بعد مرور سبعين يومًا على حرب غزة، بدأت الوقائع على الأرض تتضح شيئًا فشيئًا، وأن ما كان يقال عنه “مشروع القضاء على حركة حماس”، ظهر أنه كان مشروعًا للإبادة الجماعية لسكان غزة؛ فأرقام الضحايا تقترب من 20 ألف شهيد مدني، بينهم 8 آلاف طفلاً خلال شهرين فقط من المعارك، وهذا أعلى من الرقم المسجل في الحرب الروسية على أوكرانيا، حيث بلغ 10 آلاف مدني بينهم 560 طفلاً خلال ما يقرب من عامين.
ويمكن القول بأن هذه الأرقام المفجعة غير مسبوقة في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني؛ حيث اعتمدت إسرائيل في السابق بمجازرها سياسة الاغتيالات؛ حيث أقدمت إسرائيل على قتل المئات من قادة فتح ومنظمة التحرير وحركتي حماس والجهاد، إضافة لبعض الأدباء والنخب الفلسطينية المختلفة، من بينهم مدنيون دبلوماسيون، كالدكتور “باسل الكبيسي” و” محمود الهمشري” و “وائل زعيتر” و “غسان كنفاني”، وغيرهم من القادة والعناصر في صفوف المقاومة الفلسطينية، بغرض دفعها لليأس والاستسلام، أذكر منهم “أبو علي مصطفى” و”سعد صايل” و”صلاح خلف” و”يحيى عياش” و”عماد عقل” و”خليل الوزير” و”أحمد ياسين” و”عبدالعزيز الرنتيسي” وغيرهم، وقد بدأت عصابات الصهيونية في الاغتيالات السياسية عام 1944 باغتيال “اللورد موين” وزير المستعمرات البريطاني، لموقفه من الهجرة اليهودية لفلسطين، كذلك قتلوا الكونت السويدي “برنادوت” الوسيط الدولي بعد انتقاده عصابات يهودية مسلحة.
لم يتوقف مسلسل الاغتيالات الصهيونية على فلسطين ولبنان؛ فقد اغتالوا (ثلاثة علماء مصريين) وهم “نبوية موسى – يحيى المشد – سعيد السيد بدير”، وجميعهم علماء ذرة وفلك وأقمار صناعية. أما اليوم؛ فقد اختلف الأسلوب الإسرائيلي ليتوسع في القصف والاستهداف خارج صفوف القادة وعناصر المقاومة، لدرجة إلقاء 6 قنابل تزن كل واحدة منها طنًا على مخيم جباليا، أي ألقت إسرائيل 6 أطنان من القنابل على مربع سكني مليء بالأطفال والنساء والمدنيين، مما يثبت تعمد الاستهداف بهذا الحجم، وإيقاع أكبر عدد من الضحايا.
حركة الإصلاح القضائي التي قدمها نتنياهو وأثارت غضبًا في المعارضة وأشعلت صراعًا سياسيًا داخل إسرائيل، من أحد نتائجها المباشرة توسيع سلطات الحكومة والسلطة التنفيذية على حساب القضاء، مما يؤدي لإجراءات وقرارات تستهدف الفلسطينيين بالقتل ومصادرة الأراضي
تزعم إسرائيل أن هذه المجازر هي رد فعل على أحداث 7 من أكتوبر الماضي 2023، وهو متمثل في إحداث أكبر كمّ من الصدمة والرعب في صفوف الفلسطينيين داخل قطاع غزة، لدفعهم؛ إما إلى مغادرة القطاع إلى سيناء، أو إلى رفض حماس والتمرد عليها، لكننا وبعد الهدنة الأولى التي استمرت 8 أيام من يوم 23 حتى 30 نوفمبر، رأينا مشاهد تسليم الرهائن والأسرى الإسرائيليين بحضور شعبي قوي وملحوظ لكتائب عز الدين القسام في عدة أحياء بشمال وجنوب غزة، وانتشار عسكري ينم عن أنه وبعد أكثر من 40 يومًا من الحرب، لا زالت كتائب القسام تحتفظ بقوامها العسكري والإداري، وأنها بذلك القوام لم تتضرر مثلما كان يبدو من تصوير أحداث الحرب من الطرف الإسرائيلي، والذي كان يبشر بقُرب القضاء على حماس وفقًا لزعمه.
