عند قيام دولة إسرائيل سنة 1948، ثار الرأي العام العربي والإسلامي؛ ليس فقط لأن الحدث الجديد هو دولة يهودية وسط محيط عربي مسلم؛ لكن لدلالة اسم “إسرائيل” في الثقافة الإسلامية، التي هي دلالة إيجابية يوصف بها نبي الله يعقوب؛ فخرج البعض مستنكرين هذه التسمية على الدولة الجديدة، وجرى العُرف على تسميتها بالدولة اليهودية أو الصهيونية في أوساط المتدينين المسلمين.
أذكر من ذلك ما كتبه الشيخ السعودي “ربيع بن هادي المدخلي” بمجلة الأصالة في مقال بعنوان “حكم تسمية دولة يهود بإسرائيل” (العدد 32 السنة السادسة ربيع أول 1422هـ صـ 54- 57)، ومن ذلك ما كتبه الشيخ “بكر أبو زيد” في كتابه “معجم المناهي اللفظية، وما قاله “أحمد الشقيري” في كتابه “خرافات يهودية”، أيضًا تحت عنوان “لستم أبناء إبراهيم بل أبناء إبليس” (صـ 13 – 30)، وأخيرًا ما كتبه الشيخ “عبد الله بن زيد آل محمود” في رسالة له بعنوان “الإصلاح والتعديل فيما طرأ على اسم اليهود والنصارى من التبديل” لسنة 1398هـ، وفي كل هذه المصنفات وغيرها نواة حازمة على كراهية تسمية دولة الصهاينة بإسرائيل، لقدسية نبي الله إسرائيل/ يعقوب في الدين الإسلامي، ولأن الدولة الجديدة مختصة فقط باليهود، وبدأت في التاريخ بحروب ومجازر ضد العرب والمسلمين؛ فجرى العُف الإسلامي والعربي على أنها تمثيل للقُبح والشر الذي يحرم نسبه لأحد أنبياء الله.
إن قبول المسلم تسمية إسرائيل بدولة اليهود كدلالة سلبية، يعود إلى ذكر اليهود في القرآن بتلك الدلالة؛ حيث تعددت الآيات الدالة على خصومة المسلمين لليهود والمشركين دون غيرهم، كما في قوله تعالى: “لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا، ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون” [المائدة : 82]، وبوصف اليهود لله بصفات غير لائقة كما في قوله تعالى: “وقالت اليهود يد الله مغلولة غلت أيديهم ولعنوا بما قالوا بل يداه مبسوطتان ينفق كيف يشاء وليزيدن كثيرًا منهم ما أنزل إليك من ربك طغيانًا وكفرًا وألقينا بينهم العداوة والبغضاء إلى يوم القيامة كلما أوقدوا نارًا للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فسادًا والله لا يحب المفسدين” [المائدة : 64]، وقوله أيضًا: “لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء سنكتب ما قالوا وقتلهم الأنبياء بغير حق ونقول ذوقوا عذاب الحريق” [آل عمران : 181].
نجد من خلال هذه الآيات أن الصفة الملازمة لليهود، وهي إشعال الحروب والسعي للفساد تحققت في إسرائيل عند قيامها سنة 1948 وفقًا للذهنية الإسلامية، لذا يمكن فهم لماذا لجأ رجال الدين لتسمية تلك الدولة العدوانية الشريرة –بمعتقدهم– بالدولة اليهودية، لكنها ليست إسرائيل؛ فالوصف يتماشى مع القرآن ومع الكثير من نصوص التراث التي تتناول اليهود بشكل سلبي، علمًا بأن القرآن يحوي العديد من الآيات الدالة على التسامح مع اليهود –بصفتهم أهل كتاب- وحُرمة الاعتداء عليهم أو ظلمهم، وفي بعض نصوص القرآن تحذيرات صريحة بعدم التعميم على الجميع لأن اليهود فيهم أشرار مثلما فيهم صالحون، كما في قوله تعالى: “ومن أهل الكتاب من إن تأمنه بقنطار يؤده إليك ومنهم من إن تأمنه بدينار لا يؤده إليك إلا ما دمت عليه قائمًا ذلك بأنهم قالوا ليس علينا في الأميين سبيل ويقولون على الله الكذب وهم يعلمون” [آل عمران : 75]، وقوله أيضًا “ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون” [آل عمران : 113].
