في 2022 عانت منى البالغة 61 عامًا حينها من إجهاد مستمر، وعدم رغبة في الأكل، وفقدان الوزن بشكل ملحوظ. ذهبت للطبيب فأعطاها مسكنًا للألم ومضادات حيوية وفيتامينات، وأخبرها أنها ستكون بخير، إلا أن الأعراض استمرت معها لفترة طويلة؛ فذهبت لطبيب آخر؛ فطلب منها تحاليل وأشعة مقطعية، وبعد الفحص تبين أنها مصابة بسرطان القولون.
استمرت رحلة العلاج سنتين عانت فيهما من المرض، ومن إجراء عملية جراحية ومن الحياة مع مضاعفاتها فيما بعد: “أحيانا أفكر أنه لو كنت شخصت من البداية بشكل صحيح، ولم يستهن الطبيب بشكواي؛ لما كنت خضت هذه الرحلة المؤلمة”. حد قولها.
تقدم للنساء وصفات المهدئات ومسكنات الألم على نحو أكبر، نتيجة لاعتقاد راسخ أن النساء تبالغ في شكواها كثيرًا، وتتوهم الألم والمرض، وأن أكثر أمراضهن مردها نفسي، وهو ما يعد نوعًا من التحيز الجندري في التشخيص الطبي؛ أي أنهن قد يحصلن على خدمة طبية أقل من الرجال، أو تأخر معرفة المرض بسبب الاستهانة بشكواهم.
النساء والهستيريا.. تاريخ من القمع الطبي
بالنظر إلى تاريخ الطب القديم، نادرًا ماتحصل النساء على العدالة الطبية؛ ففي الحضارتين القديمتين المصرية واليونانية، كان من الشائع أن يتم وصف صحة النساء على يد سقراط وأفلاطون أنها مضطربة، ووصفهن بالمجنونات والهستيريات، ومصطلح هستيريا جاء من كلمة يونانية قديمة تعني الرحم، في الوقت الذي كانوا يعتبرون أن الرحم هو أساس الأمراض في جسد المرأة.
"للأسف عندما يذهب للطبيب رجل أو امراة بنفس الشكوى؛ فإن التشخيص المقدم للرجل هو ذاته الذي يقدم للمرأة، مع أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن أجسادهم مختلفة، وأن نفس الشكوى قد تكون لمرضين مختلفين تمامًا". حسبما قالت رنا حسن، أخصائية النساء و التوليد.
ولفهم تأثيرات الهستيريا على النساء والرعاية الطبية قديمًا؛ فمن المهم فهم ماتنطوي عليه الحالة، والتي صنفت على أنها حالة مزعومة، يصاحبها عدة أعراض وسلوكيات مختلفة تفعلها المرأة، ولا ينظر إلى ذلك على أنه مقبول من قبل الرجال.
وتعددت أعراض الهستيريا بين بطن منتفخة وآلام الصدر، والعاطفة المفرطة، وزيادة أو انخفاض الدافع الجنسي، وزيادة الشهية أو معدل ضربات القلب.
وعلى مر السنين؛ كان العلاج غير الناجع في الأغلب يتراوح بين تدليك الحوض، وإجبار المرأة على النشوة الجنسية لإنزال السوائل الزائدة، والعلق على البطن لتقليل الدم في الرحم، وكذلك العلاج بالزواج.
وكان الزواج كعلاج من إرهاصات سيغموند فرويد في هذه الظاهرة الهستيرية، وكان يعتقد أن سبب حالة الهستيريا، التي تصيب النساء منشؤها فقدان المرأة لقضيبها المجازي؛ فالزواج سيعوض خسارتها، وفي وقت متأخر وصف للمريضة الراحة كعلاج، أما بالنسبة للرجل الذي اعتبر بعض الأطباء أنه قد يصاب بالهستيريا أيضًا، لكن بشكل أقل مقارنة بالنساء، فعلاجه الفعال هو الحركة وممارسة بعض التمارين في الهواء الطلق.
استمرت النساء في صراعهن مع الهستيريا وأشكالها المختلفة وفقًا للرؤية الطبية؛ كالعقم واضطراب الدورة الشهرية، والاكتئاب واضطراب ما بعد الصدمة ومشكلات الحمل والرحم، وكانت جميعًا على مدى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر يتم إدراجها من قبل الأطباء الرجال تحت مظلة الهستيريا الأنثوية، وظلت تلك المعتقدات المضرة بصحة النساء سارية عبر التاريخ، وأثرت بشكل سيء على كيفية استخدام الطب لعلاج وتشخيص أمراض النساء.
وفي الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات العقلية للجمعية الامريكية للطب النفسي المنشورة عام 1952، لم تدرج الهستيريا كحالة غير صحية عقلية، وعاد ظهورها في الدليل التشخيصي الثاني 1968، قبل أن تسقطه الجمعية البرلمانية الآسيوية في الدليل التشخيصي الثالث عام 1980.
