بعد قتل والده على يد قوات الاحتلال الإسرائيلية في غارة جوية على سوق شعبي شمال قطاع غزة؛ وجد أنس العاصي (١٣عامًا)، نفسه أمام مسؤوليات كبيرة؛ فبات أبًا لإخوته الأربعة، ومعيلًا لوالدته، ومسؤولًا عن تلبية مستلزمات الأسرة.
يبلغ العديد من الأطفال في القطاع مبلغ الرجال، ويتحملون أعباء لا طاقة لهم على تحملها، لتعلو آثار وملامح الصدمة والأضرار المدمرة نفسيًا على وجوه الكثير منهم، إلا أنه أصبح أمرًا عاديًا، مع سنوات الحصار المتواصلة من الاحتلال.
“أفعل كل ذلك لتأمين معظم متطلباتنا المعيشية، مبلغ قليل أفضل من لا شئ”. ويشعر أن عمله شاق جدًا، ويفوق طاقته، لكنه بات مجبرًا على تحمل مسؤولية كبيرة، وتحمل أعباء توفير احتياجات أسرته.
"ما حصل معي لم يكن حلمي على الإطلاق؛ فطالما تمنيت أن أعيش طفولتي بحرية وأمان كبقية الأطفال حول العالم، لكن ظروف الحرب أجبرتني والكثير من الأطفال الذين فقدوا ذويهم للعمل في مهن شاقة"
“لو بقى أبي والذي كان يعمل في مجال الخياطة على قيد الحياة، لما سمح لى بالعمل في هذه المرحلة على الإطلاق؛ خشية من أن يؤثر ذلك على تحصيلي العلمي، ولكن استشهاده تسبب في تعاظم المسؤولية التي كانت ملقاة على كاهله اتجاهي؛ فلا معيل لعائلتي غيري خلال هذه الحرب الصعبة”. حسبما وضح.
أعمال تفوق القدرات الجسدية
ولا يختلف هذا الحال عن الطفل شوقي ماضي (١١ عامًا)، والذي يعمل بائعًا متجولًا للشاي والقهوة داخل الأزقة والطرقات بمنطقة القصاصيب شمال غزة، على الرغم من خطورة الحركة والتجول في هذه المنطقة، والتي تشهد قصفًا اسرائيليًا مستمرًا.
فقد والديه بعد قصف الاحتلال منزل عائلته في بلدة بيت لاهيا؛ فيما نجا الطفل وثلاثة من إخوانه بعد انتشالهم من قبل الأجهزة المعنية من تحت أنقاض منزلهم المدمر، وقد أصيبوا بجروح مختلفة.
أصبح هو الأب والأم لأشقائه فجأة، وبات ملزمًا، ومثقلاً بعبء كبير لتوفير متطلباتهم المعيشية، وهو الأمر الذي يضعه في موقف صعب للغاية. وذلك حسبما بين لمواطن.
“ما حصل معي لم يكن حلمي على الإطلاق؛ فطالما تمنيت أن أعيش طفولتي بحرية وأمان كبقية الأطفال حول العالم، لكن ظروف الحرب أجبرتني والكثير من الأطفال الذين فقدوا ذويهم للعمل في مهن شاقة، تفوق أعمارهم وقدراتهم الجسدية”. أضاف شوقي.
ويحصل خلال عمله لما يزيد عن ١٢ ساعة يوميًا ما بين ٣٥ إلى ٤٠ شيكل، (١٠ دولارات أمريكية)، وهو مبلغ غير كاف لتوفير بعض المستلزمات الضرورية لعائلته في ظل الارتفاع المتزايد في أسعار السلع الأساسية.
وحذرت منظمة اليونسيف من أن تصاعد الأعمال العدائية في قطاع غزة، يفضي إلى تأثيرات كارثية على الأطفال والأسر؛ إذ يموت الأطفال بمعدل مقلق؛ حيث قُتل الآلاف وأصيب آلاف آخرون بجراح.
