب منه والتحايل عليه من جهةٍ أخرى.
ولا يمكن تناول الكبت الجنسي على أنه مجرّد امتناعٍ عن الجنس، إنه -كما أكّد كارل يونغ مرارًا- تدهور روحيٌّ معنويّ يجعل الإنسان يُكابد جحيمًا نفسيًا وإحساسًا عميقًا بالإحباط وانعدام القيمة.
"أخذنا في كتاب التربية الإسلامية أن أي ممارسة جنسية بعيدًا عن الزواج حرام، لكن لم يمنعني هذا الكلام من ممارسة العادة السرية ومتابعة الأفلام الإباحية بكثرة، إنما اكتفى بإضافة شعور عميق بالذنب".
الكبت، يعني خسارة طاقة حيوية يُفترض أن تُساهم في التوازن الروحي والمعنويّ، بالإضافة إلى خسارة الطاقة التي تُصرف على الكبت وآثاره، وعلى الشعور بالذنب تجاه كل ذلك؛ ما يدفع الإنسان للشعور بهبوط مرتبته الإنسانيّة.
وما يترتّب عليه هو اتخاذ قراراتٍ غير مدروسة وجنونية، وانقيادٌ وراء أفكار متطرفة وجماعاتٍ إرهابية مُتشددة تُبيح الاغتصاب وجهاد النكاح، وتعد بالحُور العين كحلٍّ نهائي لمُعضلة الكبت التي يُعانون منها، ويظهر ذلك بوضوح حيث إنّ أغلب منُفذي الهجمات الإرهابية والانتحارية شُبانٌ وعُزابٌ في ذروة نشاطهم الجنسيّ.
بين ممارسة الاستمناء، ومتابعة أفلام البورنو
يدفع الكبت الجنسي في بلادنا المراهقين، وعدد من الكبار من غير المتزوجين إلى محاولة صرف هذه الرغبات، يحكي أفرام (33 عامًا)، خرّيج كلية الهندسة، ويعمل في مجال Graphic Design لمواطن: “في بداية معرفتي أنّ هنالك شيئًا ما اسمه جنس، لم أكن أتوقع أنّ هنالك من يمارسه خارج إطار الزواج”.
ويستطرد: “أخذنا في كتاب التربية الإسلامية أن أي ممارسة جنسية بعيدًا عن الزواج حرام، لكن لم يمنعني هذا الكلام من ممارسة العادة السرية ومتابعة الأفلام الإباحية بكثرة، إنما اكتفى بإضافة شعور عميق بالذنب”.
ويضيف لمواطن: “بعد تخرّجي من الجامعة وانخراطي أكثر في الحياة وقراءة الكتب والمقالات، عرفت أنّ الجنس ليس ذلك الشيء العظيم، الذي كنتُ أتوقعه وأتخيله، وأقضي بسببه ساعاتٍ في مشاهدة أفلام البورن والاستنماء”.
ويكمل: “أعتقد أنّ التجربة الواقعية للجنس -التي لن تستمرّ لساعات بكل تأكيد- كانت لتختصر عليّ كل ذلك الوقت، وتجعلني أركز في الدراسة وفعل أشياء مفيدة في الحياة، وكان ذلك سيجنبني شعوري بالذنب بعد كل استنماء، وربما جنبني سنواتٍ من المعاناة مع اكتئابٍ ناكس واضطراب القلق الاجتماعي وأدويةٍ جعلتني باردًا ومثبّطًا”.
وفي سياقٍ مرتبط بتجربة أفرام؛ فإنّ المراهقين المتدينين، أكثر تطويرًا للسلوك الجنسيّ القهريّ من المراهقين العلمانيين، وفق ما أثبتته إحدى الدراسات الحديثة.
ويعد السلوك القهري الجنسي، حالة من فرط الرغبة الجنسية أو الإدمان الجنسي، يعجز فيها الفرد عن التحكم في سلوكه الجنسي، بدرجة تعيق قدرته على العمل وممارسة الحياة اليومية.
الزواج، وكيل حصري للجنس
“اليوم، وبعد أن أصبحتُ في الثلاثينات، فقدتُ تلك الرغبة الجامحة بالجنس، لربما كان الوقت الأفضل للجنس هو فترة العشرينات (الذي لم يكن الوقت الأفضل للزواج بالتأكيد)، يبدو أنّ هنالك أشياء إن لم نخضها في وقتها؛ فإن جزءً كبيرًا من بهجتها يتبخر”. يقول أفرام.
يعتقد الكثير من الناس أنّ أثر الكبت يقتصر على فترة العزوبية، ومع الزواج يزول الضغط والتوتر الجنسيّ، ويحصل تفريغٌ صحيّ لكلّ الرغبات، وفي هذا جانبٌ من الحقيقة.