لكن هذا الادعاء الإسرائيلي يصطدم بأرقام ضحايا الفلسطينيين بالضفة الغربية منذ بداية عام 2023، حيث بلغ 190 شهيدًا فلسطينيًا سقطوا برصاص الجيش الإسرائيلي، أو بأسلحة المستوطنين؛ فضلاً عن هدم أكثر من 590 مبنى ومنزلًا فلسطينيًا بالضفة خلال نفس الفترة الزمنية، إضافة لتعديات المستوطنين على ممتلكات ومزارع الفلسطينيين بشكل شبه يومي دون عقاب، وقد أوضحت بعض الإحصائيات الواردة أن جرائم المستوطنين حدثت بصمت تام لقوات الاحتلال، وأن قرابة 20% فقط من تلك الجرائم هي التي تم التحقيق فيها، وأن مجمل الإدانات بلغت 3% فقط من معدل الجرائم التي ارتكبت.
بقليل من المنطق؛ نرى أن ما حدث يوم 7 من أكتوبر هو رد فعل طبيعي على هذا التصعيد؛ فضلاً عن معاناة الفلسطينيين من نظام الفصل العنصري الذي اعترف به العديد من الأكاديميين، على أنه طبيعة جوهرية للنظام السياسي الحاكم في إسرائيل ضد الفلسطينيين، وأن الصراع السياسي في إسرائيل قبل 7 من أكتوبر له علاقة مباشرة بالحرب على غزة.
ولتوضيح ذلك؛ فحركة الإصلاح القضائي التي قدمها نتنياهو وأثارت غضبًا في المعارضة وأشعلت صراعًا سياسيًا داخل إسرائيل، من أحد نتائجها المباشرة توسيع سلطات الحكومة والسلطة التنفيذية على حساب القضاء، مما يؤدي لإجراءات وقرارات تستهدف الفلسطينيين بالقتل ومصادرة الأراضي؛ سواء داخل الخط الأخضر، ويسكنه من عرفوا بعرب 48، أو في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا القانون يعتبر أحد نتائج ومقررات إعلان ما يسمى “الدولة القومية اليهودية” الصادر عام 2018، وينص هذا الإعلان على الآتي: “إسرائيل هي الوطن التاريخي للشعب اليهودي مع القدس موحدة كعاصمة لها”، وأن حق تقرير المصير فيها “يخص الشعب اليهودي فقط”، كما يقلل أيضًا من مكانة اللغة العربية بوضعها ضمن خانة اللغة “ذات الوضع الخاص”، رغم أن العرب يمثلون ما يقارب 20% من سكان إسرائيل وما يقارب 36% من سكان القدس أيضًا”.
ووفقًا للمصدر السابق، وهو قناة CNN الأمريكية؛ فالإعلان الجديد للدولة القومية اليهودية لم ينص على أي مساواة أو حقوق الأقلية في بنوده، رغم أنها كانت جزءً أساسيًا من وثيقة إعلان قيام دولة إسرائيل في 1948، التي نصت على “المساواة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميع سكانها، بصرف النظر عن العقيدة أو العرق أو الجنس”.
ولشرح الأزمة أكثر؛ فيهود أمريكا لم يعودوا مجمعين على دعم إسرائيل كما في السابق؛ فحسب استطلاع رأي أجرته وكالة التلغراف اليهودية الأمريكية سنة 2021، أن 34% من يهود أمريكا يصفون معاملة إسرائيل للفلسطينيين بأنها تشبه العنصرية في الولايات المتحدة”، واتفق 25% على أن “إسرائيل دولة فصل عنصري”. وأجمع 22% على أن “إسرائيل ترتكب إبادة جماعية ضد الشعب الفلسطيني، ومن بين الناخبين الأصغر سنًا الذين شملهم الاستطلاع قال 9% منهم إن لا يوجد لإسرائيل الحق في الوجود”. ومن بين الناخبين تحت سن الأربعين، بلغت هذه النسبة 20%. وافق ثلث الناخبين الشباب على أن إسرائيل ترتكب جريمة إبادة جماعية، وبالتأكيد ارتفعت هذه الأرقام في 2023 بعد ثبوت الإبادة الجماعية في حق سكان غزة، والتي يراها أكثر من 7 مليارات من سكان الكوكب بالبث المباشر.
