لا شك أن الباحث في الحضارة المصرية القديمة تستهويه عَظَمتها ودقتها؛ فقد استهوت علماء الحملة الفرنسية والحضارة الأوروبية في القرن 19م؛ فتعددت الاكتشافات الأثرية وفك الرموز والألغاز، وتفسير النظريات المعقدة حتى انجلت لدينا بوضوح واحدة من أعظم حضارات التاريخ.
أوحت هذه الحضارة العظيمة لعلماء ومفكرين مصريين في القرنين 19 و20، باعتبارها مصدرًا للفكر والنهوض، وبديلاً عمليًا تاريخيًا للقومية العربية المنتشرة، والتي كانت رائجة في هذا التوقيت بفعل مقاومة الاستعمار وضعف الدولة العثمانية ثم انهيارها الرسمي سنة 1924، وظهور الدعوات للتجمع على أساس ديني ولغوي كبديل عن الخلافة العثمانية البائدة، ومن ضمن هؤلاء الداعين لقومية مصرية بديلة؛ طه حسين (1889- 1973م) وأحمد لطفي السيد (1873- 1963م) وغيرهما؛ فالثقافة المصرية خلال هذه الحقبة كانت تتمتع بحنين خاص للجذور المصرية تترجم عَظَمة هذه الاكتشافات الأثرية والشغف العلمي الذي أدى لخروج واحدة من أعظم موسوعات العالم التاريخية، وهي موسوعة د. سليم حسن (1886- 1961م) التاريخية والمشهورة بعنوان “موسوعة مصر القديمة“
لكن مع هذا الظهور للقومية المصرية لم نشهد صراعًا بينها وبين القومية العربية؛ بل رأينا تكاملاً وتفاعلاً بكتابات طه حسين المتعددة في الفكر العربي، مثلما كتب في “مستقبل الثقافة في مصر” الصادر عام 1938م عن ضرورة وإمكانية التفاعل بين القوميتين الإسلامية والوطنية، عبر مشروع نقد وتقويم الأزهر الشريف، باعتباره ممثلاً للقومية الإسلامية، والذي يمثل في ذهن طه حسين عقبة أمام هذا التفاعل والاندماج، ثم انشغال طه حسين بالكتابات الدينية مثلما كتب “على هامش السيرة ومرآة الإسلام والوعد الحق والفتنة الكبرى” وغيرها، وما انشغال طه حسين بهذا النوع من الكتابة إلا تأكيد لقناعاته في مستقبل الثقافة بأنه لا تعارض بين القوميتين الإسلامية والوطنية، والتي اصطلح عليها لاحقًا بعد إنشاء جامعة الدول العربية سنة 1945 بالقومية العربية والمصرية.
وفي سيرة “أحمد لطفي السيد” المشهور بأستاذ الجيل وأبي القومية المصرية، علامات وإشارات على أن دعاة الوطنية المصرية لم يروا بأن هناك صراعًا ضروريًا بين المصريين والعرب، مثلما تقلد لطفي السيد رئاسة مجمع اللغة العربية، ووزارات التعليم والداخلية والخارجية، علمًا بأن الوزارة الأخيرة في الخارجية تقلدها عام 1946 بعد عام واحد من تأسيس جامعة الدول العربية، واستقبل لطفي السيد العديد من مسؤولي العرب، ووقف في بهو الجامعة ممثلاً عن مصر، وفي هذا السلوك منه إضافة لعدم إشهاره سيف العداء للعرب، إشارة باعتقاده أن القومية المصرية لم تكن تعادي الشعوب العربية، أو ترى نفسها في صراع سياسي وعسكري مع أحد، وغاية ما كان ينطق به أستاذ الجيل هو البحث عن هوية ذاتية فكرية تفسر مسائل الانتماء والنوع والجنس والوطن والدين والمكان.
