لا يمكن رؤية ما تقوم به إسرائيل اليوم، إلا تحت تصنيف شر يقصي الآخر (الفلسطيني) ولا يعترف به، ولا يعبأ أخلاقيًا بأفعال الإبادة الجماعية، وما فيها من قتل أطفال ونساء وتشريد عجائز، كما أن عنف الحروب القائم على السياسة يطلق القذائف من أجل التفاوض، من أجل المكتسبات، وفرض السلام، ومنذ 7 أكتوبر/ تشرين الأول، لا تبدو إسرائيل تبحث عن أية سياسة، بقدر ما تبحث عن القيام بالعنف والمزيد من العنف.
“لا يفعل المرء الشر بكامل حماسه مثلما يفعله عندما يصدر عن قناعة دينية”. حسب أشارة الروائي والفيلسوف الإيطالي أمبرتو إيكو في رواية مقبرة براغ. وعند رد جذور العنف في شخصية الإسرائيلي إلى أصولها الأولية، نجدها تبدأ وترتكز من كتاب التناخ. وهو كتاب مقدس يحوي الأسفار الدينية لليهود، يؤرخ لنشأة بني إسرائيل، واعتبر فيما بعد المؤسس للكثير من المفاهيم الداعمة للفكر الصهيوني.
الانعزالية اليهودية عن باقي المجتمعات، ترتكز على فكرة اختيار الرب لبني إسرائيل، فاليهود يعدون "أنفسهم عنصراً مميزاً، وشعباً مختاراً"
وعلى الرغم من أن 47% من العائلات في إسرائيل علمانية، وهو ما يشكل أغلبية، إلا أن هذا العنف المفرط نابع من أساس ديني، والسؤال كيف تتوافق المتناقضات بين العلمانية والأسس الدينية في المجتمع الإسرائيلي؟
التفرد النوعي، من دوافع إبادة الآخر
يبدأ تأسيس مفاهيم العنف ضد الآخر في الشخصية الإسرائيلية عندما يربى في البيت والمدرسة والجامعة على فكرة التفرد النوعي، كونه ساميًا ينحدر من عرق نقي لم يختلط بالأقوام الأخرى، الذي تضفي عليها الشرائع الصارمة في الأكل الكوشير (اللحم المذبوح وفق الشريعة اليهودية) والختان. تلعب مثل هذه الشرائع الصارمة دورها المحوري في تكوين عقل الفرد اليهودي، و تضفي هالة من التميز والتفرد في اللاوعي عند الفرد الإسرائيلي.
كما أن هذا التميز والتفرد والفوقية يعززه كتاب التوراة (الذي هو جزء من أجزاء التناخ الثلاثة) بآيات صريحة؛ تتناوب تارة ما بين التي تحض على الإبادة المطلقة للجماعات من غير اليهود؛ وبالأخص تلك التي تعترض طريق اليهودي الصهيوني في إكمال رحلته للأرض المقدسة. وفقًا للباحثة في التاريخ والأدب العبري شيماء العنبوري.
وجاء في سفر صموئيل الجزء (15)/ الآية (1-3): (واضرب بني عماليق، وأهلك جميع ما لهم ولا تعف عنهم، بل اقتل الرجال والنساء والأطفال والرضع والبقر والغنم والجمال والحمير)، ويردد في سفر الخروج الآيات (17- 20): (سيحاربهم الرب جيلًا بعد جيل)، في إشارة واضحة إلى أن الحرب لا تنتهي بالنسبة لليهودي الصهيوني، لأن أعداءه في كل زمان.
ويعتقد د. خالد طارق عبد الرزاق الباحث في مركز الدراسات الاستراتيجية الدولية جامعة بغداد، أن التشريعات اليهودية لعبت دوراً مهماً في ترسيخ الطابع الانعزالي داخل عقلية الفرد اليهودي. وأن الانعزالية اليهودية عن باقي المجتمعات، ترتكز على فكرة اختيار الرب لبني إسرائيل، فاليهود يُعدّون “أنفسهم عنصراً مميزاً، وشعباً مختاراً”، وجاء ذلك في العهد الذي “قطعه الرب مع إبراهيم، ثم مع موسى على جبل سيناء، وبموجب هذا العهد يصبح يهوه إله إسرائيل، ويصبح إسرائيل شعب الرب”.
تؤكد التوراة فكرة اختيار الرب في عدة مواقع أُخرى، فتقول: “لأَنك أَنت شعب مقدس للرب إلهك، إياك قد اختار الرب إلهك لتكون له شعباً أخص من جميع الشعوب الذين على وجه الأرض” (سفر التثنية: الإصحاح 7، الآية 6).
