دخلت الحرب على غزة شهرها الخامس والدعم الفني المصري لفلسطين لم يتوقف، إنها علاقة قديمة جمعت بين تكوين شخصية المصري وبين قضية احتلال فلسطين وطرد شعبها منذ الثلاثينيات؛ حيث أدت هذه الظروف بأبعادها الاجتماعية والسياسية والدينية المختلفة إلى دفع الفنان المصري للوقوف صفًا واحدًا ضد إسرائيل.
إنه ارتباط مصري بفلسطين ليس وليد اللحظة؛ بل حدث توازيًا مع حروب مصر والفلسطينيين والعرب ضد إسرائيل منذ الأربعينيات في مواجهات عسكرية وسياسية وثقافية، أوجدت رباطًا روحيًا بين الشعبين المصري والفلسطيني من جهة، ورباطًا ماديًا في الوحدة بشعور واحد ضد خصم واحد من جهة مختلفة، والذي أوجد هذه الرباط شعور المصري والفلسطيني بهوية مشتركة جمعت بينهم في التاريخ منذ ولايتهم تحت مظلة واحدة، من عصر الخلافات العربية والأموية والعباسية والمملوكية والعثمانية، وصولاً لفترة الانتداب البريطاني على فلسطين، والتي توازت مع احتلال بريطانيا لمصر هذا التوقيت.
فالذي يصنع هوية الشعوب ليس فقط اللغة والدين؛ بل المكان والتاريخ المشترك، ولأن مصر وفلسطين تجمعهما حدود جغرافية وتاريخ مشترك، لم ينفصل شعور المصري عن الفلسطيني منذ قرون، حتى قبل ظهور الإسلام كانت العلاقة ممتدة في العصور المصرية القديمة، مرورًا بالاحتلال اليوناني البطلمي والفارسي والروماني، إنه سحر المكان والجغرافيا الذي أوجد هذا التاريخ المشترك ليصبح عنصرًا أساسيًا لتكوين هوية واحدة عند الشعبين.
في هذا السياق ظل اليهود والمسيحيون والمسلمون عناصر أساسية في تكوين شعوب مصر وفلسطين منذ قرون؛ فتميزت العلاقة على مستوى الدين بوحدة المصير الذي ظهر بوضوح في مرحلة الحروب الصليبية، واجتماع الشعبين على اختلاف أديانهم ضد الغازي الأوروبي الأجنبي، لكن مؤخرًا ومنذ القرن 20 م، تغيرت الأحوال نوعًا ما بقدوم الحركة الصهيونية الراديكالية، والتي تحدثنا عنها في مواطن بعدة دراسات ألقينا فيها الضوء على الحركة من زوايا مختلفة هنا و هنا و هنا و هنا و هنا و هنا.
فلسطين في السينما المصرية
أدى قدوم الحركة الصهيونية لفلسطين وما يلحقها من ظواهر عنف دينية وقومية واستيطان أجنبي ومجازر للشعور بالخطر بين الشعبين المصري والفلسطيني، نظرًا لما قلناه بوحدة المصير وشعورهم بهوية مشتركة، لذا فقد سارع المصريون لترجمة هذا الشعور منذ بداياته على مستويات مختلفة من السياسة والاقتصاد والثقافة والدين والفنون، والشق الفني الأخير تم التعبير عنه بعدة أعمال رافقت الحرب العربية الإسرائيلية الأولى المعروفة بالنكبة.
وباستعراض التاريخ الفني المصري نجد أنه وفي عام 1948 أخرج “محمود ذو الفقار” فيلمًا من بطولته بعنوان “فتاة من فلسطين” بالاشتراك مع الفنانة “سعاد محمد”، وتدور قصته حول طيار مصري يحارب إسرائيل دفاعًا عن فلسطين، وبعد 5 سنوات أخرج “نيازي مصطفى” فيلم أرض الأبطال إنتاج عام 1953 من تأليفه، بالاشتراك مع جمال فارس، وبطولة كوكا وجمال فارس، وتدور قصته عن قضية الأسلحة الفاسدة التي فجرتها الصحافة المصرية بعد حرب 48، لكن في إطار رومانسي جذاب عن قصة حب بين مصري وفلسطينية من غزة.
