أكثر ما يلفت الانتباه في مدينة الرياض أنها مدينة التحولات والتجارب، وكلا الأمرين نابعٌ من كونها مدينة حديثة، مقارنة بسائر عواصم الدول العربية المجاورة باستثناء المدن الخليجية الحديثة، التي يجري عليها نفس المعيار. أما المصطلح الأول فأقصد به أنها تمر بتحولات يسهل فيها تغيير نمط المدينة العمراني بشكل ملحوظ، لا يعوقها نمط تراثي معين، أو هيكل ورثته المدينة عبر سنوات طويلة تلزمها بامتثال نموذج بعينه دون الآخر؛ بل يبدأ العمران على أرض مسطحة لا تضم سوابق معمارية بارزة.
أما التجارب فيُقصد بها أنها حقل لتجارب معماريين تم جلبهم من أنحاء العالم، توفرت لديهم المساحة الكافية لخوض غمار تجاربهم المعمارية، بالإضافة إلى قوة مالية ضخمة أتيحت لهم لم تكن لتتاح في أي مكان آخر في العالم، وهو ما جعل مدينة مثل الرياض تضم بين شوارعها الرئيسية والفرعية مبانيَ مختلفة التصميم والهياكل لمعماريين مختلفين من أنحاء العالم.
هذا بالتأكيد مع مركزية القرار السياسي الذي يخرج ليجعل مسألة التحويل والتجريب أمرًا حتمي الوجوب والتنفيذ دون اعتبارات أخرى، لكن هل يمكن اعتبار الرياض على تلك الحالة مدينة بلا هوية؟
في الحقيقة؛ كل مدينة في العالم بل كل قرية تمتلك هوية معينة، والهوية لا يشترط بها المعنى الكلاسيكي للكلمة التي ترتبط بثقافة تاريخية معينة؛ بل يقصد بها أن لكل مدينة في العالم نمطًا معينًا تسري عليه، تتشكل من خلال سلوك الناس الذي يتشابك مع مكونات العمران في المدينة، حتى لو كان سلوكًا متناقضًا بالمناسبة؛ فهوية الرياض أنها مدينة التجارب والفرص المعمارية، لذا فهذا النموذج يعتبر هوية في حد ذاته بعيدًا عن تمثلات الهويات المختلفة حول العالم.
كيف بدأت الرياض
يعود تاريخ منطقة الرياض إلى إقليم اليمامة القديم، المنطقة التي أثارت القلاقل في مهد الإسلام مع تولي الخلفاء السلطة في المدينة المنورة، عقب موت النبي محمد (ص)، إلا أن تاريخها السياسي الحقيقي يبدأ من القرن الثامن عشر مع بداية تأسيس الدولة السعودية الأولى، أما اسم “الرياض”، والذي يعني الحدائق فقد ظهر في القرن الثامن عشر، والتي كان يحكمها في هذا الوقت “دهام بن دواس” المنحدر من عائلة الشعلان.
إلا أن الأمور لم تستقر لأمير الرياض بسبب الصراع الدائم مع الدولة السعودية الوليدة في مدينة الدرعية المتاخمة للرياض، لدرجة جعلته يفر من المدينة بعد صراع دام 28 سنة كاملة؛ فضمت الرياض إلى الدرعية عاصمة الدولة السعودية الأولى، إلا أن الأمور انقلبت على الدولة الفتية نفسها؛ ففي سنة 1818 تم تدمير الدرعية على يد إبراهيم باشا بن محمد علي باشا والي مصر، بإيعاز من السلطان العثماني آنذاك لتنتهي بذلك فرصة قيام الدولة السعودية الأولى.
في سنة 1824 وقع الاختيار على الرياض كعاصمة للدولة السعودية الثانية على يد تركي بن عبد الله آل سعود بدلًا من الدرعية، إلا أن الأمر لم يستمر سوى ستين سنة فقط، حتى استولى “ابن رشيد” عليها وقضى على الدولة السعودية الثانية، لتنتهي بذلك الفرصة الثانية لقيام الدولة السعودية، إلا أنه وفي عام 1902 استطاع عبد العزيز آل سعود الاستيلاء على الرياض مرة أخرى، وبدأ منها حملته الواسعة لضم أراضي الحجاز ونجد وغيرها من أراضي شبه الجزيرة العربية، التي انتهت بالحدود التي ترسمها المملكة العربية السعودية الآن لنفسها.