ويتكرر عهد الاختيار لبني إسرائيل في مواضع أُخرى كما في: سفر التثنية: الإصحاح 8 الآيتان 19 و 20؛ سفر الخروج: الإصحاح 19 الآيتان 5 و 6؛ سفر التثنية: الإصحاح 11، الآيتان 26 و 28؛ وغيرها كثير. كما لعبت النصوص الواردة في التلمود دوراً كبيراً في ترسيخ هذهِ الأفكار الانعزالية التي غذت فكرة الاحتقار لـ (الآخر) لدى اليهود.
وبالتالي، أصبح من الطبيعي أن تؤثر تشريعات العزلة اليهودية وقوانينها سلباً في اليهود، وتطبّعهم بصفات مقيتة، مثل: الحقد، والكراهية، والانطوائية، والتشاؤم، والكآبة، والتشكك، والعدوانية، واللامبالاة، وغيرها من الصفات السلبية التي أثّرت في تعاملات اليهود مع الآخرين واحتفظت بها طقوس احتفالاتهم الدينية، مثل: “طقوس عيد الفصح التي تحولت إلى مجالس للدعاء على الأمم الأُخرى، ويوم التاسع من شهر آب [أغسطس] الذي هو أيضاً فرصة لإيقاد نار الكراهية للبشر جميعاً، وصبّ اللعنات عليهم”، حتى باتت هذه الأمراض “وغيرها من أعراض العزلة والتقوقع سوراً حصيناً يحيط باليهود.
قدمت الصهيونية نفسها على أنها حركة متمردة على التراث اليهودي القديم، ولكنها رغم العلمانية الظاهرة؛ فقد استندت في برنامجها السياسي والثقافي إلى الأساطير القديمة؛ خاصة أسطورة العودة للأرض والشعب المختار.
وأصبحت تشريعات حاخاماتهم وقوانينهم الاستعلائية تعزلهم في داخلها حتى قبل أن تظهر حصون خيبر وأسوار الغيتو والجدران العازلة. وأصبح الجدار في ظل عقيدة العزلة مفهوماً معنوياً راسخاً في أعماق الوعي اليهودي، وأيديولوجياً حياتية لا يمكن التخلص منها، لأنها نابعة من إيمانهم العميق بفكرة الاختيار، وأضحت تشكيلات الجدار اليهودي على مر التاريخ تجسيداً واقعياً لطابع اليهود الانعزالي، وتطبيقاً مادياً لتشريعاتهم التي سنّها الحاخامات والتي انعكست على أنساق الحياة الاجتماعية والثقافية والهوياتية.
ولهذا الفكر المتطرف منظروه في إسرائيل، وعلى رأسهم عوفيديا يوسف، وعبد الله يوسف العراقي الأصل (1920-2013)ـ الذي كان يترأس منصب الحاخام الأكبر لليهود في إسرائيل، وهو المفتي الديني، ورئيس حركة شاس، وفي الوقت الحاضر يمثل الحزب 12 مقاعد في الكنيست، ما يشكل نسبة 18% من الكتلة اليمينية.
تسخير الأدب والتاريخ من أجل هوية إقصائية
قد تؤثر الأفكار الدينية في الشخصية المتدينة الإسرائيلية، لكن الميل العلماني يتفاعل أكثر مع الأدب، وهو ما تغذى على أفكار صهيونية لها أساس ديني، ونجد الشاعر حاييم نحمان بياليك من أبرز الأصوات التي ثبتت فكرة رفض اليهود الاندماج بين الشعوب الأخرى، وتصويرها على أنها شكل من أشكال العبودية، في قصائده يزجر ويتوعد ويعنف بني دينه بالعذاب والتيه، وفاقًا لما يبدر منهم من تقاعس وضعف في الإيمان، لأن جزاءهم لن يكون إلا جزاء العبيد بسبب تطبيعهم مع ثقافة تخالف عقائدهم.
يقول في قصيدته (حقًا، إن هذا قصاص الرب أيضًا) التي كتبها عام 1905: “حقًا إن هذا قصاص الرب وسخطه العظيم، الذي تنكره قلوبكم، زرعتم دمعتكم المقدسة في كل مياه، ونظمتم من خيوط النور شعراً مخادعاً، أفضتم أرواحكم على كل رخام أجنبي، وفي أحضان الأصنام، وأغرقتم أرواحكم، بينما لحمكم ينزف دمًا بين أسنان النهمين إليكم، تطعمونهم أيضاً أرواحكم”.
