بدأت ياسمين أمين، 26 عامًا من مواليد مدينة غزة، قبل أربع سنوات معاناتها مع الفشل الكلوي وجلسات غسيل الكلى. اعتادت أن تجرى ثلاث جلسات أسبوعيًا، مدة الجلسة أربع ساعات، ورغم قرار وزارة الصحة في القطاع بإجراء عملية زراعة كلية لها في مصر؛ إلا أنها لم تتمكن من العبور لمصر نتيجة العدوان الإسرائيلي الجاري على قطاع غزة. اضطرّت ياسمين جرّاء القصف المتواصل من قبل جيش الاحتلال إلى النزوح هي وعائلتها إلى مدينة رفح هربًا من القصف، ولتلقي العلاج بأحد مستشفيات المدينة. تضطر ياسمين، التي تقيم حاليًا بإحدى المدارس في مدينة رفح، إلى قطع مسافة ساعة على قدميها، إلى مستشفى يوسف النجار لتلقي جلسات العلاج.
مصادفة؛ فوجئت ياسمين أنها ولدت بكلية واحدة أثناء إجرائها فحصًا طبيًا، بعد أن تعرضت في العام 2016 لوعكة صحية، ليتبين إصابتها بضمور في كليتها الوحيدة وحاجتها لإجراء عملية زرع كلية؛ حينذاك تبرعت لها والدتها بإحدى كليتيها، وأجريت عملية الزرع في نفس العام. لكن حالتها ساءت من جديد في العام 2020 لتكشف الفحوصات عن ضمور الكلية المزروعة وإصابتها بغرغرينة، منذ ذلك الحين تعيش ياسمين على جلسات الغسيل الكلوي والأدوية.
تحكى ياسمين تفاصيل قصتها قائلة: “تسببت الحرب المشتعلة حاليًا في تأخر جلسات الغسيل الكلوي نتيجة الضغط الكبير على المستشفيات، علاوة على تقليص مدة جلسات الغسيل لساعتين بدلاً من أربع ساعات إضافة لعدم توفر العلاج؛ ما أدى لتجمع السوائل بجسدي، كل ذلك يحدث في وقت نعاني فيه من عدم توفر الأكل صحي أو الماء النظيف أو الملابس الشتوية التي تقيني برد ديسمبر القارس”. وتضيف لـ”مواطن “: “الجلسات أهلكت جسدي، آخر جلسة غسيل كلوي تعبت فيها كثيرًا، لم أكن قد تناولت طعامًا قبلها بيومين، رغم ذلك قطعت المسافة من المدرسة التي أقيم فيها للمستشفى سيرًا على الأقدام؛ فلم أجد وسيلة مواصلات تقلني، أحيانا تتأخر الجلسات للتاسعة مساءً نتيجة التزاحم؛ ما يدفعني للنوم على أحد كراسي المستشفى على أن أعود للمدرسة صباحًا”.
ولا تنسى ياسمين رحلتها إلى مصر، والتي انتهت في الرابع من أكتوبر 2023، أي قبل العدوان بثلاثة أيام؛ فقط لإجراء فحوصات الكلى بمستشفيات الفاطمية والاستقامة بالقاهرة، إلا أنها كانت تعاني حينها من ارتفاع نسبة الأجسام المضادة؛ ما حال دون إجرائها عملية زراعة الكلى التي تحتاجها بشكل عاجل بعد ضمور كليتها اليمنى. تحلم الفتاة العشرينية بأن يُسمح لها بالسفر إلى مصر قريبًا كي تجرى العملية لترتاح من جلسات الغسيل التي أهلكت جسدها ، ولم تعد قادرة عليها؛ حيث يتاح حاليًا انتقال الجرحى الفلسطينيين لمصر لتلقي العلاج.