وبعد 7 سنوات كتب الأديب “إحسان عبدالقدوس” فيلم الله معنا إنتاج عام 1955، والذي قام ببطولته الفنان “عماد حمدي” والفنانة “فاتن حمامة” من إخراج “أحمد بدرخان”، وتدور قصته حول اشتراك مصر في حرب 1948 بعد قيام دولة إسرائيل، وبعد هذا الفيلم بعامين اثنين أخرج “كمال الشيخ” فيلم أرض السلام إنتاج عام 1957، والذي قام ببطولته الفنان “عمر الشريف” والفنانة “فاتن حمامة”، وتدور قصته حول معارك الفدائيين من أجل تحرير فلسطين.
أدى قدوم الحركة الصهيونية لفلسطين وما يلحقها من ظواهر عنف دينية وقومية واستيطان أجنبي ومجازر للشعور بالخطر بين الشعبين المصري والفلسطيني، نظرًا لوحدة مصيرهم وهويتهم المشتركة.
ثم في الستينات ظهر واحد من أشهر الأفلام التي ربطت بين العرب جميعهم وبين فلسطين، هو فيلم “الناصر صلاح الدين“، إنتاج سنة 1963م ومن إخراج “يوسف شاهين، وبطولة كوكبة كبيرة من الفنانين؛ منهم أحمد مظهر وصلاح ذو الفقار ونادية لطفي وليلى فوزي وغيرهم، وجميعهم كانوا نجوم شباك المرحلة، وجمعهم في هذا العمل الفني كانت له دلالات سياسية وشعبية وفكرية، يستعرض فيه قصة حروب “صلاح الدين الأيوبي” في فلسطين ضد الحملات الصليبية؛ في استدعاء لرمزية المواجهة ضد إسرائيل، وتعميم تلك المواجهة لتصبح عربية إسرائيلية وليست خاصة بفلسطين وحدها؛ فالإسقاط الرمزي في الفيلم يشير إلى إسرائيل بوضوح؛ فقد احتلت فلسطين بدواع وحجج وأسباب دينية، وهي نفس الدواعي والحجج والأسباب الدينية التي حملت الصليبيين للهجوم على الشرق الأوسط واحتلال فلسطين بالخصوص، والسيطرة على أورشليم القدس بالذات.
جاءت نكسة 1967 لتُعزز وضعية إسرائيل كعدوّ للمصريين؛ فظهرت عدة أعمال سينمائية تناقش هذا الحدث بأسلوب عاطفي وفلسفي وعسكري؛ منها “أغنية على الممر” سنة 1972 إخراج “علي عبدالخالق”، والذي يحكي معاناة مجموعة جنود مصريين مُحاصَرين بعد الهزيمة، وكذلك “ثرثرة فوق النيل” سنة 1971 عن رواية للأديب العالمي “نجيب محفوظ”، وفيها ربط بين عدة أزمات مختلفة يعاني منها المصري في الداخل مع فشله في الحرب ضد إسرائيل، وبالطبع فلسطين حاضرة بوصفها منبع الصراع ومرتكزه الأول، الذي شهد أول مواجهة بين الجيشين المصري والإسرائيلي في الأربعينيات.
ثم جاءت حرب 6 من أكتوبر 1973 لتُعزز هذه الوضعية التي صارت فيها إسرائيل هي عدو المصريين الأول؛ فظهرت أعمال سينمائية تُحاكي هذا الانتصار من روح وطنية قومية، وإن لم تتعرض لقضية فلسطين، لكنها عبّرت عن عمق الخلاف المصري الإسرائيلي؛ فصنع المصريون أفلام “الرصاصة لا تزال في جيبي” سنة 1974 بطولة محمود ياسين وحسين فهمي؛ وفيلم “بدور” في نفس العام 1974م بطولة نجلاء فتحي ومحمود ياسين، و”الطريق إلى إيلات” سنة 1994م، بطولة عزت العلايلي ونبيل الحلفاوي، و”48 ساعة في إسرائيل” سنة 1998م بطولة نادية الجندي، ومؤخرًا فيلم “الممر” سنة 2019 بطولة أحمد عز وإياد نصار.
ثم اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل فانخفض الجهد الفني لمحاكاة هذا الصراع سينمائيًا، لكنه انتقل للدراما التوثيقية التاريخية؛ فظهرت مسلسلات “دموع في عيون وقحة” سنة 1980م بطولة عادل إمام وإخراج يحيى العلمي، ومسلسل “رأفت الهجان” سنة 1987م بطولة محمود عبدالعزيز وإخراج يحيى العلمي، ومسلسل “السقوط في بئر سبع” سنة 1995م و”الحفار” سنة 1996م … وغيرها.