اعتبر هذا الإجراء على صغره انتصارًا للنساء؛ فقد أعطاهن أملاً بأن تشخيص أمراضهن مستقبلاً سيكون على أسس علمية أخرى غير الهستيريا، التي جعلها الرجال مجرد وسيلة سهلة لوصف ما لا يمكنهم فهمه في أجساد النساء، وستأخذ شكواهم بجدية أكبر.
المعاناة مع أمراض بطانة الرحم
يعتبر مرض بطانة الرحم أحد أبرز أشكال التمييز الطبي ضد المرأة؛ فتعاني منه النساء فترة طويلة قبل الحصول على التشخيص الصحيح، هذا إن حدث: “بدأت حكايتي بألم غير طبيعي في معدتي، ذهبت للطوارئ، قال الطبيب إنه مجرد مغص بسبب التبويض، ووصف لي مسكنات، بعد ذلك بفترة لاحظت ازدياد تدفق الحيض مع الإحساس بانتفاخ، وأصبحت شهيتي قليلة للطعام، وكانت الآلام في ازدياد، ولم تصبح للمسكنات فائدة. تقول لمواطن صفية (24 عامًا).
“كررت الذهاب لعدة أطباء، منهم من شخصني بالقولون، ومنهم بحصى الكلى، استمر هذا العذاب لمدة عام وأكثر، إلى أن شخصني طبيب آخر بمرض بطانة الرحم المهاجرة، بعد القيام بالتحاليل والسونار والرنين، واكتشف وجود كيس بطانة، وقرر الطبيب إجراء عملية استئصال للكيس، والآن أحيا على دواء وقائي، يؤثر على جسدي لأنه دواء هرموني، ولكني أحمد الله على زوال الألم البشع”. ذلك حسبما أضافت.
وتعتقد صفية أنه لو لم يستهن الأطباء بألمها وشكواها، وأخذت على أنها جادة وحقيقية من البداية، لما مرت بكل ذلك.
يتم إقصاء النساء من المشاركة في الدراسات السريرية المتعلقة بالحالات والأدوية، التي تؤثر على كل من الرجل والمرأة، وكان ذلك بحجة أن تلك التجارب من الممكن أن تؤثر على الأجنة.
وعند سؤال الطبيبة رنا حسن أخصائية النساء و التوليد عن حالات النساء والفتيات المصابات بأمراض بطانة الرحم، و اللاتي يشخصن خطأ بأمراض أخرى، أو لم تأخذ شكواهن على أنها حقيقة قالت: “بصفتي عاملة في المجال الطبي، شهدت على عدة حالات لنساء وفتيات مصابات بأمراض بطانة الرحم والورم الليفي أو تكيس المبايض، ومنذ كنت تحت التمرين وإلى الآن يستهان بشكواهن؛ ليس من قبل أطباء رجال فقط؛ ولكن من طبيبات كذلك”.
“من المعروف أن مصطلح الهستيريا ألغي من قبل الجمعيات الطبية، ولكني أري أن المفهوم لازال مسكونًا في عقول الغالبية من الأطباء، من وجهة نظري أن المشكلة تكمن في مناهج التدريس في كليات الطب؛ فهي تعتمد على بشكل كبير على المفاهيم المتوارثة من الطب القديم والأبحاث التى عفا عليها الزمن، والتي تعتمد على الرجال، وتستثني النساء، مع أن النساء هنّ الأكثر عرضة للأمراض المناعية الذاتية، والأمراض التي تهاجم الجهاز العصبي”، حسبما استكملت حديثها.
ولا تجرى أبحاث كافية على الحالات من النساء بشكل خاص، كما سحبت أدوية من الأسواق، بسبب أعراض جانبية تعرضت لها النساء وحدهن. وفقًا للأخصائية النسائية.
“للأسف عندما يذهب للطبيب رجل أو امراة بنفس الشكوى؛ فإن التشخيص المقدم للرجل هو ذاته الذي يقدم للمرأة، مع أنه يجب الأخذ في الاعتبار أن أجسادهم مختلفة، وأن نفس الشكوى قد تكون لمرضين مختلفين تمامًا”. حد قولها.
في الأغلب يتم إقصاء النساء من المشاركة في الدراسات السريرية المتعلقة بالحالات والأدوية، التي تؤثر على كل من الرجل والمرأة، وكان ذلك بحجة أن تلك التجارب من الممكن أن تؤثر على الأجنة، إلا أنهن قد منعن أيضًا من المشاركة في التجارب القائمة على الملاحظة فقط.
وجميع التجارب الكبرى التي أجريت على أدوية خفض الكوليسترول، والتي لا تبين للباحثين سوى معلومات قليلة أو منعدمة حول تأثيرها على أجساد النساء. “التحيز الجندري ضد النساء والأقليات موجود ومثبت للأسف، قد أكون شخصيًا مارست هذا التحيز مع عدة مريضات في بداية عملي في المهنة، ولكني أحسبه كان ضمنيًا؛ إذ لم أكن ذا وعي كافٍ، ومع التقدم و الخبرة لم أعد متحيزًا مثل السابق”. يقول عبدالله الطاهر، أخصائي النساء والتوليد.
