يتنامى تيار ديني إصلاحي في المملكة العربية السعودية مع تدشين ولي العهد محمد بن سلمان توجهات الانفتاح على العالم، والتي شملت توجيه أسهم النقد إلى المنظومة الدينية التقليدية التي كانت قد بلغت من التكلس والتحجر مبلغًا بات معيقًا للتنمية والاستقرار والحياة الطبيعية في المملكة. يتشابه هذا التيار في أطروحته مع تيار “القرآنيين” أو “أهل القرآن”، والذي عرفته الثقافة الإسلامية والعربية منذ عقود خلت، ومن رموزه الأكثر شهرةً أحمد صبحي منصور من مصر وآخرين. يتميز تيار القرآنيين برفض الأخذ بالأحاديث المنسوبة للنبي محمد، والتي دُونت في كتب الأحاديث، ومنها كتب الصحاح والسنن وغير ذلك.
القرآنيون في المملكة
التقت “مواطن” ثلاثة باحثين وناشطين في التعريف بالفكر القرآني من السعودية، طرحت سؤالًا حول مفهوم الفكر القرآني على الباحث فواز الحسيني؛ فأجاب بأنّ الثقافة القرآنية أو الفكر القرآني هو دين أكثر من كونه فكرًا، وهو المنهج الذي ربى رسول الله مجتمعه عليه؛ حيث كان ذلك المجتمع قرآنًا يمشي على الأرض، أسوةً برسول الله الذي كان يحكم بينهم بكتاب الله؛ حيث القيم الإنسانية والمبادئ الكبرى والأخلاق الكريمة والرسالة السامية والرحمة العالمية، كما في قوله تعالى “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين” (الأنبياء:107).
أما عن الدافع لتبني الفكر القرآني؛ فأجاب بأنّ الإنسان ينزع بطبيعته دائمًا إلى اكتشاف الحقيقة، والمسلم اليوم وفي هذه المراحل الإنسانية المتقدمة، يقف حائرًا أمام التحديات المعاصرة التي لا يجد لها إجابات منطقية؛ في الصورة التي وصلته عن الإسلام من خلال الموروث الإسلامي؛ بل أحيانًا يرى فتاوى عكسية ومخالفة لمراد الله؛ فيسكت تسليمًا وتدينًا وحبًا بالله وبرسوله – حسب زعمهم – كما علمهم مشايخهم، دون الرجوع للقرآن وتدبره وتلاوته وجمع سياقاته. كما يرى الحسيني أنّه إزاء ذلك لم يعد أمام المسلم الحرّ سوى خيارين؛ إما الإلحاد والتخلص من الفوضى والتشتت والاختلافات، أو العودة لكتاب الله ونبذ ما سواه من الكتب ونزع قدسيتها واعتبارها كتب بشرية غير ملزمة، يؤخذ منها ما يوافق كتاب الله والعقل والفطرة والعلم فقط.
التراث لا يُقدس ولا يُدنس؛ فقط يُستأنس به. وإنتاج التراث من تفاسير القرآن والفقه ورواية الحديث جميعها اجتهادات بشرية بحتة، لا تُسمى شرعًا ولا دينًا، حتى لا نشرك مع الله أحدًا
John Doe Tweet
بدوره يقول الباحث أحمد بن عبد الرحمن العويس، أنّه عاش لسنوات عدة يعاني من التناقض بين ما يتعلمه من رجال الدين التقليدين المسمين بالشيوخ، وبين ما كان يدركه من خلال قراءة وتدبر القرآن الكريم. يضرب العويس لـ”مواطن” مثالًا بالتناقض بين أسماء الله وصفاته؛ مثل الرحيم، وما تمتلئ به كتب التراث وتنشره تعاليم المشايخ من مرويات عن العذاب والكراهية تجاه الآخر، وقتل الذي يخرج من الإسلام، مع أنّ الله غني عن العباد، وقال في كتابه “فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر” (الكهف:29).