تحلم ياسمين بأن يُسمح لها بالسفر إلى مصر قريبًا كي تجرى العملية لترتاح من جلسات الغسيل الكلوي التي أهلكت جسدها
تحلم ياسمين كغيرها من المرضى بتوفير الأدوات الطبية والعلاج واستعادة حياتها الهادئة بمنزلها قائلة: “الآن أعاني الأمرين يوميًا لدخول حمام المدرسة بالدور، أما الطحين فلم نعد نجده، كما أعتمد على قنينة المياه التي تعطيني المدرسة إياها”. وتضيف: ” توقفت عن تعاطي أدوية الضغط المرتفع والمعدة اللازمين لحالتي لعدم توافرهما”. وتضيف في حديثها لـ “مواطن: “أتمنى أن أعيش كأي إنسان طبيعي، تعبت كثيرًا، المرض والألم أهلكا جسدي، وأكملت الحرب على ما تبقى مني، أموت ببطء، وفي حاجة ملحة للعودة لمدينة غزة للغسيل بمستشفى الشفاء الطبي، أو سماح السلطات المصرية لي بدخول مصر لإجراء عملية زراعة الكُلية، بعد أن قرر شقيقي أن يتبرع لى بكُليته كي تنتهى معاناتي مع جلسات الغسيل الكلوي”.
ومنذ بداية عدوان جيش الاحتلال على القطاع، تفاقمت الأوضاع الصحية لمرضى الفشل الكلوي بقطاع غزة، ليعاني المرضى من تقلص مدة جلسات الغسيل الكلوي وعدم توفر الأدوية، واضطرار غالبيتهم للنزوح والإقامة بمراكز الإيواء والمخيمات بفعل انتهاكات العدوان الإسرائيلي الذي يستهدف فيما يستهدف من منشآت مدنية، المستشفيات والمؤسسات الصحية، واعتقلت الكوادر الطبية والمرضي، وقتل العديد منهم.
بحسب تصريحات الدكتور أشرف القدرة المتحدث باسم وزارة الصحة في القطاع، في المؤتمر الصحفي الذي عقد في 19 من ديسمبر الجاري، استهدف العدوان الإسرائيلي 140 مؤسسة صحية، ليخرج 23 مستشفى و53 مركزًا صحيًا؛ فيما رصدت الأطقم الصحية 335 ألف إصابة بالأمراض الجلدية والمعدية، ومرجح ارتفاع العدد عن ذلك بكثير، وتُطالب المؤسسات الأممية بالعمل على توفير المياه والغذاء الكافي والرعاية الصحية المناسبة في مراكز الإيواء؛ خاصة المطلوبة لأكثر من 700 ألف طفل و 50 ألف سيدة حامل و 350 مريضًا مزمنًا ، 1100 مريض غسيل كلى وآلاف الجرحى.
وبحسب مصدر طبي بقطاع غزة قال في تصريحات خاصة لـ”مواطن“: يبلغ عدد مرضى غسيل الكلى تقريبًا 950، من بينهم 30 طفلًا تقريبًا؛ فيما انحصرت مراكز الغسيل الكلوي قبل الحرب في مستشفيات “الشفاء، الإندونيسي، ناصر، الأقصى، أبو يوسف النجار والرنتيسي للأطفال”، بينما تراجع عدد المراكز التي تعمل في الغسيل الكلوي منذ شهر وحتى الآن فقط لـ”الأقصى، النجار وناصر”، علمًا بأن المرضى قد بدأوا النزوح من “ناصر” الأسبوع الماضي، وقد تحدث كارثة أخرى لو خرج مركز غسيل الكلى في ناصر عن الخدمة، وهو المتوقع حدوثه خلال الأيام المقبلة.
المصدر الذي تحفظ على ذكر اسمه خشية استهدافه من قبل جيش الاحتلال كما أشار، يقول: “إن التقليص الحاصل في عدد ساعات الغسيل الكلوي من 12 ساعة أسبوعيًا إلى 5 أو 6 ساعات أسبوعيًا للمريض غير منطقي طبيًا وغير إنساني؛ فضلًا عن عدم توفر الكثير من الأدوية نهائيًا، ومنها ما هو أساسي لمرضى الكلى، مشيرًا إلى وجود 350 مريض زراعة كلى، بحاجة إلى العلاجات المناعية الضرورية للمحافظة على الكلى المزروعة، وبالكاد تتوفر أدويتهم، علمًا بأن مرضى شمال غزة حاليًا لا يوجد لديهم أدوية زراعة الكلى الأساسية، وقد تُفْقَد الكلى المزروعة لديهم.