الشيء المميز لهذه الأعمال أنها جمعت بين أساليب المتدينين والقوميين في مواجهة الاحتلال الصهيوني وداعميه؛ حيث جمع المصريون خليطًا بين نظريات الجهاد الديني المقدس والجهاد بدوافع أخرى قومية ووطنية، ورفع شعارات التحرير ومقاومة الاستعمار، مرحلة زمنية شكلت وعي ثلاثة أجيال منذ النكبة عام 1948 وحتى الآن بالنظر إلى الصهيونية كعدوّ أول للمصريين، جمع بين معظم الأعمال الشريرة التي يمكن فعلها بالتاريخ من مجازر وقتل أبرياء وأطفال ونساء، وسرقة أراضٍ ورشوة وكذب وسطو مسلح؛ فمن الطبيعي أن يُترجَم هذا الشعور القومي المصري إلى أعمال فنية كانت وما تزال تتناول شخصية الصهيوني والإسرائيلي بكثير من الاحتقار والمقت.
فأدى ذلك إلى تشبع الفنان المصري بجوهر ما ينتجه من أعمال عايشها بجسده وشعوره وعقله وضميره وعواطفه، وهو الفارق بين طبيعة الفنان والشخص العادي؛ حيث يتلمس الشخص العادي ثقافته من المحيط الاجتماعي والإعلام، لكن الفنان يصنع هذه الثقافة بنفسها ويشعرها ويترجمها بجسده ولسانه.
فلسطين في الأغنية المصرية
لم يتوقف دور الفنان المصري في تناول قضية فلسطين على الممثلين؛ بل تجاوز دائرة التمثيل والأدب، وارتقى في بعض مراحله للغناء والطرب بغرض الحشد والصمود، مثلما غنت المطربة سيمون حديثا أغنية “رمز الصمود” بالصوت والصورة في أحدث كليباتها على يوتيوب العام الماضي، وفي الأغنية مشاهد مأساوية لمعاناة الفلسطينيين في قطاع غزة، والتي بدأت منذ يوم 7 من أكتوبر الماضي 2023، مع طابع حُزن مناسب لآلام الحدث.
وفي حديث خاص مع المطربة والفنانة سيمون قالت لي عن هذا العمل إنها تشكر أي عمل صادق عن حق الإنسانية، وأضافت أن هذه الأغنية ليست الأولى، ولكنها أنجزت من قبل مسرحية سكة السلامة سنة 2000 مع الفنان الكبير “محمد صبحي”، والتي تدور قصتها في سيناء باستعراض مفاهيم التوبة والمعاناة مع استعراض الصراع ضد إسرائيل. وكذلك أنجزت من قبل مسلسل “فارس بلا جواد” عام 2000، والذي تدور قصته عن صحفي مقاوم للاحتلال الإنجليزي يتعرض في بعض محطات حياته للاحتلال الصهيوني لفلسطين، وأنهت المطربة حديثها معي بأمنياتها أن يعم السلام بحق وكرامة بدعم الجميع.
ويذكر التاريخ أن الوسط الفني المصري أنجز عدة أعمال غنائية رافقت أحداث سياسية ضد إسرائيل؛ منها الانتفاضة الفلسطينية عام 2000، والتي صنع فيها المصريون أوبريت “القدس هترجع لنا“، من بطولة وتمثيل وغناء كوكبة كبيرة من الفنانين والمطربين المصريين، أشهرهم هدى سلطان وفاروق الفيشاوي ومحمود ياسين وغيرهم، وأغنية “على باب القدس” لهاني شاكر، و”القدس دي أرضنا” لعمرو دياب، وكذلك أغنية ” عربية يا أرض فلسطين” سنة 1998م من غناء “آمال ماهر” وألحان “عمار الشريعي” ردًا على عدوان إسرائيل الاستيطاني آنذاك على القدس، وقبل ذلك أغنية “المسيح” لعبدالحليم حافظ” بعد نكسة 1967.
وفي نفس السياق الغنائي أنشدت كوكب الشرق أم كلثوم أغنية “أصبح عندي الآن بندقية“، والتي يقول مطلعها “إلى فلسطين خذوني معكم”، من أشعار “نزار قباني” وألحان “محمد عبد الوهاب”. وقد خرجت هذه الأغنية في سياق حرب الاستنزاف سنة 1969، وهو نفس العام الذي أحرق فيه المتطرفون الصهاينة المسجد الأقصى، مما يدل على مركزية ومحورية الصراع بفلسطين في تشكيل وعي الفنان المصري وارتباطه وجدانيًا وثقافيًا بهذا المكان.