لكنّ سنوات الكبت المليئة بالخيالات والمعلومات غير الصحيحة حول الجنس ومشاهدة مقاطع الجنس المثاليّ، وما يُصاحبها من توقعاتٍ مرتفعة، ستُلقي بظلالها على العلاقة الزوجية -الواقعية- التي ستكون في الغالب بعيدةً عن الأفكار المُسبقة والأفلام، ممزوجةً بقليلٍ من الخيبة.
لذا فإنّ منح الزواج منصب الوكيل الرسمي والحصريّ للحياة الجنسية، ورّط البلدان العربية والإسلامية في مشاكل اقتصادية واجتماعية وصحية وسياسية؛ فكل من يريد أن يمارسَ حياةً جنسيةً طبيعيةً عليه أن يتزوج.
والزواج غالبًا يُحتّم الإنجاب، الذي ينطوي على مسؤولياتٍ جسام لا يقدر عليها كل الناس؛ خصوصًا عند تعدد الأطفال، وعدم توفر القدر الكافي من التفرّغ العاطفيّ والمرونة النفسية والاكتفاء المادي والمستوى الثقافي، والإلمام بألف-باء التربية السليمة.
وما ينتج في أغلب الأحيان أطفالٌ كثرٌ لم يحصلوا على كفايتهم من العاطفة والحب والاهتمام قبل الطعام والشراب، وأكثر عرضةً للإصابة بالاضطرابات النفسية والسلوكيات القهرية الجنسية وغيرها.
ما يمثل إعادة الدوران في حلقةٍ مُفرغة من النقص، ومحاولة التعويض في الزواج وغيره، والنتيجة بطالة ونقص فرص العمل واستيرادٌ يفوق التصدير، وتعثّر فئة الشباب بأنفسهم، بدلًا من توظيف قدراتها في التنمية والتطوير والإبداع.
تشير دُراسة حديثة أشرف عليها باحثون في قسم علم الجريمة والعدالة الجنائية، بجامعة ألاباما، في الولايات المتحدة، أنّ الإحباط الناجم عن الرغبات الجنسية المكبوتة وغير المُحققة، وعدم وجود شركاء جنسيين، بالإضافة إلى الأنشطة الجنسية غير المُرضية، يزيد مستويات العدوانية والعنف والجريمة ابتغاء التفريغ والراحة relief-seeking، والسعي إلى السلطة والانتقام.
الكبت الجنسي، والمشاكل الصحية
يقود الكبت الجنسي إلى أضرار صحية بالغة؛ يحكي فادي (29 عامًا): “لا أزال أعاني من قروحٍ في رأس القضيب، جرّاء ممارستي المُفرطة للعادة السرية (من خارج البنطال) في بداية مراهقتي، زرتُ طبيب المسالك البولية ونصحني باستخدام الفازلين وعدم الإكثار من العادة السرية”.
ولاحظ الباحثون انخفاض معدل الإصابة بالمرض بين أولئك الذين يمارسون الجنس أكثر من 3 مرات في الشهر، مقارنة بمن يمارسون الجنس أقل من 3 مرات في الشهر، بالإضافة إلى تحسين صحة القلب وخفض ضغط الدم.
ويضيف: “صحيحٌ أنّ الإسلام حرّم الجنس دون زواج، ولكنّ الذكر في تلك الأيام كان يتزوج عند بلوغه، أما الآن فتغيّرت الأحوال ولم تتغير التشريعات؛ فستظلّ تستمنى حتى تتزوج، لا خيار آخر”.
يتحدّث شادي (٢٧ عامًا): “عانيتُ منذ سنتين من ألم شديد في كيس الصفن، دفعني لزيارة الطبيب، الذي أخبرني أنني أُعاني من دوالي الحبل المنويّ، وعندما سألته عن أسبابها، أخبرني أنّ هنالك أسبابًا جينية ووراثية لا يمكننا التحكم بها، ولكن أغلب المراهقين يتعرضون لتحفيزٍ جنسي متكرر؛ سواء عبر النظر أو اللمس أو التقبيل، لكنهم لا يصلون إلى إشباعٍ كامل، هذا التحريض المتكرر الذي لا يتبعه تفريغٌ ليس صحيًا وسيؤدي إلى احتقانٍ يسبب دوالي الخصيتين والحبل المنوي”.
ولاحظ الباحثون انخفاض معدل الإصابة بالمرض بين أولئك الذين يمارسون الجنس أكثر من 3 مرات في الشهر، مقارنة بمن يمارسون الجنس أقل من 3 مرات في الشهر، بالإضافة إلى تحسين صحة القلب وخفض ضغط الدم ورفع عتبة الألم.
وما يفعله الكبت، هو حجب كل فوائد الممارسة الجنسية، ويحل محلها التوتر والقلق والأرق والاكتئاب، الذي يضر بصحة القلب والأوعية الدموية ومختلف أجهزة الجسم.
