صبحي حسن عبد القادر، 65 عاماً، ناظر في مدرسة بمركز أجا بمحافظة المنصورة شمال مصر، يسمونه مربي الأجيال، أُصيب بمرض “التيفوئيد” للمرة الثانية عام 2019، بدأ يشعر بارتفاع درجة حرارة كما حدث له في المرة الأولى عام 2015، مغص شديد في البطن وفقدان الشهية مع ترجيع مستمر يلاحقه الإسهال المتزايد نتيجة عسر الهضم ما أثر على أعصابه وحركته. توجه صبحي من قريته التي تسمى عبدالنبي، إلى أقرب طبيب في “سلكا” التابعة للمنصورة، وشخَّص الأطباء إصابته بالتيفوئيد نتيجة جرثومة في المعدة.
وصف له الأطباء جرعات مضاد حيوي للقضاء على الجرثومة، لكنها لم تفلح سوى في تسكين الآلام بحسب قوله، وأصبح غير قادر على الجلوس ولم تقو أعصابه على المشي أو حتى الحركة البسيطة في بيته: “ذهبت إلى طبيب آخر؛ فمنع عني جرعات الدواء التي كانت تسبب الهبوط وكتب لي نوعاً آخر من المضادات الحيوية وتماثلت للشفاء خلال المتابعة أكثر من شهر ونصف”، يقول صبحي؛ إنما لم تنته معاناته مع المرض.
يكشف هذا التحقيق عن علاقة استخدام الحمأة (سماد) غير المعالجة في الزراعة وإنتاج الغذاء بأنواع مختلفة من الأمراض، من بينها مرض التيفوئيد والفشل الكلوي واستخدامها. وتُعد حالة “صبحي” واحدة ضمن مئات الحالات الأخرى من بين المصابين بالتيفوئيد والفشل الكلوي والتهاب الكبد الوبائي في المنطقة. وتثبت الدلائل والقرائن العلمية المنشورة ونتائج تحاليل عينات للتربة والغذاء بالمعامل المختصة؛ أن مواد مثل النحاس والزنك والنيكل.. الخ من العناصر الموجودة في الغذاء تتجاوز المعايير الغذائية والصحية في التربة بأضعاف، ما يترك آثار صحية سلبية على المستهلكين، ناهيك عن آثار أخرى جانبية متمثلة بجودة الهواء وتفشي الميكروبات جراء طرق معالجة الحمأة وقربها من السكان المحليين، علاوة عن تصاعد غاز الميثان أحد الغازات الدفيئة الُمسببة للاحتباس الحراري .
بحسب بيانات وزارة الزراعة يحتاج الفدان الواحد (4200) متر من الأرض الزراعية نحو 20 مترا مكعباً من السماد العضوي الذي ينتج من المخلفات الحيوانية (روث). وبما أن انتاج هذا النوع من السماد لا يغطي سوى نصف أراضي مصر الزراعية، فضلاً عن الكُلفة العالية للأسمدة الكيماوية التي تحتوي على النيتروجين والبوتاسيوم والفسفور، تبدو “الحمأة” غير المعالجة هي الخيار السحري بسبب كلفتها الاقتصادية المتدنية بحسبً الدكتور أحمد عطية، أستاذ الإنتاج الزراعي بجامعة المنصورة. ويخالف استخدام الحمأة الملوثة قوانين الزراعة المصرية السارية.
تتمثل خطورة الحمأة في احتوائها على مواد صلبة ثقيلة و كيميائية تسبب أمراض التيفوئيد والفشل الكلوي والتهاب الكبد الوبائي، فضلاً عن تلويث الأراضي. أن العناصر الثقيلة الموجودة في الحمأة إذا انتقلت للإنسان عن طريق النبات وزادت عن نسب معينة تُسبب كل تلك الأمراض وأضرار صحية أخرى خاصة بين الأطفال.
