الأمومة المسيئة
كانت الجملة العالقة في ذهن الفيلسوف العدمي والكاتب الروماني إميل سيوران من أمه “لو كنت أعلم لأجهضتك”، ومصير هذه العبارة لم يكن كمصير الكثير من العبارات التي تختفي بمجرد أن تُقال، بل ظلت تعبث داخل الابن، وظل بسببها يرى نفسه لعنة مخزية للوجود كلّه.
كانت الجملة العالقة في ذهن الفيلسوف العدمي والكاتب الروماني إميل سيوران من أمه “لو كنت أعلم لأجهضتك”، ومصير هذه العبارة لم يكن كمصير الكثير من العبارات التي تختفي بمجرد أن تُقال، بل ظلت تعبث داخل الابن، وظل بسببها يرى نفسه لعنة مخزية للوجود كلّه.
إذاً عالم الأمومة ليس دائماً ذلك العالم الأبيض الناصع الذي نتخيله، بل تتخلله الكثير من البقع السوداء من ذلك النوع الذي لا يُمحى أثره، فيتجدد مع كل تجربة جديدة نعيشها. وبناء على هذا، قام الكثير من علماء النفس بدراسة وتحليل العلاقة مع الأم ومدى تأثيرها على النمو النفسي والعاطفي للفرد.
يحكي ميلاد: "أكثر من نصف أحاديثي مع المعالج النفسي تتمحور حول علاقتي مع أمي، فهي المحور الرئيسي في حياتي بعد وفاة والدي وأنا في عمر الخامسة، أمي كانت تعالج أي مشكلة نمر بها بالكثير الكثير من الحب".
"لا أطيق أن يلمسني أحد.. والسبب أمي"
“حتى الآن لا أطيق أن يلمسني أحد، حتى أولادي. أجهز نفسي نفسياً وجسدياً قبل كل لمسة محتملة علّي أخفف قليلاً من حجم الألم الذي أحسه عندما يلمسني أحد أي أحد”. هذا ما قالته لمواطن، نهى (33) عن علاقتها بأمها.
وأضافت: “عندما أعود بالذاكرة لطفولتي أكتشف أن أمي لم تحضني يوماً، ولم تقبلني، وكم تمنيت أن تفعل، لكنها كانت تكره العناق والأحضان كما أنا الآن تماماً. هل صرت مثل أمي؟ هذا السؤال يدفعني للبكاء”.
ويؤكد ماهر راعي، باحث في علم الاجتماع، على حقيقة مخاوف نهى، فيقول:”أنّ الابنة ستتشبه جداً بأمها بعد أن تصير هي أمّا، فصراع الابنة مع الأم الذي يبلغ ذروته في فترة المراهقة، ينتهي بمجرد صارت تلك الابنة أماً، حيث تنتهي كل محاولات الابنة لإيجاد هويتها الخاصة، لتجد نفسها ومن حيث لم ترغب يوماً قد صارت أمها التي كانت دائماً رافضةً لها وثائرةً على تصرفاتها”.
وأشار، إلى أن علاقة الابنة تحديداً بوالدتها، تحظى بكثير من الخصوصية وتختلف بطبيعة الحال عن علاقة الأم بابنها الذكر.
بينما يحكي ميلاد (38 سنة): “أكثر من نصف أحاديثي مع المعالج النفسي تتمحور حول علاقتي مع أمي، فهي المحور الرئيسي في حياتي بعد وفاة والدي وأنا في عمر الخامسة، أمي كانت تعالج أي مشكلة نمر بها بالكثير الكثير من الحب”.
يتابع حديثه: “أخبرت المعالج النفسي أنه في حال وجود حياة سابقة، أتخيل نفسي فتاة ليزبيان”، وأرجع المعالج الأمر إلى قوة العواطف والمشاعر التي حصل عليها من والدته.
هناك الكثير من الدراسات النفسية أثبتت أن غالبية الأطفال يرون أن الأم هي البطل الخاص لهم، وأنها هي القادرة على تلبية كل احتياجاتهم النفسية والجسدية، المشكلة تبدأ بتشوه صورة الأم البطلة لدى الأبناء، مما يسبب خللاً كبيراً في علاقة الابن مع نفسه أولاً، ثمّ مع المحيط الاجتماعي.