وفي تحقيق لجريدة الشروق المصرية، ذكرت “الشيماء أحمد فاروق” عدة أغانٍ مصرية عن فلسطين، منها أغنية “فلسطين” سنة 1948 لمحمد عبد الوهاب، والتي غناها بعد مذبحة “دير ياسين”، وكذلك غنى محمد قنديل من ألحان أحمد صدقي بعد عدوان عام 1956”غزة.. غزة.. إحنا فداها“، كما قدم “قنديل” أكثر من أغنية؛ منها “شعبك راجع يا فلسطين”، و”طير يا طاير”، وفي أغنية “يا ويل عدو الدار” يحرض ضد الاحتلال ويحفز المستمعين على استرجاع الأراضي مهما كانت النتائج، حتى وإن سقط العديد من الشهداء. كما غنى أغنية أخرى بعنوان “القدس”، كما غنى سيد مكاوي من كلمات الشاعر فؤاد حداد “ازرع كل الأرض مقاومة“، وغنى الثنائي أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام أغنية “يا فلسطينية”، وكذلك عبدالحليم حافظ، الذي غنى عام 1955 تحت عنوان “ثورتنا المصرية”، تأليف مأمون الشناوي وألحان رؤوف ذهني، والتي يقول فيها “ضد الصهيونية.. بالمرصاد واقفين، وهاترجع عربية.. حبيبتنا فلسطين”.
والحقائق التي أبرزتها هذه الأفلام والمسلسلات والأغاني والأوبريتات الفنية، تكمن في اعتبار فلسطين “شأنًا مصريًا” وليست شأنًا خارجيًا لا يهم الرأي العام الداخلي هذه الحقبة؛ فهناك عدة عوامل جمعت بين الشعب المصري وفنانيه وبين قضية فلسطين، منها العامل القومي والديني واللغوي مثلما تقدم، إضافة للعامل الجغرافي الذي مسّ الأمن القومي المصري بنشاط صهيوني عدواني على الحدود، أدى لاندلاع عدة حروب مباشرة بين مصر وإسرائيل في أعوام 1948 و1956 و1967 و1973م.
والمُلفت في تناول المطربين المصريين لقضية فلسطين أن تناولهم للقضية جَاوَز فكرة التمثيل الأدبي للعاطفة الجياشة، والحب الذي يميز شخصية المطرب والمؤلف والملحن؛ فالعامل الموسيقي هو خطاب للضمائر والعواطف قبل أن يكون خطابًا للتذوق والمتعة، وفي السلم الموسيقي عدة مقامات يُجيد المُلحّنون في استخدامها لإيصال معاني الحُزن والعطف والشجن والفَقد والحنين المُصاحبة لأفعال الإنسان المختلفة؛ من العنف والقهر والظلم؛ فرسالة المطربين هنا تكاد تكون أبلغ من رسالة الممثل إذا أجيد استخدامها بكلمات بليغة وألحان عبقرية توصل هذه المعاني بسرعة، دون اجتهادات أدبية في قالب قصصي أو تشويقي.
تقصير معاصر في الاهتمام السينمائي والدرامي المصري بفلسطين
حقيقة وبرغم أن الصراع المصري الإسرائيلي تم تصويره فنيًا وتغطيته بعشرات الأعمال، لكنه بعد اتفاقية السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979 لوحظ انخفاض حاد في الاهتمام بقضية فلسطين بالوسط الفني المصري، و انحسر الاهتمام الفني بتصوير الصراع دراميًا في غالب أحواله على أنه صراع مصري إسرائيلي قديم فقط، يجري نقله وتوثيقه بشكل تاريخي لا غير، مثلما ترجم ذلك في أعمال الجاسوسية المختلفة، لكن الإشارة على أن هذا الصراع تابع أو مرتبط أو جزء من صراع عربي إسرائيلي أو فلسطيني إسرائيلي انخفض للغاية.