اعتمد تخطيط مدينة الرياض على أساس أن السيارة هي الوسيلة الرئيسية للتنقل في المدينة ولم تتح مخصصات للنقل العام
ظلت مدينة الرياض شبه منغلقة على نفسها طوال تلك الفترة، مدينة تقليدية بنيت مبانيها بالطين اللبن، ويمكن فهم طبيعة العمران فيها من خلال وصف هاري سانت جون فليبي لها أثناء رحلته إلى المدينة سنة 1917 أنها: “مدينة على شكل مثلث متساوي الأضلاع، يبلغ طول كل ضلع منه حوالي 600 متر، وكانت محاطة بسور من الطوب اللبن له تسعة أبواب، كانت تتشكل من شبكة من الأزقة الضيقة والكثيفة التي تتلاقى باتجاه السوق وقصر آل سعود والمسجد الكبير وتتمركز حولهما.
وكان سوق الرياض يتكون من جزئين، الأول خاص بالرجال والثاني بالسيدات، ويضم 120 محلًا تجاريًا. في شرق المدينة كان يوجد حصن المصمك، حيث بنى أفراد الأسرة الحاكمة والتجار الأغنياء منازلهم حوله. أما المزارعون والمهاجرون من ذوي الدخل المنخفض فقد كانوا يعيشون في الجنوب الشرقي من المدينة، بينما سكن الجنود الجنوب الغربي من أحفاد الشيخ محمد بن عبد الوهاب وموظفي الخدمة المدنية وأعضاء الشرطة الدينية، وكان يعيش في الشمال الغربي مزيج من الأشخاص من أصول مختلفة، وكانت مساكنهم في حال سيئة”.
كان هذا الوصف واقعيًا يفسر طبيعة العمران في المدينة التي تحاول انتزاع سلطة سياسية في منطقة مضطربة وحيوية. بطبيعة الحال وكما الوضع في مدن الخليج العربي؛ تقلب العمران في الرياض في فترات تولي الملوك الذين خلفوا الملك عبد العزيز في السلطة بحسب حاجة السلطة إليه؛ حيث تم نقل الوزارات والهيئات الحكومية إلى العاصمة في الخمسينيات، فيما بدأت فكرة إنشاء جامعات حكومية وتمهيد الطرق بشكل أكثر عملية لدرجة جعلتهم يهدمون السور الطيني القديم للمدينة، وبعض الملامح التاريخية فيها.
لكن النقطة الفارقة بطبيعة الحال كانت الثروة النفطية في السبعينات، والتي شكلت نقطة التحول الرئيسية في عمران تلك المدن، أتاح هذا دفعة مالية قوية مكنتهم من إنشاء عمران ضخم في مدن صحراوية. لكن مدينة الرياض لم تتوقف منذ تلك اللحظة عن التغيير المستمر؛ فالمشاريع تسري فيها على قدم وساق؛ سواء كانت مشاريع بنية تحتية أو سكنية من خلال إنشاء أحياء كاملة مع امتدادات المدينة الأربعة، لتجعل مسألة مراقبة طبيعة التحولات العمرانية فيها أمرًا ضروريًا.
يزداد توسع الرياض بشكل سريع جدًا؛ حيث توسعت مساحة المدينة بمقدار 218 مرة مقارنة بما كانت عليه في عام 1940؛ فيما زاد عدد السكان إلى 130 ضعفًا في نفس الفترة، وهو ما يبرز طبيعة العمران السريع فيها؛ فتستقطب المدينة عددًا كبيرًا من المهاجرين المحليين، فضلًا عن العمالة الخارجية التي تبدو سمة أساسية في الطبيعة المجتمعية للعاصمة السعودية، يساعد في هذا أنها أرض منبسطة، يسهل البناء عليها بشكل ممتد ومنبسط دون حواجز جغرافية صلبة تصعّب من عملية الإنشاء.
أنسنة الرياض.. هل نحن أمام مصطلح حقيقي؟
مصطلح أنسنة المدن يطلق على المشاريع التي تضع الإنسان كأولوية قصوى في خدمات المدينة، تعزز من قيمة المشي وتحترم ركوب الدراجات وتخصص لها مسارات قيادة؛ فيما تعمل على تحديد استخدام السيارات الخاصة بهدف تقليل الانبعاثات الكربونية، وتشجع استعمال المواصلات العامة بدعمها وتوفيرها بشكل مناسب؛ فضلًا عن خلق فراغات عامة وإنسانية في المدينة خالية من التلوث، تشجع التواصل الإنساني بين فئات المجتمع المختلفة. نمط عمراني مثل هذا لا يخلق من فراغ أو بين ليلة وضحاها؛ بل يستلزم الأمر تغيير سلوك الأفراد في المجتمع وتهييء العمران عليه.