يبلغ عدد محطات الصرف الصحي 440 محطة في مصر، وتنتج قرابة 13 مليون متر مكعب بشكل يومي ويُستخرج منها 4% من المواد الصلبة العالقة، ما يقدّر بـ200 مليون متر مكعب حمأة سنوياً .مقابل ذلك تشير بيانات الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي إلى أن حجم الحمأة من جميع المحطات تقدر بثلاثة آلاف و417 طن يومياً، 1.3 مليون طن سنويًا لكل محطات الصرف الصحي في مصر. وطبقًا للزيادة السكانية ينتج عنه زيادة الطاقة الفعلية لمياه الصرف الصحى من 12.7 مليون م3/يوم إلى 32 مليون م3/ يوم بحلول 2037 – طبقَا لمخطط الشركة القابضة لمياه الشرب والصرف الصحي- ما ينتح كمية حمأة جافة 7500 طن جافة يومياً تعادل 2.75 مليون طن حمأة جاف سنويا. بحسب اللجنة الدائمة لتحديث الكود المصري لأسس التصميم وشروط التنفيذ لنظم إدارة حمأة الصرف الصحي
يشير أحمد شاهين، وهو أحد العاملين في محطة الصرف الصحي لإحدى قرى محافظة المنصورة، إلى أن عملية تنشيف الحمأة تتم بعد تسريب المياه الثقيلة في الحوض، ثم تقوم القاطرات بنقلها خلال 15 أو 30 يوماً وتباع إلى مقاولين تعاقدت معهم الشركة القابضة لمياه الصرف الصحي والشرب. ويُترك أمر مطابقة الحمأة مع المعايير العلمية والبيئية، لـ”ضمير” المقاولين أثناء البيع، بينما من المفترض أخذ عيّنات من الحمأة وفحصها قبل البيع.
داخل إحدى محطات الصرف الصحي المنصورة التي تتكون من 220 حوضاً للتجفيف، يتم تفريغ هذه الأحواض بغية استقبال كميات أخرى بشكل يومي. يقول الباحث في علوم الكيمياء، مجدى عادل (اسم مستعار)، “تخدم المحطة قرابة مليون ونصف مليون مواطن في 10 قرى تتكون كل واحدة منها من 5 نجوع يقطنها 25 ألف نسمة، أما طريقة التشغيل المحطة فتتم عن طريق ترسيب الحمأة داخل الأحواض التي تُصدر روائح نفاذة وكريهة تزداد من حدتها في فصل الصيف وقد نُضيف بعض المواد لتقليل التأثير، ثم تتم معالجة مياه الصرف الصحي بطريقة ثنائية ويتم طردها في أقرب ترعة صرف زراعي مجاور للمحطة، ما يسبب ارتفاع منسوب المياه الجوفية بالمنطقة.
تعهد غائب
بحسب رئيس الاتحاد النوعي للبيئة الدكتور وحيد إمام يجرم قانون البيئة رقم 4 لسنة 1994 بيع الحمأة غير المعالجة. واشترط القانون على محطات الصرف التأكد من وصول الحمأة إلى المدفن الصحي الآمن عبر متعهدين من خلال نظام “التتبع الثلاثي” الذي ينص على التخلص الآمن من الحمأة بالشكل التالي: يدون الطرف الأول، أي الجهة المولدة، الكمية والنوع والمواصفات والغرض من نقلها، إبلاغ الطرف الثاني “الناقل” ببياناته ورقم السيارة ومواصفات الكميات المحملة وحجمها وجهة التخلص الآمن، ويوثق الطرف الثالث بيانات جهة التخلص الآمن وإقرارها باستلام الكمية بنفس المواصفات المذكورة في بيانات الطرف الأول والثاني، على أن تختم بالختم الرسمي وتحتفظ محطة الصرف الصحي بصورة رسمية وتحتفظ بها في السجل البيئي يراجعها مفتش البيئة.
مقاولة السموم
يتم شراء الحمأة من محطات الصرف الصحي في مدينة السلام بالقاهرة أوالمنصورة أو الإسكندرية. ويصل سعر قاطرة واحدة منها (25 متر مكعب) إلى 143 دولار بواقع 6.12 دولار للمتر مكعب، فيما يصل سعر قاطرة من سماد الكتكوت (6 متر مكعب) الى 65.3 دولار ، بواقع 10.2 دولار للمتر الواحد بحسب كلام تاجر غير شرعي. وتُباع الحمأة المعالجة وغير المعالجة بحسب الطلب، حيث يعمل التاجر في الباطن مع مقاول يأخذ كميات ضخمة تصل إلى 20 إلى 30 ألف متر مكعب كل ثلاثة شهور. ويُفضل المزارعون الحمأة غير المعالجة لأنها الأرخص ثمناً بالنسبة لهم. يذكر أن 25 متراً مكعباً من الحمأة بعد خلطها مع ستة أمتار مكعبة من سماد الكتكوت تكفي لزراعة فدانين من الفراولة، كما تعطي الخلطة نمو خضري عال، ما يسرّع الثمار ويكثرها.
