45 ألف امرأة حامل مشردة سوف تلد في السودان خلال الأشهر الثلاثة المقبلة؛ فيما تعاني 25 ألف امرأة أخرى من مضاعفات الحمل والولادة، بما في ذلك حاجتهن إلى إجراء عملية قيصرية، بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان؛ ما ينذر بكارثة صحية في ظل خروج 70% من المستشفيات في مناطق الصراع عن العمل جراء الاستهداف والقصف، بحسب الأمم المتحدة ونقابة الأطباء في السودان.
وفقًا لإحصائيات Insight Insecurity (منظمة ترصد الأخطار بحق المدنيين في مناطق الصراع)، وقع 242 هجومًا على المنشآت الصحية في السودان، ولم يتبق سوى 29 مستشفى عاملة، بينها 6 في الخرطوم، وهو ما يقلص فرص المواطنين في الحصول على الخدمات الطبية، ومن بينهم أكثر من 3.4 مليون سيدة مشردة في سن الإنجاب، و109 آلاف حامل بحاجة للوصول لخدمات الصحة الإنجابية الأساسية المنقذة للحياة.
نزح وهُجر ما يزيد على 5.6 مليون مواطن سوداني، منذ اندلاع الصراع بين ميليشيات التدخل السريع والجيش السوداني، 15 أبريل الماضي، بينهم 4.6 مليون نازح داخل السودان،
خريطة المستشفيات الحكومية في السودان
لا مكان للولادة
الصراع وخروج المستشفيات والمراكز الصحية في السودان وخاصة في الخرطوم -المركز الرئيسي للصراع- ترك سلمى محجوب، (35عامًا) وهي أم لـ 4 أطفال بينهم توأمان وُلدا حديثًا؛ في حيرة من أمرها أين تضع أطفالها؟ وكيف تحصل على الرعاية الصحية؟
تقول سلمى، وكانت وقتها في الشهر الثامن من الحمل، لـ”مواطن“: “الوضع الصحي سيئ جدًا.. أنا في حيرة من أمري أين أولد!؟ فكل المستشفيات والمراكز الصحية مغلقة، وحتى المركز الوحيد الذي يعمل أصبح يستغل الناس! وأنا أحتاج عملية قيصرية وبتكلف كتير جدًا، وحتى المركز لا توجد به حضانة ولا أكسجين”.
العديد من المستشفيات التي خرجت عن العمل كانت تقدم خدمات الولادة، وذلك بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان، ويحرم ذلك النساء والفتيات في السودان من الحصول على الرعاية الصحية المنقذة للحياة، وتكون النساء الحوامل هن الأشد تضررًا.
النساء الحوامل محرومات من الرعاية الصحية
تؤكد ملاذ حامد، طبيبة في منظمة أطباء بلا حدود بولاية الجزيرة في السودان لـ “مواطن” أن نقص منشآت الولادة والرعاية الصحية زادت المخاطر على الحوامل في السودان، أثناء محاولاتهن الوصول إلى أماكن الرعاية الطبية، كما أن قلة المنشآت الصحية أدى إلى تراجع خدمات رعاية ما قبل الولادة.
تكمن أهمية الزيارة الطبية قبل الولادة في أن العاملين الصحيين والأطباء يراقبون صحة الجنين والكشف عن وجود أي اعتلال صحي؛ مثل نقص الوزن أو فقر الدم أو عدوى. كما تحصل السيدات خلال تلك الزيارات على المشورة حول التغذية والنظافة الشخصية ووضع خطة الولادة، توضح كيفية الوصول إلى الرعاية وما ينبغي عمله في حال حدوث أي طوارئ، بالإضافة لحصولهن على النصائح والمشورة الخاصة برعاية المواليد الجدد.
بينما يوصي صندوق الأمم المتحدة للسكان بأن تحصل الحوامل على 8 زيارات للطبيب خلال أشهر الحمل، لم تتمكن سلمى من الحصول إلا على زيارتين للطبيب، بينما كانت سلمى هي الأوفر حظًا من غيرها؛ فوفقًا للطبيبة “ملاذ” لم تتمكن أخريات من الحصول على فرص مماثلة.