زرت مدينة الرياض لمدة ستة أيام، -وهي مدة غير كافية للحكم الكامل والشامل على المدينة بالتأكيد- لكنني لاحظت بعض الأمور -يتم التعامل معها كعناصر إنسانية داخل المدينة- لا تخلو من التحفظات؛ ففي شارع العُليا -أحد أهم الشوارع في العاصمة السعودية- تم تخصيص مسارات للدراجات والمشي على جانبي الطريق، إلا أنها غير مستخدمة، وذلك لاعتبارات كثيرة ومتباينة؛ الأول يتمثل في كثرة التعدي؛ إما بتعدي السيارات واستخدامها كموقف سيارات مؤقت بسبب ضيق الشارع مع الازدحام المروري، أو بكثرة الإنشاءات في المدينة التي لا يهدأ فيها البنيان، مما يجعل مسألة المشي على القدمين أو بالدراجة أمرًا مستحيلاً في بعض المناطق في المدينة.
وبصرف النظر عن تلك الأسباب التي على إشكالياتها لا تبدو مؤثرة؛ فالنتيجة الظاهرة أنه لا يوجد أحد في المدينة يمارس تلك العادة التي تعزز من فكرة التواصل الإنساني فيها لاعتبارات أخرى، والسبب الرئيسي هو اعتماد الغالبية العظمى من سكان المدينة السعوديين والمقيمين فيها فضلًا عن الزائرين على السيارات الخاصة المملوكة والمؤجرة، وهو ما يفسر التعديات على مناطق غير مستخدمة للغرض الذي أنشئت من أجله.
أما الأمر الأكثر تعقيدًا فهو طبيعة العمران في المدينة، والذي يجعل من مسألة المشي فيها أمرًا معقدًا للغاية؛ مثل كثرة الأسوار المرتفعة التي تلتف حول الوحدات السكنية، وارتفاع المباني التجارية وعدم توافر مساحات مظللة، -خاصة مع مدينة تصل فيها درجات الحرارة في الصيف إلى 52 درجة مئوية- فضلًا عن الطرق السريعة داخل المدينة وصعوبة الانتقال من شارع إلى شارع بواسطة المشي على القدمين.
ترجع طبيعة تلك المشكلة إلى سنة 1968، حيث أوكلت مهمة تخطيط مدينة الرياض إلى Doxiadis Associates International، المكتب اليوناني للتخطيط العمراني اعتمد تخطيط دوكسياديس، كما يعبر ياسر الششتاوي في كتابه “Riyadh, Transforming a desert city” على أساس “أن السيارة هي الوسيلة الرئيسية للتنقل في المدينة ولم تتح مخصصات للنقل العام”، وهو ما ساعد على فكرة تعزيز امتلاك سيارة في الرياض تحديدًا، حتى وصلت الأمور إلى الأزمة الحالية.
أورد الششتاوي في كتابه تعليق عالم الأنثروبولوجيا الحضرية باسكال ميتوريه: “إن الخطة أكملت تحول الرياض من مدينة مريحة للمشاة إلى ضواحٍ مفتوحة تتمحور حول السيارات، ويشكلها الأمراء والمخططون والمطورون؛ حيث ترك السكان وراءهم الممرات المتعرجة المظللة والمنازل الجميلة المبنية من الطوب اللبن والأسواق المزدحمة في الرياض القديمة، فيما أصبحت الرياض الآن مدينة على الطريق السريع مصممة للسيارة ومصممة للسرعة”.
مستقبل المدينة.. بين السيارة والنقل العام
بالتأكيد لا يمكن الحكم الآن بفشل المدينة في تحولها إلى مدينة أكثر إنسانية؛ خاصة مع نشأتها الحديثة على أساس مغاير تمامًا، إلا أن الأمور تبدو معقدة إلى درجة كبيرة؛ فوضعت الحكومة السعودية 2030 هدفًا رئيسيًا لهذا التحول، لذا فالعمل على تحقيق هذا التصور ما زال قائمًا حتى الآن دون حكم نهائي.
يعتمد الناس على السيارات الخاصة في قضاء حوائجهم في المدينة؛ فيما يعتمد من لا يمتلكون سيارة على سيارات الأجرة أيضًا في التنقل، وهو ما يبرز عدم نجاح مشروع أتوبيسات النقل العام في الرياض؛ حيث تمر الحافلات فارغة تمامًا من أي ركاب داخل أحياء المدينة المختلفة لأكثر من 25 شهرًا حتى الآن؛ فيما لا تضع الحكومة أو شركة النقل الخاصة المسؤولة عن تشغيل الحافلات أي خطة حتى الآن لاستقطاب المواطنين السعوديين، هذا بجانب مشروع إنشاء المترو الذي يبدو حتى الآن مشروعًا رهن المزاج الاجتماعي دون طبيعة عمرانية تحتم عملية نجاحه.