يشكل تجميع الحمأة في محيط محطات المعالجة خطر بيئي وصحي على المناطق السكنية المتاخمة لها، خاصة تلك التي تقع في اتجاه الحركة السائدة للرياح وتحمل معها الغازات المولّدة من المكان. غاز الميثان على سبيل المثال، حيث يُعد من الغازات المهيجة للأغشية المخاطية في العيون والأنف والتنفس، وتآكل المعادن ناهيك بأنه من الغازات المُسببة للاحتباس الحراري.
إن عملية التحلل المستمرة في موقع محطة المعالجة تولّد غازات كريهة الرائحة مثل الأمونيا وكبريتيد الهيدروجين وغازات مهيجة وضارة بالصحة والبيئية مثل أكسيد النتروجين والفوسفات وثاني أكسيد الكربون؛ ما يخالف اشتراطات قانون البيئة المصري رقم 4 لسنة 1994 والمعدل لسنة 2005. ولكن الفاعل هنا، هو الحكومة التي تبيع مواد تخالف قانون الزراعة رقم 53 لسنة 1966 والقرار رقم 100 لسنة 1967 الخاص بالأسمدة العضوية حيث تم تجريم استخدام أسمدة “البتروتيت”. وقد حدد القرار رقم 100 لسنة 1967 وفقًا للقانون رقم 53 لسنة 1966 بشأن المخصبات الزراعية، حدوداً معينة للسماح باستخدامها.
تُعد المخلفات الصلبة الناتجة عن الصرف الصحي مثل الحمأة، من أخطر المخلفات المركزة، ذلك أنها تتسم بدرجة عالية من السمية، خاصة إذا كانت ناتجة عن خلط مخلفات المنازل مع مخلفات المصانع. السبب الرئيسي هو أن الغالبية العظمي من المصانع لا تجري إعادة تدوير المخلفات السائلة التي يتم تصريفها بشكل مباشر عبر مجاري الصرف الصحي المقسمة إلى صرف منازل والمياه المعالجة. والنتيجة هي، أن الحمأة المستخدمة للزراعة تحتوي على أكسيد الرصاص والحديد والنترات، وهي كلها مواد سامة.
تجربة
أجرينا 6 تحاليل فى المعمل المركزي لتحليل متبقيات المبيدات والعناصر الثقيلة في الأغذية التابع لمركز البحوث الزراعية، فحللنا (الحمأة والتربة) عناصر ثقيلة وحمل ميكروبي، و(المانجو والفلفل) عناصر ثقيلة، كما قمنا بمقارنة النتائج الخاصة باستخدام الحمأة في الزراعة بحسب الكود المصري لإعادة استخدام مياه الصرف الصحي 2017 ، وقرارات الهيئة القومية لسلامة الغذاء رقم 6 لسنه 2022 ، وكانت النتائج طبقًا للجدول أدناه
يشير أستاذ البيولوجيا والصحة البيئية، خالد القاضي، الى “أن الصرف الزراعي يحتوي على السماد والهرمونات ذات خطورة عالية على الزراعات والخضر والتربة وصحة الإنسان، وتزيد من معدلات الإصابة بالفشل الكلوي والكبد والأورام السرطانية وأمراض الجهاز المناعي للجسم”. وبحسب القاضي، تجرم القوانين العمل بالحمأة دون معالجتها، وهناك اشتراطات لاستخدامها، أولها التخلص من التلوث البيولوجي، أما الأخطر فهو الملوثات الكيمائية التي يصعب التخلص منها.
أما بخصوص العناصر الثقيلة التي تتمثل في الرصاص والكادميوم والكروم، فهي كما يقول القاضي، “تُنتج من مصانع المواسير والحديد والأسمدة والطلاء، فالرصاص يسبب 32 مرضا مثل سرطان الدم للأطفال وعقم السيدات وتشوه الأجنة وضعف الذاكرة وتخلف الأطفال وأمراض الأنيميا، أما الكروم يضعف عضلة القلب، والكادميوم ويفسر بأن انتشار مرض التيفوئيد نتيجة التعرض المباشر للحمأة “السالمونيلا” لأنها موجود في المخلفات الصرف الصحي للإنسان”.