هذه الأرقام تقول إن قادة إسرائيل من اليمين الديني وقعوا تحت ضغط، وجوهر ذلك الضغط تمثل في ضيق الخيارات؛ فهم مطالبون إما بالعودة لطاولة المفاوضات والحل النهائي، مما يلزمه الجلوس مع القادة الفلسطينيين من كل الأحزاب والفصائل، وإما بالتعامل الأمني والعسكري فقط مع الفلسطيني بوصفه تمردًا على نظام دولة الاحتلال، وفي كلا الخيارين هو شراب أقرب إلى السُمّ والحنظل بالنسبة لنتنياهو، الذي يمثل مصالح اليمين الديني والقومي الإسرائيلي بشكل واضح، مما جعل العديد من قادة حكومته رجال دين؛ أبرزهم “إيتمار بن غفير” وزير الأمن القومي، وهو زعيم حزب (كاخ الديني المتطرف)، الذي يطالب بدولة من النيل إلى الفرات، ويبشر بقدوم دولة المخلص في التوراة، وهو من أشد قيادات إسرائيل عدوانية تجاه العرب والمسلمين، وكذلك “موشيه أربيل” وزير الداخلية، وهو أيضًا حاخام متطرف من حزب شاس الطائفي، والذي يدعو لدولة دينية في إسرائيل وعدم الاعتراف بالأغيار، إضافة للوزيرة “أوريت ستروك” Orit Strook وزيرة المستوطنات، وهي من أبرز المتطرفين الصهاينة في حكومة نتنياهو الداعية لتهجير الفلسطينيين وبناء مستوطنات وفقًا لنبوءة الكتاب المقدس. وعضوة “الحزب الصهيوني الديني” المعروف باسم “تكوما”، والداعي لطرد العرب والمسلمين من كامل فلسطين.
لقد اختار نتنياهو الحل الثاني، الذي هو أقرب لنفسية المتطرف الديني المائل بطبعه للصدام والحروب وألفة النزاعات، إضافة لاكتسابه مشاعر الكِبر والغرور برفضه الجلوس مع مسؤولين فلسطينيين والتفاوض معهم للحل النهائي، وبرغم أن هذا الخيار ضد مصالح إسرائيل على المدى الطويل، لكنه حاز قبول ودعم النخبة الإسرائيلية بالفترة الأخيرة، حتى رأيناهم حكومة ومعارضة يتفقون على اقتحام غزة بريًا، وما يصفوهن بالقضاء على حماس مهما تكلف الأمر، ومكمن الضرر هنا على مصالح إسرائيل في تصاعد الضغط الدولي وفقدان الرأي الشعبي العالمي، وحواضن دينية يهودية كلما مر الوقت واتسع حجم الجرائم وارتفعت أرقام الضحايا، سيظل عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على التوغل في غزة أو القضاء على المقاومة الفلسطينية دون تهجير سكان القرى والأحياء ودفعهم جنوبًا، وبتجربة ذلك على مدار شهرين ماضيين، أدت لصناعة أزمة إنسانية كبيرة في غزة أشعلت المظاهرات في العالم.
إن الذي أدى لوصول حرب غزة لهذا المستوى الكارثي اللاإنساني أن الاحتلال الإسرائيلي وضع أهدافًا مسبقة عمل على تحقيقها لا تتسم بالواقعية منها: المبالغة في المطالب بما يتجاوز الواقع والفرص المتاحة، وأهم تلك المطالب اللاواقعية، القضاء على حركات المقاومة الفلسطينية؛ فالثابت تاريخيًا أن الشعوب التي تقع تحت نير الاحتلال تخلق مقاومتها بنفسها؛ فيصبح الحديث عن القضاء على حماس أو الجهاد أو الحركة الشعبية نوعًا من تحدي التاريخ، وإيجاد نموذج غير مسبوق، مما يستلزم هدمًا كاملاً لمؤسسات ذلك الشعب وبنيته التحتية والإدارية، وتفكيك أحزابه وفصائله دون أن يكون هناك بناء في المقابل، وهو الذي دفع نتنياهو للتصريح بضرورة إجراء تغيير ثقافي في غزة كبديل لهذا المصير غير الواقعي، بمعنى تغيير ثقافة شعب غزة كي يتقبل الاحتلال والصهيونية، وقد أشرت إلى عبثية تلك الدعوى من نتنياهو وقصورها المعرفي في مقالي المنشور على الحوار المتمدن بتاريخ 20 نوفمبر الماضي تحت عنوان “مشروع نتنياهو للتغيير الثقافي في غزة“.
