تعتبر عملية ختان الذكور ظاهرة تاريخية وثقافية ذات أبعاد دينية في العالم العربي والإسلامي، يعود أصل هذه العملية إلى العديد من العوامل التاريخية والدينية التي تجعلها جزءً لا يتجزأ من تقاليد المسلمين.
ويعتقد الكثير من الناس أنّ أصل الختان يعود للقصة الشهيرة التي وردت في سفر التكوين؛ حيث أمر الله، النبي إبراهيم بختان جميع أولاده وعبيده الذكور، بعد ثمانية أيام من الولادة.
لكن في حقيقة الأمر، يُعتبر ختان الذكور أقدم عملية جراحية في تاريخ الحضارة البشرية، تُرجعها السجلات التاريخية والأدلة الأثرية إلى القرن الثالث والعشرين قبل الميلاد؛ إذ تم تصوير مشهد الختان على باب مقبرة في مصر القديمة.
وختان الذكور مسألة معقدة ومتشابكة؛ فالأطباء يناقشون مسألة الفوائد والمخاطر، ولكن هناك جوانب أخرى تتعدّى المقاربات الطبية؛ فهل يحق لأحد استئصال جزء غير مريض من جسم طفل؟ وهل تعد احتمالية تسرطن عضو أو التهابه سببًا كافيًا لاستئصاله منذ بداية الحياة؟.
لختان الذكور فوائد، أم تحيز ثقافي؟
في سنة 2012 نشرت الجمعية الأمريكية لطب الأطفال، ومركز السيطرة على الأمراض والوقاية منها (CDC) دراسةً تشير إلى أن الفوائد الصحية لختان الذكور حديثي الولادة تفوق المخاطر، ما أثار جدلًا واسعًا في الأوساط العلمية والطبية، ونشر العديد من الدراسات والمقالات البحثية في نقد هذه الدراسة.
على جانب آخر، اعتبر مركز أبحاث علم الجنس في جامعة ألبورج الدنماركية، أن التحيز الثقافي في الدراسة الأميركية واضح تجاه الختان غير العلاجي في الولايات المتحدة، ويضيف في مراجعته النقدية، إن هناك واحدة فقط من الحجج التي قدمتها الأكاديمية الأمريكية لطب الأطفال، لها بعض الأهمية النظرية فيما يتعلق بختان الذكور الرضع.
وهي الحماية المحتملة من التهابات المسالك البولية عند الذكور الرضع، والتي يمكن علاجها بسهولة بالمضادات الحيوية دون فقدان الأنسجة. أما الفوائد الصحية الأخرى المزعومة؛ بما في ذلك الحماية من فيروس نقص المناعة البشرية/الإيدز، والهربس التناسلي، والثآليل التناسلية، وسرطان القضيب؛ فهي موضع شك، وضعيفة.
بالإضافة إلى مفهومها غير الكافي للمخاطر، صوّر مركز السيطرة على الأمراض المخاطر التي يأخذها في الاعتبار بطريقة مضللة لا يستطيع تمييزها إلا من لديه معرفة وخبرة مع الدلالات الإحصائية. حسب مركز الأبحاث الدانماركي.
السلامة الجسدية أم الأوامر الدينية؟
يقول سراج (٢٩ عامًا) لمواطن، وهو صيدلانيّ يعمل في دمشق: “أجرى لي أهلي الختان في المنزل بيد طبيب في الجراحة العامة، تقول أمي إنني نزفتُ وبكيتُ كثيرًا، وارتبك الطبيب أمام النزف الغزير إلى أن استطاع إيقافه بقدرة قادر، لذا لم يستطع إزالة القلفة بالكامل وبقي جزءٌ مهمٌ منها”.
وتابع “لقد أُجريت عملية ختاني سنة ١٩٩٤م، لا أستطيع لوم أهلي على إجباري على هكذا فعلٍ كاد يودي بحياتي، بالإضافة إلى إجرائه في قريةٍ بعيدةٍ عن المدينة، ولا وجود فيها لأي مركزٍ طبي، حتى السيارات فيها قليلة جدًا”. وأكّد سراج أنّ المشكلة اجتماعية ودينية في الأساس، أُضيف إليها فوائد طبية وهمية كي تتلاءم مع روح العصر، وهذا أخطر ما في الأمر.