مصر كأي دولة هي خليط بين عشائر محلية قطنت هذه الأرض منذ آلاف السنين، وبين عشائر أجنبية رحلت إليها بفعل السياسية والدين والكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والمجاعات
John Doe Tweet
ففي كتاب أحمد لطفي السيد بعنوان “تأملات في الفلسفة والأدب والسياسة والاجتماع”، الصادر عام 1946، والذي كان عبارة عن تجميع لمقالاته القديمة، أشهرها في صحيفة الجريدة حيث كتب الرجل قائلاً: “إن من بيننا من لا ينفك يفخر بانتسابه للعرب الأولين، كأنما انتسابه إلى الجنس المصري نقص وعيب، كما أن منا من يفضل الرابطة الدينية على رابطة الجنسية الوطنية؛ فإن لم نذهب عنا هذا التحلل نمت أسبابه، وفشت نتائجه، وتعذَّر علينا أن نوسع دائرة المشابهات وتضيق دائرة الفروق”. (الجريدة 5 فبراير 1908)، لكنه وفي نفس السياق قال: ” لا يُفْهَمُ مِمَّا أقول أننا ندعو إلى التفريق بين العناصر المؤلِّفة لكتلة السكان المصريين؛ بل على ضد ذلك ندعو للجامعة المصرية كما دعونا لها من قبل، ندعو الذين يتبرَّمُون بالجنسية المصرية التي كسبوها بالإقامة في مصر، أن لا يَفِرُّوا بأحاديثهم وبأعمالهم من الانتساب إلى هذه الجنسية الشريفة”. (الجريدة 16 يناير 1913م).
من الواضح أن لطفي السيد لم يُوجه سهامه للمصريين على أساس النسب والعرق، لكنه يرفض انتماء أي مصري لوطن آخر غير مصر، أو حدود جغرافية أخرى خارج القطر المصري، وبالتالي هو يعلن نقده الصريح والمباشر لمن يقدم ولاءه للعرب – كمثال – عن ولائه لمصر، وهذا السياق يُفهَم منه أن أستاذ الجيل وأبا القومية المصرية كان يبحث عن ذات المصريين، في وقت كانت تتنامى فيه مشاعر القوميات بحثًا عن الهوية الوطنية بعد انهيار معظم ممالك القرون الوسطى الدينية، وأشهرها “الروسية القيصرية والعثمانية التركية والنمساوية المجرية”، في أعقاب الحرب العالمية الأولى (1914- 1918م).
الكيميتية والخلط بين المفاهيم
أما في السنوات الأخيرة فقد ظهر تيار عنصري مصري متطرف يطلق على نفسه “كيميت”، في إشارة لانتمائه إلى الاسم المصري القديم “كيميت” Kemetism، ويرتكز في دعواه إلى ضرورة العودة للحضارة المصرية القديمة واعتبارها المصدر الوحيد لتحديد الهوية المصرية، وقد اختلفت الآراء حول هذا التيار، منهم من يعتقد بأن لها توجهًا دينيًا قديمًا يتمثل في ضرورة إحياء عبادة الآلهة المصرية القديمة، وقد جرى الاصطلاح على هذا التوجه بالكيمتية، وآراء أخرى تمثل غالبية التيار تدعي أنها لا تدعو لأيدولوجيا دينية؛ بل على العكس من ذلك هي تتحلل من قيود الدين لصالح الأخلاقيات والفلسفات.
الاتجاه الغالب باعتبار الكيميتية دعوة لإحياء أخلاقيات وفلسفات الحضارة المصرية القديمة جرى الحديث عنه عام 2004 في أعقاب دعوات إنشاء حزب “مصر الأم“، الداعي للقومية المصرية على أساس تاريخي يفسر تلك القومية انطلاقًا من عصر الأسرات الــ 30 بقيادة سامي حرك ووسيم السيسي ومحسن لطفي السيد وغيرهم، وقد تشرفت بصداقة وزمالة البعض منهم والاشتراك في جهود الإحياء هذه مع الزميل المرحوم “طلعت رضوان” المتوفى عام 2021م، وقد تشاركنا سويًا عديد من المقالات والرؤى في هذا الصدد مع مناقشات ساخنة في صالون المرحوم الفنان “خالد حمزة” قبل وفاته عام 2019م، على أن رفض إنشاء الحزب تمخض عنه ولادة حزب آخر هو “المصري الليبرالي“، الذي جرى حله في مارس 2011 تحت وقع الأسلمة وتأثيرات ثورة يناير العنيفة، التي راح ضحيتها العديد من الأحزاب غير الشعبية.