“من المؤكد أنه لايزال هناك حاجة إلى إشراك النساء في الأبحاث السريرية بشكل روتيني؛ إذ لا يوجد دليل إحصائي على أن القيام بذلك من شأنه أن يؤثر سلبًا في فعالية الدراسة”. يضيف عبدالله.
كنت في المرحلة الثانوية عندما بدأت أشكو من زيادة آلام الحيض، والدوار وزيادة نمو شعر الوجه، وزيادة الوزن، وتساقط الشعر وشحوب البشرة، أخذتني والدتي للطبيب فأخبرها أنني أبالغ، وهذا الألم طبيعي، وعندما استمر الألم وذهبنا لطبيب آخر كرر ذات الحديث”. تحكي لمواطن، نسرين (20 عامًا).
لا يوجد غير الطبيبات والمريضات للمطالبة بالتغيير والمقاومة ضد التحيز، لنيل المعاملة اللائقة واحترام شكواهن الجسدية و مجهوداتهن العلمية على حد سواء.
“من سن 15 إلى 17 أعاني ذات الآلام ولا أعرف لها علاجًا، إلى أن توقف الحيض لمدة 8 أشهر، وقتها فقط صدقوا شكواي، وطلب مني الطبيب عمل سونار وتحاليل وشخصت بتكيس المبايض، قيل لي وقتها لو اكتشف المرض أبكر لكان علاجه أسهل”. حسبما أكملت حديثها.
ترى الباحثة في الدراسات النسوية منار بدوي، أن مجتمعنا الشرقي تتجذر فيها فكرة رفض كشف الآنسات عند أطباء النساء، وأن هذه الفكرة موجودة في عقول الفتيات من قبل مجتمعهم أولًا، ثم يأتي دور العائلة في الرفض، ولا ترتبط تلك الفكرة بفئة أو طبقة معينة.
تحيز جندري ضد الطبيبات
يهيمن التحيز الجنسي في الميدان الأكاديمي الطبي؛ في مجالات من المفترض أن تسيطر عليها نساء مثل أمراض النساء و التوليد؛ فلايشغل منصب رؤساء الأقسام فيها سوى 22% فقط من النساء، على الرغم من أنهن يشكلن نحو 83% من أطباء هذا التخصص. في الولايات المتحدة الأمريكية.
وتضيف د. رنا حسن: “كنساء في المجال المهني، نحن في منافسة دائمة مع الرجال؛ سواء كنا نريد ذلك أم لا، حتى قبل دخول كلية الطب يتم تثبيط عزيمتنا بأننا لن نصبح أفضل من الرجال، وأنه يجب علينا بذل جهد مضاعف ونسيان حياتنا، والتركيز فقط على الدراسة، كل ذلك وأكثر هو ما نواجهه يوميًا في حياتنا كطبيبات في مجتمع لا يعترف بأن النساء قادرات”.
وتكمل: “أعتقد أنه قد حان الوقت للتخلي عن الأفكار البالية للتحيز الجنسي في المجال المهني؛ سواء الممارس علينا نحن كطبيبات من قبل زملائنا الرجال، أو الممارس ضد المريضات؛ فالأهم هو العمل بفعالية كفريق لتقديم أفضل خدمة للمرضى”.
تلعب المرأة دورًا حيويًا في تحسين الرعاية الطبية في كافة المجالات الطبية؛ فشخصيات مثل دوريثيا ديكس، وروزاليندا فرانكلين، وحياة سندي، ورنا الدجاني، ونجوى عبد المجيد، قدمن إنجازات ملموسة ساهمت في تحسين مجتمعاتهن، ومع ذلك ولاتزال المرأة تواجه التحديات و التمييز في المجال الطبي.
إن التحيز الجندري في الطب في كلتا حالتيه ضد طبيبة أو مريضة، ليس تحيزًا علميًا أو طبيًا فقط؛ بل ثقافيًا واجتماعيًا وسياسيًا، وسواء تم الاعتراف به أم لا؛ فإن الأفكار القديمة التي تعود لقرون مضت لا تزال تحكم عقول أطباء اليوم، ولا يوجد غير الطبيبات والمريضات للمطالبة بالتغيير والمقاومة ضد التحيز، لنيل المعاملة اللائقة واحترام شكواهن الجسدية و مجهوداتهن العلمية على حد سواء.
ولولا التنميط والتحيز الجندري المسبق، لكانت معاناة منى مع سرطان القولون، أو صفية مع مرض بطانة الرحم المهاجرة، وحتى نسرين مع تكييس المبايض، أقل من حيث الألم وفترة العلاج، هذا بحانب ما تلقاه الفتيات ممن لم يسبق لهن الزواج عند الشكوى من أي ألم يتطلب كشف أمراض نساء من قمع واتهامات أخلاقية، بل رفض الأطباء والطبيبات الكشف على عدد كبير من الحالات.