وبحسب عادل عبد الفتاح عمران الباحث في هندسة البيئة و استشاري إدارة الكيماويات والمواد والنفايات الخطرة في جهاز شئون البيئة، يشترط التداول الآمن للحمأة عدم تجاوز نسبة الرصاص 300 مليجرام في كل كيلوجرام من هذه المخلفات، على أن تستخدم فقط في زراعة الغابات الشجرية والزراعات الخشبية والنباتات التي لا تؤكل نيئة أو تستخدم في أغراض صناعية فقط. وتظهر الفحوصات التي أجريناها بأن نسبة الرصاص وصلت إلى 1.2 بينما الحد المسموح به هو 0.2.
أما بالنسبة للكادميوم والزرنيخ وهما من العناصر السامة للتربة، فيجب أن يقل تركيزها عن ملغرام واحد في الكيلو الواحد، كما يُمنع بيع الحماة الموجودة داخل محطات الصرف الصحي إذ وصفها القانون بـ”المادة الخطرة، إلا بوجود مندوبين جهاز شئون البيئة ووزارة الصحة للتأكد من الاستخدام الآمن. واشترط أن تكون آمنة Safe Sludge حتى يمكن تداولها واستخدامها بحيث لا تضر بالصحة العامة ولا بالبيئة، وآمنة تماما للإنسان والحيوان، وألا تتجاوز تركيز المعادن الثقيلة بها في الحدود الآمنة المسموح بها، وخفض محتوى الكائنات الممرضة بها للحدود الآمنة بمعالجتها وتثبيتها قبل تداولها.
ويضيف الدكتور عادل بهذا الشأن، “تؤثر درجة الحرارة وكمية واتجاه الرياح ورقم الأس الهيدروجيني وكثافة أشعة الشمس وكمية الأكسجين الذائب والكائنات الحية الدقيقة وتنوعها وخواص المياه المراد معالجتها في الحمأة، ونحتاج لصدور قوانين صرف أكثر صرامة في الدول النامية لفرض المواصفات المطلوبة الخاصة بنوعية الحمأة”.
ارتباطاً بكل ذلك، تثبت إصابة “صبحي عبدالقادر” بالفشل الكلوي، العلاقة الواضحة بين الحمأة غير المعالجة واستخدامها للتخصيب الزراعي وبين انتشار الأمراض المذكورة واستمرارها بين السكان المحليين. فهي إضافة إلى إطالتها وانتشارها، تقيد حركة المصابين وأنماط غذائهم. لقد حدد الطبيب نظام تغذية معينة لصبحي، وباتت وجباته لا تتجاوز بطاطس مسلوقة وعسل أسود وجبنة قريش وشرب بملح بسيط مع ليمون حتى تتخلص المعدة من الجرثومة. ويؤكد الطبيب على إصابة مريضه بالفشل الكلوي جراء محطة الصرف.
وتشير الدكتورة أمل السفطي، أستاذة الطب المهني والبيئي والمديرة السابقة لمركز السموم بكلية الطب جامعة القاهرة، إلى أن خطورة الحمأة غير المعالجة تتمثل في السموم المركبة من بينها الرصاص والزرنيخ؛ ما يؤثر على جهاز المناعة، فضلا عن الإصابة بأمراض الجهاز العصبي والتأثير على الغدد الهرمونية. وتؤكد السفطي على تأثر الأطفال أكثر من غيرهم بالرصاص الموجود في الحمأة غير المعالجة، بخاصة الآثار المباشرة على المخ وباقي الجهاز العصبي بين الرضع، فضلاً عن آثار أخرى على وظائف الغدد الصماء والأنيميا.