لكن هذا الاتجاه تطور أخيرًا لتسمية “الكيمتية” كعنوان عام نشط في السوشيال ميديا بشكل حماسي شوفيني، يغلب عليه الطابع الشبابي، ثم أضافوا لأفكار وسيم السيسي وطلعت رضوان أفكارًا عنصرية؛ منها اعتبار “العرب والأفارقة والسود” بمصر غزاة مستعمِرين ، مستفيدين من مشاكل وأوضاع اللاجئين السوريين واليمنيين والسودانيين والفلسطينيين بمصر، الذين اختلفت تقديرات أعدادهم ما بين 9 مليون حسب جهاز الإحصاء المصري وبين 460 ألفًا حسب مفوضية دعم اللاجئين، وتفسير البقية على أنهم مقيمون. والكيميتيون يتوجهون بجهودهم نحو هذه الملايين من اللاجئين والمقيمين على أنهم غرباء يشكلون خطرًا على الهوية المصرية، ولا يكتفون بذلك؛ بل يتهمون كل من ينتسب عرقيًا وسلاليًا للعرب والأفارقة على أنهم أجانب غزاة ومستعمِرون يجب طردهم في نفس السياق.
وفي رأيي أن ما أدى للتطرف من هذه الفئة هو تناولهم للقومية بشكل سطحي، غابت فيه المفاهيم واختلط على البعض فيها؛ فالقومية بمعناها العام: هي القبيلة والعشيرة؛ فهي التطور الحداثي اللغوي للعشائرية القديمة، بمعنى أن البشر فور ظهور العقد الاجتماعي والدستور تغيرت بعض مفرداتهم اللفظية المعنية بالتجمع، لأن ذلك التجمع هو أساس العقد الاجتماعي بين المواطن والدولة. والسؤال الذي يطرح نفسه: هل توجد “عشيرة مصرية”؟
بالتأكيد لا توجَد حاليًا هذه العشيرة؛ فمصر كأي دولة هي خليط بين عشائر محلية قطنت هذه الأرض منذ آلاف السنين، وبين عشائر أجنبية رحلت إليها بفعل السياسية والدين والكوارث الطبيعية والحروب والأوبئة والمجاعات، وكتب التاريخ مليئة بأخبار تلك الرحلات والهجرات التي ميزت ثقافة القرون الوسطى منذ العصرين اليوناني والروماني مرورًا بالأموي والعباسي والفاطمي والمملوكي والعثماني، نهاية بالاستعمار الإنجليزي وموجات اللجوء الأوروبية خلال القرنين 19، 20م، واللغة المصرية الحديثة إضافة لتسميات المدن وعقائد المصريين تثبت (تأثير) هذه الهجرات في التغير الديموغرافي الذي طرأ على مصر ، وأثر على العالم كله خلال هذا الزمن.
ولمن يدعي الفارق بين القومية والعشائرية أقول: “إن القومية هي التطور المعاصر للعشائرية والقبلية، ونُلاحظ ذلك من خلال أن العالم المتطور المشترك قبائليًا ولغويًا وثقافيًا في مجتمع واحد، يسمون هويته (قومية)، بينما نفس الأمر لو تحقق في بلد عربي أو أفريقي يسمونها (قبلية وعشائرية)؛ فعشائر السلاف والجرمان والباسك واليونان يسمونها (قوميات)، وعشيرة الكلتيين Celts يسمونها “قومية إنجليزية”، بينما عشائر العرب (قبلية). ومصدر هذه التسميات من كتب الغرب التي ابتكرت لفظ القومية حصرًا ، بينما أبقوا على لفظ “العشائرية والقبلية” لوصف تجمعات الأفارقة والعرب والآسيويين على أساس العرق والسلالة، وما حدث يدل على أن اختلاف الألفاظ دلالة على أن البشر يبتكر ألفاظه ومفاهيمه حسب تطوره التاريخي ووفقًا لمصالحه وتوجهاته السياسية”.
وبالنسبة لعصور الأسرات في مصر القديمة؛ فلم تكن خالية من القبلية، لأن التقسيم العشائري نفسه متحقق في سلطات الملوك الــ 30 وفي نظام التوريث، حتى إن عصور الأسرات شهدت غزو وحضور عشائر من دول مجاورة في التاريخ المصري من الشام وليبيا والسودان، ولا يعني القول بأن مصر القديمة كانت تتمتع بسلطة مركزية، أنها كانت تتمتع في نفس الوقت بما نسميه (دولة وطنية)، لأن مفهوم الوطن والمواطنة لم يظهر آنذاك، والبديل عنه أن مصر كانت كسائر الدول، سلطة مرتبطة بالملك، وخصوم الملك هم خصوم الدولة أيًا كانوا؛ سواء سكنوا وادي النيل أم جاءوا من صحراء ليبيا والعرب والشام.
نفس الحال بالنسبة للعرب الذين شهدوا هذا النوع من الدول المركزية المرتبطة بسلطة الملك/ الأمير، ويمكن الاطلاع على سيرة هذه الدول في التاريخ، كدولة الأنباط وعاصمتها البتراء، غير دول الحيرة والغساسنة والمناذرة وسبأ وحمير ومعين وحضرموت. وغيرها.