ولا يخفي الطفل الفلسطيني سوء الحالة النفسية التي يعانيها، والتي تزداد يومًا بعد يوم في ظل استمرار الحرب والقصف الإسرائيلي.
العمل قسرًا
بملامح حزينة وجسد نحيل يبدو عليه الإرهاق، تجلس الطفلة سارة الشامي (١٤ عامًا)، على باب خيمة عائلتها البالية، تجهز الحطب لإشعال النار، وذلك لتحضير وجبة الغذاء لأشقائها الخمسة”.
وجدت نفسها أمام تحديات كبيرة، بعد مقتل والديها داخل إحدى المدارس التابعة لوكالة الغوث (الأونروا)، وتعمل في بيع السكاكر في السوق الشعبي المجاور لخيمتها، لقرابة ٨ ساعات متواصلة، وذلك لتأمين بعض من الطحين والخضار لأسرتها.
“لا أستطيع تحمل مثل هذه الأعباء، وفي نفس الوقت لا يمكنني ترك إخوتي يموتون جوعًا؛ فقد أصبحت الأم والأبَ لهم، وباتوا يعتمدون عليّ لتأمين قوت يومهم”. تقول سارة لمواطن.
“أعيش وأشقائي في حالة رعب مستمر، وتحديدًا خلال ساعات الليل؛ فلا يوجد كهرباء أو مصدر إضاءة داخل خيمتنا؛ حيث نبقى غارقين في الظلام الدامس حتى بزوغ صباح اليوم التالي، في حين تتسبب الغارات الإسرائيلية القريبة من مكان وجودنا، بشعورنا بالخوف والقلق الشديدين طوال اليوم”. حسبما أضافت.
استهداف متعمد للطفولة
وتعتقد الحقوقية ومدربة حقوق الطفل، هديل بوقريص، أن هناك سياسية إسرائيلية تتعمد إبعاد أطفال غزة عن التعليم، والإلقاء بهم في سوق العمل لإيقاف حركة النمو المستقبلي في القطاع.
وترى أن الطفل في غزة أصبح مضطرًا أن يكون كل شيء للأسرة، بدلًا من أن تكون الأسرة كل شيء له، “أطفال غزة فقدوا طفولتهم، من يعيش في ظل هذه الظروف سيعرف الجوع، ومن يعرف الجوع سيعرف العمل، بعض الأطفال تقوم بأعمال تفوق قدرتها الجسدية، وتعمل تحت ظروف قاسية جدًا”. حد قولها.
وأشارت إلى أن بعض الأطفال تخرج في الشوارع بلا أحذية، وبملابس خفيفة في الشتاء، يذهبون للعمل لتأمين قوت يومهم، وقوت أسرتهم، كما يضطر بعضهم للسير مسافات طويلة وسط مخاطر القصف للذهاب إلى نقاط توزيع الطعام.
“وعلى الرغم من حملات المنظمات العالمية ضد عمالة الأطفال في عدة دول، إلا أننا لا نجد نفس التحرك تجاه عمالة الأطفال في غزة، وهؤلاء الأطفال أصبحوا بحاجة لسنوات من الرعاية، بسبب ما رأوه. ولليوم لا يوجد تحرك دولي جاد ولا عربي، هناك إبادة تتم وسط صمت عالمي وعربي على مستوى الحكومات”. حسبما ختمت حديثها.
آثار نفسية خطيرة
وهناك حاجة ملحة لمساعدة أطفال قطاع غزة، والذين يعاني الكثير منهم من سوء التغذية الحاد إلى جانب صدمات الحرب، حسب مكتب الأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، كما أن أطفال غزة يعيشون على وجبة واحدة في أحسن الأحوال. ذلك حسب قول المتحدث العالمي باسم اليونيسف.
وقالت المنظمة، إن قطاع غزة أصبح مرة أخرى، بعد استئناف الأعمال العدائية، أخطر مكان للأطفال في العالم. وتشير التقديرات إلى وجود 17 ألف طفل دون أقارب، أو انفصلوا عن ذويهم في غزة.