الفشل الكلوي منعني من السفر والعمل
حسين متولي محمد ناصف، 53 عامًا، احد سكان نفس القرية التي يسكنها صبحي، يروي تفاصيل معاناته مع مرض الفشل الكلوي. عمل متولي مندوب مبيعات في السعودية منذ 1993، كان يتنقل بين القاهرة والرياض، ساعياً لتأمين مستلزمات أولاده الثلاثة في مراحل التعليم الثانوية والجامعية. شعر قبل 4 سنوات بتقلصات في الكُلي، واثبتت التحاليل إصابته بالفشل الكلوي أيضاً. ويقول متولي، “وصلت قراءة “الكرياتين” لـ2.5 وبدأت العلاج علي نفقة الدولة في مستشفى غنيم بمركز أجا، وبين الحين والآخر ترتفع وتنخفض نسبة الكرياتين ما بين 2.5 إلى 3.5 في حين لا يتجاوز المعدل الطبيعي 1.4″. منعه الطبيب من تناول الموالح ومياه الإسالة حيث يعيش حاليًا على المياه المعدنية، ناهيك بما يقارب 15 صنف دوائي بتكلفة تتجاوز أكثر من ألفين جنيه وتغطي الدولة قرابة 70% من التكلفة. “لم أعد قادراً على العمل وتوقفت عن رحلات السفر للخليج، لقد وضعني مرض الفشل الكلوي رهن الإقامة الجبرية في منزلي”، يقول متحدثي.
حكاية المحطة
تم إنشاء محطة أجا للمعالجة والصرف الصحي قبل 25 عاماً على بعد 300 متر عن مجموعة نجوع في قرية بني عبد النبي. تقع وسط أراض زراعية في الشمال الغربي، روائحها النفاذة مع حركة الرياح السائدة تطارد الأهالي، ما يحرمهم من فتح النوافذ خوفاً من أمراض بكتيرية أصابت معظم الأطفال بالأمراض الصدرية ونزلات معوية شديدة ومرض التيفوئيد. أما الزراعات، فلم تسلم من الأذى جراء انتشار اليرقات والذباب على عناقيد العنب المفرغة من الثمار.
وتم وضع المحطة في القرية تحت نفوذ وضغط العضو في مجلس النواب عبدالفتاح دياب بمعاونة مجلس المدينة. في البداية تمت الموافقة على عمل المحطة في قرية (ميت العامل) وهي مسقط رأس عبد الفتاح دياب، ولكنه حصل على قطعة أرض مساحتها 5 أفدنة في قرية عبدالنبي لتأسيس المحطة، مخالفاً بذلك جميع الاشتراطات. يتذكر صبحى حسن عبد القادر، كيف حصل العضو في مجلس النواب على الأراضي من بنات السفير المصري السابق في فرنسا كمال الدين عبد النبي.
تفاوض الأهالي مع النائب بغية إنشاء المحطة في ذيل الأراضي وليس في الأعالي الملتصقة ببيوت القرية، إنما رُفض طلب الأهالي وتم إنشاؤها من ناحية الشمال الغربي التي تتماشى مع حركة الرياح، مما يساهم في دفع الروائح الملوثة والناموس والذباب نحو المنازل. يقول صبحي، “تخنقنا الرائحة النفاذة، كما تسبب أمراض الجهاز التنفسي، ضيق التنفس تحديداً”. وبحسب رواية صبحي وسكان آخرين، تطارد الروائح الكريهة أهل قرية عبدالنبي والقرى المجاورة، الأمر الذي حرمهم من فتح النوافذ ليلاً أو نهاراً.
ضد القوانين
هناك قرار لوزارة الصحة والسكان رقم 214 لسنة 2018، بخصوص الاشتراطات الصحية اللازمة لاختيار مواقع إنشاء محطات معالجة سوائل الصرف الصحي. ويشترط هذا القرار بألا تقل المسافة بين المحطة وأية تجمعات سكنية عن 500 متر وقد تصل الى 10 كيلومتر بحسب حجم المحطة، وذلك لتفادي الأضرار الناجمة عنها بيئياً وصحياً ناهيك عن سوء تشغيلها وفقاً للدكتور عبد الله العريان أستاذ التخطيط العمراني في جامعة القاهرة. ويشير الباحث الى ضرورة إنشاء المحطات بناءاً على اتجاهات الرياح في مصر، وذلك لمنع نقل أي ميكروبات أو بكتيريا.
وتتكون محطات الصرف الصحي في مركز محافظة المنصورة، الدقهلية، من 220 حوض، تبلغ مساحة كل حوض 18 متراً، ويتم تنشيف 5 إلى 10 أحواض بشكل يومي حيث يتم استخراج آلاف الأطنان من الحمأة ثم بيعها للمزارعين. وتحتوي هذه الرواسب على مسببات مرضية ومواد ثقيلة، علاوة عن تلويث المياه الجوفية. وتُعد عمليات البيع مخالفة لقانون رقم 53 لسنة 1966 والقرار رقم 100 لسنة 1967 الخاص بالأسمدة العضوية.