أما القومية بمعناها الخاص؛ فهي “الاعتزاز بالوطن والدفاع عنه والانتماء له ولمصالحه، وما يتعلق بهذا الاعتزاز من احترام القانون والدستور والعمل بموجباته”، وهذا النوع من القومية كان شعارًا للمصريين من دعاة الوطنية والقومية المحلية في بدايات القرن 20م، مثلما قدمنا للبعض منه كطه حسين وأحمد لطفي السيد، وكذلك كان سمة لتيار حزب مصر الأم، والمصري الليبرالي الذي شدد على الانتماء الأولي لمصر واعتبار أخلاقيات وفلسفات الحضارة المصرية القديمة صالحة لإنجاز نهضة عصرية تليق بالتاريخ المصري العريق، لا أن تصبح هذه الأخلاقيات والفلسفات حجة لممارسة العنصرية والوقوع في فخ الكراهية على أسس العرق والنسب واللون.
خلط المتعصبون من الكيمتيين هنا بين القومية بمعناها العام ومعناها الخاص؛ فيربطون الولاء بالوطن والانتماء له بما يسمى (النقاء العرقي والقبلي)، وهذا جهل شديد ميّز هذا التيار، وأوجد مساحة عاطفية كبيرة لجذب الشباب والمراهقين بدعوى الوطنية والتفوق الجيني، وقد ساهمت الأحداث السياسية والتغيرات التي طرأت على العرب في السنوات الأخيرة، في الترويج لهذا الخلط الذي أدى لإشعال صراع من نوع مختلف عن الصدام بين الجماعات الدينية والعلمانية، أو بين الإرهاب والدولة، تشكّل هذا الصراع على أسس (قروسطية) مهتمة بالنقاء العرقي والقبلي، والسؤال عن ما يسمونه “الجينات المحفوظة”، علمًا بأن هذه الأسس كانت مصدر تكوين معظم الأديان والمذاهب قديمًا على أساس عرقي وقبلي.
ولا يعني القول بأنها ثقافة “قروسطية”، أنه لم توجد مقاومة لها؛ بل وُجدَت بين العرب، وفي الأثر الإسلامي حديث مشهور مرفوع: “إن الله قد أذهب عنكم نخوة الجاهلية وتعظمها بالآباء، الناس لآدم وآدم من تراب، لا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى”. وهذا الأثر يبدو أنه كان لمقاومة هذه العشائرية والقومية العربية التي تفشت بشكل عنصري، وجعلت أبناء الدولة والشعب العربي يحتقرون بعضهم على أساس النَسَب، وتشيع بين أوساطهم تُهَم الخيانة والولاء للأعداء والخصوم بناء على الاسم والعنوان.
وفي تقديري أن الجماعة الكيميتية تفكر مثلما يفكر الإخوان المسلمون بالضبط؛ فالمشهور عن حسن البنا قوله: “إن الدعوة للإسلام يخدم القومية المصرية”، (تصور الإخوان للقضية الفلسطينية لعبد الفتاح العويسي صـ 11)، بمعنى أنه يربط بين الاعتزاز الوطني بمصر والولاء لقوانينها ودستورها وبين الحُكم الإسلامي؛ فالإسلام عند البنا هو (القومية المصرية بالمعنى العام)، والدستور والقوانين المصرية هي (القومية بالمعنى الخاص)، نفس الخلط عند الكيميتيين؛ حيث يزعمون أن الجينات المصرية القديمة (هي القومية العامة)، والاعتزاز بالوطن (هو القومية الخاصة)؛ فيضعون مصدر تشكيل الهوية (الماضي السحيق)، ولا اعتبار للحاضر والمستقبل في مشروعهم.
فالكيميتية في هذا السياق جماعة ماضوية انعزالية بالأخير، شأنها كشأن الإخوان، تمتلك نفس طريقة التفكير العنصرية والأيديولوجية لبناء مشروع سياسي بناء على الاسم والعنوان، لا الكفاءة والمهارة والصلاحية، بينما النسق العلمي غائب في تحديد أطر هذا الماضي وعلاقته بالحاضر، لأنهم لا يعترفون بالحاضر الذي يشهد تنوعًا كبيرًا في المجتمع المصري على أساس الدين والعرق واللون، ويتنكرون لهذا الاختلاف كلما سنحت الفرصة، هذا لو سلمنا جدلاً بصحة ما يدعيه هؤلاء بوجود جينات مصرية محفوظة وممتدة منذ آلاف السنين، وأن تأثير الهجرات والرحلات والكوارث والحروب في هذا الامتداد لا يٌذكَر، وهو محل جدل علمي سأشرح جزءً من ملامحه بعد قليل.
