يقدم نظام التعليم في إسرائيل فكرة الدولة بوصفها القيمة الأسمى للمواطن اليهودي، تحت هذه العقيدة يصير كل مواطن إسرائيلي إلى جندي احتياط في سبيل حماية الدولة، والجيش الإسرائيلي كحارس لمشروع الدولة، هو الهيئة الأكثر جلالًا وقداسة.
على الرغم من أن إسرائيل دولة عسكرية، كل ما فيها يعمل لصالح دالتي الدفاع والأمن، وعلى كل مواطن – عدا الحريديم المتطرفين– أن يقدم الخدمة العسكرية، لا يشارك اليهود الأميركان، يهودَ إسرائيل أيًّا من هذه القضايا؛ وكشفت دراسة أجرتها مؤسسة بارنا/ كاليفورنيا، أن 10% فقط من يهود أميركا المولودين بين عامي 1984-1999 يرون الانتماء إلى إسرائيل وموالاتها، مسألة تخص العقيدة.
بين إسرائيل المتخلية والحقيقية؛ مسافة
كان البروفيسور إيريك ألترمان، المنحدر من أسرة من يهود نيويورك، ممن أثارتهم تلك النتائج. حول المسافة بين إسرائيل النموذجية، كما تلقاها في طفولته، وحقيقة الدولة الإسرائيلية صارت إلى أحد أهم الحقول البحثية التي اشتغل عليها. في كتابه لسنا كياناً واحداً، ناقش ألترمان فرضية أن إسرائيل لا تعرف الشيء الكثير عن يهود أميركا، وأن الأخيرين لا يعرفون ما يكفي عن إسرائيل. المجتمعان اليهوديان، في إسرائيل وأميركا، يختلفان سياسياً وثقافياً على نحو جذري، كما يعتقد ألترمان.
لم تأخذ معركة حارس الأسوار، أو سيف القدس، التي انطلقت في ربيع العام 2021 سوى 11 يوماً. على ضوء تلك الحرب، التي أدت إلى مقتل 13 إسرائيلياً و200 فلسطينياً، أجرى المعهد اليهودي الانتخابي JEI استطلاعاً للرأي شمل عينة من اليهود- الأميركان.
أريد لليهود القادمين من الشرق، الشرق الإسلامي، أن يتلاشوا ثقافيًا، أن تصير العبرية لغة مستقبلهم لا ماضيهم. وللتعبير عن أصالتهم اليهودية في مواجهة اليهودي الأبيض، الإشكناز، اتجه اليهود الشرقيون إلى الحريديم، النسخة الدينية الأكثر راديكالية.
أسهمت النتائج في تعميق النقاش والجدل حول الاختلافات الجوهرية بين المجتمعين اليهوديين، الأميركي والإسرائيلي. إذ قال 20% من اليهود المشمولين بالاستطلاع، تحت سن الأربعين عاماً، إن إسرائيل لا تملك الحق في الوجود. ورأى 35% أنها دولة ذات سلوك عنصري يشابه ما كان معهوداً في أميركا من قبل. وبالنسبة لربع المستطلعين، 25 %، فإن إسرائيل تمثل نموذجاً لدولة فصل عنصري “أبارتهايد”. أكثر من خُمس من المشمولين بالاستطلاع، 22 %، قالوا إن الدولة الإسرائيلية ترتكب إبادة بشرية بحق الفلسطينيين [جينوسايد].
هذه النتائج، وبيانات أخرى مماثلة، أسهمت في التشكيك بالسردية التي تروج لها المنظمات اليهودية-الأميركية حول الكيان اليهودي المتجانس تحت لافتة “كلّنا واحد”. فبينما تخوض إسرائيل حرب “حارس الأسوار” نشر مركز بيو، الشهير، نتائج استطلاعه التي شملت 4700 يهودياً أميركياً، وكان لافتاً أن قال حوالي 40% ، من مختلف الفئات العمرية، إنهم لا يحملون أي عاطفة تجاه دولة إسرائيل.
تقودنا البيانات إلى يهوديتين نقيضتين؛ فبينما يقول 62% من يهود إسرائيل إنهم يمينيّون، بحسب دراسة لمعهد إسرائيل للديموقراطية، 2022؛ فإن 24% فقط من يهود أميركا قالوا عن أنفسهم إنهم محافظون. لا بد هنا من ملاحظة المسافة الواسعة بين المحافظ واليميني.