تلك الرؤى السابقة ترى أنّ الأزمة في التراث الديني الإسلامي، بما قدمه من مرويات منسوبة إلى النبي محمد، وتفاسير متعددة للقرآن الكريم، ومنظومة فقهية وعقائدية، لم تُبن في الأساس على القرآن الكريم وحده؛ بل استعانت بالأحاديث النبوية والمرويات المنسوبة للنبي والصحابة ومن تابعهم زمنيًا. ينقل ذلك إلى بحث موقف التيار القرآني في المملكة من الأحاديث النبوية، وبالتالي كل العلوم الدينية التي بُنيت على تلك المرويات.
الموقف من التراث الديني
يعتقد محمد المبارك، الباحث في التراث الذي يتبنى الفكر القرآني، بأنّ التراث لا يُقدس ولا يُدنس؛ فقط يُستأنس به. مضيفًا لـ”مواطن” بأنّ إنتاج التراث من تفاسير القرآن والفقه ورواية الحديث جميعها اجتهادات بشرية بحتة، لا تُسمى شرعًا ولا دينًا، حتى لا نشرك مع الله أحدًا. يرى المبارك أنّ النصّ التراثي يُعرض على القرآن والعقل؛ فإذا لم يعارضهما فنصدق به، لكن لا نسلم به؛ لأن التصديق من العقليات التي قد نعود عنه إذا تبين لنا غيره، أما التسليم من الإيمانيات، حتى لو لم نعقلها فنحن نؤمن بها، مثل الإيمان الملائكة والجن وحتى إبليس، كما نؤمن بمعجزات الرسل، وهي خارقة لقوانين الطبيعة ويكفر من يشك أو ينكر شيء منها. ويذهب المبارك إلى أنّ الشك في وجود الرموز التراثية كالبخاري وغيره، لن يسأل الله المسلم عنها؛ فمن باب أولى آراؤهم ورواياتهم. يقول “التراث فتنة تتخفى خلف رسول الهدى”.
بدوره يحدد الباحث فواز الحسيني ضوابط لقبول المرويات المنسوبة للنبي، وهي: أي سند فقد أحد شروط الصحة لدى أهل الحديث ينفى عنه اسم (حديث)، وإذا صح السند ينظر في المتن (النص) ويخضع لخمسة شروط، هي: القرآن والعقل والعلم والفطرة والسنة الفعلية الأقوى. كما يفرق الحسيني بين القبول بالحديث والأخذ به في التشريع والعبادات، مبينًا أنّ كل ما ورد عن النبي من أقوال وروايات لا يجب أن يحمل قدسية، أو يكون أصلًا في التشريع إلا ما كان له أصل في القرآن ويخص الدين، أما سائر التنظيمات فتدخل في دائرة المباح الواسعة، كالشؤون الإدارية والاجتماعية والمالية، وولي الأمر في كل زمان هو المسؤول عن تنظيم ذلك وفق مصالح الناس وظروفهم الزمانية والمكانية.
ذلك الموقف من التراث؛ وخصوصًا الأحاديث النبوية، يختلف عن المعروف من رموز القرآنيين؛ حيث يرفضون الأحاديث المنسوبة للنبي تمامًا، حتى لو وافقت نصوص القرآن.
طُرح سؤال على أحمد صبحي منصور يقول: “ما رأيك في الأحاديث التي يتفق معناها مع القرآن الكريم؟ هل ترفضها أيضًا؟”. جاءت إجابته في عدّة نقاط، منها: لو افترضنا وجود أحاديث تتفق مع القرآن الكريم؛ فما الداعي لها طالما يوجد معنا الأصل وهو القرآن الكريم؟ وهو المفروض اتباعه وحده. الثانية؛ هل تستطيع أن تشهد يوم القيامة بأن الرسول قال فعلًا هذا الكلام؟ وهل يصح أن تكون شاهدًا على ما لم تسمع بنفسك؟ وهل ترضى أن يكون الرسول خصمًا لك حين تزعم أنه قال ما لم يقل؟
والثالثة بأنّه كان للنبي محمد خطب وكلام جميل وفصيح كثير خارج القرآن، وهذا يدخل في السيرة والتاريخ وليس جزءً من الإسلام الذي اكتمل بالقرآن الكريم، كما في قوله تعالى: “اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا” (المائدة:3)؛ فهل تريد تكذيب القرآن الكريم واتهامه بأنه لم يكتمل؟ الرابعة بأنّ التسامح في إضافة أي حديث واعتباره من الدين طالما يوافق القرآن، سيؤدي إلى مسارعة البعض بإضافة أحاديث أخرى بحجة أنها لا تخالف القرآن، ثم أن تقدير ما يتفق مع القرآن وما لا يخالف من الأمور النسبية التي تخضع لاختلاف وجهات النظر، وبالتالي ستتسع الفجوة وستتعدد مئات الألوف من الأحاديث المطلوب نسبتها للنبي. وهذا ما وقع فيه من كانوا يسمونهم بالصالحين، يقول أحدهم إنه كلما قرأ كلامًا حسنًا نسبه للنبي محمد وجعله حديثًا.
