تدقّ الثامنة صباحًا في أحد أيام صيف 2020، تستعد المترجمة الصحفية «لبنى»* لمباشرة عملها على مكتبها في المنصّة الإماراتية التي أُنشأت في مصر، إبان ثورة يناير 2011. يخبرها مديرها بأن تبقى منتبهة في انتظار إعلان هام سيصدر عن دولة الإمارات في المنصة التي تعمل بها كرئيسة قسم والتي تتبع دولة الإمارات، ومقرها مصر.
الساعة الثانية ظهرًا، نبأ عاجل: الإمارات والبحرين تبرمان اتفاقية سلام مع إسرائيل، برعاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
صمتٌ يطبق على كل العاملين بالمنصة، غضب يكسو الوجوه، يعملون دون كلل عن كيف ستسهم الاتفاقية الجديدة في إرساء قواعد السلام العالمية، وبمنشورات بالعربية والإنجليزية، بدأ المحررون في المنصّة في كتابة تفاصيل الإعلان.
تحكي «لبنى» عن فترة إعلان تطبيع الإمارات مع إسرائيل، وطريقة العمل في المنصّة الإماراتية، وتقول: «ما زلتُ أذكر ذلك اليوم من صيف 2020، والذي طُلب مني فيه، بوصفي رئيسة قسم بإحدى الخدمات الإعلانية الرسمية التابعة لحكومة أبوظبي، أن أبقى على أهبة الاستعداد، وأن أرفع عدد الزملاء من المرؤوسين بالدوام، لأن حدثًا هامًّا سيتم إعلانه، وسيكون علينا أن نقوم بتغطيته باللغتين العربية والإنجليزية عبر منصاتنا بسرعة وكثافة تتناسبان مع أهميته».
حاولت «لبني» معرفة ما هذا الحدث الهام الذي يتأهب له الجميع؛ لكن دون جدوى؛ كان الغموض سيد الموقف، متذكّرة مقولة رؤسائها في ذلك الوقت: «ابقوا متأهبين لتغطية حساسة وواسعة النطاق ومكثّفة».
لكنّ اللحظة الأكثر صدمةً كان لحظة الإعلان؛ ساد الصمت لدقائق قبل أن ينهمك الجميع في التغطية، وفي قرارة أنفسهم يعلمون أن إسرائيل دخلت إلى المنطقة من أوسع أبوابها؛ أبوظبي، ستكون إسرائيل حاضرة وبقوّة في جميع المحافل الإماراتية والحفلات والمؤتمرات، وغيرها من الأمور التي لم تكن حاضرة بها من قبل، والحقيقة أن تقدير الصحفيين العاملين في المنصّة كان في محلّه؛ لأن ذلك المساء لم يكن إلا بداية لسيل من التغطيات والتقارير ذات الصلة بالتطبيع الإماراتي الإسرائيلي، حسبما تصفه «لبنى» بـ«مقالات الغزل المتبادل بين الجانبين الإماراتي والإسرائيلي».
بينما يتذكّر «حسن المصري»* وقت انتظار إعلان التطبيع الإسرائيلي الإماراتي، يقول: «رُفعت حالة الطوارئ القصوى في المكان، وطلب من الجميع التواجد بالمكتب طوال اليوم، ومنع الإجازات، وتم إبلاغنا بصدور بيان هام من وكالة أنباء الإمارات “وام” ويجب تغطيته بصورة إيجابية، وإبراز أن الإمارات صانعة السلام في المنطقة». يُكمل المصري: «مُنع استخدام أو ذكر كلمة تطبيع في المواد الصحفية التي نكتبها، كما طلب منا ضخ عدد كبير من المواد الصحفية المتنوعة؛ ما بين قوالب أخبار وإنفوجرافات وفيديوهات وتقارير».
التغطية الصحافية تكون إيجابية فقط!
يذكر «المصري» أنَّ العمل في المنصّة الإماراتية يكون بالتغطيات الإيجابية فقط؛ إذ «يتم إبلاغ فريق العمل بأي حدثٍ بوصفهٍ حدثًا هامًا، حتى قبل الإعلان الرسمي، دون الإفصاح عن الحدث حتى لا يتم تسريبه؛ لكن مثلًا يوم وفاة الشيخ زايد، طُلب من الجميع الحضور للمؤسسة دون أعذار، حتى من كانوا في إجازة قطعوها وكانوا حاضرين».