كانت زيارة سلمى الأولى لطبيب في مركز صحي خاص خلال شهرها الرابع من الحمل، بينما كانت الزيارة الثانية في اليوم الأول من الشهر الثامن، وما بين الزيارتين تضاعف سعر الكشف لـ 3 أضعاف؛إذ دفعت في المرة الأولى 3 آلاف جنيه سوداني (5 دولار) للكشف والفحوصات إلى 5 آلاف جنيه سوداني (8.36 دولار)؛ فيما وصل سعر الكشف في الزيارة الأخيرة لـ 10 آلاف جنيه سوداني (16.72 دولار) والفحوصات الطبية إلى 15 ألف جنيه سوداني (25 دولار).
لم تتمكن سلمى أو أطفالها بعد الولادة من الحصول على الرعاية الصحية؛ فقد غادرت المستشفى بعد الولادة بيوم واحد؛ فقد اعتادت المكوث داخل المستشفى لـ 3 أيام بعد الولادة القيصرية، لكنها تسكن في منطقة الحاج يوسف شرق النيل، التي تسيطر عليها ميليشيات الدعم السريع، وقد توقفت المستشفيات الحكومية في تلك المنطقة عن العمل، لذا اضطرت سلمى للولادة في مستشفى خاص، بلغت تكلفة الولادة داخلها 350 ألف جنيه سوداني (585 دولار).
تصف سلمى عن وضع المستشفى قائلة: “أغلب العاملين داخل المستشفى انضموا للدعم السريع حتى يأمنوا شرهم”، وذلك من خلال إعلان انتمائهم للدعم السريع وقبولهم لعلاج جراحهم، مضيفة أنه لا تتوفر داخل المستشفى حضانة أو طبيب للأطفال، ويغلق المستشفى أبوابه في تمام الثانية ظهرًا، ولا تستقبل أية حالات مهما بلغت خطورتها، وفي المساء تُطفأ أنوار المستشفى ولا يمكن الحركة بداخله إلا باستخدام كشاف.
خريطة مناطق سيطرة عناصر الدعم السريع والقوات المسلحة السودانية
رعاية ما بعد الولادة ضرورة
اعتمدت سلمى على شقيقتها في تقديم الرعاية اللازمة لها، ومساعدتها في تغيير اللاصقة الطبية بعد عملية الولادة القيصرية، وإعطائها الأدوية.
وفقًا لصندوق الأمم المتحدة للسكان، تبدأ رعاية ما بعد الولادة في أول 24 ساعة من الولادة؛ إذ يمكن أن يحدث نزيف وتسمم الدم واضطرابات ارتفاع الضغط بعد خروج المرأة من المركز الصحي، ويكون الوليد في غاية الضعف عقب الولادة مباشرة. ويوصي الصندوق بعمل زيارات متابعة من قبل الفريق الصحي لتقييم صحة الأم والطفل خلال فترة ما بعد الولادة.
طريق غير آمنة
لا تكمن الصعوبات التي تواجهها الحوامل في السودان في ارتفاع تكلفة الكشف وتوقف المستشفيات عن العمل فقط؛ ففي الخرطوم تتعرض الأحياء السكنية للقصف المستمر، وتُجبر النساء الحوامل على المخاطرة بحياتهن للوصول إلى منشآت الولادة، وفقًا للدكتورة ملاذ.
وتؤكد أطباء بلا حدود أن الحوامل يتعرضن لصعوبات على الطريق من البيت إلى المستشفى، بينها قلة وسائل النقل، وإمكانية تعرضهم للسرقة والنهب على طول الطريق. وهو ما ذكرته سلمى خلال حديثها معنا قائلة: “الطريق ما مطمئن خالص، مليان قوات دعم سريع أقل حاجة يضربوا سلاح”. لافتة إلى كثرة حوادث اعترض ميليشيات الدعم السريع للأفراد وسرقة أموالهم.