وفي هذا الصدد يقول الطبيب النفسي طارق عبد لمواطن:”علاقة الإنسان مع أمه علاقة مهمة جداً وحساسة ورئيسية، وهذه العلاقة هي المسؤولة بطريقة ما عن الثبات النفسي لدى الإنسان”.
ويؤكد: “الأم هي مصدر الحنان الأول للطفل، والمشرف الرئيسي على كل شؤونه، هي البطل الخاص بالطفل. فإذا ما قسّمنا حياة الإنسان إلى مجموعة من المراحل العمرية، سنجد أن كل مرحلة تحتاج رعاية من نوع خاص وطرق وأساليب مختلفة عن المرحلة التي تليها”.
ويكمل: “الخلل في التعامل مع الطفل في أي مرحلة من هذه المراحل، لا يتوقف أثره على المرحلة نفسها، بل يمتد إلى المراحل اللاحقة، مما يسبب تراكماً للمشاكل في اللاوعي والشعور عند الإنسان، ولهذه المشاكل أثرها الواضح في النمو الاجتماعي والنفسي للفرد”.
وتستطرد: “لم أكن أعرف ماذا يعني أن يكون الشخص نرجسي حتى أخبرني طبيبي النفسي وأدركت تماماً في أي علاقة أنا، استغرقت فترة طويلة لأتجاوز صدمات الطفولة وما خلفته علاقتي السيئة بأمي”.
يرى عالم النفس النمساوي ألفرد أدلر، مرحلة الطفولة المبكرة أهم المراحل بالنسبة لتربية الإنسان، وهذه المرحلة هي الأساس في بناء شخصية الطفل، وخلالها تتحدد معالم شخصيته الجسمية والعقلية والنفسية.
في هذه المرحلة يظهر دور الأم بوضوح حيث تشكل علاقة الطفل بأمه النقاط الأساسية للتكيف مع المجتمع. هذا التكيف الذي قد يكون ناجحاً أو غير ناجح.
ففي حين يعمل الطفل على تحقيق أكبر درجة من المواءمة بين سلوكه وبين ما تريده أمه منه رغبة منه في الحفاظ على محبتها وخوفاً من هجرانها له، يستنفد جزءاً كبيراً من طاقته وهذا ما يؤثر في المستقبل كل علاقاته وحتى على نظرته للأمور.
والعلاقة الآمنة بين الأم والطفل تبني أشخاص أسوياء في حين تؤدي العلاقة السيئة مع الأم إلى العديد من الاضطرابات النفسية والعاطفية. فالكثير من الدراسات تناولت أهمية الإحساس بالأمان مع المحيطين به وخاصة الأم، فالطفل الأكثر أماناً سيصبح بالتأكيد أكثر كفاءة من النواحي العاطفية والاجتماعية.
تقول أمل "أحاول أن أسامح أمي وخاصة بعد أن سافرت وصرت وحيدة لكني غير قادرة. الظلم والقسوة والجبروت الذي غالباً ما كانت تعاملنا به أصبح جزءاً كبيراً من ذاكرتي، لم أحظ يوما ببعض التقدير منها".
في فيلم دارين أرنوفسكي البجعة السوداء، حاولت الأم جعل الابنة تكمل حياتها عنها، فقمعت كل رغبات ابنتها، وأجبرتها على العيش ضمن قالب مثالي خالٍ من الأخطاء، واعتبرتها فرصتها لتحقيق ما عجزت هي عن تحقيقه.
هذا ما جعل الابنة ضعيفة غير قادرة على مواجهة العالم، حتى انتصرت البجعة السوداء داخلها في النهاية، واستعادت صفتها البشرية التي تحكمها الرغبة قبل أي شيء آخر.
وهذه النقطة بالذات أشار إليها الطبيب النفسي طارق عبد، وأكد على أهميتها، “أن غيرة الأم من ابنتها واحدة من أهم المشاكل التي قد تظهر في حال معاناة الأم من بعض المشاكل النفسية”.