اعتقدتُ لوهلة أنّ صفحتي الشخصية على فيس بوك لي، وكتبتُ أنني ضد أي شخص أو أي دولة تجري عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاشم؛ لكنني فوجئت بعدّة اتصالات من مدير تحرير المنصّة في ذلك اليوم
John Doe Tweet
ويضيف: «بالنسبة لبعض الأحداث المهمة الأخرى، يكون لدينا علم بها قبل فترة قصيرة للاستعداد لها وتجهيز المواد الصحفية بكافة أشكالها، والتي تبرز مكانة الإمارات وسُمْعتها الإقليمية والدولية، حتى وإن كان ذلك عكس الحقيقة؛ فلا بد أن نكتب المواد الصحفية بأن الإمارات هي صاحبة الريادة في المنطقة، وأنه لا مستحيل في القاموس الإماراتي، ويمكن التدليل على ذلك بالإعلان عن بيت العائلة الإبراهيمية، وإطلاق مسبار الأمل، ورحلة رائدي الفضاء الإماراتيين هزاع المنصوري وسلطان النيادي، وما يحدث أثناء الزيارات الخارجية لرئيس الدولة».
ومع اندلاع الصراع الفلسطيني الإسرائيلي في السابع من أكتوبر 2023، عمل «محمود علاء»* في المنصّة الإماراتية كمحرر، والذي يصف العمل بها بالعلاقات العامّة، يتذكّر محمود أنّه أثناء إلقاء ريم الهاشمي وزير الدولة لشؤون التعاون الدولي لبيانها في مجلس الأمن، وصفت ما فعلته “حماس” في أسر الإسرائيليين بـ«الهجمات البربرية»، وأدانت “حماس“؛ إلا أنَّ المنصّة الإماراتية لم تبرز هذا الإعلان من قريبٍ أو من بعيد؛ بل إنّه حتى أثناء إنتاج الفيديوهات التي تبرز دور الإمارات في دعم القضية الفلسطينية، لم يرغب القائم على إدارة التحرير في المنصّة في ذلك الوقت، أن يتم ذكر ذلك من قريبٍ أو من بعيدٍ.
لا مجال لحرية الرأي ولو في السوشيال ميديا
رُغم موقف «لبنى» التي تعاملت مع الأمر باحترافية شديدة؛ إلا أنّه وفي نفس المنصّة لم يكن هناك متنفّس أمام «مصطفى الأسيوطي» إلا أنْ يعبّر عن رأيه عبر صفحته الشخصية على «فيس بوك»؛ الأمر الذي انقلب ضده إلى حدِ التهديد بالاستغناء عنه إذا لم يمسح ما نشره عن التطبيع بين الإمارات وإسرائيل.
يقول الأسيوطي: «اعتقدتُ لوهلة أنّ صفحتي الشخصية على فيس بوك لي، وكتبتُ أنني ضد أي شخص أو أي دولة تجري عملية التطبيع مع الكيان الصهيوني الغاشم؛ لكنني فوجئت بعدّة اتصالات من مدير تحرير المنصّة في ذلك اليوم ولم أرد عليه، ثم فوجئت باتصالٍ من مدير الموارد البشرية، ثم مديري المباشر». ويضيف: «فوجئت بأنَّ المدير التنفيذي للشركة في الإمارات بلّغ بأمر مباشر المدير العام للمكتب أن أحذف المنشور الذي كتبته فورًا، وإلا سيُحقق معي، وسيتم فصلي في نهاية العمل، أو يُخصم منّي راتب شهر كاملًا»، يوضّح أنّ الأمر انتهى بحذف المنشور، وأنّه تعرّض للتوبيخ من قِبل المديرين، وأنّه لا يجب أن يكتب أي كلمة مسيئة لدولة الإمارات تعليقًا على التطبيع مع إسرائيل.
يرى الشاب البالغ من العمر 29 عامًا، أنَّ الأمان الوظيفي في مصر هي مصطلح فوق الورق فقط؛ فلا يوجد أمان وظيفي؛ خاصّةً لو كان العمل مع منصّة غير مصرية في مجال الصحافة، ولأنّك لا تستطيع نيل كافة حقوقك إذا غدروا بكَ؛ لكنّه يشير إلى أنّ قواعد العمل في المنصّات الإماراتية تتلخص في جملة واحدة؛ «لا تُعارِضْ».
بينما حسن المصري الذي عمل بالمنصّة الإماراتية في القاهرة لمدة 6 سنوات، يرى أنَّ العمل في المنصّات الإماراتية تقييد لحرية التعبير بالنسبة للصحفيين؛ إذ طُلب منّهم في وقتٍ ما، عدم إبداء أيّة آراء ضد الإمارات وقادتها على صفحات التواصل الاجتماعي؛ حيث قِيل لهم: «حسابات العاملين بالمؤسسة مراقبة طوال الوقت، وصدر إلينا تعليمات مباشرة بفصل من يثبت قيامه بالتجاوز».