ولادات مجانية
دفعت قلة المنشآت الصالحة للولادة بداخلها وارتفاع أسعار الكشف وعمليات الولادة في ظل استمرار الصراع، سامح عبد الله، شاب سوداني، يعمل مهندس مقاولات، ومتطوع داخل المستشفيات في الخرطوم، وضمن المتطوعين في مبادرة مستشفى “النّو”، إلى إطلاق مبادرة بالتنسيق مع إدارة المستشفى السعودي في أمدرمان، لتقديم خدمات رعاية الحمل والولادة مجانًا لحوامل داخل الخرطوم.
بحسب منشور سابق لأطباء بلا حدود على موقع X (تويتر سابقًا)؛ فإن المستشفى الوحيد الذي لا يزال يقدم خدمات الولادة في أم درمان هو المستشفى السعودي.
بدأت مبادرة سامح قبل شهرين، ويتخصص في تقديم الرعاية الطبية اللازمة للحوامل من الأشهر الأولى للحمل وحتى الولادة، وتوفير ما تحتاجه النساء من أدوية وفحوصات طبية وغيرها. يصف سامح وضع الأسر في الخرطوم لـ”مواطن” قائلًا: “كثير من الأسر هُجرت وتعيش في دور إيواء، لا يملكون شيئًا بعدما خسروا كل مدخراتهم، وهم أسر متعففة لا تستطيع دفع تكاليف عمليات الولادة”. وتقوم المبادرة على جمع التبرعات من الأفراد المقتدرين من خلال الإعلان عن الحاجات والأدوية اللازمة عبر موقع فيسبوك، وتكون مهمة “سامح” والمتطوعين معه من الشباب هي شراء الأدوية والتواصل مع الأسر وإدارة الاحتياجات.
خلال شهري عمل المبادرة، نفذت 12 عملية ولادة للنساء مجانًا في أم درمان، تبلغ متوسط تكلفة عملية الولادة الطبية حوالي 48 ألف جنيه سوداني (80.27 دولار)، وعملية الولادة القيصرية لـ 167 ألف جنيه سوداني (280 دولار)بحسب سامح، لكن المبادرة لا تستطيع الوصول لكل مناطق الخرطوم؛ فهم يقدمون خدماتهم داخل المناطق التي تقع تحت سيطرة الجيش السوداني فقط، أما تلك التي تقع تحت أيدي الدعم السريع كما في حالة سلمى فيصعب الوصول لها.
خلال الحمل عانت سلمى من الأنيميا، واحتاجت الحصول على فيتافيترول (مكمل غذائي)، لكنها لم تجده في منطقة سكنها، كما أنها لم تستطع الوصول إلى بديل، وبعد الولادة اضطرت لتوفير الأدوية على حسابها الخاص، ولكنها لم تجد العديد من تلك الأدوية. تقول سلمى: “المضاد الحيوي النوع اللي كتبه لي الأخصائي ما في، جيبنا بديل والهيبرين برضو ما في، جيبناهو من مدني لكن باقي الأدوية متوفرة”، وكلفها توفير تلك الأدوية حوالي 100 ألف جنيه سوداني (167 دولار).
احتلال عسكري للإمدادات الطبية
تفيد تقارير واردة إلى صندوق الأمم المتحدة للسكان عن احتلال عسكري للصناديق الوطنية للإمدادات الطبية في العاصمة الخرطوم، وهو المكان الذي يتم فيه الاحتفاظ بالأدوية الخاصة بالبلاد بأسرها. أما مخزون منظمة الصحة العالمية للمستلزمات الطبية الطارئة والمنتجات الإنمائية؛ فهو محتجز في مستودعها الكائن داخل مقرها، ويقول الدكتور ريك برينان، مدير برنامج الطوارئ بالمكتب الإقليمي لمنظمة الصحة العالمية لشرق المتوسط، إنهم ينتظرون تحسن الوضع الأمني في البلاد حتى يستطيعوا نقل الإمدادات الطبية.
