يبحث الكثير من الأبناء منذ عقود عن آبائهم السعوديين، بعدما تركوهم في بلادهم وعادوا إلى المملكة العربية السعودية وانقطعت أخبارهم؛ حيث يعيش الكثير من أبناء السعوديين في بلدان عديدة، قصصًا كثيرة وأوضاعًا صعبة، بعد أن تركهم آباؤهم خلف ظهورهم، وعادوا إلى ديارهم.
بدأت المشكلة عندما تزوج الكثير من السعوديين من نساء في بلدان أخرى دون موافقة رسمية، أو أوراق تثبت ذلك الزواج، أو جمعتهم علاقة خارج إطار الزواج، ثم تركوا نساءهم وأبناءهم وعادوا إلى بلدهم. الكثير من هؤلاء الأطفال لا يربطهم ببلدهم، المملكة العربية السعودية أي شيء، هذه القضية التي أصبحت تشكل هاجسًا مؤلمًا لهيئات حقوقية كثيرة، وبالعمل مع عدد من المسؤولين ونشطاء حقوق الإنسان وجمعيات خيرية أسست خصيصًا لمتابعة أوضاع أبناء السعوديين في الخارج، تسعى لإعادة الروابط الأسرية بين أبناء لمواطنين سعوديين تقطعت بهم السبل وتنكر لهم ذووهم.
وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان؛ فكل فرد له الحق في الحياة والحرية والأمان على شخصه، وتنص المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية على أن “الحق في الحياة حق ملازم لكل إنسان، وعلى القانون أن يحمى هذا الحق، ولا يجوز حرمان أحد من حياته تعسفًا”. وإنه “لا يجوز انتهاك حرمة الإنسان، ومن حقه احترام حياته وسلامة شخصه البدنية والمعنوية”.
واعتمدت الأمم المتحدة اتفاقية عام 1961 بشأن خفض حالات انعدام الجنسية، وأكدت المفوضية السامية للأمم المتحدة على ضرورة ضمان الحق في الجنسية، والقضاء على انعدام الجنسية لكل فرد، وأشارت إلى أهمية الحق في الجنسية الذي يجب أن يشمل كل شخص في عملية التعداد، وأن يكون مرئيًا في أعين بلدانهم وحكوماتهم، وأن يتم تضمينهم في جهود الاستجابة، معتبرة الحصول على جنسية -بحماية الحكومة التي تمنحها- يمكن أن يحدث أثرًا حيويًا بالغًا.
أبناء سعوديون مهجورون في أمريكا
نشر موقع ” أطفال سعوديون مهجورون – saudi children left behind” الكثير عن هؤلاء الأطفال، عشرات من القصص والصور حملت أسماء عائلات سعودية مرموقة، كان العامل المشترك بين تلك القصص هو أنهم جميعًا أبناء لسعوديين جاءوا للدراسة بالجامعات الأمريكية خلال الخمسة عقود الماضية أو أكثر؛ حيث يبلغ سنّ بعض هؤلاء الآباء المذكورين السبعين عامًا الآن. جاء الآباء إلى أمريكا مبتعثين للدراسة في الجامعات لينخرطوا في علاقات عاطفية أفضت إلى إنجاب أطفال، ثم هجروهم خلفهم وعادوا إلى بلادهم.
أسست هذا الموقع سيدة تدعى جينيفر كريستال، وهي امرأة تركها صديقها السعودي بعد ولادة طفلهما، الذي يعاني من مشكلة صحية، وأصبح في حاجة إلى معلومات وراثية لعلاجه، وكان هذا الموقع الإلكتروني وسيلتها للبحث عن والد طفلها. وتهدف من خلاله إلى مساعدة النساء اللواتي أنجبن أطفالًا من رجال من أصل سعودي لم يعودوا يرغبون في أن يكون لهم علاقة بأطفالهم الجدد. وهي مشكلة سريعة النمو- على حد وصفها- ولا تتوفر لها حاليًا سوى القليل من الحلول.
يحتوي الموقع على رسائل مناشدة من قبل الأمريكيات للسعوديين وعائلاتهم باللغتين العربية والإنجليزية، تطالبهم بتحمل مسؤولياتهم تجاه أبنائهم. وتروي كل زوجة من خلال مشاركتها في الموقع قصتها مع زوجها الذي ارتضته قبل وبعد الإنجاب، وكيف تركها وأبناءها دون أن يتواصل معهم ويطمئن على أحوالهم.