في تقديري أن الجماعة الكيميتية تفكر مثلما يفكر الإخوان المسلمون بالضبط
John Doe Tweet
فضلاً عن معاناة هذه الجماعة من الزينوفوبيا Xenophobia أو (رهاب الأجانب)، وهو مرض نفسي يكثر في المجتمعات المغلقة الشائع فيها العنصرية والشوفينية كاتجاه متطرف راديكالي ضد الآخر، وهي علامة على شيوع الجهل والتطرف معًا، مما أدى إلى تصنيف ذلك المصطلح كاسم لأحد أمراض الرهاب النفسية ضد الآخر بالمجمل. ويعني ذلك رفض الشخص لمجرد (جنسيته أو دينه وعرقه ولونه…إلخ)، والشك في أي تصرف منه كمؤامرة وعمل شرير يستوجب المقاومة، وظهوره وبقاؤه مرتبط بالحروب الدينية والقومية.
الزينوفوبيا معناه (كراهية الأجانب)، وأي اتهام لشخص بذكر جنسيته أو لونه معناه ضمنيًا رهاب الأجانب في المجتمعات المتقدمة، ويتم تصنيفه كاتجاه عنصري مثلما صنف اتهام ترامب للنائبة “إلهان عمر” ذات الأصول الصومالية بذكر أصولها الأفريقية منذ سنوات، على أنه عنصرية فجة لا يجب أن تصدر من رئيس. وأذكر في التسعينات كان فيلم للنجم أحمد آدم بعنوان “ولا في النية أبقى فلبينية”، التي قامت سفارة الفلبين بالاعتراض عليه كسلوك يعزز رهاب الأجانب في مصر ضد الفلبينيين باعتبارهم خدمًا، وبناء عليه جرى تغيير عنوان الفيلم وحذف كلمة “فلبينية” ليصبح ” ولا في النية أبقى” فأي اتهام لشخص بذكر جنسيته هو عنصرية ومرض نفسي لا يجب أن يكون، لأن الشخص يخطئ؛ ليس لأنه مصري أو سعودي أو باكستاني.. إلخ؛ لكنه يخطئ لأنه فلان باسمه وشخصه فقط، ولا يحاسب أحد غيره.
علمًا بأن هذا التفكير الماضوي الانعزالي والعنصري لم يسلم منه كبار الأدباء كمصطفى صادق الرافعي (1880- 1937م)، الذي اتهم طه حسين (1889- 1973م) بالكفر والزندقة لمجرد نقده للتراث العباسي (راية القرآن صـ 151)، واتهم أحمد شوقي أمير الشعراء (1868- 1932م) بأنه ليس مصريًا بدعوى أن الثقافة المصرية لم تعرف الشعر، وأن نبوغ أمير الشعراء في الشعر يعود لأصوله العربية؛ فجرى تفسير اتهام الرافعي لأحمد شوقي على أنه مدح وذم في آن واحد، مع احتقاره للثقافة والهوية المصرية، بمعنى أن المثقفين ليست لديهم حصانة من التفكير الماضوي؛ بل يقعون فيه بأثر الصراعات والمنافسات، ومن ثم تختل لديهم صور المفاهيم في الذهن، ويتعصبون لمعانٍ مجردة في أنفسهم ليس لها علاقة بالواقع؛ فلولا أن الرافعي جهل تطور الشعر وتأثير الثقافة العربية وامتداد الثقافة المصرية في بحر من الثقافات الوافدة، لرأى أن منتوجه الأدبي في الأخير هو (صورة متطورة) ليست لها نظير في الماضي، وبالتالي لا حاجة له لاستعمال الماضي في بناء أفكاره؛ بل الانطلاق من الحاضر كي لا تصبح محاولاته مجرد تطويع فاشلة للواقع ليس إلا.