"لن أسامح أمي"
تقول سارة (24) عام: “لم أكن أفهم أمي عندما كنت صغيرة، لم أكن أفهم لماذا هي ضعيفة لهذه الدرجة، لم أعرف لماذا لم تكن ترفض كل الظلم الذي يقع فوق رأسها، وبعد أن كبرت فهمت كم كانت أمي قوية، أخيراً سامحتها لأني فهمتها جيداً، وفهمت أن كل ما فعلته كان للحفاظ علينا. بالتأكيد لا أتمنى أن تكون حياتي مثل حياتها. ضعفها في الحقيقة هو اليوم مصدر قوتي”.
ويتابع الباحث الاجتماعي، ماهر راعي حديثه، مؤكدا على أن الأمهات في نهاية المطاف هن نتاج لمجتمعاتهن وللثقافة التي تحكم هذه المجتمعات، وبتعبير أكثر إنصافاً هنّ نتاج هذا الخراب الكبير في بنى العالم، فالأم ليست إلا أنثى تنتمي لمنظومة مشوهة، منظومة تحكمها القوة الذكورية، التي تفرض سلطتها بالقوة والقسوة غير المبررة.
ويضيف: “نجد الأم قد تخلت عن أنوثتها لصالح فرض سلطتها وإرادتها على أبنائها، من خلال التماهي مع الدور الذكوري القوي الذي كانت هي نفسها ضحيته، وبالتالي ستعيد إنتاج نفس المعاناة، وهذا حكماً سيؤدي إلى تربية جيل مشوّه ومسلوب الإرادة الحرة في مرات كثيرة”.
ويكمل بأن، هذا يعني شيئاً واحداً، أننا جميعاً أمهات وأبناء في خانة واحدة، لذلك كان من الضروري جداً أن يفهم الأبناء أمهاتهم، لأن هذا الفهم سيؤدي للمسامحة، هذه المسامحة الضرورية جداً لتحقيق التوازن الداخلي الذي يحتاجه الإنسان.
مؤكداً على، أن هذه المسامحة تنطوي على بعد آخر وأهم، فهي قبل أن تكون مسامحة للأم، ستكون مسامحة للنفس، فالعلاقة مع الأم هي إحدى أقوى العلاقات التي تحكمنا كبشر، علاقة يحكمها من الأصل ارتباط خارج عن إرادتنا، ارتباط لا مثيل له، ولا يشبهه أي ارتباط آخر.
ويختم، بأن هذه الدرجة من التماهي تجعلك تدرك أنك إن لم تتمكن من مسامحة أمك، فلن تتمكن من مسامحة نفسك، وهذا ما سيشعرك بالقلق دائماً، ويبعدك عن الشعور بالسلام الداخلي.
تقول أمل (27) عاماً: “أحاول أن أسامح أمي وخاصة بعد أن سافرت وصرت وحيدة لكني غير قادرة. الظلم والقسوة والجبروت الذي غالباً ما كانت تعاملنا به أصبح جزءاً كبيراً من ذاكرتي، لم أحظ يوما ببعض التقدير منها”.
تتابع حديثها، “كانت تدمرني في كل مرة تقارني بها بأحد أولاد إخوتها، لم تصدق دموعي، ففي الوقت الذي كنت أنتظر منها حضناً كبيراً، كانت تردد بكل قسوة وهي تنظر مباشرةً في عيني قائلة، بكفي تمثيل”.
تقول هبة عن علاقتها بأمها:"أشعرتني دائماً بعقدة الذنب، كل ما أقوم به خاطئ، كل المشاكل سببها".
وتضيف: “أنا الآن ناجحة في عملي، أحاول التغلب على الكثير من المشاكل النفسية التي خلفتها علاقتي السيئة بأمي وأهمها القلق والتعلق المرضي بالآخرين والخوف المبالغ به من الهجران، بالطبع لا أكرهها لكني لا أحبها أيضاً”.
يتابع الدكتور طارق عبد كلامه قائلاً: “تتعقد علاقة الأم مع أبنائها إذا كانت الأم تعاني من المشاكل النفسية، أو حتى بعض الاضطرابات الشخصية التي لا تصنف كمرض نفسي كالشخصية النرجسية مثلا، فالأم النرجسية والتي يمكن اعتبارها الأخطر على الأبناء وصحتهم النفسية، لا ترى في أفعالها ما يؤذي أولادها، فهي تبحث عن مصلحتها بالدرجة الأولى”.
