منذ بدء “العملية البرية” على قطاع غزة، وقادة جيش الاحتلال الإسرائيلي لا يتوقفون عن إعلان أهداف عسكرية لتلك الحرب، حتى يُعلنوا أهدافًا جديدة. كانت البداية في إعلانهم هدف “القضاء على حركة حماس، وما لبث أن تغير لـ”الإفراج عن الأسرى”، ثم تحول لـ”استهداف قادة حماس” مثل يحيى السنوار ومحمد الضيف، وصولاً لآخر أهدافهم المعلنة وهو “شلّ القدرات العسكرية لحركة حماس”. وهو ما يشير بوضوح تام لتخبط القادة في إسرائيل في إدارة “عمليتهم البرية” وفشلهم في تحقيق أيّ من أهدافها المعلنة.
فلم يعلن قادة جيش الاحتلال قضاءه على حركة حماس، ولم يستطع من خلال عمليته البرية تحرير أسراه؛ بل ولقي عدد منهم حتفه نتيجة عمليات خاصة لتحريرهم؛ مما اضطرهم لعقد صفقة تبادل للأسرى خلال فترة الهدنة المؤقتة بينه وبين حركة حماس. الحال ذاته في استهداف القيادات الميدانية لحماس مثل: السنوار والضيف، والذي رصد جيش الاحتلال مكافآت مالية ضخمة لمن يدلي بأية معلومات عنهما، واكتفوا باستهدافات منفردة لقادة عسكريين في كتائب عز الدين القسام، أو سياسيين خارج القطاع مثل: صالح العاروري في بيروت.
أما الهدف الأخير: شل القدرة العسكرية لحركة حماس؛ فدليل فشله هي رشقات الصواريخ التي أمطرت تل أبيب في اليوم الأول من العام الجاري؛ التي تشير لاحتفاظ الحركة بقدرتها على الوصول لداخل الأراضي المحتلة، وهو الأمر الذي لم يتغير منذ يوم 7 أكتوبر/تشرين الأول الماضي.
بالتزامن مع تلك الإعلانات المضطربة من قبل الاحتلال لأهدافه الواضحة من تلك العملية، عكف رفقة عدد من وسائل الإعلام المؤيدة له، على محاولة نشر سيناريوهات مضللة في محاولة لإثبات انتصارات زائفة لجيش الاحتلال داخل القطاع.
توغلات عسكرية كاذبة
شهدت الأيام الأولى للعملية البرية محاولات عديدة من قبل جيش الاحتلال وأذرعه الإعلامية، لتصدير نظرية القيام بعمليات عسكرية نوعية شمالي قطاع غزة، وذلك في محاولة للتمهيد لمراحل لاحقة من القتال.
ففي يوم 26 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، نشر المتحدث باسم جيش الاحتلال للإعلام العربي، أفيخاي أدرعي، مقطع فيديو ادعى أنه لعملية مداهمة مركزة في شمال القطاع، لكن، وبحسب منصة “إيكاد” للتحقيقات مفتوحة المصدر؛ فإن حجم التوغل البري في الفيديو السابق لم يتجاوز الـ 160 مترًا في منطقة حقول فارغة من العمران، والتي لا تحتوي على أي أهداف عسكرية للمقاومة.
لم يتجاوز الـ160 متراً.. ما حقيقة التوغل البرّي الذي أعلن عنه الاحتلال في 26 أكتوبر داخل قطاع غزة؟#فيديو #إيكاد pic.twitter.com/1EjRcg0uHi
— EekadFacts | إيكاد (@EekadFacts) October 28, 2023
ولم يتوقف التضليل حول العملية البرية عند أدرعي؛ بل انتقل لحسابات ومنصات إعلامية مؤيدة لإسرائيل؛ حيث انتشر مقطع فيديو في نفس اليوم عبر حساب صحيفة “” IsraelHayomHeb على منصة “إكس”، يظهر جنديين إسرائيليين يرفعان العلم الإسرائيلي فوق أحد المباني، زاعمة أنه في قلب غزة، وهو ما دحضه الصحفي المتخصص في الشؤون الفلسطينية “يونس تراوي” عبر حسابه على منصة إكس، حين أشار إلى أن المبنى يعود إلى شاليه الطناني الساحلي، والواقع على بعد حوالي 3 كم داخل شمال غزة بالقرب من لسان الميناء الجديد، وهي منطقة ليست حضرية؛ بل منتجعات وغير مأهولة بالسكان.
الأمر ذاته جاء في تحقيق قصير للصحفي الأمريكي في صحيفة “واشنطن بوست”، “إيفان هيل”، والذي أشار إلى وقوع المبنى عند نقطة الاحداثيات: (31.569028, 34.475769)، وليس في قلب قطاع غزة كما ادعت الصحيفة الإسرائيلية.
New video geolocated by The Post shows Israeli troops atop a beach hotel in Gaza two miles inside the strip (31.569028, 34.475769).