ففي تحقيق حديث لجريدة Daily News Egypt قال عمر عبد العزيز، رئيس اتحاد النقابات الفنية: “إن السينما المصرية جزء لا يتجزأ من الدولة المصرية التي ساندت القضية الفلسطينية منذ نشأتها، بدءً من جيشها الذي دافع عن فلسطين في حرب 1948 وحتى اليوم. لا يمكن إنكار أن القضية أهملت لسنوات، لكن ما يحدث في غزة اليوم أحياها وجعلها تصعد في قلوب العرب جميعًا، وأوضح أن مسألة قلة أو ندرة الأعمال التي تسلط الضوء على فلسطين وما يحدث هناك، لا تخضع لسلطة الفنان؛ بل لقرار الإنتاج”.
ويقول أيضًا المخرج “محمد داوود” في نفس السياق: “إن القضية الفلسطينية بكل أحداثها وبطولاتها وأمجادها، لم تحظ في السينما المصرية بالاهتمام الذي تستحقه، وهذا أمر طبيعي بالنسبة للضمير الفني الذي يحتاج إلى بعض الوقت حتى يستلهم الكاتب وينتج لنا عملًا فريدًا، ومن ثم يهتم المنتج، ونتيجة لذلك يجتمع سائر فريق العمل. إن صنع فيلم سينمائي في هذا السياق يستغرق وقتًا طويلاً. باختصار، الفن يراقب أولاً، ثم يقدم الأحداث التي يلاحظها في الأعمال الفنية”.
وفي تقديري أن خسارة يهود مصر وهجرتهم الكبيرة للخارج لم تتوقف نتائجها السلبية حول فقدان عنصر هام من الأمة المصرية فحسب؛ بل لفقدان ذراع عربي مصري قوي من الأّذرع الناعمة التي يمكن لها أن تؤثر في إسرائيل بأشكال مختلفة، أو تصبح حلقة تواصل فكرية وثقافية وشعبية فيما بعد، تحاصر متشددي الصهاينة والإسلام السياسي في وقت واحد.
ويقول الفنان حسن العدل: “السينما العربية لم تلعب دورها بالشكل الصحيح في القضية الفلسطينية. إذا أردنا أن نخدم هذه القضية بالسينما؛ فعلينا أن نتعمق في جذور القضية، الأمر الذي سيقودنا حتمًا إلى استنتاج مفاده أنه لا يوجد شيء اسمه دولة إسرائيل، فلسطين هي الاسم الحقيقي لهذه البقعة المباركة من الأرض، وعلى الإسرائيليين أن يذهبوا ويبحثوا في أوراق جولدا مائير، وسوف يجدون جواز سفرها الذي دخلت به الأرض العربية الفلسطينية قبل أن تنسج العصابة الصهيونية شباكها حول الأرض وتنفث سمومها في كل مكان”.
ويتأكد من ردود هؤلاء أن حرب غزة الجارية سوف تدفع كثيرًا من المنتجين للاهتمام بقضية فلسطين مرة أخرى، والعودة عن القصور الحاصل في التعاطي الذي ميز مصر فنيًا بعد اتفاقية السلام سنة 1979، وبعدما شوهدت مظاهرات المصريين ضد الحرب على قطاع غزة، والتضامن الواسع في مهرجان الجونة السينمائي في دورته الأخيرة بإقامته دون مراسم احتفالية، وبملابس سوداء في الغالب أشبه بالعزاء، وبوضع اسم “نافذة على فلسطين” كعنوان للمهرجان. يبدو أن العديد من فناني مصر ومبدعيها يَطمحون في إنجاز وتصوير الصراع مع إسرائيل من زاوية فلسطين مرة أخرى، في تحول قد يكون جذريًا ليُعيد أجواء الأربعينيات والخمسينيات من جديد.
يهود مصر والفن
أما يهود مصر ونظرًا لدورهم في صناعة الفن المصري، ولارتباطهم شكليًا ودينيًا بإسرائيل، لكنهم عمليًا تصرفوا بطريقة مختلفة؛ فلم يندفعوا للهجرة آنذاك لإسرائيل، وظل أغلبهم يعملون بالسينما المصرية حتى الخمسينيات والستينيات، ومن أمثلة هؤلاء الفنانين المصريين اليهود الذين ساهموا في صناعة السينما بمرحلة مبكرة “نجمة إبراهيم وشقيقتها سيرينا إبراهيم، واستيفان روستي وكاميليا وليلى مراد وشقيقها منير مراد وصالحة قاصين وشقيقتها جريسيا قاصين وفيكتوريا كوهين وإستر شطاح وراقية إبراهيم وإلياس مؤدب والفنان الكوميدي نجم الثلاثينيات شالوم والمخرج توجو مزراحي.. وغيرهم.