وفي قصيدة آخر يسخط ويغضب على اليهود المستذلين والمستضعفين الخانعين للذبح والمعاناة على يد الشعوب. ومن أشهر هذه القصائد في مدينة الذبح (بعير هريجا) التي كتبها عام 1903 بعد مذبحة كيشينيف: “ملعون هو من يقول: انتقم، إن انتقامًا كهذا، هو ثأر لطفل صغير، لم يخلقه الشيطان بعد، يجعل الدم يغور إلى الأعماق، ويشق طريقه إلى القيعان المظلمة، ويأكل في الظلام وينبش هناك، كل الموجودات المتحللة”.
تطعيم الفرد اليهودي، داخل إسرائيل وحتى خارجها بالفكر الصهيوني لا يتوقف عند الأدب؛ بل يمتد لكتابة التاريخ، والذي لهُ حصة كبيرة من صناعة العقل الصهيوني.
يقول المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه اختراع الشعب اليهودي: “إن كتاباً مثل تاريخ اليهود من العصور القديمة وحتى أيامنا للمؤلف هاينريخ غريتس، ظل هذا المؤلف الريادي، الذي كتب بكفاءة أدبية عالية ماثلًا في الهستوريوغرافيا القومية اليهودية طوال القرن العشرين، وربما من الصعب تقدير درجة تأثيره على نشوء الوعي الصهيوني، ولكن ما من شك في أن هذا التأثير كان ملموساً ومركزياً“.
ويوضح أن غريتس (المؤلف) المولود في إقليم بوزان في بولندا، ولغته الأم اليديش، “رفض عروضاً بترجمة كتابه إلى اللغة العار التي تحدث بها والداه”. (يعتبر اليهود الصهاينة أن اللغة هي جزء من إرث الخضوع والإذلال الذي تعرض له اليهود في أوروبا الشرقية وروسيا على وجه الخصوص).
أثرى الكتاب خيال الأدباء والشعراء الذين أعيتهم المخيلة في البحث والتنقيب عن فضاءات ذاكرة لا تكون تقليدية من جهة، ولكنها مستمرة في الوقت ذاته في استلهام التقاليد. وفي مرحلة لاحقة شكل الكتاب لزعماء المستوطنين الصهاينة خارطة طريق في فلسطين لسبر أغوار الزمن الطويل. حسب رؤية ساند.
تعليم ديني في ثوب علماني
تعتبر مادتي الأدب والتاريخ من المواد الأساسية التي تعتمد في المناهج الدراسية العلمانية، والمناهج الدراسية المعتمدة في المؤسسات التعليمية الإسرائيلية قام بوضعها مفكرون يهود (صهاينة علمانيون)، وقدمت الصهيونية نفسها على أنها حركة متمردة على التراث اليهودي القديم، ولكنها رغم العلمانية الظاهرة؛ فقد استندت في برنامجها السياسي والثقافي إلى الأساطير القديمة؛ خاصة أسطورة العودة للأرض والشعب المختار. بحسب د. عبد الله الشامي في كتابه “الشخصية اليهودية الإسرائيلية والروح العدوانية”.
كما أن الرجعية اليهودية تمكنت عن الطريق الصهيونية استيعاب الحركة الإصلاحية والتنويرية الهاسكلة، التي انتشرت بين اليهود في أواخر القرن التاسع عشر. بمعنى أو آخر، يجب أن نعترف أن كتاب التناخ لا يستطيع اليهودي الصهيوني؛ أكان علمانيًا أو متدينًا بأي شكل من الأشكال أن ينفك عنه أبداً. وفقًا للشامي.
والدليل على ذلك ما أورده المؤرخ الإسرائيلي شلومو ساند في كتابه الذي ذكرناه آنفاً؛ حيث يقارن بين كتاب إيزاك يوست “تاريخ الإيزرائيليتيم”؛ فيقول: “ليس من الصدفة أن كتاب “تاريخ الإزرائيليتيم” لم يترجم إلى لغات أخرى، ولا حتى إلى العبرية”.
لأن هذا الكتاب يلوم وجهة نظر المثقفين الألمان اليهود العلمانيين وغير العلمانيين، وهو النقيض الصريح لكتاب “تاريخ اليهود من العصور القديمة وحتى أيامنا”؛ فلا عجب أن تجد في إسرائيل الحالية أن مدارس وشوارع تحمل اسم هاينريخ غريتس، كما أنك لن تجد كتاباً تاريخياً عاماً يبحث في اليهود إلا وفيه ذكر أو إشارة له. أي أن الثقافة الصهيونية ليست ليبرالية مفتوحة، بل انتقائية موجه، تفرض رؤية عن الدين والتاريخ والهوية.
وعلى الرغم من عمق الوشائج المتشابكة ما بين الثقافة التناخية (الأصولية اليهودية) والحركة الصهيونية (العلمانية)؛ إلا أن هذا لم يكن كافياً بالنسبة للحركات الأصولية اليهودية في إسرائيل، عزمت في العقود الأربعة الأخيرة أن تحاول قدر الأماكن السيطرة على الجهاز التعليمي الإسرائيلي، والقيام بإدخال المناهج الدينية كمواد دراسية إلزامية.