ديموغرافيا معقدة ومجتمع متناقض
يردد اليهود تاريخيًا، عن أنفسهم مقولة يهوديان وثلاثة آراء، وتعني أن المجتمع اليهودي متناقض من داخله، حتى إن إجمالي مواقفه تجاه مسألة معينة يزيد عن عدد أفراده، وينحدر المجتمع اليهودي من أعراق، لغات، ثقافات، طوائف، تاريخ سياسي، وخبرات شديدة الاختلاف، ولم تكن العبرية سوى لغة قلّة من اليهود، لغة رجال الدين والعبادة.
إلى أن استطاع المؤسسون القوميون فرض اللغة على السكّان داخل فلسطين المحتلة بغية إنجاز المجتمع اليهودي. صارت المقولة الصهيونية آخر يهودي وأول عبري إلى حقيقة جديدة؛ حيث صارت العبرية إلى كلمة سر إسرائيل، وماتت اليديشية، أو لغة المنفى إلى الأبد.
ما كان لذلك النجاح؛ إحياء اللغة الميتة، أن يحدث لولا جهود إليعازر بن يهودا منذ أواخر القرن التاسع عشر، ومن خلفه المؤسسون الأوائل الذين أدركوا أهمية ابتكار اللغة قبل إنجاز مسألة الدولة. حملت اللغة معنى الدولة، صارت إسرائيل إلى دولة عبرية كبديل موضوعي عن الدولة اليهودية؛ فالصهيونية، وهي علمانية الطابع، نجحت في تعميق المشروع على أساس اللغة؛ فاللغة تذهب بعيدًا إلى أول التاريخ، وحيثما توجد اللغة فجر التاريخ يوجد اليهودي الأب.
أريد لليهود القادمين من الشرق، الشرق الإسلامي على وجه الخصوص، أن يتلاشوا ثقافيًا، أن تصير العبرية لغة مستقبلهم لا ماضيهم. وللتعبير عن أصالتهم اليهودية في مواجهة اليهودي الأبيض، الإشكناز، اتجه اليهود الشرقيون إلى الحريديم، النسخة الدينية الأكثر راديكالية.
لم يعد ممكنًا إحياء اليسار الإسرائيلي أمام الموجه الراديكالية التي غيرت، وستغير،ـ وجه إسرائيل. فاليمين الراديكالي، كما تؤكد البيانات، هو الصنف السياسي الأكثر نموًا داخل البلاد.
يمثل اليهود الشرقيون، السفارديم ما يزيد عن ثلث نسبة اليهود الراديكاليين، أو الألترا-أورثودوكس، بحسب ادعاءات شاس. وفي المجمل فإن نسبة اليهود الشرقيين، القادمين من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، تداني ـ50% من سكان إسرائيل.
ساهمت كل تلك المياه في خلق الإسرائيلي لا اليهودي، المواطن الذي يرى في إسرائيل العبرية قدس الأقداس، ولكنه مضطر دائمًا للصراع في سبيل إثبات يهوديته أو نفيها عن الآخر؛ فلم يمض سوى وقت قصير على وصول ما يداني المليون من يهود الاتحاد السوفيتي عقب تفككه، حتى أصدر الحاخامات موقفهم النهائي من الموجة الجديدة: من الممكن أن يصيروا إسرائيليين، ولكنهم ليسو يهودًا.
تنامي الراديكالية
الخارطة الديموغرافية للمجتمع الإسرائيلي ترشدنا إلى مشكلة أخرى معقدة؛ فالرجل الأبيض، اليهودي الإشكناز، يشكل أقل من ثلث المجتمع عدديًا، وبما أنه كان أول الواصلين إلى أرض الميعاد؛ فقد احتكر أبوة الدولة، بما سيعنيه ذلك من هيمنة على السياسة والاقتصاد والثقافة.
شيء آخر نذر اليهودي الأبيض له نفسه: حراسة علمانية الدولة، ثمة ادعاء علمي قدمه فريق بحثي بقيادة كوكران في 2006، يقول إن اليهودي الأوروبي يتفوق على اليهودي الشرق- أوسطي بحاول 14 نقطة في معدل الذكاء، وأن سبب ذلك يعود إلى انتخاب طبيعي تاريخي خلقته الظروف القاسية التي عانى منها اليهودي الأوروبي؛ ما دفعه للانعزال وتطوير مهاراته اللغوية والرياضية، فضلًا عن نقائه الجيني.
يقول معدو الدراسة إنه على النقيض من ذلك فقد عاش اليهودي الشرق-أوسطي حياة هادئة داخل الحضارة الإسلامية، ولم يخضعوا لظروف قاسية، أو ما تصفه الدراسة “بعملية انتخاب طبيعي” سمحت للميزات اليهودية الأقوى والأكثر فاعلية بالانتعاش والاستمرار.