كما لا يمكن الوصول إلى مخزونات صندوق الأمم المتحدة للسكان من الأدوية والمعدات اللازمة لتقديم الرعاية اللازمة لحالات الولادة، وعلاج الضحايا في فترة ما بعد الاغتصاب؛ فضلًا عن مجموعة كبيرة من وسائل تنظيم الأسرة، التي يتم تخزينها في المستودعات في الخرطوم وجنوب وغرب دارفور وأماكن أخرى، بسبب تفاقم الوضع الأمني. وذلك وفقًا للدكتورة ناتاليا كانيم، المديرة التنفيذية لصندوق الأمم المتحدة للسكان.
وذكرت تقارير صحفية أن حوالي 2800 صيدلية في العاصمة توقفت عن العمل؛ فيما لا تزال 50 صيدلية فقط هي التي تعمل في ظل ظروف أمنية صعبة. ووفقًا للمادة 19 من الدستور السوداني تتحمل الدولة مسؤولية تطوير الرعاية الصحية وتوفيرها للمواطنين مجانًا؛ إذ تنص على “تطور الدولة الصحة العامة، وتضمن الرعاية الصحية الأولية مجانًا لكافة المواطنين”.
وأشار وزير الصحة السوداني، هيثم محمد إبراهيم، خلال اجتماع اللجنة الإقليمية لمنظمة الصحة العالمية في القاهرة أكتوبر/ تشرين الأول 2023، إلى ضعف مؤشرات صحة الأم والطفل، والتي تتضمن وفيات الأمهات والأطفال وسوء التغذية، وهو ما أكدته منظمتي الصحة العالمية واليونيسف، اللتين ذكرتا أنه تم تدمير خدمات صحة وتغذية الأمهات والأطفال في السودان، ما يترك حوالي 14 مليون طفل في حاجة لإغاثة إنسانية عاجلة.
الأزمة ليست في الخرطوم فقط
لا تقتصر الأزمة على مناطق الصراع في السودان، ولكن حتى تلك التي لا يوجد بها صراع تواجه مشكلة، توضح الدكتورة ملاذ أنه قبل الحرب، كان المرضى الذين يعانون من مضاعفات؛ حيث يسافرون إلى الخرطوم للعلاج، لكن اليوم مع استمرار الصراع تشهد ولاية الجزيرة التي استقبلت حوالي 350 ألف نازح في بداية الحرب اكتظاظًا في المرافق الصحية؛ إذ اضطرت النساء الحوامل إلى الفرار؛ ما وضع ضغطًا كبيرًا على كل من النساء الحوامل وأطفالهن الذين لم يولدوا بعد، ولم تحصل معظم النساء على خدمات رعاية ما قبل الولادة لمدة 6 أشهر.
تذكر دكتورة ملاذ أن العديد من النساء يصلن للمستشفيات في حالات حرجة، أو يضطررن للولادة في المنزل بسبب الأخطار التي يواجهنها على الطريق للوصول إلى المستشفى.
ولادة في العراء
وتضيف الطبيبة في أطباء بلا حدود بولاية الجزيرة أن “النساء الحوامل والأطفال المقيمين في المخيمات؛ خاصة في المناطق الجنوبية والشرقية من البلاد، معرضون بشكل خاص لمخاطر صحية، وذلك بسبب الظروف القاسية والاستجابة الإنسانية غير الكافية، غالبًا ما تلد هذه النساء في خيام غير صحية؛ مما يزيد من خطر حدوث المضاعفات والالتهابات، بينما لا يزال الوصول لرعاية ما قبل الولادة غير كاف”.
وصل توأما سلمى للحياة سالمين، لكنها هي وأطفالها حرموا الرعاية الصحية الجيدة التي تضمن لهم حياة آمنة، ويستمر سامح في التطوع ومساعدة النساء على الولادة الآمنة، ويقول إنه يكفيه نظرات الفرحة على وجه الآباء والأمهات لحظة رؤية أطفالهم، وكلمات الشكر والعرفان التي يسمعها منهم نظير المساعدة.
وتحاول أطباء بلا حدود الاستمرار في تقديم خدماتها رغم الهجمات المتكررة على منشآتها والفرق الطبية العاملة على أرض السودان.
أنتجت هذه المادة بالتعاون بين “مواطن” و”المهاجر“
التعليقات 2