عناصر تشكيل الهوية الأربعة
أما عند تصور القوميات فلسفيًا؛ فنراها تتشكل عبر أربعة عناصر هي: (اللغة + الدين + المكان + التاريخ المشترك)؛ فمن خلال تلك العناصر تتشكل هوية الشعوب؛ فاللغة هي وعاء الثقافة الممتد وشريان المعرفة الذي لا ينضب، والدين هو الإطار العملي والميتافيزيقي في صناعة الوعي بالكون، أو كما قال ديكارت إن الفلسفة شجرة تقوم على جذر الميتافيزيقا؛ فأصل أي تصور عقلاني وتاريخي لابد له من معتقد ديني أو رؤية خاصة للكون، مصدرها الأدب الفلسفي، مثلما تعتقد شعوب جنوب شرق آسيا مثلاً، والتي تصيغ معتقدها الديني بناء على الأدب الفلسفي.
أما المكان فهو الذي يحوي التجمعات المختلفة؛ سواء الأصلية أو الوافدة؛ فالقرية مثلاً كمجتمع صغير يصهر عدة أفكار من أبناء القاطنين الأصليين أو المهاجرين إليها من قُرى ومدن أخرى في بناء فكري واحد، هو الذي يشكل هوية القرية في الأخير؛ فالثقافة الوافدة تتفاعل مع الأصلية لتُنتِج جوانب مشتركة، هي السمة الفكرية لشعب هذا المكان، مثلما كان عليه الوضع في العصرين اليوناني والروماني؛ حيث ظهرت آلهة يونانية بنكهة مصرية (كسيرابيس) في معبد السرابيوم بالإسكندرية، وبورتريهات الفيوم التي جمعت بين الفن الروماني في الرسم والعقيدة المصرية في التحنيط.
أما التاريخ المُشترك فهو الذي يجمع بين أهالي ذلك المكان في الشعور بالخطر من الحروب والنزاعات الأهلية أو مع غيرهم من الثقافات والسلطات الأجنبية؛ فيتشكل بناء على ذلك التاريخ (شعور جمعي) بالانتماء للمكان، هو ما نسميه حاليًا (بالقومية)، وأطلق عليه القدماء (شرف القبيلة)، وأساس ذلك الشرف أو القومية هي (المصلحة العامة) في حفظ مكونات وأملاك ذلك الشعب من النهب والسلب، وأحيانًا حفظه من الكفر والهرطقة إذا كان ذلك الشعور بالخطر ضد الغزوات الدينية الأجنبية، أو التي تحمل طابعًا عقائديًا وقوميًا.
في حالة التعصب الكميتي فهو يؤمن بعنصر واحد فقط؛ هو (المكان)، ويتنكر للثلاثة الآخرين (اللغة + الدين + التاريخ المشترك)؛ فعندما تناقش شابًا كيميتيًا ويتهمك بإنكار الهوية المصرية؛ فاعلم أنه يقصد جانب المكان المحدود جغرافيا، ولا يتعلق اتهامه لك باللغة والدين والتاريخ المشترك؛ فتعريفه القاصر للهوية لم يُغادر أطر التعريفات القديمة القروسطية في تعريف الهوية، بمعنى أن الهوية في الأخير تتشكل بناء على تلك العناصر الأربعة، لتنصهر أخيرًا في مجرد (سلوك وممارسة)، ومن هذه الجزئية تم تعريف الهوية عند البعض بأنها (سلوك وممارسة)؛ فلو نظرنا للثقافة المصرية الحالية والمنتشرة في أغلب بلاد العرب وشمال أفريقيا نجدها لا تمت لتاريخ هذه الدول بصلة، لكنها معتمدة على شيوع اللغة العربية والدين الإسلامي والمسيحي كمرتكزات يقوم عليه الشعور بالهوية. أما التاريخ المُعبّر عن ذلك المكان فصار يُدرّس بشكل أكاديمي أخذ الطابع الفلكلوري والأسطوري، ولم يعد له انعكاس في ممارسات وثقافات أبناء ذلك الشعب.
ومن تلك الجزئية أتذكر محاورتي مع أحد شباب الكيميتية وقولي له : إذا كنت تريد الانتساب لحضارة مصر القديمة وتصبح كيميتيًا حقيقيًا بالشكل الذي تريده؛ فلا بد لك من القضاء على اللغة العربية والأديان الإبراهيمية، وأن تُعيد عبادة آمون ورع من جديد؛ فالرؤية الدينية التي فرضها الإسلام والثقافة العربية هي أساس هويته المعاصرة، وهي ثقافة وهوية مختلفة تمامًا عن التي في ذهنك؛ فلكي تستعيد الهوية القديمة لابد من بناء فلسفي ميتافيزيقي يتنكر لهذا الأساس اللغوي والعقائدي، لذلك اتهم معظم أبناء هذا التيار بالجهل والتعصب، وأن دعواهم لم تُغادر العاطفة وتتنكر للواقع المصري، وتفرض عليه مشروعًا سياسيًا وأيديولوجيًا سوف يشعل الحروب الأهلية بين أبناء ذلك المُكوّن.