كما أشار إلى وجود ما يقدر بنحو ألف مريض كُلى غير مرضى الغسيل والزراعة، بحاجة إلى فحوصات ومتابعة شهرية، حتى لا يصلوا إلى مرحلة غسيل الكلى، وبالكاد نستطيع تقديم الخدمة لهم بشكل أقل بكثير من المطلوب؛ مما نجم عنه؛ إما الوفاة أو تحويلهم للغسيل بشكل مبكر وغير متوقع. كما أكد وقوع وفيات بين المرضى لا حصر لها، بسبب خروج الكثير من المستشفيات عن الخدمة عامة، وتقليص خدمة غسيل الكلى خاصة، وأضاف: “نحن بحاجة ماسة لإعادة تشغيل أقسام الغسيل الأساسية في القطاع، وهي الشفاء والإندونيسي، وتوفير مستلزمات الغسيل التي نضبت تقريبًا، وكذلك الأدوية اللازمة لمرضى الكلى وزراعتها مع توفير الفحوصات اللازمة، والخاصة بمرضى غسيل وزراعة الكلى”.
ولم تكن الأوضاع أفضل حالًا قبل اندلاع العدوان في السابع من أكتوبر الماضي؛ ففي يونيو 2023 دعت وزارة الصحة الفلسطينية، كافة الجهات ذات العلاقة بضرورة اتخاذ خطوات فورية عاجلة لإنقاذ مرضى الكلى، وتوفير احتياجاتهم العلاجية اللازمة لأقسام غسيل الكلى، موضحةً أن 43% من قائمة الأدوية الأساسية، و25% من المهمات الطبية رصيدها صفر، لتقول الوزارة خلال مؤتمر صحفي لها، حول تداعيات نقص المستهلكات الطبية في أقسام الغسيل الكلوي، إن 1200 مريض بالفشل الكلوي يتهددهم خطر الحرمان من تلقي جلسات الغسيل الكلوي، ودخولهم في مضاعفات صحية خطيرة، موضحةً أن مراكز غسيل الكلى تُجري 14 ألف جلسة غسيل كلوي شهريًا.
ليست ياسمين الوحيدة التي عانت ويلات القصف المتواصل على قطاع غزة؛ ما أثر على حالتها الصحية، هي وآخرون يعانون من الفشل الكلوي، ويعيشون على إجراء جلسات الغسيل الكلوي، من بينهم سهام محمد، سيدة مصرية مُسنّة تعيش بالقطاع رفقة ابنتها، رغم حالتها الصحية المتدهورة، وحاجتها الملحة لإجراء جلسات غسيل الكلى؛ فقد رفض أحد العاملين بمستشفى أبو يوسف النجار إجراءها مؤخرًا، رغم حصولها على موافقة خطية من رئيس القسم بها، وذلك بحسب ابنتها السيدة فاطمة شراب؛ فلسطينية الجنسية؛ تحكى ابنتها تفاصيل معاناة والدتها قائلة: “فوجئنا برفض ممرض في مستشفى يوسف النجار برفح استقبال والدتي لإجراء جلسة الغسيل الكلوي، رغم توجهنا في الثانية صباحًا للمستشفى، أثناء القصف المتواصل، وعدم توفر وسائل انتقال ومجازفتنا بحياتنا. فوجئنا به يقول: عودوا إلى منزلكم؛ فليس لها غسيل”. تضيف فاطمة لـ”مواطن“: وين تروح أمي؟ أمي من حقها تغسل كلى، وتتعالج مثلها مثل غيرها، أمي مصرية تحمل هوية وجواز سفر مصريًا، تعيش بخان يونس، مريضة وحالتها ملحة بحاجة إلى العلاج أسوة بباقي المرضى دون الحاجة إلى دفع التنسيقات”.