ميريام تبحث عن أبيها السعودي
“اسمي ميريام، ولدتُ عام 1970 في سانت لويس بولاية ميسوري، الولايات المتحدة الأمريكية. كان اسم والدتي فيرجينيا، أنا أبحث عن والدي، الذي ولد عام 1938 في مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية.” تلك هي الكلمات التي بدأت بها ميريام قصتها على موقع “saudi children left behind”؛ موضحة أن والدها درس العلوم السياسية في جامعة لويزفيل بولاية كنتاكي.
تواصلت “مواطن” مع ميريام كانديس هيكسون، وأخبرتنا أن والدها تعرف على والدتها عندما جاء إلى الولايات المتحدة الأمريكية للدراسة في السبعينيات، وبعد أن جمعهم الحب قرر إقامة الزواج. وتذكر ميريام أنهم أقاموا حفل زواج عربي، وبعد ولادتها أخبر الأب والدتها بأنه يجب عليه العودة إلي السعودية بمجرد تخرجه، وأنه سيعود يومًا ما لكنه لم يفعل ذلك أبدًا. وأعربت ميريام أنه منذ وفاة والدتها في عام 1998 تشعر بالوحدة؛ خاصة أنها فقدت بعدها جدتها وأختها وأصبحت دون عائلة.
“بعد أن مررت بالمصاعب طوال حياتي مع هذا الجزء الكبير المفقود وغير المعروف، قررت الاتصال بالسفارة السعودية للحصول على المساعدة؛ ونظرًا لأن والديّ لم يكونا متزوجين قانونيًا؛ رفضت السفارة مساعدتي، وهو أمر شائع من السفارة عندما يتعلق الأمر بهذه المشكلة”. تضيف ميريام
تشترط السلطات السعودية على مواطنيها الحصول على إذن حكومي قبل الزواج من غير سعودية، كما تشترط على الطلاب المبتعثين عدم الزواج من غير السعوديات طوال فترة ابتعاثهم، والعقوبة تكون إنهاء البعثة. ويعتبر هذا الإجراء جزءً من اللوائح والأنظمة التي تنظم زواج السعوديين من حملة الجنسيات الأخرى.
ووفقًا لتقرير منظمة اليونيسف فإن المملكة العربية السعودية أقرت في مارس 2022 قانونًا جديدًا للأحوال الشخصية، ينظم بالتفصيل أحكام الخطبة والزواج والإعلان عن تطوير المنظومة التشريعية، من خلال استحداث وإصلاح الأنظمة التي تحفظ الحقوق وترسخ مبادئ العدالة والشفافية، وتحمي حقوق الإنسان وتحقق التنمية الشاملة.
تقول ميريام: “اشتركتُ في مدونة “23andme” التي تُعنى بالكشف عن أصل الشخص عن طريق تحليل الحمض النووي، ولم يكن لدي أدنى شكّ بأنني نصف سعودية، وقد أكّد تحليل الحامض النووي لي أن ما نسبته 45% من جيناتي سعودية، تحديدًا من منطقة القصيم”. وتضيف: “لدي توق شديد لمقابلة أبي، أتساءل كثيرًا كيف كانت لتبدو حياتي إذا كان أبي فيها، أودّ أن أعرفه، أن أقول له إنني هنا، أن أعانقه”. تأمل ميريام في الحصول على بعض الإجابات التي تستحقها فيما يتعلق بالمكان الذي أتت منه.
سلطان الزهراني يبحث عن أبيه السعودي
“ربما كتبت هذه القصة عدة مرات، ومن الصعب ألا أشعر بالانزعاج أو الغضب أو خيبة الأمل من حقيقة أنني مضطر إلى القيام بهذا”. ذلك ما بدأ به سلطان الزهراني سرد قصته على موقع “saudi children left behind”، ويكمل: “كان والدي طيارًا في القوات الجوية الملكية السعودية خلال الفترة 1985-1986، وهو من جدة، والتقى بوالدته في إحدى قواعد القوات الجوية في تكساس.
ولد سلطان في مايو 1986، أطلق عليه والده اسم صديق دراسته، وعندما كبر سلطان، تظاهر بأنه مات. كان من المؤلم عدم وجود نموذج يحتذى به من الذكور، وأتساءل لماذا لم يحبني؟ لماذا لم أكن جيدًا بما فيه الكفاية؟
"ليس خطأي أنه من قرر إنجاب طفل قبل الزواج، أنا الضحية هنا"
ويشير سلطان لـ”مواطن” إلى أنه في عام 2021، وجد أصدقاء في المملكة العربية السعودية وأخبرهم بقصته، و ساعدوه في الوصول لرقم والده. كان عمره 35 عامًا، مضيفًا أنه مرّ بأشياء كثيرة قاسية بحياته، ولكن الاتصال بوالده كان الشيء الأكثر رعبًا، والذي اضطر القيام به في حياته، مبينًا أن الأمر استغرق منه عامًا حتى استجمع شجاعته للاتصال به.