ومن الوهلة الأولى حذر العديد من الخبراء إسرائيل من عدم واقعية هدف "تدمير حماس"
وقد مثّل الضغط الاقتصادي على إسرائيل بسبب هذه الحرب نوعًا آخر من السلوك المتطرف، أدى إلى العجز عن تقدير الكلفة الاقتصادية وإمكانية توفير بديلها؛ فبحسب قناة العربية السعودية قال تقرير نشرته جريدة “نيويورك تايمز” الأميركية، واطلعت عليه “العربية.نت”، إن الحرب المستمرة منذ أوائل أكتوبر الماضي أدت إلى إيقاف السياحة الدولية إلى إسرائيل، وفي تقرير سابق قالت العربية إن الاقتصاد الإسرائيلي مع تصعيد الحرب في غزة، يتكلف600 مليون دولار أسبوعيًا بسبب نقص القوى العاملة، بحسب البنك المركزي الإسرائيلي، وبعد مرور أكثر من شهر على اندلاع الحرب في غزة، بدأ الاقتصاد الإسرائيلي يشهد حالة اهتزاز في جميع القطاعات، ويتكبد تكاليف باهظة تبلغ 600 مليون دولار أسبوعيًا، بحسب بنك إسرائيل المركزي، هذه التكاليف ناجمة عن إغلاق العديد من المدارس، وإجلاء نحو 144 ألف عامل من المناطق القريبة من الحدود مع غزة ولبنان، إضافة إلى استدعاء حوالي 350 ألف جندي احتياطي في الجيش الإسرائيلي للخدمة، ما يمثل 8% من القوى العاملة.
وضغطًا آخر من نوع مختلف تمثل في طول زمن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة المستمر منذ عام 2007 دون سقوط المقاومة الفلسطينية أو تدميرها ذاتيًا، مثلما كان يفترض حينها وفقًا لدوائر الفكر الإسرائيلي، وجوهر الضغط تمثل في حصار أكثر من 2 مليون إنسان في شريط ضيق على الساحل، تبلغ مساحته 365 كم مربعًا فقط لمدة 16 عامًا، إنها أرقام مفجعة دالة على فشل الاحتلال وتصوره غير الصحيح للأزمة منذ البداية؛ فمن ضمن الأهداف التي انسحب لأجلها شارون من قطاع غزة عام 2004، ليس فقط حماية المستوطنين الذين رحلوا عن القطاع، ولكن تدمير القطاع وفقًا لآليات “التآكل الذاتي”، والتي بدأت فورًا بصراع حركتي “فتح وحماس” بعد انتخابات فلسطين عام 2006، وبدء تطبيق الهدف الإسرائيلي الذي أوقفه سيطرة فصيل واحد على القطاع، وإقصاء الآخر منذ اشتباكات عام 2007 بين الحركتين؛ فلم تجد إسرائيل خيارًا آخر سوى الحصار لتدمير حركات المقاومة منذ هذا التاريخ.
والضغط الذي يمثله الفلسطينيون بالضفة الغربية ومواجهاتهم اليومية مع الجيش الإسرائيلي سبب آخر لاستمرار حالة الطوارئ، وعند تفصيل ذلك الضغط نراه قد تصاعد في الخمس سنوات الأخيرة، مثلما حدث في عام 2018 بمسيرات العودة الكبرى من قطاع غزة، والانتفاضة الشعبية التي فجّرها توسيع المستوطنات في حي الشيخ جراّح بالقدس عام 2021، وما رافق ذلك من ضم أملاك الفلسطينيين لإسرائيل واعتداءات الصهاينة المتكررة على المسجد الأقصى، مما أشعل حربًا على غزة جراء إطلاق حماس الصواريخ ردًا على هذه التصرفات، وقد أشعلت إسرائيل حربًا على غزة حينها ورفعت نفس الأهداف التي ترفعها حاليًا، وهي “القضاء على حماس” ،”تفكيك الإرهاب” و”تدمير الأنفاق”، وهو ما لم يتحقق هذا العام ولم يتحقق الآن رغم مرور شهرين على الحرب؛ حيث دلّت مشاهد تبادل الأسرى الأخيرة قوة وسيطرة حماس على الأرض، وليس كما يُشاع عنها أنها فقدت السيطرة.
