تعاني نورا من حالة كبت دائم تلاحقها منذ كانت في الثامنة من عمرها، عقب عودة الوالد الذي كان يعمل في السعودية بداية الألفية؛ ففرض على أمها ارتداء النقاب، بينما كان نصيب الابنة ارتداء الحجاب، الذي لم تكن تحب ارتداءه حينها، ما عرضها للضرب والإيذاء الجسدي: “كرهت حياتي، عمري ما حبيت الحجاب، وكل ما أحاول خلعه أهلي يعترضوا”. وعلى الرغم من بلوغها الـ 26 عامًا، إلا أنها ما زالت تعاني من نفس الواقع.
أما أريج، ربة منزل (40 عامًا) مواطنة سعودية كلفت بالحجاب بعمر 14، بأمر من الوالد أيضًا، ولم يكن هناك مجال للاعتراض أو النقاش، لأن كل فتيات العائلة الصغيرات التزمن بالتكليف، وهذا ما فعلته مع ابنتها بنفس العمر، وتعزو تحجب طفلة في هذا السن إلى الحماية من التحرش داخل العائلة.
تقول شيخة البهاويد: "الحجاب رمز ديني يصر عليه التيار الديني أكثر من العبادات، لكونه شكلاً من السيطرة الاجتماعية، وفرض الوجود والقوة من خلال مظهر المجتمع"
يعتبر الحجاب رمزًا للإسلام السياسي الراديكالي، كما أنه يتجاوز كونه قطعة قماشًا؛ بل صعد إلى أداة لصناعة الصدام الاجتماعي بين قوى ليبرالية وقوى راديكالية، حسبما جاء في كتاب سياسية الحجاب، للمؤرخة الأمريكية جون ولاش سكوت، كما يعد من الملابس التي يفرضها الرجال على النساء والفتيات؛ ما جعل الناشطة النسوية، مارجريت دي كوبر ترى أن خلعه يعد انتصارًا للنساء الراغبات في عدم ارتدائه.
ليست نورا وأريج الوحيدتين؛ بل تلاحق الفتيات العربيات في عمر مبكر، بعوامل الترهيب والترغيب لارتداء الحجاب؛ خاصة مع نشاط اجتماعي تدعمه قوى الإسلام السياسي، وصل بها الأمر إلى عمل “حفلات تكليف” لتحجيب القاصرات في الخليج.
يقام هذا النوع من الاحتفالات في جو عائلي للأسرة متوسطة الدخل؛ حيث تتجمع القريبات والصديقات ليقدمن التهنئة للصغيرة بمناسبة تحجيبها، ويتم تجهيز الطفلة لوضع الحجاب على رأسها، وتزف بالزغاريد والتبريكات، بينما الأثرياء يصممون حفل التكليف بالمنتزهات والأماكن الفخمة، ويطبعون كروت دعوة توزع لهذه المناسبة، وتوزع على المعارف والأقارب ليحضروا الحفل الذي ينتهي بتحجيب الصغيرة.
الحجاب ونفوذ الإسلام السياسي
في مطلع مايو/ آيار، من العام الماضي 2023، نُشر مقطع فيديو من داخل مدرسة أم عطية الأنصارية، الواقعة بمنطقة عبدالله السالم بالكويت، يعرض جزءً من احتفالية نظمتها المدرسة لتكريم صغيرات ارتدين الحجاب، ما أثار جدلًا واسعًا عبر مواصل التواصل الاجتماعي، بين قبول ورفض للاحتفال الذي اعتبره مغردون عبر منصة X، تمييزًا مرفوضًا بين الطلبات، وكانت جمعيات المجتمع المدني بالكويت ممن تبنوا هذا الرأي، وأصدر عدد من جمعيات النفع العام الكويتية بيانًا ذكرت فيه أن تصرف المدرسة غير مسؤول ويستهدف الضغط على الطالبات غير المحجبات لاتخاذ قرارات لا تناسب هذا العمر.