المعالجة لخفض الحمل البيئي
تحتوي الحمأة على مواد صلبة كبيرة والأحياء الدقيقة، تهدف عملية ترسيبها الى تخفيض نسب المواد المعلقة وتجرى عليها معالجات حتى تصبح صالحة للاستخدام الزراعي. وبحسب الباحث في المركز القومي للبحوث الدكتور حلمي الزنفلي فإن كميات الحمأة ضخمة جدا وغنية بكل ما يحتاجه النبات، إنما تكمن المشكلة في مصر بأن الرقعة الزراعية محدودة، لذلك يجب التوسع في الإنتاج عن طريق اللجوء إلى استصلاح الأراضي مثل الدلتا الجديدة والعلمين، وهي كلها أراضي رملية خالية تمامًا من كل المواد التي يحتاجها النبات ويتم اللجوء إلى المواد الكيماوية كمغذيات. وعلى رغم أنها مصدر مشكلة بيئية، انما الحمأة بحسب رأيه، يمكن استخدامها للزراعة بعد تطبيق الاشتراطات والقضاء على المسببات المرضية التي تحتويها.
ويقول الزنفلي بهذا الخصوص، “يجب تشديد الإجراءات وإجراء عمليات التطهير Disinfection وعدم السماح بتداوله قبل مطابقته للمواصفات المطلوب، لأن الإجراءات الروتينية التي تتم في المحطات مثل تعريض للشمس أو ترسيبه هو مخفض للحمل الميكروبي لكنه لا يقتل البكتيريا ولن يكون مطابق للمواصفات”.
لا يشكل الصرف الصحي للإنسان خطورة من حيث محتوى الحمأه من العناصر الثقيلة، إنما خلط الصرف الصحي مع الصرف الصناعي هو المسبب الرئيسي للعناصر الثقيلة ويشكل خطراً على الزراعة. “فحين يتم إيقاف خلط الصرف الصناعي بالصرف الصحي إلا بعد المعالجة، يمكن استخدامه كسماد بأقل التكلفة ومعالجات غير مكلفة” يقول الزنفلي. ويرى في الوقت ذاته إمكانية استخدام التكنولوجيا الحديثة لتحويل الحمأة غير المعالجة الى سماد عضوي آمن وذو ربحية عالية عن طريق عمل مصنع سماد مجاور لمجمع المحطات. “بذلك نقضي على مشكلة بيئية ونتبع استخدام آمن ومستدام للمخلفات بما يخدم أهداف التنمية المستدامة” يضيف الزنقلي.
المحرومون من الهواء
بحسب غالبية الخبراء والباحثين الذي التقيناهم اثناء انجاز هذا التحقيق، تتمثل مشكلات الحمأة في الكائنات الحية الدقيقة والطُفيليات، فيما تتمثل الخطورة في العناصر السامة الثقيلة مثل النيكل والحديد، الرصاص، الكادميوم والزئبق. وهي بمجملها تسبب الأمراض وتولد غازات سامة وكريهة الرائحة. على سبيل المثال تجاوزت نسبة الرصاص في التربة الحد المسموح بها ثلاثة أضعاف، أي ارتفع من 0.2 الى 1.1 فضلاً عن تجاوز عناصر أخرى عن المواصفات القياسية.
محمد عطية صاحب الـ (55 عاما) ضحية أخرى من ضحايا استخدامات هذه المخلفات الثقيلة التي يتم استخدامها في إنتاج الغذاء، وأصيب بالفشل الكلوي منذ 3 سنوات جراء ذلك. أقام صاحب في القاهرة وعاد الى قريته قبل 5 سنوات ليعمل في الأراضي الزراعية، لكن الفشل الكلوي شلّ حركته وجعله أسير المنزل، منعه الطبيب من تناول 18 صنفًا من أصناف الغذاء، ويتم علاجي على نفقة الدولة.