في دراسته الصادرة عن المركز الفلسطيني لأبحاث السياسات والدراسات الإستراتيجية (مسارات)، والتي حملت عنوان “التدين في مناهج الكتب والتعليم في إسرائيل”، يبحث جوني منصور هذه العلاقة فيقول: “إن الرسائل التي تبثها نصوص تعالج كيفية بناء العلاقة مع (الآخر) في كتب التعليم، لها تأثير كبير على الفهم والإدراك السياسي والاجتماعي للطالب المتلقي، والأشد خطورة هو استخدام نصوص أو نماذج دينية في كتب التاريخ والجغرافيا والمدنيات والعلوم الاجتماعية”.
وتلعب السياسة دورًا مركزيًا غير مباشر في عملية صناعة الكتب التعليمية، وذلك لمنع إدخال أي مضامين لا تنسجم مع الفكر البنيوي للدولة اليهودية، وإنكار وجود الشعب الفلسطيني وتاريخه وتراثه؛ ففي جهاز التعليم الرسمي العلماني، ليس الدين هو النواة وجوهر التعليم، وإنما يتم تعليم التوراة من منطلق المعرفة بالتراث الحضاري في زمن مضى، وكيفية التعامل معه كموروث يتوجب الحفاظ عليه.
وتشير التدقيقات التي أجراها المنتدى العلماني لعدد كبير من الكتب التعليمية إلى ظاهرة أخرى غير النص، وهي الرسومات التوضيحية التي ترافق القطع الأدبية، أو المواد التعليمية، يظهر في عدد من الرسومات صورة رجل على رأسه قبعة دينية اليهودية، وترد قصص عن يهودي طيب وجيد، وأخرى عن غريب سيء وشرير؛ أي غير اليهودي.
وعلى الرغم من التصادم الفكري والعملي بين التيارين العلماني والديني، فإن هناك من يتحرك باتجاه الدمج بين العلمنة والتدين؛ دمج بين التراث اليهودي، وبين نهج حياة عصري، يتيح للطالب اليهودي العيش في عصر متقدم، لكنه يحافظ على جوهر التراث اليهودي قيميًا وتراثيًا، مع إمكانية ممارسة الشعائر الدينية بأريحية، والتمتع بمرونة ما.
والتعليم الإسرائيلي لا يتوقف هنا عند مسائل تغلغل الدين؛ سواء بفعل سياسي أو بفعل المؤسسات الدينية، وإنما يمتد نحو عسكرة التعليم؛ فقد تمت عسكرة التعليم أيضًا في الدولة العبرية.
كما تقول الباحثة والكاتبة الصحفية الإسرائيلية، إرنا كازين: “من يطلع على منهج التعليم في المدارس الإسرائيلية في جميع المراحل، لا بد أن يلفت إلى التوجه العام القائم على التنشئة التربوية على الروح العسكرية والتطوع للجيش وإعداد الطالب حتى يكبر ليصبح مقاتلًا لتكريس الروح الإسبرطية. وتتم التربية على العسكرة بوسائل مختلفة ومتعددة، ويحاول جهاز التعليم في إسرائيل صبغ وعي الطفل بالعسكرة ومفاهيمها منذ نعومة الأظافر”.
تعيش إسرائيل تغييرات ديموغرافية، مع تزايد أعداد اليهود الحريديم (الأصوليين)، بالمقارنة مع اليهود ذوي الخلفية العلمانية؛ إذ إن التغيرات الديموغرافية التي طرأت على جهاز التعليم في إسرائيل تشي بالاقتراب سريعًا نحو عملية انتقال إلى وضع مغاير؛ يصبح فيه طلاب جهاز التعليم الرسمي (اليهودي الحكومي) في غضون أعوام قليلة أقلية بالنسبة إلى مجموع الطلاب في التعليم الديني. ما يجعل بوصلة الإسرائيليين العامة، تتجه مستقبلًا نحو تطرف وتشدد أعلى.
ختامًأ، إن صفات الشر وإقصاء الآخر عند الفرد الإسرائيلي لا تتغذى فقط على التناخ وما ورد فيه، ولكن التناخ نفسه استطاع أن يمد جذوره عن طريق الصهيونية إلى فضاءات مدنية علمانية. وعليه فلا فارق كبير بين إسرائيلي علماني أو أصولي، باعتبارهما يرتشفان من معين معرفي واحد؛ سواء بشكل مباشر أو غير مباشر.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
احسنتم تحليل دقيق جدا ويجب الالتفاته له بجدية وتمعن تحياتي