— Evan Hill (@evanhill) October 28, 2023
“Don’t forget. … Don’t stop until victory,” the man filming says:https://t.co/9zLKaoxdQV https://t.co/O2DZ6WydEW
من جانبه يعتقد الباحث السياسي المصري محمود هدهود أن الجيش الإسرائيلي قد عمد إلى الاحتلال السريع لقطاع غزة، معتمدًا على قدرته التدميرية الهائلة والقصف العشوائي؛ في حين أنه فشل في تحقيق أي نجاح عملياتي مما أعلنه قبل البدء. وأضاف “هدهود” في حديثه لـ”مواطن“: “إن المجتمع الإسرائيلي قائم على عقيدة كمجتمع استعمار استيطاني، مدرك طوال الوقت أن أمانه مرتبط بسحق الآخرين والقضاء عليهم، وبالتالي فإن تلك الأساليب المضللة التي يتبعها الجيش والتي تدركها جيدًا الجبهة الداخلية في إسرائيل، لن تغير في وجهة نظره كثيرًا تجاه الرغبة في القضاء على غزة وليس حماس حتى، وهذا ما يظهر في تصريحات المسؤولين والمقاتلين والمشاهير في تل أبيب”.
مستشفيات تديرها المقاومة وأنفاق خيالية
انتقل جيش الاحتلال لمرحلة ثانية من التضليل المصاحب لعمليته العسكرية في غزة؛ حيث تعمد إضفاء أسباب منطقية لعمليات اقتحام المستشفيات وشل قدرة القطاع الصحي من خلال محاولة إثبات استخدامها من قبل فصائل المقاومة كثكنات عسكرية.
ففي 13 من نوفمبر/ تشرين الثاني، نشر حساب جيش الاحتلال مقطع فيديو، ادعى خلاله، المتحدث باسم جيش الاحتلال دانيال هاغاري، اكتشاف نفق يقع بجوار مستشفى الرنتيسي للأطفال، ويربط قبوها بمنزل تعود ملكيته لمسؤول كبير في حماس على حد زعمه. وبحسب ما ورد في المقطع؛ فإن قوات الجيش اكتشفت في الدور السفلي من المستشفى مواقع عسكرية وأسلحة وخططًا تعود إلى 7 من أكتوبر/تشرين الأول؛ زاعمين صلتها بكتائب عز الدين القسام، الذراع العسكري لحركة حماس.
إلا أن التحليل الذي أجراه الصحفي السوري مراد القوتلي على المقطع، أظهر أن تلك الحفرة لا تعود لنفق من أنفاق حماس، ولكنها فتحة مصعد؛ حيث يتواجد أعلاها لوحة التحكم الكهربائية إلى جانب مسارات المصعد والأسلاك المستخدمة به. كما أن الخطة التي ادعى الاحتلال عودتها لمعركة طوفان الأقصى يوم 7 من أكتوبر / تشرين الأول الماضي، تبين أنها عبارة عن جدول حضور به أسماء أيام الأسبوع باللغة العربية، وموزعة خلال الشهر.
أسباب تضرب رواية #إسرائيل عن اكتشافها لنفق يصل لـ #مشفى_الرنتيسي، أبرزها أن ما ظهر بالفيديو ليس نفقاً بل مصعد.
— Murad Kwatly (@MuradSyr) November 14, 2023
متحدث الجيش دانيال هاغاري عرض فيديو له بجانب مستشفى الرنتيسي، وظهر بجانب حفرة في الأرض قال إنها لنفق يصل عمقه إلى 20 متراً، لكن عند التحقق مما ظهر داخل الحفرة، إلى جانب… pic.twitter.com/7b3TBtTqxl
السيناريو ذاته، اتبعه جيش الاحتلال بعد ثلاثة أيام فقط في مستشفى الشفاء، والذي مكث ساعات طويلة عقب اقتحامها؛ في محاولة للخروج برواية أكثر تماسكًا من نظيرتها في مستشفى الرنتيسي؛ فقد نشر حساب الجيش عبر منصة “إكس” مقطع فيديو في 16 من نوفمبر/ تشرين الثاني، وثق فيه ما وصفوه بالبنية التحتية العسكرية لحماس، زاعمين وجود أحراز تدين الحركة وتؤكد استغلالها للمستشفى عسكريًا، بينما نشر أفيخاي أدرعي مقطعًا آخر، يزعم خلاله وجود فتحة نفق عملياتي بجوار المستشفى.
وكالعادة؛ فإن السيناريو السابق دُحض أيضًا، وذلك من خلال تحقيق أجرته شبكة التلفزيون العربي، والذي خلص إلى تلاعب الاحتلال بالمشاهد والأحراز، وكذلك ارتباكه بعد نشر نسخة أولى من المقطع، ثم إعادة نشر نسخة ثانية عُولجت فيها الأخطاء، إلى جانب أن فتحة النفق المزعومة كانت لأسلاك كهربائية عملاقة.