إضافة إلى هذا يكمل: “فإن بعض الأساليب التربوية التي تتبعها الأمهات أو الآباء عموماً تنطوي على الكثير من الآثار السلبية، كالابتزاز العاطفي، أو الرشوة العاطفية كما أطلق عليها فرويد، القائمة على مبدأ على الاشتراط على الطفل، إذا قمت بهذا الشيء سأعطيك مقابل، إن لم تقم به لن أعطيك شيئاً”.
ويوضح أن، هذا في الحقيقة يُشعر الطفل بأن عليه دفع مقابل دائماً ليصبح محبوباً ومقبولاً، ولأن أمه بالنسبة له الشخص الأهم في حياته سيفعل كل شيء ليكسب رضاها، وهو ما يتعزز لدى الابن عند الكبر، فتتولد الشخصية الخائفة، القلقة، المنعزلة، التي تسعى دائماً لاسترضاء الآخرين لتكسب محبتهم.
أطلق عالم النفس التطوري إريك إريكسون، على الثقة التي تنشأ بين الأم وطفلها نتيجة العلاقة الإيجابية بينهما اسم الثقة الأساسية، وهذه الثقة تعتمد بشكل أساسي على جودة العلاقة بين الأمهات وأطفالهن.
كما أشار إلى أن نبذ الأم لطفلها، يجعله في خوف دائم، فمن من المفروض أن تكون الأم مصدر الأمان لطفلها لكنها تصبح بذلك القلق، فيصير العالم الذي يتخيله عالماً خطراً ومخيباً للآمال.
وأشارت دراسة علمية، أجراها عالم النفس بيرسيفال سيموندز، إلى أن الأطفال المنبوذين بالتأكيد ستظهر عليهم واحدة من الأعراض التالية في المستقبل: العدوانية، السرقة، الكذب، الشعور بالاضطهاد، لعب دور الضحية.
كما أكد العالم البريطاني جون بولبي، على أن الأشخاص الذين عانوا من مشاكل مع أمهاتهن يطورون أسلوب ارتباط غير آمن مع الآخرين، بحيث يعانون من اضطرابات التعلق التي تظهر في ثلاث أشكال: النمط القلق، النمط الخائف، النمط الرافض.
أنا وأمي.. عقدة ذنب لا تنتهي
تتكون عقدة الذنب عند الإنسان بفعل التربية الخاطئة التي يتلقاها في طفولته المبكرة، فالإسراف الذي تقوم به كثير من الأمهات بالتأنيب والعقاب وإشعار ابنها، في حال أخطأ أنه ارتكب إثماً لا يغتفر يساهم في تضخيم الضمير عند الأبناء فيبالغ في محاسبة نفسه ولومها على أقل فعل يقوم به، وفي حال اقترنت هذه العقدة مع رغبات تخالف معايير المجتمع تتعمق أكثر، وقد تدفع صاحبها للانتحار أو الانعزال أو الإدمان.
وهذا بالفعل ما أكدت عليه هبة (32 عامًا) التي تابعت حديثها عن أمها بالقول:”أشعرتني دائماً بعقدة الذنب، كل ما أقوم به خاطئ، كل المشاكل سببها أنا، حتى الآن أنا بالنسبة لها البنت الفاشلة التي لا تعرف كيف تربي أولادها، ولا تعرف أخذ الخيارات الصحيحة، فأي خيار لا يناسبها هو خيار خاطئ”.
يبدو أن الصورة النمطية التي تم تكوينها عن الأم وعلاقتها بأبنائها، ساهمت بشكل كبير بزيادة تعقيد هذه العلاقة، التي لن يختلف اثنان على كونها العلاقة الأكثر أثراً في حياتنا كبشر، لدرجة اعتبارها من قبل بعض علماء النفس ومن بينهم نانسي فرايدي مجرد أسطورة.
My cousin told me about this website, but I’m not sure whether he created this post because no one else understands my issues as well as he does. Thank you; you are very fantastic.
المبدعة رهام.. مواضيعك رائعة ومميزة كالعادة.. فخور جداً 💜💜
مقالة شاملة و مميزة، اشكرك جزيل الشكر رهام
جميل ورائع