كشفت الدراسة التي أجراها كيم وبانغ أنه بعد الختان، حدث انخفاض في متعة العادة السرية والاستمتاع الجنسي، حتى لو تم إجراء الختان بشكل صحيح.
كما توصي المنظمات الطبية الأوروبية والعالمية بعدم جواز الختان الروتيني دون سبب طبي واضح وظاهر، وقضت لجنة الحكومة البلجيكية للأخلاقيات البيولوجية، بعدم ختان الأطفال الرضع لأسباب أخرى غير الضرورة الطبي.
ونص حكمها على أن السلامة الجسدية أهم من الإيمان الديني، كذلك الجمعية الطبية الدنماركية التي منعت الختان، إلا في حال وجود حاجة طبية موثّقة.
اضطراب نفسي
عند ختان حديث الولادة، تتسارع دقات القلب ويبكي بشدة، ويُطلق الجسم هرمونات التوتر. هناك أيضًا آثار طويلة الأمد لهذه الشدّة النفسية والجسدية؛ فإذا قمنا بتطعيم الرضيع بعد ستة أشهر؛ فسوف يتفاعل مع الألم برد فعلٍ شديد.
بالإضافة إلى ذلك، يتم ختان حديث الولادة في مرحلة حساسة جدًا، تتطور فيها الرابطة العاطفية والجسدية بين الأم وطفلها، ويعرّض المرض النفسي الناجم عن الختان هذه الرابطة الهامة للخطر، ويهدد بذلك عملية التطور العاطفي والنفسي والروحي للطفل. وبيّنت دراسة أنّ الرجال المختونين مبكرًا، لديهم انخفاض في الاستقرار العاطفي وانعدام الأمان في العلاقات.
وعليه يقول، الطبيب النفسي ماتياس فرانز في تقرير لصحيفة “Taz” الألمانية، نائب مدير المعهد السريري للطب النفسي الجسدي بجامعة دوسلدورف: “إن ختان القلفة لدى الأولاد في مرحلة الرضاعة أو الطفولة يسبّب صدمة للمختونين، مع احتمال حدوث عواقب نفسية وجسدية دائمة على المدى الطويل”.
ويشرح فرانز الآلية التي يمكن أن يؤدي الختان من خلالها إلى اضطرابات نفسية وجسمية: “تُخزّن تجربة الختان بشكل فردي، ومن خلال المشاهدة في ذاكرة الإجهاد اللاواعية في الدماغ، وعندما يحصل تحفيز لهذه الذكريات النائمة نتيجة موقف ما؛ فإنها تُعبّر عن نفسها بطريقة قهرية ومُزعجة”.
وفيما إذا كان جميع الذكور المختونين سيُعانون من صدمة نفسية، يقول: “بالتأكيد لن يُسبب الختان اضطرابًا نفسيًا لجميع المختونين، وقد تزول آثارها عند معالجة هذه الصدمة في بيئة متعاطفة، ويحصل العكس إذا تُرك الطفل وحيدًا في بيئة غير داعمة، سيبقى يعاني من الألم والمخاوف”.
الاستمناء، والجنس
إنّ الطريقة الصحيحة في مقاربة الجراحة غير العلاجية؛ (أي الجراحة التي يتم إجراؤها في غياب المرض أو التشوه) ليست المنفعة مقابل “خطر المضاعفات الجراحية”؛ بل المنفعة مقابل خطر الضرر، هنا سيكون الضرر -على الأقل- هو خسارة هامة في بنية القضيب الصحية والوظيفية المثيرة للشهوة الجنسية، إنها 30-50 سم2 من الأنسجة التناسلية المرنة ذات الكثافة العصبية.
وبما أنّ مداعبة النسيج أثناء ممارسة الجنس والعادة السرية يؤدي إلى مجموعة من التصورات الحسية المصاحبة، وبما أنه يحمي الرأس الحساس للقضيب من الرضوض والجفاف؛ فإن إزالته تنطوي على نتائج سلبية على الحياة الجنسية.