يرى اللواء السابق في جهاز الأمن الوطني الفلسطيني، يوسف الشرقاوي “أن تلك الأكاذيب تدُل بشكل واضح على فشل العملية البرية عسكريًا، وأن عملية تسويق اكتشاف أنفاق -حتى وإن صحت-؛ فإنها لا تعني قدرة العدو على تدميرها أو ضخها بالمياه كما تزعم، لأن تلك الأنفاق غير موصولة بعضها البعض”. وأضاف في حديثه لـ”مواطن“: “أما مشاهد المستشفيات وإجبار المدنيين على الاستسلام؛ فهي موجهة بشكل أساسي للإعلام الغربي من ناحية، والتأثير على معنويات الفلسطينيين والمناصرين العرب للقضية من ناحية أخرى”.
استسلام مقاومين مسلحين
مؤخرًا، انتقلت روايات الاحتلال الكاذبة لمستوى ثالث من التضليل، والذي قام بتسريبها لوسائل إعلامه وصحافييه؛ حيث عمدت إلى إجبار المدنيين لتصوير دعاية استسلام عناصر المقاومة؛ خاصة في المناطق الشمالية من قطاع غزة.
ومع بداية شهر ديسمبر / كانون الأول، نشرت عدة حسابات إسرائيلية على منصة “إكس” مقطع فيديو مسربًا، ادعوا أنه لاستسلام عناصر مسلحة من حركة “حماس” أثناء عمليات مداهمة في بيت لاهيا شمالي غزة. بعدها بأيام قليلة، سرب جيش الاحتلال فيديو آخر بنفس الطريقة، ادعى ناشروه أنه لاستسلام عناصر مسلحة أخرى من حماس؛ حيث ظهروا في ظروف غير إنسانية، عراة تمامًا، وبحوزتهم عدد من الأحراز والأسلحة؛ والتي بالطبع تعد ضرورة قصوى من أجل إخراج سيناريو مضلل آخر.
دحض المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان تلك المشاهد، والتي تعتبر وفقًا للقانون الدولي بمثابة جرائم حرب بحق المدنيين؛ نتيجة إجبارهم على خلع ملابسهم واقتيادهم إلى أماكن مجهولة، إلى جانب تصوير دعاية لاستسلام المقاومة وكأنهم أفراد مسلحون؛ فقد نشر رامي عبده، مدير المرصد الأورومتوسطي، تغريدة له عبر منصة “إكس”، أشار خلالها إلى أن معتقلي الاحتلال في المقطع الأول من المدنيين، ومن بينهم الصحفي ضياء الكحلوت، مدير مكتب صحيفة العربي الجديد في غزة.
من بين المعتقلين اليوم في مشروع بيت لاهيا المسنين الحاج خليل هاشم الكحلوت 65 عاماً، والحاج رفيق أحمد الكحلوت 60 عاماً، والحاج محمد إسماعيل الكحلوت 57 عاماً.
— Ramy Abdu| رامي عبده (@RamAbdu) December 7, 2023
مدير مدرسة الأونروا درويش الغرباوي 48 عاماً، وموظف الأمم المتحدة أحمد أكرم لبد 56 عاماً.
والطفل محمد حمزة الكحلوت 15… pic.twitter.com/ge6CaBQLeb
أما المقطع الثاني؛ فقد أشار “عبده” إلى توصل المرصد لهوية الشخص الذي أُجبر على تصوير تسليم سلاحه بحسب مزاعم الاحتلال؛ وتبين أنه مواطن مدني يُدعى معين قشطة المصري، صاحب ورشة ألومنيوم من بلدة بيت لاهيا شمالي غزة، والذي فر إلى مدرسة خليفة نازحًا حيث جرى اختطافه مع آخرين هناك.
من جانبه قال الصحفي الفلسطيني، أدهم أبو سليمة” إن البروباغاندا الإسرائيلية قد فشلت منذ السابع من أكتوبر وليس من بداية العملية البرية فقط؛ حيث دللت تلك العملية على سقوط نظرية القوة الاستخباراتية، والأنظمة الأمنية المنيعة لدولة الاحتلال”. وأضاف في تصريحات خاصة لـ”مواطن”: “إن الجيش الإسرائيلي لم يتوقع التطور الفريد التي وصلت له فصائل المقاومة في إدارة المعركة إعلاميًا؛ حيث كان من الواضح تمامًا أنها استعدت جيدًا لتلك المرحلة باحترافية كبيرة جدًا”. كما أشار إلى أنه “من الواضح أن إسرائيل ما زالت تتعامل مع العرب والفلسطينيين بعقلية الستينيات والسبعينيات، وأن كل ما تقوله يصبح مصدقًا، ولكن تلك العقلية أثبت أنها في عالم التواصل الاجتماعي لم تعد تجدي نفعًا على الإطلاق”.
بينما يرى “هدهود” أن الهدف الحقيقي لتلك البروباغاندا هو التأثير على قطاعات واسعة من الرأي العام العالمي، وهو ما نجحت فيه إسرائيلي بشكل كبير، بمساعدة الإعلام الغربي الذي قدم تغطية متدنية عن الحرب وغير حيادية، مع التأكيد في الوقت ذاته على وجود مؤسسات لكوادر عمرية أقل أصبحت أكثر وعيًا بشأن القضية الفلسطينية وحقوق الشعب الفلسطيني”.
التعليقات 1