من يتابع الأخبار العربية ومواقع التواصل الاجتماعي، يدرك أن العالم العربي يمرّ بمرحلة من التسطيح الفكري؛ حيث الهروب إلى “اللا فكر” و “اللا قيمة” هو الغالب؛ فالمسلسلات التي تحظى بأعلى نسب مشاهدة هي تلك المنسوخة من مسلسلات تركية تابعها أغلب المشاهدين مدبلجة للعربية، تلك المسلسلات التي لا هدف لها ولا قيمة فنية فيها إلا استعراض الأشكال الجميلة والملابس الفارهة والعلاقات السطحية، تلك المسلسلات التي لا تشير لزمن درامي محدد؛ فهي حدثت في زمان ما ومكان ما يصلح كل منهما أن يكون كل وقت وأي مكان. وتدور أحداثها في كومباوند مقفل بعيد عن الشعب ومشاكله اليومية وركضه خلف لقمة العيش، 100 حلقة من المخدر اليومي الظريف الذي لا تخرج منه بفائدة؛ بل بضياع للوقت والإلهاء.
ولم يكن ينقص منطقتنا إلا أدعياء التأثير “influencers” الذين يخرجون للناس في فيديوهات يومية فارغة، خدعتهم الشهرة؛ فظنوا أنفسهم أولياء الحكمة، ولم يكتفوا بنشر جهلهم على المواقع؛ بل ذهبوا إلى تأليف الكتب والروايات والمشاركة في المعارض مع تواطؤ من دور النشر التي تبحث عن المبيعات، حتى ولو على حساب الثروة الشجرية التي تم القضاء عليها لإنتاج الورق المستخدم من قبل هؤلاء المؤثرين لنشر هرائهم مغلفًا بغلاف جذاب.
وفجأة أيضًا أصبحت إطلالات الفنانات في المهرجانات أهم من أدوارهن؛ فستان الفنانة يهمها ويهم جمهورها أكثر من العمل الفني الذي شاركت فيه، والمغنية تركز على شكلها أكثر من كلمات ولحن الأغنية التي تؤديها، عيادات التجميل تزدهر والفن في تراجع، ترى مهرجانات تكريم كثيرة، بينما تبحث عن الأعمال التي تستحق التكريم كالباحث عن إبرة في كومة قش، ووسط كل هذه الفوضى ينتابك شعور بالخوف.
إن المطّلع على أحوال الدول العربية يدرك أن الحكومات تشجع على الإبقاء على الاختيارين، التشدد والسطحية، كطريقين وحيدين أمام الناس
John Doe Tweet
كانت دائمًا محطات السطحية والابتذال هذه في تاريخنا المعاصر، ثقوبًا يدخل منها التطرف؛ فالقارئ للأحداث في العقود الماضية يعرف أننا كنا نقفز من الابتذال إلى أحضان التطرف دون المرور بمراحل تطور فكري حقيقي، كنا دائمًا على طرفي نقيض، يثبت لنا أحد الطرفين سخفه وجهله؛ فنركض إلى الآخر كالغريق الراغب بالنجاة، وفي كل مرة نغرق أكثر ونتوه أكثر، ولا ندرك أن هناك بين النقيضين خيارات أخرى.
نقيض السطحية في عالمنا العربي ليس العمق كما تُظهر اللغة، قليلون هم من يبحثون عن العمق والجوهر في الفن والحياة؛ بل وحتى في الدين، وعندما تضرب الحياة أبناءها بسياط الحقيقة، من الذين أضاعوا حياتهم في قشور السطحية، يلجؤون إلى قشور الدين وهم يظنون أنهم يحسنون صنعًا.
الباحث في تاريخنا الحديث ما يلبث دون جهد كبير أن يدرك أن التطرف وجد أرضه الخصبة في مرحلة الثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي مع انتشار ما يعرف بالسينما التجارية، عندما سيطر الربح فقط على هذه الصناعة، واشتغل بها من لا تهمه الثقافة أو القيمة، لا رسائل فكرية أو إنسانية تنشد منها. واليوم نجد أن الحالة تتكرر بطرق أخرى، وباستخدام وسائل إغراء للجمهور بالمظهر والجمال والكوميديا السخيفة، والهروب من تلك اللحظة الحرجة لعوالم خيالية بعيدة عن الواقع المعيش ومشاكله.