مسلمون حنفاء
يقول الباحث المصري في الفكر الديني، سامح عسكر، بأنّ هناك حالة شجاعة كبيرة في نقد التراث في السعودية، من قبل تيار متنامٍ يضمّ الآلاف، لكنهم ليسوا قرآنيين بالمعنى المعروف. أشار عسكر لـ”مواطن” إلى أنّ المذهب القرآني ممنوع في السعودية، وحتى الرمز الأشهر في ردّ الأحاديث حسن المالكي لم يصرح بأنّه قرآني.
بدوره لا يعتقد الأكاديمي والباحث السعودي في شؤون الحركات الدينية، محمد صفر، أنّ الداعين إلى ردّ الحديث هم تيار عريض وقوي لهم مفكرون وأطروحات ومؤسسات؛ بل هم مجموعة تتبنى أفكارًا ليست ناشئة داخل السعودية.
ويوضح لـ”مواطن” بأنّ ثمة أمورًا حدثت أوهمت للبعض بأن هناك تيارًا أو دعمًا أو توجهًا من الدولة نحو الفكر القرآني، لكن ذلك ليس صحيحًا، موضحًا بأنّ من تلك الأمور، التحولات في بناء الدولة داخليًا والسياسات الخارجية، ما يتطلب تعديلًا في البنية الأساسية القانونية والأنظمة والإجراءات، وكل ذلك يحتاج الى تحرر من الفكر الديني الذي كان يسود آنذاك، وهو فكر يستند على تفسيره للسنّة. يبين الباحث السعودي أنّ الإشكالية في الاستناد إلى السنّة، لهذا جاءت الدعوة إلى إعادة التدوين والقراءة والنظر في السنّة، وضبط تفسير هذه النصوص، وفي سبيل ذلك جاء مشروع مجمع الملك سلمان للسنّة النبوية.
يبدو أنّ القرآنيين في المملكة لا يشكلون تيارًا منتظمًا على مستوى الأفراد والفكر؛ فمما سبق تظهر اختلافات في الموقف من التراث. أيًا كان؛ فهذه الرؤية باختلافاتها تعني أنّ القرآنيين مطالبون بإنتاج بديل لهذا التراث؛ فيما يتعلق بفهم القرآن الكريم. كتب الناقد الأدبي والروائي السعودي، على الشدوي، منشورًا على صفحته في “فيسبوك” عن نقاشات جمعته بشباب من القرآنيين. يقول: “عرفت وناقشت وعايشت شبابًا من القرآنيين، أو أهل القرآن، أو مسلمين حنفاء (التسمية الأخيرة إشارة إلى رفضهم المذاهب والفرق). تبين لي أنهم في ازدياد بالمملكة.”
رغم ما يعانيه القرآنيون من تخوين وتكفير وحرب عليهم من رجال الدين التقليدين؛ إلا أنّ قوة السلطة وتوجهاتها الإصلاحية أعطت القرآنيين القوة والأريحية لمواجهة هذا التيار
John Doe Tweet
أضاف “الشدوي”: “يتبلور الأهم في معتقدهم في فكرتين وهما: إنكار الناسخ والمنسوخ، وعدم الاعتراف بالحديث النبوي مصدرًا للتشريع. لم يكن هدفي من النقاش إلا الفهم، لكن تبين لي أن النقاش معهم لا يزيد إلا خنوعًا واستسلامًا للنص.” وتابع: “كانت فكرتي هي أن النصوص بما فيها القرآن يمكن أن يشملها النقد التاريخي، وقد توج ذلك النقد الأولي بكتب؛ أهمها ما ألفه السيوطي والزركشي. وأن نقدهم التاريخي لكتب الحديث، يمكن أن يشمل القرآن أيضًا.”