فهم يعتقدون بغلبة من يسمونهم بالعنصر المصري على الدولة، وأن العرب أقلية يمكن تطويعها أو تهديدها لو لزم الأمر، يعتمدون في ذلك على أبحاث جينية صادرة عن ناشيونال جيوغرافيك تقول إن نسبة العرب 17% من الشعب ، بينما عند التحقيق من مصراوي نرى أن ذلك ليس حقيقيًا، وأن هذه النسب لم تُحسَم بعد، وأن ما يعيب البحث السابق أنه اعتمد على إحصاء جغرافي غير دقيق، وأنه في الأخير بحث مدفوع غير مدعوم من أي مجلة علمية معترف بها.
أما التحليل الجيني القديم لإثبات هوية شعب هو أسطورة كبيرة سيطرت على جماعة الكيميتيين كنتيجة طبيعية لتصدر كثير من المتعصبين والمؤدلجين لهذا الملف
John Doe Tweet
وفي حديثي مع صديق من هذا التيار قلت: إن العنصر العربي العشائري في مصر كبير وليس قليلاً؛ فهو ثابت في كتب التاريخ، ووصلت أخبار الهجرات العربية الكثيفة لمصر لحد التواتر، وأحيلك في هذا الأمر لبضعة كتب منها ” شخصية مصر” للمؤرخ “جمال حمدان”، وفيه رصد لحركة ونشاط القبائل العربية في الجيزة وشمال الصعيد كقبائل (محارب وبني عدي. وغيرهم)، وفي الفيوم قبائل (بني سليم وبني كلاب وغيرهم)، وفي قلب الصعيد (كعرب جهينة والحويطات وبني هلال وبني عقبة وغيرهم) إضافة لقبائل مطروح وسيناء.
أيضًا يمكن قراءة بعض الكتب الأخرى “كتاريخ القبائل العربية في مصر” لعبد الحميد صالح حمدان، و “قبائل العرب في مصر” لعبد العظيم الفرجاني”، و “القبائل العربية في مصر في القرون الثلاثة الأولى للهجرة” لعبد الله خورشيد البري، وعلميًا يمكن ملاحظة طريقة نُطق المصريين للأحرف العربية (الجيم مثلاً) فهي شبيهة بنُطق العرب سواء بالتعطيش (محافظات وقرى الشرقية والبحيرة والدقهلية والصعيد)، أو باستبدالها بحرف الدال كمناطق جرجا وغيرها بالصعيد، وهذا الاستبدال الأخير أشبه بالنطق الحجازي وأصول هذه القبائل حجازية في الغالب.
أما التحليل الجيني القديم لإثبات هوية شعب هو أسطورة كبيرة سيطرت على جماعة الكيميتيين كنتيجة طبيعية لتصدر كثير من المتعصبين والمؤدلجين لهذا الملف، وتلك النسب المذكورة لن تراها في جامعة أو مجلة علمية معترف بها؛ بل هي نتيجة لأبحاث خاصة من بعض مراكز الجينوم الوراثي التي تعمل بجهود مدفوعة الأجر مثلما تقدم، وهي منتشرة في أوروبا نتيجة دعاوى (اليوروسنترية)، التي هي مقابل (للأفروسنترية)، الذين يتعصب كلاهما وفقًا للون والبشرة، ويريدان حصر منجزات الحضارة لشعوبهم دون سائر العالم. ويكفي العلم هنا أن العديد من الفرنسيين والإسبان والسويسريين حللوا جيناتهم فوجدوا أنهم أحفاد لتوت عنخ آمون وفقًا لموقع BBC نقلاً عن مركز iGENEA في زيوريخ المتخصص في أبحاث الوراثة والحمض النووي ، وهذا بيع للوهم، ويأتي بعض المتعصبين من شباب الكيميتية لنقل هذه التحاليل الجينية على أنها حقيقة علمية؛ فيبدو أنهم لا يعرفون معنى (الحقيقة العلمية)، والتفريق بينها وبين المراكز الجينية المدفوعة، ويتعاملون مع أخبار ومقالات الإنترنت على أنها حقائق مطلقة.