تعزو د. منى عباس فضل، الباحثة والكاتبة البحرينية، انتشار حملات تحجيب القاصرات في الخليج، بشكل عام، إلى أنه نتيجة لانتشار الجماعات الدينية، واتساع رقعة اتباعها داخل المجتمع الخليجي.
“ويعد دخول جماعة الإخوان المسلمين، للكويت بدعم حكومي كويتي أدى لنشر الحجاب وتدين المجتمع، وأن الكويت لازالت تواجه صعوبة في الانفتاح بسبب تمكن التيارات الدينية بالقوة السياسية والمالية والاجتماعية ودعم الحكومة”. وهذا ما تؤكده الكاتبة الكويتية، شيخة البهاويد، لمواطن.
كما أن “الحجاب رمز ديني يصر عليه التيار الديني أكثر من العبادات، لكونه شكلاً من السيطرة الاجتماعية، وفرض الوجود والقوة من خلال مظهر المجتمع”. حسبما أضافت.
وترى أن فرض الحجاب على فتيات صغيرات، أسهل بكثير من فرضه على البالغات؛ فالتوجه للفتيات في الصغر هدف سهل، وبرمجة الصغار على إيديولوجية معينة، ينتج جيلًا مؤيدًا لهذه التيارات، ويعكس مدى تأثير جماعة بعينها على المجتمع.
كما تعتقد أن المشكلة هي سيطرة التيارات الدينية الإسلامية على المؤسسات الحكومية الكويتية، فالكويت المنفتحة في السبعينًات بانفتاح حكومي حسب رأيها، توجهت للشكل الديني بانغلاق حكومي، وأن السبيل أمام المرأة الكويتية هو رفض السلطة الدينية؛ سواء من الحكومة أو التيارات الدينية قد يكون حلاً لمواجهة الفرض العنصري.
تعزو د. منى عباس فضل، الباحثة والكاتبة البحرينية، انتشار حملات تحجيب القاصرات في الخليج، بشكل عام، إلى أنه نتيجة لانتشار الجماعات الدينية، واتساع رقعة اتباعها داخل المجتمع الخليجي، وتجاوبه مع هذه الحملات بحكم أنه في الأصل مجتمع، لديه الرغبة في أن يصبح محافظًا ومنغلقًا، من حيث العادات والتقاليد القبلية التي تتفق مع فكر التيارات الدينية.
“استخدمت جماعة الصحوة الدينية خطابًا موجهًا لأفراد الأسرة الأم والأب، يدفعهما إلى ضرورة تحجيب الفتيات، هنا ظهر ما يعرف باسم التكليف، الذي يبدأ مع الطفلة من عمر ثمانية أعوام باستخدام كل الطرق التي تنتهي بالنهاية للتحجب، والاحتفال بحجاب الطفلة قديم في الخليج لترغيب الطفلة في الحجاب”. حسبما أضافت لمواطن.
وعقب ثورات الربيع العربي في 2011، نشط الترويج لتحجيب القاصرات في الخليج، باستخدام حملات إعلامية واسعة النطاق والانتشار، ومن تدافع تبعات الحملات، دعا رجل دين سعودي يُدعى عبدالله الداوود في 2013، إلى تغطية وجه الطفلة وفرض الحجاب عليها، عبر حديث متلفز له مع قناة المجد الفضائية، ناصحًا بأن يكون الحجاب بداية من عمر عامين للطفلة، وبرر دعوته بعدم إتاحة المجال للطفلة أن تكون مشتهاة جنسيًا، وأن تحجيبها يحميها من التحرش الجنسي.
سبق هذا الرواج حملة نوري اكتمل، في البحرين عام 2010، واستهدفت تحجيب الفتيات القاصرات بدءً من 10 أعوام وحتى 18 عامًا، ويُنظم احتفال سنوي لتكريم الفتيات المحجبات؛ شرط أن يكن تحجبن في نفس العام، ثم انتقلت الحملة إلى العاصمة القطرية الدوحة، وبدأ التعريف بأهدافها من داخل المدارس القطرية، واستهدفت نحو 20 مدرسة، للطالبات في المرحلتين الابتدائية والإعدادية، لتشجيع الفتيات الصغيرات على ارتداء الحجاب شرط أن يكون عمر الفتاة بداية من 9 سنوات وحتى 12 سنة، بحيث يتم تسجيل أسماء الفتيات اللاتي اشتركن في الحملة وارتدين الحجاب، لتكريمهن في حفل تتويج خاص.