ويصف ذلك: “أخيرًا في اليوم الذي اتصلت فيه لم يرد في المرتين الأوليين، وفي المرة الثالثة أجاب أخيرًا. أفترض أنه رأى الرقم وتعرف عليه، لقد فوجئت عندما سمعت أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة، سألني من أنا، أخبرته أنني ابنه، وساد صمت غريب على الهاتف!
بدأت أشرح له من أنا، أخبرته أنني سامحته على غيابه وأنني لست غاضبَا، ثم سألني ماذا أريد منه؟ طلبت منه بعصبية أن يقابل عائلتي، وأردت أن أقابل إخوتي أو ربما مجرد زيارة؛ فكان جوابه أنه لا يعرفني، وكرر هذا كثيرًا، ألقى اللوم على والدتي، وقال إن ذلك كان خطأها ولا يمكن الوثوق بها! لقد شعرت بالانزعاج الشديد، لدرجة أنني أغلقت المكالمة معه، وبعد بضعة أيام اتصلت مرة أخرى وقام بتغيير رقمه.
“ليس خطأي أنه من قرر إنجاب طفل قبل الزواج، أنا الضحية هنا”. أنهي سلطان قصته بهذه الكلمات.
و أكد سلطان أنه بعد المحادثة مع والده، وقع في اكتئاب عميق؛ خاصة حين أخبره أنه لا يمكن أن يكون والده. ويقول: “يؤلمني أنني مازلت بعد 36 عامًا غير مرغوب فيّ، كان من المؤلم أن أسمع ذلك، كم كان من السهل عليه أن يعاملني مثل القمامة”.
امتنع بعدها عن محاولة التواصل مع والده منذ أكثر من عام، وأكد أن السفارة السعودية في أمريكا لم تقدم أية مساعدة له أو المحاولة في حل المشكلة، وبين أنه عرض قضيته على عدد من المحامين في المملكة العربية السعودية، لكن لم يقبل أي منهم تولي الدفاع عنه في هذه القضية، وقال إن حل هذه القضية يتطلب تدخل من السلطة السعودية نفسها لمواجهة ذلك.
وأضاف أنه “اشترك في مدونة “23andme” أيضًا – التي تُعنى بالكشف عن أصل الشخص عن طريق تحليل الحمض النووي–، وكشف أن أصوله ترجع إلي أمريكا الوسطى ومنطقة الخليج العربي .
وبعث سلطان رسالة إلى عائلته قائلًا: “والدي يزعجني، و إخواتي يكرهونني، ولا يوجد شيء لي، هم يهتمون فقط بالمال والمكانة، عائلتي؛ أحب أن ألتقي بكم، أحب أن أجد الإيمان، أودّ أن أعرف قصتكم وأتمنى الزيارة يومًا ما”.
إجراءات سعودية لمعالجة الظاهرة والحدّ منها
قامت السلطات السعودية بفرْض العديد من القيود والإجراءات للتقليل من تلك الظاهرة، ومحاربة ظاهرة تأخر الزواج بين المواطنات السعوديات، والى قاربت الـ10%. وقد بلغ عدد العقود المسجلة لزواج السعوديين من الخارج 4502 عقدًا، ذلك الزواج الذي يضم طرفًا أجنبيًا وطرفًا سعوديًا من أصل 150 ألفًا و117 عقد زواج تم توثيقها خلال عام 2020.
ولقد أفرزت هذه الظاهرة عدة مشكلات وانعكاسات على المجتمع السعودي، وعلى الأسر المختلطة الناتجة عن هذا الزواج، وأهم هذه المشكلات تأخر سن زواج المواطنات السعوديات، والرفض الاجتماعي للزوجات الوافدات، ومشكلات الهوية خصوصًا بين أطفال الأسر المختلطة. وتعتبر هذه النتائج أحد الأسباب التي تدفع السلطات السعودية إلى تشديد متطلبات هذا الزواج باستمرار.