والذي يعزز هذه الصورة القبيحة لدولة إسرائيل في الذهنية الإسلامية، هي أنها قامت بجهود عدة دول لها تاريخ عدائي مع المسلمين والعرب في الماضي
John Doe Tweet
يقوم العقل المسلم باستدعاء نص الصراع مع اليهود ويصمت عن الآخر، والسر في أن الفقهاء عملوا على هندسة العقل الإسلامي بالانتقائية والفرز وفقًا للمصالح لا القيم، وهذه الإشكالية من أبرز تداعيات إطلاق النصوص، وتناول الآيات والأحاديث بمعزل عن ظروفها بالزمان والمكان فيما اصطلح عليه بقاعدة “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”؛ فإذا تناول دولة إسرائيل حاليًا داخل الثقافة الإسلامية، تجد أن الآيات الأولى هي المهيمنة، وكافة ما ذكر في أهل الكتاب بسياق الذم، لا المدح والإنصاف.
والذي يعزز هذه الصورة القبيحة لدولة إسرائيل في الذهنية الإسلامية، هي أنها قامت بجهود عدة دول لها تاريخ عدائي مع المسلمين والعرب في الماضي، كالدور البريطاني والفرنسي في الحروب الصليبية (1096- 1272م)، يصبح حينها قيام هذه الدولة بجهود الإنجليز والفرنسيين هو استنساخ لتلك الحروب، بما فيها من رمزية دينية وقومية في الفكر الإسلامي، وقد عبر العقل العربي عن ذلك بالإكثار من أفلام السينما التي تتناول تلك الحقبة في الصراع ضد المغول (فيلم وإسلاماه سنة 1961م)، والصراع ضد الصليبيين (فيلم الناصر صلاح الدين 1963م)، وهي من أشهر الأعمال التي أسست لحقبة فنية ودرامية تتناول إسرائيل والصراع مع القوى الإمبريالية الأوروبية في العهد الناصري باستدعاء القوميتين العربية والإسلامية معًا، وهي القوميات التي شكلت وعي المسلمين تجاه هذه الحقبة التاريخية في الماضي، ويجري إسقاطها ضد إسرائيل في الحاضر.
والذي يعزز هذه الصورة القبيحة أكثر، أن قيام دولة إسرائيل لم تصحبه مفاوضات أو صداقات؛ بل أعمال إرهابية لعصابات صهيونية كانت تستهدف السكان الأصليين لفلسطين، أشهرها مذابح “الطنطورة” و “دير ياسين”، ووفقًا لاتفاقية جنيف لتعريف الإرهاب سنة 1937 أن كل من يقوم “بأعمال إجرامية موجهة ضد دولة ما أو شعب ما يقصد بها حالة من الرعب في ذهن أشخاص معينين، أو مجموعة من الأشخاص أو عامة الجمهور فهو إرهاب” (الإرهاب الدولي والنظام العالمي الراهن/ أمل يازجي، محمد عزيز شكري طبعة دار الفكر 2002 صـ 63). ونصت اتفاقية جنيف على تعريف الإرهاب أيضًا أنه فعل يتسبب في موت أو إصابة أو فقدان حرية أي من المسؤولين وأزواجهم، أو يقومون بتخريب الممتلكات العامة الخاضعة لسلطات وملكيات دولة أخرى وشعب آخر، وباستعراض تاريخ عصابات “الهاجانة والأرجون وشتيرن وبيتار وبلماح..وغيرها ” من العصابات الصهيونية؛ نجدها قد فعلت كل ما سبق؛ سواء ضد المسؤولين والشعب الفلسطيني أو الإنجليزي.
ساعد على ترسيخ هذه الصورة معتقدات الصهاينة الأوائل الذين تزعموا الدولة الجديدة؛ سواء من القادة أو النخبة، وبمطالعة ما كتبه روجيه غارودي في كتابه “الأساطير المؤسسة للسياسة الإسرائيلية”، عرض بعض هذه التصريحات الدينية المتطرفة، كتصريحات موشي ديان، وزير الدفاع الإسرائيلي التي نقلتها صحيفة جيروزاليم بوست في 10 آب/ أغسطس عام 1977، حين قال: “إذا كنا نملك التوراة ونعتبر أنفسنا شعب التوراة؛ فعلينا أن نمتلك جميع الأراضي المنصوص عليها في التوراة”، وتصريحات يورام بن بورات، رئيس الجامعة العبرية في القدس الذي قال لصحيفة “يديعوت أحرونوت” في 14 تموز/ يوليو 1972، إنه “لن تكون هناك صهيونية، ولن يكون هناك وجود للدولة اليهودية إلا بطرد العرب والسيطرة على أراضيهم”..انتهى.