الأبيض المتفرد -حتى في قواه العقلية- يقدم نفسه بوصفه الوجه النهائي للدولة العبرية، الحديثة والعلمانية، والقادر على حراستها، في الظل كان مجتمع إسرائيلي مواز آخذًا في النمو، مجتمع أخذ على عاتقه مهمة استعادة المعنى التوراتي للدولة. عاش اليهودي الشرق-أوسطي في جيتوهات داخل إسرائيل الحديثة، دفع للحياة داخل المستوطنات أو امتهان المهن الدنيا.
أقل من 20% فقط من اليهود الشرق-أوسطيين حصلوا على أعمال تتطلب مؤهلًا جامعيًا، تنبّه الهامشيون إلى أهمية السهم الديموقراطي الذي في حوزتهم وقرروا منذ منتصف التسعينيات الدخول في المضاربة الانتخابية، وواصلوا المضاربة على أساس ديني وأخلاقي إلى أن أوصلوا الدولة الإسرائيلية إلى شكلها الراهن، الأكثر راديكالية وإرهابًا في تاريخها.
وقبل أن يلتحقوا بتلك المضاربة الموسمية، كان يهودي شرق أوسطي من أصول يمنية، يعمل والده في ذبح الدجاج على الطريقة اليهودية، قد تسلل إلى المنصة التي يقف عليها إسحاق رابين وأصابه بطلقات مميتة من الخلف، قال إنه فعل ذلك ليحمي إسرائيل من العلمانيين، الذين يريدون منح الفلسطينيين دولة. وبالطبع فقد كان يعني بذلك الإسرائيليين البيض.
ينمو المجتمع الديني الإسرائيلي داخل إسرائيل على نحو لافت، ومن المتوقع أن تشكل الفئة الأكثر راديكالية، الحريديم نسبة 30% من المجتمع الانتخابي في العقود الثلاثة القادمة، كما يتوقع المكتب المركزي للإحصاء بتل أبيب.
وإذا أخذنا مسألة المستوطنات في الاعتبار، حيث 10% من السكان يعيشون خارج الخط الأخضر؛ فبمقدورنا معاينة شتات يهودي خلقته الدولة العلمانية ليكون حاجزًا أمنيًا بينها وبين جيرانها، يتشكل الشتات الاستيطاني من حوالي 150 مستوطنة، وعشرات البؤر الصغيرة، خليط من السفارديم، اليهود الشرق أوسطيين، والحريديم الإشكناز من ذوي البشرة البيضاء.
يمثل هذا الخليط الفداء الذي يريده العلمانيون الإشكناز، حراسة الحدود من خلال التجمعات السكانية المتطرفة والسمراء. ما كان ليخطر على بال الأقلية البيضاء أن أولئك السكان، الذين يعملون في تربية الدجاج ودراسة التوراة، سيغيرون شكل السياسة في الدولة العبرية.
منذ تسعينات القرن الماضي اقتحم الراديكاليون أو الحريديم كما يعرّفون في العبري، السياسة في البدء من خلال حركة شاس. مع توالي الجولات السياسية صار الاختراق الراديكالي تحولًا عميقًا في طبيعة السياسة الإسرائيلية. احتل الحريديم، الراديكاليون، مكان اليسار، وبقي الأخير يكافح لأجل اجتياز الحاجز البرلماني، 3.3%.
لم يعد ممكنًا إحياء اليسار الإسرائيلي أمام الموجه الراديكالية التي غيرت، وستغير،ـ وجه إسرائيل. فاليمين الراديكالي، كما تؤكد البيانات، هو الصنف السياسي الأكثر نموًا داخل البلاد.
مع اتجاه إسرائيل إلى اليمين فإن المسافة بين اليهوديتين، الإسرائيلية والأميركية، تتباعد أكثر وأكثر. فقد كشفت البيانات التي نشرها مركز غالوب، 2019، أن اليهود الأميركان هم الأكثر ليبرالية في البلاد مقارنة بسائر الديانات. الاختيارات الليبرالية لليهودي الفرد في أميركا، وليس المنظمات اليهودية، تجعله غريبًا عن كل ما يجري داخل إسرائيل.
تفقد إسرائيل على نحو متسارع ملامحها كدولة علمانية، ديمقراطية، وتذهب في اتجاه كيان مغلق، أقل تسامحًا، ومحقون بالقيم الدينية كما يذهب روزنبيرغ، الكاتب المعروف في مقالة على فورن بوليسي.
الغضب من اليهود الراديكاليين يتنامى داخل إسرائيل؛ فهم يستخفون بالقيم الليبرالية المتمثلة في الاستقلال الشخصي والديمقراطية والمساواة، وفقًا لروزنبيرغ.