وكشفت الدراسة التي أجراها كيم وبانغ أنه بعد الختان، حدث انخفاض في متعة العادة السرية والاستمتاع الجنسي، حتى لو تم إجراء الختان بشكل صحيح. ومن وجهة نظرٍ أخرى يوجد دراسات لا ترى تأثيرًا مهمًا للختان على اللذة والنشوة الجنسية، لأنها معايير ذاتية لا يمكن قياسها موضوعيًا.
إلى ذلك، يقول لمواطن، أمين (٢٥ عامًا)، “عانيتُ من جفافٍ وتشققات في حشفة القضيب، زرتُ على إثرها طبيبًا أخصائيًا، طمأنني أنه لا حاجة سوى للمرطبات، وأنها قد تكون بسبب إزالة القلفة بعملية الختان؛ فالقلفة تُبقي رأس القضيب رطبًا وتحميه من الاحتكاك المتكرر والمباشر مع الملابس التي تُسبب جفافه وتشققه”.
آثار طويلة الأمد
تقول الدكتورة روان علي، طبيبة في اختصاص الأطفال وحديثي الولادة، لمواطن: “رجع إلينا في المستشفى، رضيعٌ يبلغ من العمر شهرًا واحدًا، كان الطفل أزرق اللون وشاحبًا بعد عملية ختانٍ أُجريت في عيادة طبيب بولية، وكانت علاماته الحيوية جيدة وتحاليله طبيعية.
فهل ينبغي أن يكون القرار بشأن ختان الذكور مبنيًا على المصلحة الصحية الفردية، أم يجب أن يكون تأثير العوامل الثقافية والدينية هو الأبرز؟
وتضيف، أنها ليست الحالة الأولى التي تواجهها في حياتها المهنية، وأنها لن تعرض طفلها في المستقبل لخطر الختان، من أجل تفادي الإنتانات البولية التي يمكن علاجها بالمضادات الحيوية.
وعن سبب إجراء الختان من قبل الأطباء بالرغم من المخاطر وقلة المنافع؛ تقول إخصائية طب الأطفال: “يوجد أطباء يُعاملون الختان على أنه سوقٌ وباب رزق؛ خصوصًا في ظل أزمة معيشية خانقة تعيشها سوريا ولبنان والكثير من الدول، ومنهم من يقول إنّ الأهل سيُجرون الختان على أي حال ويستسلمون للأمر الواقع”.
وتؤكد على “أن الأطباء بشكلٍ عام يخافون على سمعتهم؛ حيث يخافون المُجاهرة بالآراء المخالفة للثقافة السائدة؛ حصوصًا مع حضور الجذر الدينيّ بقوة في قضية الختان، ومنهم صراحةً من لا يتعمق في الدراسات الحديثة والمقارنة بينها، أغلبهم لا يجدون الوقت للجلوس مع أطفالهم، حتى يتعمقون في قضيةٍ لا يلقي أحدٌ الضوء على مخاطرها وفوائدها وجدواها أو يشتكي منها”.
وفي سياقٍ متصل يقول الدكتور بول د. تيناري، مدير معهد المحيط الهادئ للدراسات المتقدمة، في بحثه الذي قارن فيه صور الرنين المغناطيسي قبل وأثناء وبعد عملية الختان: “أشار تحليل بيانات التصوير بالرنين المغناطيسي إلى أنّ جراحة الختان كانت بمثابة صدمة كبيرة لدماغ الطفل. وأحدثت تغيرات في الجهاز الحوفي، واللوزة الدماغية والفص الجبهي والصدغي، وهي المراكز المسؤولة عن التفكير والإدراك والعواطف”.
كما أن “أشارت اختبارات المتابعة على الرضيع المختون بعد يوم واحد وأسبوع وشهر من الختان، إلى أن دماغ الطفل لم يعد أبدًا إلى وضعه الطبيعي قبل الجراحة”.
وفي معرض الردّ على الحجة القائلة بأنّ الختان يُقلل فُرصة الإصابة بالإنتانات البولية وسرطان القضيب وغيرها، يعلق الدكتور إيكي هينر كلوج في مجلة الجمعية الطبية الكندية: “إذا أردنا العمل وفق منطق إزالة عضوٍ أو جزءٍ منه عند وجود دليل إحصائي على إمكانية الوقاية من مرض، أو تقليل فرصة الإصابة به عن طريق الجراحة، أظن أننا سنعمل دون توقف على إزالة كل جزء من جسم الإنسان تقريبًا!”.