والدولة التي يقصدها موشي ديان هي دولة إسرائيل الكبرى من النيل إلى الفرات قبل مجيء السيد المسيح آخر الزمان، والتي أفردنا الحديث عن بعض تفاصيلها على مواطن في الحديث عن ثلاثة ملفات سابقة هي، الصهيونية المسيحية، والدعم الغربي لإسرائيل، والدعم الأمريكي لإسرائيل، وأيضًا وفقًا لرؤية عالم اللاهوت بول ريتشارد ويلكنسون في كتابيه “من أجل صهيون: المسيحية الصهيونية”، و”دور جون نيلسون داربي، وفهم الصهيونية المسيحية: مكانة إسرائيل في مقاصد الله”، وأيضًا وفقًا لرؤية المؤرخ الأمريكي والتر لاكوير في كتابه “الصهيونية ونقّادها الليبراليون 1896-1948″؛ فالعديد إذن من الكتب والمؤلفات الصادرة من المجتمع الغربي المحايدة، تناولت الرغبة الصهيونية الدينية في احتلال فلسطين واستيطان أرضها على حساب السكان الأصليين بالوثائق، مما أعطى لهؤلاء السكان الأصليين صفة المقاومة التي تجلت منذ العشرينات ونشطت في الثلاثينات قبل الإعلان الرسمي لقيام دولة إسرائيل بنحو 20 عامًا.
والتاريخ اليهودي لم يَخل من وجود تلك العصابات الدينية؛ حيث ظهرت على مسرح التاريخ عدة عصابات يهودية مارست الإرهاب بناء على معتقد ديني، كجماعة الزيلوت Zealot التي تمردت على الدولة الرومانية في القرن الأول الميلادي ورغبت في الاستقلال السياسي وإنشاء دولة يهودية بأساليب العصابات، ويصف الكاتب المصري القبطي “شمعي أسعد” هذه الجماعة اليهودية على موقع إضاءات تحت عنوان “كيف كانت فلسطين وقت ميلاد المسيح؟” بقوله: “إنه وبسبب الاحتلال الروماني لفلسطين، ظهرت في القرن الأول قبل الميلاد حركة «الزيلوتيين»، أي «الغيوريون»، وهي حركة راديكالية هدفت إلى التخلص من احتلال الرومان، وكان داخل هذه الحركة جناح مسلح يُسمَّى «السيكاريون Sicarii»؛ أي حاملي الخناجر، لأنهم لجأوا إلى مقاومة الرومان متبعين أسلوب الاغتيالات الفردية بِاستخدام الخناجر، وكان هؤلاء الزيلوتيون ينتمون إلى الشريحة المهمشة من سكان فلسطين”..انتهى.
ويحكي الأستاذ “صلاح قنصوة وآخرون” في كتابهم “قاموس أديان ومعتقدات شعوب العالم” الصادر عن مكتبة دار الكلمة سنة 2004 صـ 537 بعضًا من صفات وأساليب هذه الجماعة الإرهابية اليهودية بقولهم:
“من أوائل الجماعات الإرهابية في التاريخ السيكاريون Sicarir، وهي طائفة دينية على درجة عالية من التنظيم، وتضم رجالاً من درجة أدنى لعبوا دورًا فعالاً في نضال الزيلوت في فلسطين ما بين عاميّ 66- 73م، واتبعوا تكتيكات خارجة عن العرف والتقاليد، كمهاجمة أعدائهم في وضح النهار، وكانوا يفضلون أن يتم ذلك في الأعياد حينما تكون الجماهير محتشدة في القدس، وكان سلاحهم المفضل سيفًا قصيرًا يخبئونه تحت ستراتهم، ولم يكتف أعضاء هذه الطائفة بقتل الناس الأبرياء الذين لم يشاطروهم المعتقدات فحسب؛ وإنما قاموا أيضًا بتحطيم منزل الكاهن الأعلى وقصور الحكام الهيروديين The Herodian Dynasts”.