وفي مقطع فيديو مصور للداعية الإسلامي الكويتي عثمان الخميس، يقول إن الفتاة الصغيرة يجب توجيهها وأمرها بالحجاب قبل وصولها سن البلوغ؛ حتى إذا وصلت سن البلوغ يجب إجبارها على ارتداء الحجاب، شريطة أن يكون سبق هذه المرحلة التمهيد لارتدائه بالتدريب، وعدم السماح للطفلة بارتداء ملابس عارية -حد وصفه-، حتى لا يكون هناك مجال لرفض الحجاب الذي يتعارض مع الملابس العارية.
لم تقف مشاريع تحجيب القاصرات في الخليج على دول مجلس التعاون؛ بل امتدت مشاريعهم إلى سائر الأقطار العربية؛ ففي يناير/شباط 2013، عرض رجل أعمال كويتي الإنفاق على حفلات تحجيب القاصرات التونسيات، وواجه عرضه رفضًا كبيرًا، فيما اعتبره الناشطون التونسيون تسليعًا للصغيرات.
إن كانت الفتاة يمكن أن تتراجع عن الحجاب؛ فهل يمكن أن تسترد ما تم بتره من طفولتها بسبب تحجيبها صغيرة؟ وهل تتعرض للتشوه النفسي بسبب إجبارها على الحجاب؟
ومنعت مدارس سعودية عام 2014، دخول الطالبات غير المحجبات إلى المدرسة، وحسب قرارات المؤسسات التعليمية آنذاك؛ فإن المنع شمل أيضًا المدرسات والموظفات غير الملتزمات بالحجاب الشرعي، الذي تعتمد من خلاله تطبيق الشريعة الإسلامية، وكانت جماعة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المنحلة، عام 2002 قد منعت خروج طالبات تتراوح أعمارهن ما بين 12 عامًا إلى 14 عامًا، لم يلتزمن بالزي الشرعي من الخروج من مدرسة نشب بداخلها حريق، مما نتج عنه احتراق 15 طالبة من طالبات المدرسة.
وبالعودة إلى التاريخ، يشير الكاتب باقر سلمان النجار؛ في كتابه “الحركات الدينية المعاصرة في الخليج العربي” إلى نشاط الجماعات الإسلامية، التي استطاعت أن تفرض سيطرتها وسياستها داخل دول الخليج منذ عدة عقود ماضية؛ إذ لفت إلى نفوذ الجمعيات الشيعية في الكويت، ذاكرًا منها جمعية الثقافة الاجتماعية، التي تأسست عام 1963، والتي أثرت بدورها على الخطاب الاجتماعي والسياسي للمجتمع الكويتي، ومثيلتها جمعية إحياء التراث الإسلامي.
ويوضح النجار في مؤلفه إلى تأثير جماعة الإخوان في السعودية؛ حيث عملت على التأثير في البناء الفكري للجماعة السلفية السعودية؛ ففي مرحلة الطفرة النفطية وجه أقطاب المدرسة الوهابية من الإخوان إلى تشديد الخطاب المحافظ داخل المملكة، وتطويق المجتمع بخطاب عرف آنذاك باسم “مذكرة النصيحة”، والذي يؤكد على تطبيق أفكار السلفية تجاه المرأة والحداثة والغرب.
كما تأثرت أقطار الخليج من الكويت شمالًا إلى عمان جنوبًا والبحرين والسعودية وباقي الأقطار الخليجية، بحالة الصراع المذهبي في العراق والحرب الأهلية في سوريا، وسرعان ما نمت صراعات المذاهب المماثلة في الخليج علانية، حتى إن ما عرف في العراق بترتيب البيت الشيعي تغلغل داخل المجتمع البحريني والكويتي، وكذلك وجدت فكرة تنظيم هيئة علماء المسلمين طريقها في الدخول إلى بيوت الدول الخليجية ذات التوجه السني، والتي كان موطن ولادتها في العراق.