ولتفسير بقاء هؤلاء في مصر بعد حرب قيام دولة إسرائيل يقول د. محمد أبو الغار في كتابه “يهود مصر في القرن العشرين كيف عاشوا وكيف خرجوا“: “تذكر المصادر التاريخية اليهودية أنه من مجموع نحو 75 ألف يهودي كانوا يعيشون في مصر في الثلاثينات والأربعينات، هاجر 20 ألفًا بعد عام 1948، ثم من 40 – 50 ألفًا بعد حرب السويس في 1956، وكانت قرارات التأميم في عامي 1961 و1962 هي الضربة التي أخرجت آلافًا عدة أخرى، وبعد حرب 1967 غادر من تبقى. وفي الثمانينيات كان في مصر أقل من ألف يهودي معظمهم من كبار السن، وفي نهاية العقد الثاني من القرن الواحد والعشرين لم يبق من اليهود المصريين سوى أفراد قلائل”.
أما من هاجر لغير إسرائيل من الدول الأوروبية والأمريكتين، ولم يُهاجر سوى بعد أن خُلقت له عوامل إرهابية بفعل فاعل ذكرها عبدالوهاب المسيري في كتابه “الصهيونية والعنف” صـ 101؛ حيث قال: “يمكن أن نرى هجرة يهود العالم العربي، وخصوصًا يهود العراق، على أنها عملية تهجير قام بها الصهاينة بخلقهم الظروف الموضوعية والبنيوية التي اضطرت أعضاء الجماعة اليهودية الى الهجرة، مثل وضع القنابل في المعبد اليهودي في العراق ، أو تجنيد بعض يهود مصر لوضع قنابل في السفارات الأجنبية، وهو ما أدى الى تدهور وضع الجماعات اليهودية في مصر”.
وبهذا الاعتراف من المسيري فيهود مصر كانوا مثل بقية الشعب المصري غير متعاطفين مع إسرائيل، لكن تجنيد البعض منهم في أعمال إرهابية مخطط لها، إضافة للأحداث السياسية والحروب المتعددة بين مصر وإسرائيل في الخمسينيات والستينيات أدى لنشوء موجة تعصب طائفي وقومي في مصر ضد اليهود دفعت أغلبهم للهجرة.
فكان هؤلاء هم ثاني ضحايا إسرائيل في الشرق الأوسط بعد الفلسطينيين؛ حيث جرت هجرة اليهود من دولهم العربية على دفعات، ذهب أغلبهم إلى الدول الغربية، والقليل منهم لإسرائيل؛ فحدث تحول ديموغرافي أثر على الثقافة بشكل سلبي؛ حيث تبنى العرب موقفًا متشددًا ضد اليهود، وفي أدبياتهم جرى تصوير اليهودي بشكل سلبي. لكن بقي الفن المصري بمعزل عن هذه الأدبيات لطابعه المدني الأول، والذي جرى تأسيسه على يد خليط من اليهود والمسيحيين والمسلمين المصريين؛ فظل الوسط الفني المصري على موقفه المتسامح مع اليهود، لكنه لم يكن كذلك ضد الصهيونية.
وفي تقديري أن خسارة يهود مصر وهجرتهم الكبيرة للخارج لم تتوقف نتائجها السلبية حول فقدان عنصر هام من الأمة المصرية فحسب؛ بل لفقدان ذراع عربي مصري قوي من الأّذرع الناعمة التي يمكن لها أن تؤثر في إسرائيل بأشكال مختلفة، أو تصبح حلقة تواصل فكرية وثقافية وشعبية فيما بعد، تحاصر متشددي الصهاينة والإسلام السياسي في وقت واحد؛ فساهمت الهجرة اليهودية بنتائجها الوخيمة في تقوية الصهيونية بإسرائيل والغرب، بينما في المقابل أدت إلى تقوية جماعات الإسلام السياسي والمتشددين عند العرب، والذين استفادوا من هذه الهجرات في تعزيز نظرية المؤامرة اليهودية على الأمة، وتصوير هذه الهجرات ليس لكونها مجرد انتقال من بلد إلى بلد؛ بل هروبًا من المعركة وانضمامًا إلى معسكر الأعداء فيما يمكن توصيفه بالخيانة!
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
This entrance is unbelievable. The splendid information displays the proprietor’s commitment. I’m overwhelmed and envision more such astounding sections.