ويضيف “محمد عزيز شكري” في كتابه “الإرهاب الدولي دراسة قانونية ناقدة” صـ 21- 22 أن من صفات جماعة الزيلوت والسيكاريون اليهود أنهم ” كانوا يحرقون المخطوطات والسجلات العامة، وكانوا تواقين لإتلاف سندات مقرضي الأموال، ومنع استرداد الديون، وتخريب إمدادات المياه في مدينة القدس، وكانت حملات الاغتيال التي يقوم بها الزيلوتيون Zealota تقشعر لها الأبدان، لأن ضحاياهم لم تقتصر على حكومة الاحتلال فحسب؛ إنما امتدت أيضًا إلى السديوسيين Sadducees واليهود الآخرين الذين وصفوا بلين الجانب نحو روما”. انتهى.
الضعف العام الذي ضرب مصر بعد وفاة محمد علي باشا وأبنائه من بعده وعدم قدرتهم على حفظ ميراث أبيهم من الأراضي، إضافة لقانون الطابو العثماني، أعطى في المقابل نفوذًا هائلاً للأوروبيين في الشرق الأوسط والشام وفلسطين
John Doe Tweet
ومن خلال استقصاء تلك الجماعات الإرهابية التاريخية نفهم سلوك عصابات الصهيونية الأوائل؛ فهم لم يبتدعوا شيئًا جديدًا في التاريخ اليهودي، ولكن مارسوا ما فعله الأجداد، مع حفظ القول بأن الإرهاب بهذا النوع لا ينسحب وصفه على الدين اليهودي؛ بل على تصرفات بعض أتباعه؛ فمثلما كان الزيلوتيون يقومون بأعمال إرهابية، كان الهيرودسيون والصدوقيون والفريسيون جماعات يهودية غير عنيفة عاصرتهم وخالفتهم، مثلما نرى الآن جماعات يهودية في الشرق والغرب تعارض الصهيونية وتتظاهر ضدها في الشارع الغربي.
ومن نافلة القول في هذا السياق أن الإرهاب بهذا الشكل كان موجودًا على مسرح التاريخين الإسلامي والمسيحي؛ فالإرهاب إذًا ليس خصيصة دينية لشعب أو معتقد ما؛ إنما هو نتيجة عدة عوامل مجتمعة ومتراكبة؛ منها عوامل التفسير والمصالح والظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثلما هو الجذر الذي يصنع جماعات الإرهاب الدولية المعاصرة كداعش والقاعدة والإخوان المسلمين.
أما من ناحية إسرائيل؛ فلم تبدأ مشكلة فلسطين معهم بشكل ديني كما هو شائع، لقد تم استثمار الدين لاحقًا من الحركة الصهيونية التي جاءت للشرق الأوسط، مستفيدة من أوضاع سياسية واقتصادية لصالح يهود فلسطين بالقرن التاسع عشر.
وتبدأ القصة حين غزا محمد علي باشا الشام وسيطر عليه في ثلاثينيات القرن 19؛ بالخصوص بعد اتفاقية “كوتاهية” سنة 1933م؛ حيث هاجر معه الآلاف من المزارعين المصريين على ساحل المتوسط في الشام، بالتوازي مع فرار 6 آلاف آخرين من الفلاحين المصريين هربًا من الجباية، وهنا يحكي المؤرخ عبدالرحمن الرافعي في كتابه “الحركة القومية” الجزء الثالث، أن محمد علي باشا أثقل على فلاحي مصر بالضرائب؛ فهاجر بعضهم جماعات إلى لبنان واستقبلهم والي صيدا “عبدالله باشا”؛ فكان جُملة من هاجروا من مصر حوالي 6 آلاف فلاح، وهذا رقم كبير بمعايير هذا الزمان أوائل القرن 19م؛ فشعر محمد علي بالخطر جراء نقص المحصول المتوقع بعد هجرة الفلاحين لأراضيهم، وصعوبة خدمة محاصيلها الجديدة.
فأرسل رسالة تهديد لعبد الله باشا أن يُعيد الفلاحين بالقوة، لكن الوالي اللبناني رفض معللاً سببه أن فلاحي مصر هم رعايا عثمانيون، وهو والوالي المأمور بخدمتهم؛ كونه مسئولاً لدى الباب العالي، لكن محمد علي تراجع عن تهديده لاحقًا، لأن ذلك يعني استفزاز الباب العالي إذا اجتاح صيدا بجيوشه، وقرر اللجوء للدبلوماسية وترغيب الفلاحين للعودة بعد خفض الضرائب، ولكي لا يبتزه الفلاحون مستقبلاً، قام بتوزيع بعض أراضي مصر على أعوانه، منها الأراضي البور لاستصلاحها كي ينجح في تعويض المحصول المفقود بسبب توقف الفلاحين وإضرابهم عن الزراعة؛ فكتب مرسومًا لمدير الغربية عام 1835م / 1251 هجرية أن يُعطي بعض الأراضي لجنوده وأبنائه شرط أن يدفعوا أموالها كل عام. وقرر محمد علي توزيع الأراضي لثلاثة أقسام:
- الأولى: أراضٍ بور يجري استصلاحها معفاة من الضرائب.