تحتاج مدينة مثل الرياض إلى تعزيز فرص الاعتماد على المشي وركوب الدراجات، والاعتماد كذلك على المواصلات العامة
تحتاج مدينة مثل الرياض إلى تعزيز فرص الاعتماد على المشي وركوب الدراجات، والاعتماد كذلك على المواصلات العامة، لكن لكي يبدو الاقتراح واقعيًا؛ فهذا أمر في غاية الصعوبة وتحدٍ كبير على أرض الواقع. تعاني مدينة الرياض من ازدحام مروري لا يكاد يهدأ طوال أيام الأسبوع، بسبب الهجرة الداخلية المستمرة للمدينة التي توفر فرص عمل أكثر من أي مدينة أخرى فضلًا عن التعليم، بالإضافة إلى امتلاك السيارات بشكل يفوق الوصف والقدرة على تنظيمه.
تمتلك بعض الأسر في الرياض ما لا يقل عن 3 سيارات، وهو ما يمكن ملاحظته من خلال عدد السيارات أمام المنزل الواحد؛ خاصة في الأحياء الأكثر غنى في المدينة. ووفقًا للإحصائيات الأخيرة فإن متوسط عدد السيارات يوميًا في شوارع الرياض يصل إلى 2 مليون سيارة، وهو رقم ضخم جدًا يمكن ملاحظته بالعين المجردة.
كثرة السيارات في المدينة وبين أيدي الناس، ترجع أسبابها -بجانب الأسباب العمرانية- إلى عوامل اقتصادية منها واجتماعية، أولها يمكن في سهولة شراء السيارات في السعودية، بسبب القروض هامشية الربح، التي تعطى على شراء السيارات، فضلًا عن التساهل في أقساط التسديد، بالإضافة إلى قلة ثمن السيارات مقارنة بدول كثيرة حول العالم؛ حيث تباع السيارة بأصل ثمنها تقريبًا مع هامش ربح منخفض خاصة مع انعدام الجمارك على السيارات الداخلة إلى المملكة العربية السعودية، وهو ما يجعل من مسألة شراء السيارات أمرًا يسيرًا لمعظم المواطنين السعوديين.
إذًا فهناك ضرورة حتمية للنظر في طبيعة تلك السياسات الاقتصادية، لكن قبل المضي قدمًا في هذا يجب مراعاة طبيعة العوامل الاجتماعية الأخرى التي تحفز من فكرة شراء سيارة؛ مثل عادات الخروج للبرية للتنزه والاصطياد، والذي يستلزم امتلاك سيارة بسبب المسافات البعيدة بين المدن وبين الأحياء الجديدة على أطراف المدينة، والتي لا تغطيها أية شبكة مواصلات، فضلًا عن عادة امتلاك السيارات لدى المواطن السعودي.
المساحات العامة في المدينة
هذا لا يمنع بالتأكيد تواجد مساحات عامة وفراغ في المدينة، وبعض الشوارع التي استطاعت أن تنتزع لنفسها سلطة المشي والتنزه دون الحاجة إلى سيارات خاصة؛ فبعض المناطق في شارع “التحلية” تتسم بهذه السمة، وحديقة عكاظ وحديقة الملك عبد الله وحديقة فيصل بن بندر؛ فضلًا عن مشاريع إعادة إحياء المناطق التراثية؛ حيث تم خلق مساحة تنزه وفراغ حول قصر “المربع”، القصر الرئيسي للملك عبد العزيز آل سعود، بالإضافة إلى مشروع مدينة الدرعية، العاصمة الأولى للدولة السعودية، والتي شكلت نقطة تحول رئيسية في التاريخ السياسي لإنشاء المملكة.
يبدو المشروع الآن وكأنه في ثوب جديد ومختلف عن طبيعته التاريخية القديمة؛ فالمنطقة تستقطب عددًا كبيرًا من الأسر السعودية بغرض التنزه في المطاعم والمقاهي التي أنشئت على جوانب المدينة القديمة، بالإضافة إلى زيارة بعض المعالم المعمارية فيها، أما المشروع الذي يبدو مثيرًا حقًا؛ فهو التجمع السكني الذي تعمل الحكومة عليه في حي الطريف بالقرب من الدرعية على النمط التقليدي للعمارة النجدية، والذي يبدو وكأنه امتداد لفكرة الاستغلال التجاري للمنطقة التاريخية.
لا يمكن بأي حال من الأحوال اختصار طبيعة عمران مدينة مثل الرياض -التي تتفوق على دبي من وجهة نظري بسبب التنوع الاجتماعي والثقافي فيها- في مقالة أو مقالتين؛ بل يحتاج الأمر إلى أكثر من هذا؛ فتاريخ المدينة وإن كان صغيرًا كان له عامل مهم في تشكيل -وخلق مشكلات أيضًا- هويتها البصرية الحالية.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
التعليقات 1