يعتبر موضوع قراءة القرآن بالمفهوم الشامل للقراءة قضية أساسية في الدراسات الإسلامية غير التقليدية، لا تكفي فيها القراءات التي تنطلق من رؤى إنسانية؛ حيث يوجد في النصّ القرآني آيات تحمل معاني متناقضة ومختلفة. مقابل الآية “فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ” (الكهف:29) توجد آيات منها “فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم” (التوبة:5). كما يوجد في القرآن آيات تنص على أحكام تتعلق بالقوانين التي تحكم المجتمع، مثل قطع اليد ورجم الزاني وضرب الزوجات، وغير ذلك من الآيات التي تتناقض مع المنطلقات الإنسانية التي يرفعها العديد من القرآنيين في المملكة.
خلاصة ما سبق، هو أنّ على القرآنيين الاستفادة من الإنتاج الحديث في مناهج القراءة في دراسة النصّ القرآني، الذي هو رغم قدسيته لدى المؤمنين، إلا أنّه يظل نصًّا مكتوبًا بلغة يخضع لقواعدها، ومن يتصل به هو إنسان، لا يختلف عن الإنسان الذي يتصل ببقية النصوص. في هذا السياق هناك إنتاج متميز لمفكرين إيرانيين وعراقيين في فهم القرآن من خلال القراءة بمعانها الواسع كما في الدراسات الأدبية الحديثة، مثل مؤلفات عبد الجبار الرفاعي ومحمد مجتهد شبستري وغيرهم.
القرآنيون والسلطة
كان للإصلاحات التي أعلن عنها ولي العهد السعودي، محمد بن سلمان، تأثيرٌ كبيرٌ في الحركة الفكرية الدينية في المملكة؛ خاصة أنّ نقد الفكر الديني التقليدي كان محورًا أساسيًا في هذه الإصلاحات، لكن مع ذلك أبدت السلطة السعودية تناقضًا في التعامل مع محسوبين على الحركة الإصلاحية الدينية؛ مثل الشيخ حسن المالكي، الذي وُجهت إليه عدة تهم؛ منها إنكار حدّ الردة، واتهامه من يحرمون الغناء بالتطرف وغير ذلك من التهم التي قالها الادعاء العام، والتي تتناقض مع توجهات المملكة نحو الانفتاح.
سألت “مواطن” الناشط فواز الحسيني، عن أثر الإصلاحات التي أطلقها ولي العهد على الحركة الفكرية للقرآنيين؛ فأجاب بأنّها مثّلت نقلةً تاريخيةً على جميع الأصعدة، وهي البداية وليست النهاية، وما يهم هو إعادة الشعب لطبيعته الاجتماعية التي اختطفتها الصحوة منذ عقود. وتابع: “إنّ الإصلاحات كانت بمثابة إلقاء حجر كبير في بركة ماء صغيرة، حركت معتقدات متجذرة وأفكارًا متحجرة وعادات منغلقة”. ويقول: “هي يقظة ذهنية جعلتنا نفكر في واقعنا من زوايا جديدة مختلفة، جعلتنا نفكر بعشرات السنوات التي عشناها بنمط فكري منغلق، ومحكم بفتاوى وأقاويل عالقة في الزمن.” يشير إلى أنّ طريق الإصلاح طويل، ويقول: “نعم، نحن لم نصل لدرجة الحرية الفكرية التي نرمي لها، وإنما هذه الاصلاحات تدل أننا التزمنا سواء السبيل، بعدما تفرقت بنا السبل، وهذا كفيل بالتفاؤل وحسن الظن بالله.”
من جانبه يقول الناشط أحمد بن عبد الرحمن العويس، بأنّه رغم ما يعانيه القرآنيون من تخوين وتكفير وحرب عليهم من رجال الدين التقليدين؛ إلا أنّ قوة السلطة وتوجهاتها الإصلاحية أعطت القرآنيين القوة والأريحية لمواجهة هذا التيار الذي يتسم بالعداوة والبغضاء والإقصاء لكل إنسان يخالفهم الرأي (بحسب رأيه).
Thank you for the fortunate post. It was quite humorous, and it appears that you have progressed to a far more pleasant level. How can we still communicate?