- الثانية: أراضٍ جيدة يدفع المستفيد ضرائبها المستحقة.
- الثالثة: أراضٍ جيدة معفاة من الضرائب “ومُستبعدة” من سجلات الحكومة.
القسم الثالث من الأراضي هو ما تم الاصطلاح عليه بالأبعادية، أي التي جرى إبعادها من السجلات وإعفاء صاحبها من الضرائب، وكان مجموع هذه الأرض حوالي 200 ألف فدان، وزعت على كبار الأعيان ورجال الدولة وقيادات الجيش.
هذا التقسيم للأراضي حدث في فلسطين أيضًا بالتوازي مع صدور قانون الطابو العثماني سنة 1858م، الذي يعطي حق تملك الأراضي للأجانب، في المقابل تم فرض ضرائب باهظة على فلاحي فلسطين حتى هجر بعضهم أراضيه من ضيق العيش، وكان من نتائج ذلك عمليات شراء واسعة للأراضي من صغار المزارعين ومتوسطي الملكية لصالح أثرياء أوروبيين من اليهود والمسيحيين التابعين لحركة تيمبلر Templers الألمانية المعروفة بفرسان المعبد، وهي حركة مسيحية بروتستانتية أسسها “كريستوف هوفمان” (1815- 1885م)، ونادت بضرورة إقامة مجتمع مسيحي مثالي يصبح مقدمة للمجيء الثاني للسيد المسيح، وهذه كانت من بذور الحركة الصهيونية التي جاءت لشراء الأراضي في فلسطين من منطلق اقتصادي، بُعيد إعلان تيودور هرتزل عن مشروعه الصهيوني ودولة أرض الميعاد في فلسطين، كان الأثرياء الألمان واليهود الذين توسعوا في شراء الأراضي من قبل هم التربة الخصبة والحاضنة الشعبية والاقتصادية لاستقبال المهاجرين اليهود بعد ذلك، ثم الإنفاق بسخاء على المستوطنات؛ خصوصًا على ساحل البحر.
ولاختصار ما سبق؛ فالضعف العام الذي ضرب مصر بعد وفاة محمد علي باشا وأبنائه من بعده وعدم قدرتهم على حفظ ميراث أبيهم من الأراضي، إضافة لقانون الطابو العثماني، أعطى في المقابل نفوذًا هائلاً للأوروبيين في الشرق الأوسط والشام وفلسطين؛ بالخصوص في التوسع على هذه الأراضي؛ فوفقًا لنظرية الفراغ؛ أن انسحاب القوي أو ضعفه يتبعه حضور لأقوياء آخرين؛ فأصبحت الشام وفلسطين مرتعًا لأثرياء أوروبا ومهاجرين منضوين تحت لوائهم، ويثبت التاريخ أن أول مستوطنة في إسرائيل تم بناؤها سنة 1870 باسم مستوطنة “مكفا إسرائيل”، في وقت كانت فلسطين تحت سيطرة الخلافة العثمانية، مما يعني أن الخلافة التركية مسؤولة بشكل مباشر عن الاستيطان اليهودي في فلسطين.
لقد استعادت هذه العصابات الصهيونية أساليب وعقيدة عصابات "الزيلوت والسيكاريون" اليهود ضد الرومان، وكانت أحد أشهر وسائلهم ضخ كم كبير من الشعارات والعقائد الدينية المُبشرة بتمكين اليهود وإعادة دولتهم وسيطرتهم على الأغيار
John Doe Tweet
علما بأنه حتى عام 1876 كانت هناك خمس مستوطنات يهودية في فلسطين فقط، وعدد اليهود فيها أقل من 3 آلاف، هم بقايا بني إسرائيل والمهاجرين من محاكم التفتيش بإسبانيا، لكن منذ سنة 1876 حتى سنة 1909 وصل عدد المستوطنات لــ 40 مستوطنة، وعدد اليهود زاد عن (12 ألف يهودي)، وتقارير أخرى تقول إن نسبتهم وصلت عام 1908 إلى 11% من عدد سكان فلسطين، ويقول تقرير ثالث أن عددهم وصل إلى 100 ألف، بما يعادل 20% من شعب فلسطين وقتها، ( المصدر: كتاب «السلطان عبدالحميد الثاني ودوره في تسهيل السيطرة الصهيونية على فلسطين 1876 -1909»، الدكتورة فدوى نصيرات – مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت).