ومن الوهلة الأولى حذر العديد من الخبراء إسرائيل من عدم واقعية هذا الهدف بالذات، وهو “تدمير حماس”؛ فعندما ننظر لإجراءات إسرائيل ضدها في الضفة الغربية نجد أنها فشلت في تدمير حماس هناك، رغم أنها أضعف تنظيمًا وتسليحًا من حماس غزة، ورغم ذلك نجحت حماس الضفة في تنفيذ عمليات ضد الاحتلال، كان آخرها ما حدث في 30 نوفمبر الماضي وأدت إلى مقتل 4 إسرائيليين، ولا زالت عناصر حماس بالضفة نشطة رغم تعاون السلطة الفلسطينية مع الاحتلال ضدها، فيما عرف بالتنسيق الأمني، ورغم ضعف التسليح، وانعدام السيطرة السياسية وضعف الانتشار الشعبي مقارنة بحماس غزة، التي هي أكثر انتشارًا وأقوى تسليحًا وأوسع سيطرة مادية ومعنوية.
وقد أثبت زمن الحصار الطويل إضافة للعمليات الجارية منذ يوم 7 من أكتوبر أن جيش إسرائيل هو آلة قتل فعالة ضد السكان المدنيين؛ حيث يقومون بإٍسقاط قنابل زنة 2000 رطل من الجو على تجمع سكاني
إن طول زمن الحصار الإسرائيلي على قطاع غزة أوجد في العالم أزمة إنسانية تقترب وتتشابه مفرداتها وتفاصيلها مع الهولوكوست النازي ضد اليهود؛ حيث تتبع إسرائيل أساليب متشابهة، كالحصار والتجويع والقتل الجماعي على أسس عرقية؛ فتستهدف الشعب الفلسطيني بناء على هويته أولاً، وعلى مقاومته ثانيًا؛ فالفلسطيني هدف وفقًا لخياراته وأسلوبه، وقد ناقشنا على مواطن كيفية اضطهاد وقمع إسرائيل للعرب في الداخل، أو الذين يعرفون بعرب 48 في مقالة سابقة بعنوان “أميركا وإسرائيل.. تحالف ديني أم شراكة وتبعية سياسية؟” وكيف أن الفلسطيني في الداخل الإسرائيلي لا يتمتع بالمساواة الكافية مع الإشكناز الذين يحكمون إسرائيل ومؤسساتها بشكل كلي.
وقد أثبت زمن الحصار الطويل إضافة للعمليات الجارية منذ يوم 7 من أكتوبر أن جيش إسرائيل هو آلة قتل فعالة ضد السكان المدنيين؛ حيث يقومون بإٍسقاط قنابل زنة 2000 رطل من الجو على تجمع سكاني، في مقابل ذلك هو جيش ذو إمكانيات قتالية متواضعة؛ حيث لم تسفر عملياته البرية في قطاع غزة التي انطلقت منذ يوم 27 أكتوبر عن نجاح عسكري يذكر، سوى رفع العَلَم الإسرائيلي على المستشفيات والتقدم بالدبابات في مناطق مفتوحة أًصبحت هدفًا سهلًا لجنود المقاومة الفلسطينية في وقت لاحق؛ فالإسرائيليون يخوضون في غزة معارك أشبه بحروب العصابات، لم ينجزوا فيها شيئًا؛ سواء على صعيد تحرير الأسرى أو القضاء على قيادات حماس، أو اعتقال قادتهم وزعمائهم؛ فعلى مدار 40 يومًا من العمليات البرية في شريط ضيق، يفترض أن ينجز جيش بحجم إسرائيل الذي يمتلك قوة نارية هائلة وإمكانيات تكنولوجية متقدمة ودعمًا دوليًا أمريكيًا وإنجليزيًا أي شئ ولو بسيطًا نحو تحقيق أهدافه، لكن الذي نراه هو تدمير بسياسة الأرض المحروقة وإلقاء القنابل الثقيلة على السكان والأطفال لا غير.