يمتد الصراع مع الراديكاليين وصولًا إلى أكثر المسائل حساسية كالمساواة بين الجنسين، حقوق المثليين، وعلاقة الدولة بالدين، وهو مرشح إلى التصاعد بما قد يمثل تهديدًا لاستقرار المجتمع الإسرائيلي من الداخل، أو “عدوانًا على أمن إسرائيل من الداخل” كما يقول غيلاد كاريف، عضو الكنيست الإسرائيلي؛ في خطاب له أمام تجمع لليهود الأميركان في العام الماضي.
ليست معتقدات واحدة
حتى الحرب العالمية الثانية كانت المجتمعات اليهودية في أميركا وأوروبا معادية للصهيونية؛ فقد بدت فكرة الدولة القومية لليهودية مصادمة لإرادة الرب الذي أراد لشعبه المختار أن يعيش في الشتات. غيّر الهولوكوست في القدر اليهودي، وأعطى الصهيونية اليد العُليا، لتصبح هي الصوت اليهودي الأعلى.
صارت الصهيونية إلى صهيونيتين، توراتية دينية في إسرائيل، وعبرانية علمانية في أميركا. تكشف البيانات أن المجتمع اليهودي الأميركي، ثاني أكبر تجمع لليهود في العالم، منقسم إلى مستويين: مواطنين ومنظمات.
لا يتحمس المواطن اليهودي الأميركي للدولة اليهودية، ولا يرى ذلك يناقض اعتداده بيهوديته، بينما تقاتل المنظمات اليهودية لصالح مشروع الدولة اليهودية، وفي أحيان كثيرة تدفع البيت الأبيض لخوض حروب معقدة تراها الصهيونية الأميركية ضرورية لاستقرار مشروع الدولة في إسرائيل.
حتى إن ربع اليهود المولودين بعد 1984 يعتقدون أن المسيح إله في ثوب إنسان، وفقًا لاستطلاع أجرته مؤسسة بارنا على اليهود الأميركان. هذه الصورة تصادم، كلّيًا، ذلك الحدث الذي رآه العالم في مارس من العام الماضي. آنذاك التقطت كاميرا صحفي في هآرتس جماعة من الحجّاج المسيحيين يمشون في شوارع القدس الضيقة حاملين صليبًا كبيرًا من الخشب.
مرّ بهم وفدٌ من اليهود المتدينيين وراحوا يبصقون عليهم واحدًا تلو الآخر، حتى الأطفال اليهود بصقوا على حملة الصليب. ردًّا على استنكار العالم للحدث كتب إيليشا يريد، أحد قادة المستوطنين والمستشار السابق في حكومة نتنياهو، على حسابه على منصة إكس: “البصق على المسيحيين طقس يهودي قديم. هل نسينا، تحت تأثير الثقافة الغربية، ما هي المسيحية؟ لا أظن أن ملايين اليهود الذين شردتهم الصليبية سوف ينسون يومًا ما”.
ختامًا، يتباعد المجتمعان اليهوديان في أميركا وإسرائيل عن بعضهما، أحدهما يذهب يميناً بينما يصبح الآخر أكثر ليبرالية وتسامحاً. وكلما عزلت إسرائيل نفسها عن المحيط الذي تعيش في مركزه فإن دالة الأمن تصير في قلب سياساتها. اعتاد الساسة الإسرائيليون على حقن مسألة الأمن بالعقيدة الدينية، وبتفسير العزلة دينياً وتاريخياً، فهي على الدوام حصار يضربه الأغيار على اليهود بسبب دينهم.
صارت السياسة الإسرائيلية إلى مضاربة في الدين والتاريخ، إلى حقل شائك لا يعرف عنه اليهودي الأميركي الشيء الكثير. سلسلة معقدة من الظروف والتحديات يعايشها اليهودي في إسرائيل تختلف جذرياً عن الوسط الذي يتحرك بداخله نظيره الأميركي. ينتج عن سياقي الحياة المختلفين عقلان يتناقضان جذرياً في رؤيتهما للعالم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
Wow, wonderful blog layout! How long have you been blogging for? you make blogging look easy. The overall look of your site is great, as well as the content!
إن أهم وسائل النصر هي معرفة خصمك من الداخل ، شكرا للكاتب على هذا المقال الثري بالتفاصيل . القيادات السياسية والمجتمع العربي للأسف لا يعرفان الكثير عن الكيان الإسرائيلي من الداخل ، هذه التناقضات في بنية المجتمع الإسرائيلي يمكن استغلالها و البنا عليها لصالح القضية الفلسطينية .