حتى الآن لم يكن هؤلاء المستوطنون اليهود والمسيحيون يحلمون بإقامة دولة مستقلة عن السلطان العثماني، وفي أدبياتهم حتى أوائل القرن 20 لم يُلحظ نداؤهم بالاستقلال السياسي عن العثمانيين الذين سيطروا على فلسطين بعد انتصارهم على الجيش المصري، وعقد اتفاقية لندن سنة 1840م، والحالة الديمغرافية لفلسطين آنذاك منذ قانون الطابو 1858 حتى وعد بلفور 1917م كانت تشهد بأغلبية عظمى للعرب والمسلمين، وأقلية يهودية ومسيحية كانت تتوسع في المستوطنات بفعل شراء الأراضي السابق ذكره، ويعني هذا أن شراء الأراضي لم يُعطِ الأغلبية والسيطرة للصهيونية كما هو شائع باتهام الفلسطيني أنه الذي اختار مصيره؛ إنما حدث البيع قديمًا بنهايات القرن 19 وأوائل القرن 20 بالظروف السياسية التي خلقها قانون الطابو العثماني، والوضع المأساوي الذي كان يعيشه مزارعو وفلاحو فلسطين.
واخترت هذه الفترة تحديدًا 1858- 1917 للإشارة؛ ليس فقط لوعد بلفور إنما لاتفاقية سايكس بيكو سنة 1916، وهي الاتفاق بين القوى العظمى الأوروبية لميراث أملاك الدولة العثمانية التي كانت تنهار في أثناء هزيمتهم بالحرب العالمية الأولى، وبالطبع كانت فلسطين من هذا الميراث المتنازع عليه، حتى أعلن الانتداب البريطاني على فلسطين سنة 1920، والذي فتح الباب لهجرات يهودية كبيرة من الغرب بالاستفادة من وعد بلفور والحماية الإنجليزية من جانب، ومن الوضع الاقتصادي الجيد لليهود ومسيحيي تيمبلر والبروتستانت الذين استوطنوا القدس وساحل المتوسط في القرن 19 من جانب ثانٍ، ومن التبرعات للحركة الصهيونية العالمية من جانب ثالث، وكعادة الأوروبيين في التاريخ الذي يُلحظ اهتمامهم بالسواحل والموانئ؛ فقد استوطنوا ساحل البحر الأبيض المتوسط لإقامة مستوطنات جديدة، وتوسعة مدن قديمة مثلما فعلوا (بتل أبيب ويافا وحيفا وعكا وأشدود وعسقلان ونتانيا ونهاريا..وغيرها)، ويمثل سكان هذه المدن الساحلية أغلبية الشعب الإسرائيلي.
إن الانتداب البريطاني كان هو الشرارة الكبرى للتغيير الديمغرافي في فلسطين بهجرات يهودية واسعة، ومن هذا التاريخ 1920 حتى سنة 1948 مع نهاية الانتداب، تغيرت معالم فلسطين بشكل كبير؛ حيث ارتفعت أعداد اليهود لأضعاف ما كانوا عليه، وتغير سلوك اليهود ليصبحوا أكثر شراسة وعدوانية بفعل الاضطهاد الذي لاقوه في أوروبا، وتعددت مذابحهم ضد الفلسطينيين والعرب خوفًا من استفادتهم من الانسحاب البريطاني، وأشهر هذه المذابح التي حصلت في دير ياسين بأبريل 1948 بالتوازي مع قلق هذه العصابات من أن يؤدي انسحاب الإنجليز للسيطرة العربية والفلسطينية؛ فأشاعوا جوًا من الإرهاب والرعب في فلسطين، وأجبروا مئات الآلاف منهم على مغادرة قراهم ومدنهم بقوة السلاح والتهديد، في ما اصطلح عليه في التاريخ بنكبة 1948.