فهؤلاء يخلطون بين الجنسية والجينوم، بمعنى أن مصر جنسية وقومية وثقافة وتاريخًا ولغة ودينًا، ليست جينات وراثية حملناها منذ آلاف السنين من أجدادنا الرُحّل، الذين لم يعرفوا معنى الدولة الحديثة والاستقرار والحياة القانونية على النمط الحديث. والخدعة الكبيرة التي تنطلي على الكيميتيين هي الخلط بين القومية والأصل الجيني، هذا على افتراض صدق تحاليل الجينوم بالاتصال، مع أن أبحاث علمية من مجلات معترف بها هنا و هنا و هنا و هنا قالت بعدم اليقين تجاه أي تحليل جيني قبل 2500 عام، ونسبة الخطأ الجيني ترتفع كلما تعرضت المادة للتشوّه بفعل عوامل البيئة؛ فأنت لا تقيس عمر المادة بالعناصر المشعة؛ بل تبحث في الجينوم الوراثي، وهذا يصعب إثباته كلما تقدم الزمن.
وختمت حواري بالتحذير من تحويل الحضارة المصرية القديمة لمشروع سياسي؛ فسوف يفضي ذلك لإنهائها بسرعة، وحشر عظماء كأحمد لطفي السيد وطه حسين في هذا المشروع السياسي يشوه مطالبهم بالقومية المصرية ؛ فكنت ولا زلت من دعاة هذه القومية دون الحط من الآخرين والتعنصر عليهم والمطالبة بطردهم وكراهيتهم، والحضارة الكيميتية عندي أخلاقية في المقام الأول ، والأفضل في هذا السياق أن نفصل بين ما هو أخلاقي وسياسي؛ فيصلح استدعاء كيميت كأخلاق وقيم، وعناصر ذلك الاستدعاء متوفرة بالإمكان، لكن أن نحوّل كيميت لمشروع سياسي موجه، ويحتشد ضد العرب والأفارقة والأجانب، لهو الكارثة المعرفية التي حطت على ذلك التيار، ولن يُكتَب لها النجاح.
أخيرا: ما أسميها بالكيميتية الأخلاقية والتي يجب – في تقديري أن تكون مصدر تعيين الهوية المصرية بناء على الجذر القديم -؛ فهي امتداد إنساني وعقلاني للحضارة المصرية البائدة، وهي شيء مقبول كنت من أوائل الذين كتبوا عنه قبل 10 سنوات، حتى ساهمت بجهودي في صياغة وتحرير هذه الأخلاقيات من سلوك الدواعش؛ فحضارة كيمت انتهت صحيح منذ 2000 عام ولم يتبق منها سوى الأطلال، لكن امتدادها في الوسط النخبوي الثقافي يُعيد إحياء قيمة الإبداع والجماليات والأخلاقيات وهندسة العمارة والفنون، كذلك امتدادها يُحيي أخلاق ماعت التي نفتقدها لصالح أخلاق جماعات داعش والإسلام السياسي، التي نشرت العنف والإرهاب أكثر من الفضيلة والعدل.
مع ذلك أؤمن بأن هذا البديل يصعب عليه التنافس وسط عدة قوميات عربية وناصرية ووطنية ودينية، لا ترى العودة للحضارة المصرية القديمة ضرورة؛ فالكيميتية الأخلاقية تعاني من نقاط ضعف؛ أبرزها محدودية العنصر الأخلاقي مقارنة بنظرائه في الأديان الإبراهيمية التي ابتكرت أخلاقيات يراها المصري لا تختلف عن أخلاقيات كيميت، لكن ما يميزها عن الكيميتيين أنها تسهم في صناعة دينه ومعتقده وتصوره لحياة ما بعد الموت، وما يتعلق ذلك من تحديد قيم الشر والخير، والذي يمكن استخلاصه بأن الهوية المصرية ستمر بسجالات حادة في السنوات المقبلة، تحت وقع المتغيرات على المجتمع، مثل زيادة نسب الإلحاد أو المراجعات الدينية، وتوسع تيار التنوير الذي سوف يرى أنه ليس ضروريًا بناء هوية قومية للشعب المصري قائمة على الدين؛ بل يمكن بلورة وصناعة أو إحياء تلك الهوية بخليط يصبح الدين أحد عناصره، أو الاستغناء عن الدين تمامًا والقول بكفاية الفلسفة والعلم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
Fantastic beat While you’re making modifications to your website, I’d like to know. How can I register on a blog website? I found the account to be really helpful. Though your programme presented a fantastic and straightforward concept, I was already aware of this to some extent.
Your point of view caught my eye and was very interesting. Thanks. I have a question for you.