1200 مريض بالفشل الكلوي يتهددهم خطر الحرمان من تلقي جلسات الغسيل الكلوي، ودخولهم في مضاعفات صحية خطيرة
وبحسب التقارير الطبية الصادرة عن مجمع ناصر الطبي للسيدة المسنة سهام محمد، 71 عامًا، والمقيمة بخان يونس؛ فهي تعاني من مرض السكري من النوع الثاني، وارتفاع ضغط الدم الذي تسبب في إصابتها بالفشل الكلوي المزمن في مراحله النهائية؛ حيث كانت تجري ثلاثة جلسات غسيل كلوي أسبوعيًا، علاوة على تركيبها دعامات القلب ومعاناتها من فيروس الكبد الوبائي C”.
وتشير الدكتورة سلوى إبراهيم، رئيس قسم الكلى بكلية طب قصر العيني في القاهرة إنه في حالات الفشل الكلوي يحتاج المريض لجلسات غسيل الكلى بمعدل 12 ساعة أسبوعيًا مقسمة على ثلاث جلسات، للعمل على خفض مستويات السموم ممثلة في البولينا والكرياتنين والفسفور والبوتاسيوم في الدم، لضبط قلوية الدم وسحب السوائل الزائدة من الجسم، كى لا يحدث تورم في الجسم أو تجمع مياه في الرئتين، وفي حال عدم تلقي الجلسات أو خفض مدد الجلسات الثلاث أو عددها، أو في حال عدم التخلص من البول بشكل جيد، تتجمع السموم في الجسم ويتعرض لارتشاح رئوي يؤدي إلى هبوط في مستويات الأكسجين، أو تتوقف عضلة القلب، كما تتسبب السموم في معاناة المريض من القيء واضطراب درجة الوعي، إضافة للتشنجات وهشاشة العظام واضطراب في نبضات القلب والتعرض للغيبوبة.
وأكدت في حديثها لـ”مواطن” عن حاجة مريض الفشل الكلوي لتعاطي أدويته بانتظام؛ سواء كانت أدوية ضغط الدم كى لا يحدث نزيف في المخ، أو أدوية السكر كي لا يؤدي ارتفاع مستوياته في الدم إلى الدخول في غيبوبة؛ فضلًا عن أهمية تعاطيه أدوية الأنيميا كي لا تنخفض مستويات الهيموجلوبين في الدم للحفاظ على أداء عضلة القلب. فيما يخص المصابين بفيروس C أو أى مرض فيروسي آخر أو فشل كلوي، في آن واحد، تخصص لهم ماكينات غسيل خاصة بهم داخل وحدة الغسيل.
كما أكدت وزارة الصحة الفلسطينية قبيل اندلاع الحرب في السابع من أكتوبر، أن مراكز الغسيل الكلوي باتت مهددة بالتوقف عن الخدمة بشكل كلي، مشيرة إلى أن عددًا كبيرًا من مرضى الفشل الكلوي بحاجة إلى إجراء الفحوصات والأشعة التشخيصية عبر أجهزة التصوير المتحركة، والتي ما زال الاحتلال الإسرائيلي يحتجزها لأكثر من 18 شهرًا، لتتوقف بالفعل بعد الحرب، ويضطر من نجا من قصف قوات الاحتلال الإسرائيلي من المرضى إلى الانتقال لمستشفى رفح لتلقي جلسات غسيل غير مكتملة، لا تداوي آلام المرضى التي تفتك بأجسادهم.
ولم تتمكن جمعية الأمل لرعاية الفشل الكلوي بطولكرم تقديم خدماتها لمرضى غزة، أو التوسع في نطاق خدماتها لضعف إمكانياتها. يقول أيمن مسكاوي رئيس الجمعية لـ”مواطن“: “نعمل على تقديم خدماتنا لما يتراوح من 120 لـ150 مريضًا؛ حيث نوفر لهم الأدوية غير المتوفرة بوزارة الصحة، وتأمين وسائل تنقلهم إن أمكن ذلك، ونقل أدوية المرضى ممن يغسلون كليتهم بسيارة الجمعية من نابلس لطولكرم.
التعليقات 1