ومن جانبه أكد الدكتور فواز بن كاسب، باحث سعودي في الشؤون الاستراتيجية لـ “مواطن” أن المملكة العربية السعودية دائمًا ما تراعي حقوق الإنسان؛ سواء كان مواطنًا أو مقيمًا أو سائحًا، وذلك انطلاقًا من دستورها القرآن والسنة، والذي يحث ويوجه أيضًا على تقديم المساعدات بكافة جوانبها المادية والمعنوية، وأوضح أنه بالنسبة للأبناء السعوديين من أب سعودي وأم أجنبية من الموجودين بالخارج؛ فإن المملكة تسخّر العديد من الجمعيات والهيئات التي تتابع شؤونهم الخاصة؛ المادية والمعنوية والاجتماعية خارج المملكة؛ سواء كان هؤلاء الأطفال والأبناء معترفًا بهم أو غير معترف بهم من قبل آبائهم، وتحرص على توفير الدعم الخاص بهم والرعاية اللازمة لهم.
في عام 2015 وافق الملك عبدالله على تقديم مساعدة مقطوعة لرعاية الأسر السعودية في الخارج، قدرها 10 ملايين ريال، ورفع الإعانة السنوية للجمعية إلى مبلغ 7 ملايين ريال
John Doe Tweet
مشيرًا إلى أن التعامل القانوني مع الأمهات غير السعوديات شهد تطورًا ملحوظًا خلال السنوات الماضية من حيث الجنسية السعودية، وأعطاهم حق الإقامة والعمل كسعوديات في المملكة، بالإضافة إلى التعديلات والإصلاحات التي شهدها نظام التجنيس لهؤلاء الأمهات مراعاة لتحقيق الاستقرار والطمأنينة بما يكفل تعاملهم كالنساء السعوديات.
وبين “كاسب” أن المملكة بقيادة حكوماتها الراشدة الحالية -على حد وصفه- وقيادة خادم الحرمين الشريفين حرصت على تعديل نظام التجنيس والمتابعة؛ حرصًا على حفظ حقوق الأبناء السعوديين، موضحًا أن الجمعيات الهيئات المسؤولة عن رعاية أبناء السعوديين في الخارج تعمل بالتعاون مع العديد من الجهات المعنية مثل وزارة الخارجية بالمملكة، بما يكفل تحقيق استقرار هؤلاء الأبناء، وإشباع حاجاتهم في جميع أنحاء العالم؛ لا سيما في الدول العربية، مع وجود تطابق وتشابه كبير جدًا بين هذه الأنظمة بما يكفل لهم الرعاية والعيشة الكريمة.
وفي عام 2015 وافق الملك عبدالله بن عبدالعزيز، على تقديم مساعدة مقطوعة لجمعية “أواصر” الخيرية لرعاية الأسر السعودية في الخارج، قدرها 10 ملايين ريال، ورفع الإعانة السنوية للجمعية إلى مبلغ 7 ملايين ريال، لتتمكن الجمعية من أداء مهامها في رعاية أبناء الأسر السعودية المنقطعة في الخارج والعائدين منهم إلى المملكة.
اهتمت جمعية حقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية بهذه المسألة، وضاعفت من تحذيراتها للسعوديين من الزواج في الخارج دون تحمل المسؤولية، بعدما شهدت ظاهرة الزواج في الخارج ارتفاع معدلات الطلاق لزواج مواطنين من الخارج إلى 50%، وذلك نتيجة لاختلاف العادات والتقاليد وشروط التكافؤ بأنواعه؛ ما ترتب عليه أضرار مباشرة ومستقبلية؛ أولها تأثر الأبناء وضياعهم بين الأب والأم من جانب، وبلدي والديهما وعاداتهم من جانب آخر.
كما تعمل جمعية أواصر” السعودية على إيجاد حلول عمليـة لأوضاع الأسر السعودية المنقطعة والمتعثرة فـي الخارج، ومساعدتهم للعودة إلى الوطن بما يتوافق مع الأنظمة الرسمية، بالإضافة إلى توعية المجتمع للحد من تنامي عدد الأسر السعودية المنقطعة في الخارج وفق منهجية علمية وأساليب اتصال فعالة، بالتنسيق مع الأجهزة المعنية للحد من الزواج العشوائي من الخارج. ووفقًا للجمعية؛ فقد بلغ عدد الأسر التي ترعاها 1874 أسرة من 35 دولة أجنبية؛ في حين وصل عدد أفراد هذه الأسر 5625 فردًا؛ أي بمتوسط ثلاثة أفراد للأسرة الواحدة. حاولت مواطن التواصل مع جمعية أواصر السعودية عبر بريدهم الإلكتروني للوقوف حول جهودهم في معالجة تلك الظاهرة، لكننا لم نتلق منهم ردًا حتى موعد نشر التقرير.