الدعم الأمريكي المطلق لإسرائيل
يحدث ذلك في صمت تام ودعم ضمني للولايات المتحدة لتلك المجازر؛ فبرغم التصريحات الأمريكية بضرورة خفض أعداد المدنيين القتلى أقدمت إسرائيل على مجازر جديدة أمس واليوم باستشهاد أكثر من 500 فلسطيني بحي الشجاعية شرق غزة، وهي مجزرة أعادت للأذهان مجزرة الشجاعية في يوليو عام 2014، والتي راح ضحيتها أكثر من 100 شهيد؛ فالمتأمل في تلك المذابح يراها إبادة جماعية منظمة، فاعلها الأصلي ليس طرفًا واحدًا وهو الجيش الإسرائيلي؛ إنما مجموعة داعمين في الخلفية يحرصون على تبييض تلك الجرائم وترويجها تحت عنوان “الدفاع عن النفس”، مستغلين فيها حالة الضعف العربي المتمثل في جمود تناولهم لقضية فلسطين بالسياسات الناعمة، لا المفترض أن تكون خشنة في هذه الأحوال؛ فالشرائع كلها تقف ضد أي اعتداء على الأرواح البريئة، ما بالك وتلك الأرواح تنتمي بصلة القرابة والدم والمعتقد واللغة لأكثر من 400 مليون عربي في محيط قطاع غزة، يقف جميعهم عاجزين عن وقف المذبحة بشكل عملي.
ولعل هناك رابط بين ما قلناه في دراسة سابقة على مواطن بعنوان “في جذور المسألة الصهيونية: كيف يدعم الغرب إسرائيل من منظور ديني؟” وبين ما يحدث حاليًا من دعم النخب الفلسفية الأوروبية لإسرائيل في هذه الإبادة الجماعية، مثلما وقع مع الفيلسوف الألماني “يورجن هابرماس”، الذي خرج منذ أسابيع ليدعم جرائم إسرائيل في فلسطين ضمن آخر ورقة علمية كتبها بتاريخ 13 نوفمبر الماضي بعنوان “مبادئ التضامن“، والتي قال فيها بوضوح: “إن حركة حماس وحشية، لكن سلوك إسرائيل هو مجرد رد فعل، وما تفعله في غزة لا يرقى لمرتبة جرائم حرب، وأن تصرفات إسرائيل لا تبرر معاداة السامية”. هكذا دون أن يدين ما فعله الصهاينة أو إدانة معاداة الإسلام والعرب. قال هابرماس أيضًا: “إن الوضع الحالي، الناتج عن الوحشية المفرطة التي تمارسها حماس ورد إسرائيل عليها، أدى إلى سلسلة من التصريحات والاحتجاجات”. وهكذا يظهر أن القضية الأساسية لدى الرجل ليست جرائم إسرائيل؛ فهي مبررة عنده، ولكن هي كذلك في المظاهرات ضد إسرائيل في ألمانيا.
يتركز دعم أمريكا دبلوماسيًا لهذه الإبادة في إطلاق تصريحات تهدف للدفاع عن العمليات العسكرية، وعدم وصفها بالإبادة أو الاستهداف المتعمد للمدنيين بغرض إبقائها أطول فترة ممكنة
هابرماس في ورقة التضامن هذه وقع في نفس مأساة الفيلسوف الألماني “هيدجر” (1889- 1976م) حين دعم مجازر هتلر في الحرب العالمية الثانية ورآها مشروعة، كأن العقل الألماني في الأزمات يُصاب في مقتل، أو أنه عارض للغرور الألماني المشهور في الفكر والسياسة، والذي أنتج في وقت سابق أشهر الأحزاب الوحشية في التاريخ، وهو الحزب النازي.