كيف يؤثر الحجاب على نفسية الصغيرات؟
إن أكبر انتصار للحراك التنويري هو خلع فكرة الحجاب من عقول الفتيات، وأن يدركن أنهن لسن عورات، لذلك فإن خلع الحجاب أصبح جزءً من ثورة الجسد، ولهذا فإن محاولات القمع ضد خالعات الحجاب تتم بصور شتى، بدءً من الترهيب بنار جهنم، مرورًا باتهامات العهر والدعارة، حسب الكاتبة النسوية رباب كامل.
والتي تؤكد في كتابها “نساء في عرين الأصولية الإسلامية” أن الفتيات الصغيرات اللاتي أجبرن على ارتداء الحجاب في الصغر سيتمردن عليه عند الكبر، وهذا ما يدعونا لسؤال إن كانت الفتاة يمكن أن تتراجع عن الحجاب؛ فهل يمكن أن تسترد ما تم بتره من طفولتها بسبب تحجيبها صغيرة؟ وهل تتعرض للتشوه النفسي بسبب إجبارها على الحجاب؟
ويرى إيهاب الخراط، استشاري الطب النفسي ورئيس ومؤسس منظمة العدالة والحرية، أن الأسر؛ سواء الأب أو الأم ذات المرجعية الدينية تستخدم أسلوب الترهيب والترغيب لإجبار الفتيات على ارتداء الحجاب في سن صغيرة؛ حيث الترغيب في قبول الوالدين ودخول الجنة، وقبول المجتمع وقبول القادة الدينيين. لافتًا إلى استخدام أسلوب الترهيب التخويف من الجحيم ومن عقاب الوالدين، إذا رفضت الفتاة ارتداء الحجاب؛ فيتم التعدي على الطفلة بالضرب حتى تنصاع لرغبة الأسرة.
“وتستخدم الأسرة الترهيب من وصمة العار الاجتماعية التي تلحق بالفتاة تاركة الحجاب سيئة السمعة وغير المقبولة في المجتمع المتدين، لأنها خارجة عن التقاليد وخارجة عن الدين”. حسبما أضاف لمواطن.
ويعتبر الخراط أن الأسر هنا تضع شكلًا من أشكال الحدود للوعي، ولا تسمح للابنة بالخروج عنه، ويتم تقييد الوعي بشدة باستخدام عنصري الترهيب والترغيب؛ فيؤثر ذلك على طريقة التفكير والسلوك، وحتى في إطار الالتزام الأخلاقي، مما يترتب عليه التدين الظاهري الطاغي دون أخلاق حقيقية، وكثير من التدهور الأخلاقي والقيمي.
“الطفلة ذات التسع سنوات التي يتم تحجيبها بأية وسيلة، تتولد داخلها جدلية الشعور بالاستحقاق عند كبرها، نظرًا لإحساسها بالتفوق الأخلاقي، وعلى النقيض الشعور بالغيرة من الفتيات الأخريات المستمتعات بالحياة، إضافة للتزمت والتشدد الديني والعصبية والتمرد الداخلي المكتوم”. وفق الاستشاري النفسي.
تعتمد بعض الأسر على أن تحجيب الصغيرة من الأوامر الدينية، في ظل تصاعد دعوات من حركات الإسلام السياسي، لنشر الحجاب بأكبر قدر ممكن بين الفتيات الصغيرات أو النساء الراشدات، كمقياس ودلالة على حجم السيطرة المجتمعية، فما بين صراعات السياسة والرغبة في التدين لدى الأسر، تجبر الفتيات على تغطية شعورهن، دون مراعاة لأية اعتبارات أخرى.
This is exactly what I needed to read today Your words have provided me with much-needed reassurance and comfort
سؤال وجيه جداً فى تقديرى