ومن هنا بدأت الحركة الصهيونية الدينية تتعاظم لتُسيطر على المشهد، بعدما كانت مجرد أمنيات وأحلام بقرى وتجمعات تتمتع بالحكم الذاتي، وبدأت عصابات الهاجاناة والأرجون وشتيرن في الظهور، وهي عصابات دينية شكلها المتعصبون الصهاينة بفعل القلق من الهجوم العربي والإسلامي على مستوطناتهم، وهو شبيه بما يفعله الآن “إيتمار بن غفير” وزير الأمن القومي الصهيوني بتوزيع السلاح على المستوطنين، أعقاب عملية 7 أكتوبر في غزة العام الجاري؛ فالذي يحدث الآن هو استنساخ مما كان يفعله بن جوريون وغيره من قادة وزعماء العصابات الصهيونية بالتوسع في امتلاك السلاح بناء على معتقدات دينية وشعارات بالدفاع عن النفس.
لقد استعادت هذه العصابات الصهيونية أساليب وعقيدة عصابات “الزيلوت والسيكاريون” اليهود ضد الرومان الذين أشرنا إليهم منذ قليل، وكانت أحد أشهر وسائلهم ضخ كم كبير من الشعارات والعقائد الدينية المُبشرة بتمكين اليهود وإعادة دولتهم وسيطرتهم على الأغيار، وإعادة مجد ممالكهم في عهد “داوود وسليمان”؛ فتغير كثير من اليهود بفعل هذه الدعاية، وانخرطوا في الحركة الصهيونية التي أشرنا إليها في مقالات سابقة، وفي جزء من هذا المقال أنها لم تكن وليدة المجتمع اليهودي أساسًا؛ بل هي فكرة نبعت وترعرعت واشتدت في المجتمع المسيحي البروتستانتي، ووجدت ضالتها في نشاط “تيودور هرتزل” مثلما هو معروف، ووصلت إلى ما عليه الآن بفعل التراكم التاريخي والمتغيرات الجذرية التي طرأت على العالم في القرن 20م
وصلنا الآن إلى أن مشكلة فلسطين لم تعد مجرد احتلال وإبادة جماعية؛ بل مواجهة دينية بين المسلمين من جانب، واليهود الصهاينة والبروتستانت من جانب، ومواجهة قومية بين العرب من جانب، والصهاينة الأوروبيين في الغرب من جانب آخر؛ فهي مشكلة متعددة الأبعاد، لذا فالكلام فيها والخلاف بشأنها يسوده الاستقطاب الحاد وعدم فهم وجهة النظر الأخرى، والعزلة الشعورية التامة عن الآخر؛ فالإشكالية كما رأينا أنه لم يكن السبب الأًصيل فيها عنف اليهود أو العرب؛ بل انتداب بريطاني وقوانين عثمانية سمحت بهذا التغيير الديمغرافي الذي نشهده لحساب اليهود، وبعدما كان العرب يُشكلون الغالبية العظمى الكاسحة، أصبحت النسبة متقاربة 50% مقابل 50% تقريبًا، مع سيطرة نصف منهم على الآخر بقوة السلاح.
ولست بصدد الحديث هنا عن حلول متوقعة أو مقترحة، ولكن من خلال هذا العرض يمكن استنتاج بعض الحلول في المستقبل، والتي من بينها تحييد الدين تمامًا من المشكلة وإعادتها لأصلها وجوهرها الراسخ؛ كونها “احتلالاً وإبادة جماعية” لشعب فلسطين، وأن من حق هذا الشعب أن يحكم نفسه بنفسه وأن يقرر مصيره والتمتع بحقوقه الكاملة في الأرض والمواطنة والثروة، وما دام الفلسطينيون لا يحصلون على هذه الحقوق ستظل المشكلة، وما دام الدين حاضرًا في الأزمة، ستظل أيضًا هذه المشكلة، لأن ما نعتقده بمواجهة إسلامية يهودية فقط هو محض خيال؛ فالصهيونية بالأساس هي الرابط الوجداني والعقائدي بين إسرائيل والمجتمع الغربي الإنجيلي، ويمكن الاستفادة من التحولات الجذرية التي طرأت على الرأي العام الدولي بفعل الحرب على غزة مؤخرًا لبناء الثقة وإضعاف الصهيونية بالغرب، وإعادة النظر في دعم المجتمع البروتستانتي لإسرائيل، أو على الأقل تركهم وشأنهم ليتحملوا المسؤولية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
التعليقات 2