يضر الأطباء أيضًا!
يُخلّف مرور الإنسان بصدمات آثارًا نفسية سلبية على المدى البعيد، ويُسمى هذا اضطراب ما بعد الصدمة، الذي يُصاب به الجنود في الحروب وضحايا الاغتصاب وغيرها من الأحداث المؤلمة، والسؤال هنا؛ ما الذي يضمن عدم إصابة الأطباء باضطراب ما بعد الصدمة الناجمة عن اقتياد طفل سليم وتثبيته بالأحزمة، واستئصال جزء من أكثر الأماكن حساسية في جسده دون سبب وجيه؟
صرحت الدكتورة ميشيل ستورمز عن تضررها النفسيّ من الختان كطبيبة: “صدقوني، أشعر أن الختان -وحقيقة أنني قمت بالختان- أثر سلبًا علي، وأعتقد أنني مازلت أحاول التعامل مع هذه المشكلة”.
كما أعلن الدكتور جورج سي دينيستون، تضرره من اضطراره إلى إجراء الختان خلال فترته التدريبية؛ لقد شعر بالندم والاستياء؛ بسبب أنه انتهك حق شخص آخر في التمتع الكامل بحياته، بالإضافة إلى معاناة الأطفال أثناء الختان وبعده.
وعلى ضوء ذلك تشكلت منظمة الأطباء المعارضين للختان (DOC)، والتي تلتزم بإنهاء الختان الروتيني غير العلاجي للرضّع، وتسعى إلى رفع مستوى الوعي وتحدي الرأي السائد، وتقديم الدعم والتوجيه للآباء ومقدمي الخدمات الطبية من الذين يرغبون في اتخاذ قرارات صحيحة ومدروسة، بعيدًا عن التقاليد أو الضغوط الثقافية، ليكون الأطفال أحرارًا في التطور كما أرادت الطبيعة.
وتستند المُنظمة إلى مجموعة من المبادئ العلمية والأخلاقية؛ فالقلفة هي نسيج طبيعي وصحي تمامًا، ويلعب دورًا مهمًا في الحياة الجنسية، وليس للختان أي فوائد مبررة؛ بل يحمل مجموعة من المخاطر؛ من الألم والمعاناة، إلى الأخطاء الجراحية، إلى انخفاض الارتباط بين الأم والطفل.
الالتزام بالتقاليد، ما الأهمية؟
ختامًا، يظهر بوضوح التشابك العميق بين الطب والثقافة، فيما يتعلق بعملية ختان الذكور، ويثير هذا الصراع بين المخاطر الصحية المحتملة من نزف ومرض نفسي، واحتمال خسارة العضو الذكريّ من جهة، والفوائد المتوقعة من تقليل نسبة الالتهابات والسرطانات -القليلة أصلًا- من جهة أخرى يثير تساؤلًا حول الأولويات والقيم المحورية.
فهل ينبغي أن يكون القرار بشأن ختان الذكور مبنيًا على المصلحة الصحية الفردية، أم يجب أن يكون تأثير العوامل الثقافية والدينية هو الأبرز؟
كما يفتح هذا التناقض بابًا لسؤال مفتوح حول مدى أهمية الالتزام بالتقاليد والدين مقارنة بسلامة الجسد. هل الدين والثقافة أهم من السلامة الجسدية؟ وهل يمكن التوفيق بين الجوانب الثقافية والصحية بطريقة تحافظ على التقاليد؟ وفي الوقت نفسه تحمي الفرد من المخاطر الصحية المحتملة؟
الأمر الذي يدعونا إلى التفكير في توازن معقول بين الاحترام للتاريخ والتقاليد والاعتبارات الصحية الحديثة؛ فالتحول نحو فهم أعمق لتأثيرات العادات والمعتقدات على الصحة، يمكن أن يساهم في تشكيل مجتمع يحترم التنوع ويحمي سلامة الأفراد في الوقت نفسه.
التعليقات 1