أما قبل تلك الفترة فكان السائد هو الفن بكل ما يحمله من إبداع وقيمة؛ أم كلثوم وعبد الحليم وفريد الأطرش وفاتن حمامة وعمر الشريف، كان الفن له سلطة، والجمهور يتبعه وليس العكس، لم يسمع آنذاك مقولة “الجمهور عايز كدة”، إذا كان الجمهور يريد السطحية فعلى الفن أن يقومه ويهذب ذوقه، لا أن يتماشى معه بل وينحدر ساحبًا معه الذوق العام إلى القاع.
إن المطّلع على أحوال الدول العربية يدرك أن الحكومات تشجع على الإبقاء على الاختيارين، التشدد والسطحية، كطريقين وحيدين أمام الناس؛ فالسطحية لا تخيف أحدًا ولن تشجع الناس على التفكير العميق وتحليل الأمور بشكل منطقي، والتطرف كذلك؛ فالمتطرف إسفجنة جاهزة لامتصاص ما يأخذه من معلومات، الطريق الوحيد المخيف لبعض الحكومات هو طريق الفكر والثقافة الحقيقية التي لا يمكن السيطرة على نواتجها.
والواقع أن الجمهور نفسه أصبح متطرفًا حيال القضايا المهمة في العقدين الماضيين، من المستحيل أن تجد رأيًا محايدًا غير مسيس أو مؤدلج تجاه العواصف التي يمر بها العالم العربي في السنوات الأخيرة، لذا فالمنتج والكاتب وأرباب الصناعة الفنية وجدوا في الابتعاد عن القضايا المهمة وسيلة للبقاء في أجواء مشحونة، لم يشهد العالم العربي مثلها في السابق، وأدت إلى شروخات فصلت أبناء الوطن الواحد؛ فكيف إذا كنا نتحدث عن وطن عربي كامل.
في ظني أننا إن لم ننتبه لتلك الدائرية في تاريخنا المعاصر، سنظل ندور في دائرة من التنقل؛ من التطرف للسطحية حتى نعي أنه لا بديل عن الفكر الحر الذي بدوره يؤدي لحالة ثقافية لا تحدها سياسة أو مصالح فردية.
John Doe Tweet
أتذكر مسلسل “ليالي الحلمية” بأجزائه، وأفكر أنه إذا كنا اليوم سننتج مسلسل أجيال مثله؛ لا عن الخمسين عامًا الماضية بل عن أحداث العشرين سنة الماضية فقط؛ هل سنملك القدرة على الحياد والواقعية، وهل سيعجب الحياد الأطراف التي تطرفت بآرائها، والجواب لن ينتج هكذا مسلسل، ولن يمتلك أحد الجرأة على التفكير به، ولهذا انتعشت مسلسلات الكمبواندات والكوميديا غير الهادفة، ولم يبق سوى أسماء قليلة من الفنانين ركزت على الجوانب الاجتماعية ومشاكلها، مع مراعاة عدم المساس بكل ما من شأنه إثارة مشاكل أبعد من الترند وتعليقات الناس عبر وسائل التواصل.
وأنا أرى كل هذه الفوضى اليوم، أعرف أن هناك من يعد العدة للظهور مجددًا متحججًا بالابتذال، أتوقع أن يظهر من جديد، وبنسخة جديدة قديمة، متطرفون لا يعرفون عن الدين سوى قشوره، يخرجون من جحورهم يقدمون أنفسهم كبدائل تخرج الناس من الغيّ وتنقذهم من التفاهة والسطحية التي يعيشونها، ويعدونهم بتبدل الأحوال إن اتبعوهم. في ظني أننا إن لم ننتبه لتلك الدائرية في تاريخنا المعاصر، سنظل ندور في دائرة من التنقل؛ من التطرف للسطحية حتى نعي أنه لا بديل عن الفكر الحر الذي بدوره يؤدي لحالة ثقافية لا تحدها سياسة أو مصالح فردية. هذا الفكر الحرّ الذي يحفّز ملكة النقد في عقول الأجيال الجديدة تلك الملكة، التي لا تقدم ولا نجاح أو تجاوز عقبات واقعنا دونها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.