وكانت نسبة الأطفال المشتغلين بينهم -سواء بأجر أو بدون أجر- في فلسطين قد بلغت حوالي 3% من إجمالي عدد الأطفال في الفئة العمرية (10-17 سنة)، بواقع حوالي 5% في الضفة الغربية، و1% في قطاع غزة، و(6% أطفال ذكور مقارنة بـ 0.3% من الأطفال إناث). وذلك وفق إحصائية صادرة عن الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني لعام 2022. إلا أن هذه النسب تضاعفت كثيرًا في وقت يصعب فيه الرصد والإحصاء بسبب الحرب.
“الحرب الإسرائيلية على غزة، جعلت العشرات من الأطفال في قطاع غزة أيتامًا، إما بفقدان الأب أو الأم أو الاثنين معًا، كما أن 40% من القتلى الذين سقطوا خلال الحرب هم من الأطفال دون سن ١٨، حسب الإحصاءات الرسمية”. تعقب لمواطن الأخصائية النفسية أماني معروف.
“الحرب تركت ولا تزال آثارا نفسية خطيرة على الأطفال بغزة يصعب تجاوزها على المدى البعيد، بعد فقدان بعضهم لآبائهم وأمهاتهم، أو أفراد من عائلاتهم، أو أصدقائهم، لذا فهم بحاجة ماسة خلال هذه المرحلة وما بعدها لتكثيف الدعم النفسي بشكل متواصل، كونهم أكثر الفئات تضررا من هذه الحرب”. حسب الأخصائية النفسية.
“كما أن مليون طفل في قطاع غزة باتوا يعيشون في صدمة حقيقية من هول مشاهد العنف والقتل والقصف، والذي لم يستثن بشرًا على الأرض؛ ما يهدد بإصابتهم بمشاكل سلوكية واضطرابات صحية، كالعنف والتبول اللاإرادي والأرق والاكتئاب وغيرها”. وفقًا لأماني معروف.
“والمرحلة المقبلة تتطلب بذل المزيد من الجهود من مختلف المؤسسات المحلية والدولية التي تعنى بالأطفال، لتقديم الدعم النفسي والصحي لهم، والتركيز على الأطفال الذين فقدوا ذويهم، والأطفال الجرحى الذين تعرضوا لإصابات بالغة، من شأنها التأثير على حياتهم في المستقبل”. حسبما أوضحت.
وحذرت منظمة اليونسيف من أن تصاعد الأعمال العدائية في قطاع غزة، يفضي إلى تأثيرات كارثية على الأطفال والأسر؛ إذ يموت الأطفال بمعدل مقلق؛ حيث قُتل الآلاف وأصيب آلاف آخرون بجراح.
ووفق المنظمة؛ فلا يجب حرمان أي طفل من الخدمات الأساسية، ولا يجب منع المساعدات الإنسانية من الوصول إليه، وكذلك لا يجب احتجاز أي طفل كرهينة أو استخدامه بأي وسيلة كانت في نزاع مسلح.
ويجب حماية المستشفيات والمدارس من القصف، ويجب ألا تُستخدم هذه المرافق لأغراض عسكرية، وذلك وفقًا للقانون الدولي الإنساني، ويجب ألا يعاني أي طفل من تهديد القصف بينما هو نائم في فراشه.
ختامًا، ومع كل النداءات والبيانات والتقارير، لا يوجد ما يوقف آلة الاحتلال الغاشمة عن قتل الأطفال وتشريد الأسر؛ فخروج أطفال دون الـ 18 للعمل، أمثال سارة وشوقي وأنس، ليست مجرد قصص فردية؛ بل حالة جماعية يعيشها أطفال القطاع بين الفزع من الملاحقات النيرانية من قوات الاحتلال، ومحاولة إنقاذ إخوانهم الأصغر بعد فقدان ذويهم في الحرب.