على الرغم من البؤس؛ ثمة أفق إبداع
ليس كل الكبت شر، يقول لمواطن، الدكتور رفيف المهنا، أخصائي في الطب النفسي وعلاج الإدمان في فرنسا: “الكبت الجنسي مربوط بكل شيء في الحياة، ولنكن أكثر دقة؛ فالحياة الجنسية مُرتبطة بكل ما يخطر ولا يخطر على البال، ترتبط بالأمراض النفسية والصحة النفسية، ترتبط بأكلنا وشربنا ونومنا ومزاجنا وغيرها”.
ويكمل: “لكنني صراحةً لا أستطيع كطبيب نفسي إلصاق اضطرابات نفسية معينة بالكبت الجنسي، ليس لديّ قناعة بهذا الربط؛ فالكبت يؤدي إلى أمراض وإلى فنون وجمال وشعر وإبداع وإلى (مليون شغلة)”.
وعما إذا كانت العادة السرية تخفف الآثار السلبية المرتبطة بالحرمان من الجنس يقول: “أعتقد في حال جاوبنا على السؤال بنعم ولا؛ فالجوابان غير صحيحين؛ فبسبب كثرة وتنوع واختلاف الحالات التي أعاينها في عيادتي، وأشاهدها في المستشفيات، أعتقد أنّ السلوك الجنسي غير قابل للفهم وغير قابل للتوقع، الأمر ليس بهذه البساطة”.
الكبت الجنسي الطويل أمر غير صحي بالمطلق، وفي الوقت نفسه يبقى تعدد العلاقات والشركاء وإدمان الجنس محفوفًا بكثير من المخاطر.
وحول الانفتاح الجنسي في الغرب يقول مهنا: “الجنس هو طريقة اجتماعية للتواصل الجسدي، يختلف شكله ودرجته من مكان لآخر، وما يختلف في الغرب هو الشكل الاقتصادي الذي فرض شكلًا اجتماعيًا؛ فرض بدوره شكلًا معينًا من السلوك الجسدي الحميم، وهو لا يعني أننا في شرق متخلف، مقابل غرب متحضر، أكثر مما هو نمط اقتصادي كان له تأثيراته في الحياة الاجتماعية”.
وفي نفس السياق، توصّلت دراسة جديدة في جامعة “لويولا ماريماونت” في الولايات المتحدة الأمريكية، إلى أنّ المشاعر المكبوتة وقمع الرغبة الجنسية قد تكون حافزًا للإبداع، مُستندين إلى أنّ الفن هو أحد الطرق لتفريغ التوترات الداخلية والتعبير عن المشاعر المكبوتة.
ووجد الباحثون أنّ البروتستانت (المُشاركين في الدراسة) الذين واجهوا صعوبات كبيرة تتعلق بالمحرمات الجنسية ومخاوف الانجرار إلى العلاقات، حققوا الكثير من الإنجازات الإبداعية، وبرعوا في المهن التي تتطلب ملكات إبداعية؛ فكتبوا شعرًا أفضل، وصنعوا منحوتات أجمل، حين تم تحفيز رغباتهم المكبوتة، وكان أولئك الذين كبتوا غضبهم ومشاعرهم هم أصحاب الإنتاج الأفضل.
ولاحظ الباحثون أن اليهود والكاثوليك (ممّن تضمّنتهم الدراسة) لم يحصدوا أيًا من الفوائد الإبداعية للمشاعر المكبوتة، وكان لديهم طريقة أقل إنتاجية في الاستجابة للأفكار والمشاعر غير المريحة مثل الشعور بالذنب، وأرجعوا ذلك إلى وجود مؤسسات وطقوس رسمية تسمح للشخص بالتكفير عن خطاياه والتوبة عنها، غير موجودة عند البروتستانت الذين كانوا بحاجة إلى طريقة للتنفيس عن كبتهم، ووجدوا ضالتهم في الفن.
ختامًا، لا يوجد قانونٌ واحدٌ يحكم استجابة الإنسان للكبت الجنسي، ولا يمكن تعميم أيّ فكرة حياله؛ إذ إنه غير قابلٍ للتنبؤ، تحكمه عوامل ذاتية وموضوعية متنوعة تختلف من شخص لآخر، ومن بيئة لأخرى؛ فمن الإبداع الذي يعتبر أساس نمو وتطور الحضارة البشرية، إلى الإرهاب الذي يقوم على تدمير أي حضارة يمر بها، يوجد طيف كبير من التنوعات والاختلافات في نتائج الكبت.
لكن من الجدير بالقول؛ إنّ الكبت الجنسي الطويل أمر غير صحي بالمطلق، وفي الوقت نفسه يبقى تعدد العلاقات والشركاء وإدمان الجنس محفوفًا بكثير من المخاطر.
هو ليس كبتاً بالمعنى بل هو تأجيل، والدين الإسلامي لم يحصر الجنس في الزواج المتعارف عليه بل وضع حلول مثل زواج المتعة وزواج المسيار لكي نتفادى مشكلة الكبت الجنسي.