يشتكي محمد من حالته قائلاً، “رائحة المحطة الناتجة من الصرف الصحي والحمأة تحاصرني داخل غرف منزلي، أدخل الغرفة وأغلق الأبواب على نفسي، أعيش أياماً ونفسي اقضيها في بيئة صحية. ينصحني الطبيب بالحركة لكن روائح النفقة تحرمني من الخروج، وحتى أن خرجت فلا يمكنني استنشاق هواء نقي”. ولا تتوقف آثار محطات الصرف الصحفي واستخراج الحمأة منها في تخوم الفشل الكلوي والضيق في التنفس، بل تشير الأبحاث الحديثة الى أن الحمأة تحتوي على مشكلات كثيرة ومُسببات مرضية أخطرها العناصر الثقيلة التي تسبب مشكلات مرضية مثل الإشريكية القولونية.
حالة محمد تتطابق مع ما ذكره المهندس أشرف محمود، مهندس استشاري في منظمة الأمل الأخضر، فيزداد تعداد المستعمرات البكتيرية في (نتائج العينات ) بالحمل الميكروبي بشكل كبير لتسجل مستويات عالية في “الحمأة” حيث بلغ تعداد بكتيريا القولون الكلية ثلاثة ملايين خلية في الجرام الواحد ما يخالف كل المعايير الدولية وتسبب زيادة حالات التيفوئيد والفشل الكلوي
مشروع لتحويل الحمأة لسماد عضوي مع شريك ألماني أوقفه "يوسف والي"
في هذا السياق يشير أحمد عطية، المدير الإقليمي للجمعية المصرية للثروة السمكية، إلى أن إجراء عمليات المعالجة وإضافة مواد تخمرها تساعد على استخراج أطنان من الحمأة بعد تركها لفترة تتراوح ما بين 3 إلى 6 شهور حتى يتم التخلص من المسببات المرضية، إنما وبسبب نظم المعالجة التي أُنشأت وصممت هذه المحطات، لا توجد مساحات مكانية لاستيعاب هذه الكميات للتعامل مع الحمأة وتجفيفها.
ويقول عطية في هذا السياق إلى “أن الأزمة التي يتعرض لها المزارعون تكمن في فجوة الأسمدة العضوية وهي المسؤولة عن بناء التربة الرملية والطينية وامدادها بكافة العناصر التي يحتاجها النبات، أما السماد الكيماوي فيمد النبات فقط”. إن النظام المعمول برأيه هو “معالجات أولية، إضافة الكلور لقتل الكائنات الحية الدقيقة الممرضة الموجودة بالأساس في الصرف الصحي، وهو خليط من مخلفات الإنسان والمستشفيات والمصانع والأدوية، ثم الترسيب من رمل أو ملوثات أخرى وبالأخير يتم ترسيب الحمأة الطينية حيث يضاف اليها كلور ثم تفرغ في المصارف الصناعية أو الزراعية”.
تكنولوجيا الألمان مع وقف التنفيذ
اعتمدت التجربة الألمانية عن طريق عمل أكوام من” الحمأة والقمامة” لعمل تخمر لاهوائي في ظروف معينة عبر إضافة مادة (النتروكس) المستخلصة من الطحالب البحرية بكندا، وهو عامل محفز لامتصاص وترسيب العناصر الثقيلة. وبُحث الأمر في جامعات القاهرة والمنصورة، ورغم بلاغ وزارة الصحة إلى (كلاوس روهنثروت) نائب رئيس مجلس إدارة Ruhenstroth Foundation بموافقتها 1995 لإنتاج الأسمدة العضوية الطبيعية، والموافقة ذاتها وثقت من وزارة البيئة المصرية.
توقف المشروع بسبب يوسف والي الذي كان قد أصدر قانون، أثناء توليه وزارة الزراعة، قبل حوالي 20 عاما، وتضمن عدم إدخال أية مواد عضوية من الخارج، لأن هذه المواد بحسب ارشاداته قد تتضمن مواد تؤثر على التربة المصرية، ورُفض تعميم التجربة، علاوة على عدم وجود مساحات كافية بالمحطات لعمل الأكوام. ويعلق يسري أبو الدهب مستشار الشريك الألماني واستشاري بمؤسسة Ruhenstroth Foundation “كنا نأمل في هذا المشروع وضع حلول بيئية ومُستدامة للحمأة والقمامة قبل 26 عاماً ولكنه توقف وما زال خطر الحمأة ساريا بين المصريين”.