يدافع البعض عن هابرماس بقوله إن الرجل بلغ 94 عامًا، لذلك فلا يقول ذلك عن دراية، وفي رأيي أن عقول الفلاسفة قليلاً ما تُصاب بالعطب الإدراكي أو فقدان الوعي؛ فالرجل أعرفه جيدًا وشرحت قديما أفكاره، ومنها “نظرية فعل التواصل“، وقلت إن الرجل أحد أقوى وأشهر منظري الديمقراطية والليبرالية في العالم، لكنه الآن يسقط سقوطًا ذريعًا ليختم حياته كمجرم حرب وليس كفيلسوف حداثي وصف بأكثر فلاسفة العالم نشاطًا ضد الاستبداد، وهي مفارقة تعمدت ذكرها في هذا السياق لإثبات نسبية الأخلاق والإدراك، وأن الفيلسوف والباحث رغم قدراته التأملية والبحث المجرد والمحايد، لكنه يقع أسيرًا في بعض أحواله لتوسل الأغلبية، وللثقافة الشائعة والبروباجاندا الإعلامية التي ينفق عليها الأثرياء ويتحكمون من خلالها في وعي الجمهور.
ولعل حادثة طرد الإعلامي الأمريكي الشهير “تاكر كارلسون” من قناة فوكس نيوز الأمريكية تثير هذه الإشكالية كأحد أكبر مشكلات الإعلام وتزييف الوعي المتعمد، عن طريق سيطرة رجال الأعمال على محطات الأخبار؛ إما بالملكية الخاصة المباشرة أو بالإعلانات؛ فيتحكم المُعلنون في المادة المنشورة ويبتزون منصات الإعلام والمذيعين والصحفيين بأموالهم، مثلما حدث مع الملياردير الأمريكي الشهير “إيلون ماسك” قبل أيام؛ حيث انسحبت عشرات الشركات المعلنة على منصته X تويتر سابقًا، بدعوى أن الرجل معاد للسامية، وفي الحقيقة أن تلك الحادثة أعادت للأضواء مرة أخرى حادثة طرد “تاكر كارلسون” من فوكس نيوز، وكشفت إلى أي مدى يتحكم المُعلنون وذوو رؤوس الأموال في الحقائق المنشورة؛ فيحجبون منها ما يريدون ويعرضون ما يريدون.
ومن خلال ذلك العرض نرى أن هولوكوست غزة قائم على قدم وساق، وجوهر نشاطه واستدامته في عدة عوامل منها دفاع عقلاء عنها كالفيلسوف هابرماس الذي يعد أبرز نماذج تلك العقلانية التي لم تتخلص بعد من السطو النازي على عقول الألمان، ومن تلك العوامل أيضًا ضعف العرب عن اتخاذ موقف حاسم وجدّي يوقف هذه الحرب، وكذلك رعاية أمريكية دولية وحماية لهذا الهولوكوست بالدفاع عنه في مجلس الأمن؛ حيث رفضت أمريكا وقف إطلاق النار بعد أسبوعين من الحرب، وهددت باستخدام الفيتو ضد أي مشروع مشابه لوقف إطلاق النار، وترعى كذلك الولايات المتحدة هذه الإبادة من جوانب أخرى متعلقة بالتسليح؛ حيث فتحت أمريكا خطوط إنتاجها العسكري لتسليح إسرائيل وتعويض خسائرها، وإمدادها بقنابل ثقيلة ودقيقة، فضلاً عن تصريحات وزير الخارجية بلينكن المتكررة بدعم إسرائيل والدفاع عنها، وعدم الضغط بشكل جدي لوقف استهداف المدنيين.
ويتركز دعم أمريكا دبلوماسيًا لهذه الإبادة في إطلاق تصريحات تهدف للدفاع عن العمليات العسكرية، وعدم وصفها بالإبادة أو الاستهداف المتعمد للمدنيين بغرض إبقائها أطول فترة ممكنة، وهي تكرر ذلك بشكل نمطي ملحوظ منها في شهر أكتوبر والآخر في نوفمبر، وكذلك إطلاق تصريحات على شاكلة أن إسرائيل لديها القدرة على عدم استهداف مدنيين، وهذا صحيح في حد ذاته، لكن إسرائيل لا تلتزم به، ولولا الضوء الأخضر الذي أخذه قادة الجيش الإسرائيلي بارتكاب المجازر من الولايات المتحدة، لتوقف هذا القصف الدموي الذي يستهدف منازل السكان ومؤسساته المدنية والخدمية، وما يحدث بالضفة الغربية نموذج لانعكاس هذه البشاعة؛ حيث تستمر مجازر الاحتلال ضد الفلسطينيين بالضفة رغم عدم سيطرة حماس هناك، وهي الحجة والمبرر الذي تتخذه إسرائيل في استمرار هذه المجازر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
التعليقات 1