ونظرًا لطول مدة عمله بهذه المنصّة؛ فإنّ موقفًا آخر حدث معه؛ إذ إنّه منذ أكثر من 3 سنوات تقريبًا، أرسل رسالة بالخطأ عبر «واتس آب» إلى مدير المؤسسة (كانت تحتوي على كلمة اعتراضية متداولة في مصر»، بدلًا من إرسالها لزميله في العمل، لكن فوجئ بالتحقيق معه وتوجيه إنذار أخير له بالفصل، وخصم كبير من راتبه».
بين «أكل العيش» والتورُّط الأخلاقي
ترى «لبنى» الخذلان في عين كل من يحيط بها، والتورُّط أيضًا، وبدأت المقارنة؛ فرغم أنّهم كانوا يؤدون عملهم بأكبر قدر ممكن من الاحترافية؛ إلا أنّ المقارنة بدت في اللغة غير الرسمية بين الزملاء وبعضهم البعض، والتي بدت مُحبَطة للغاية؛ فيما انغمس البعض في التفكير بين مواقفهم الشخصية وبين «أكل عيشهم»، والاضطرار لتلميع الموقف الإماراتي وتغطية الحدث بلغة إيجابية؛ فيما في الواقع الأمر يبدو أكثر كآبة ومرارة بالنسبة لهم.
في حال تنفيذ عملية الاستحواذ هذه سيُفتح الباب على مصراعيه أمام «الأنظمة الاستبدادية الغنية» للاستحواذ على وسائل الإعلام البريطانية
فريزر نيلسون Tweet
تشير المترجمة الصحفية إلى أنَّ إعلان التطبيع استدعى للأذهان الفجوة بين المواقف الرسمية في مصر، والمواقف الشعبية؛ إذ لا تزال شعوب المنطقة لا تعترف بالكيان الصهيوني، وتذهب السيدة «س» بعيدًا بالإشارة إلى أنَّ الجيل الذي وُلد بعد انتفاضة الأقصى ولم يفتح عينه إلا على السلام البارد مع إسرائيل؛ لم يجد سوى المنصّات الخليجية التي تدفع بسخاء، وتتبنى الكوادر باحتفاء؛ لذلك فهو لا يملك إلا أن يتبنى مواقف الخليج الرسمية من القضية الفلسطينية، ويدور معها حيث دارت، لكنه في الوقت ذاته -لحيرته- سيظل يملك مواقفه الشخصية التي قد تتناقض مع المواقف الرسمية لـ«الدولة الكفيل»، وإن عجز عن التعبير أو الدفاع عنها.
نحو أوروبا: عولمة البروباجندا الإماراتية
تحاول الإمارات في الوقت الحالي السيطرة على صحيفة التليجراف البريطانية، وسط معارضة شديدة من القائمين عليها؛ حيث تشير صحيفة التليجراف إلى أنَّ حكومة أبوظبي تحاول بشتى الطرق وضع يدها على الصحيفة، مما يشير إلى رغبة إماراتية في توسعة نفوذها الدولي؛ ليس على حد الإقليم فحسب؛ بل يمتد إلى المحيط الأوروبي أيضًا.
الأمر الذي حذّر منه رئيس تحرير مجلة «ذا سبيكتاتور»، الذي تسعى حكومة أبوظبي السيطرة عليها أيضًا فريزر نيسلون، مشيرًا إلى أنَّ حال تنفيذ عملية الاستحواذ هذه سيفتح الباب على مصراعيه أمام «الأنظمة الاستبدادية الغنية» للاستحواذ على وسائل الإعلام البريطانية، مطالبًا بضرورة تدخُّل الحكومة البريطانية لحظر بيع الصحف إلى دول ما وراء البحار قبل «فوات الأوان».
القصة تعود إلى طرح «التليجراف»، و«ذا سبيكتاتور» للبيع خلال 2023، بعد مطالبة مجموعة «لويد بنك» بدين بقيمة 1.2 مليار جنيه إسترليني مستحق على عائلة باركلي المالكة للصحيفة والمجلة، وأبرمت العائلة صفقة مع «ريد بيرد آي إم آي RedBird IMI»، الصندوق الذي يشارك في امتلاكه منصور بن زايد آل نهيان نائب رئيس الإمارات، لبيع كل من الصحيفة والمجلة؛ في مبادلة الديون بالأسهم، لكن الحكومة البريطانية تدخلت بعد ذلك بإصدار إشعار التدخل للمصلحة العامة.
* اسم مستعار