ها قد مر يوم المرأة العالمي 8 مارس علينا ولا مبرر أو دافع يمكن أن يصنعا البهجة في هذا اليوم أو أي قالب ممكن للاحتفاء به. يوم المرأة، الذي يفترض أنه يشكل مناسبة تذكر بما انتهى من عذابات ومعاناة أكثر من نصف البشرية بسبب جنسهن، الذي يفترض أنه يحتفي بالتطورات الإنسانية المنصفة للمرأة بإنجازاتها التي أخرجتها من حقبة الظلام إلى حقبة أكثر نورًا، الذي يرتجى منه أن يكون يومًا يذكر بخطوات للأمام بالنسبة لنساء العالم، هذا اليوم إنما ذكّر بكل ما هو عكس ذلك.
يذكّر 8 مارس 2024 باستمرار عذابات النساء؛ تحديدًا بسبب تكوينهن الجنسي، بسبب من أجسادهن التي حكم عليها القدر والبيولوجيا والمجتمعات البشرية الذكورية أن تكون وثائق تُنحت عليها قواعد المجتمع، توشم عليها قوانين العادات والتقاليد؛ بل وحتى المفاهيم الأخلاقية والقواعد الدينية، وثائق من شحم ولحم ودم هي أجساد النساء، هي وحدها تحمل بين طياتها مفاهيم الشرف والعِرض والسمعة الضبابيين، وحدها مسؤولة عنها، وحدها مثقلة بها دون حتى أن يكون هناك فهم واضح لهذه المفاهيم التي رُسمت، وكأنها رُسمت، لتستغل وتستعبد النساء وتقيدهن بأغلال من حديد.
هل فكرت نسويات العالم الغربيات، الضاجات بالحديث الحقوقي في الحيوات المهددة لنساء غزة، لنساء السودان، لنساء اليمن في تعرضهن للعنف والتحرش والاغتصاب المستمرين، في حرمانهن احتياجاتهن اليومية التي هي تحصيل حاصل بالنسبة لغيرهن؟
كيف نتعامل مع العذاب والقمع والوحشية النفسية والجسدية تجاه النساء على أنها ماض، وهي لا تزال تتحقق كل يوم، وهي لا تزال تمارس على النساء بمسمى المحافظة على الشرف، الرضوخ للعادات والتقاليد، والالتزام بالتعاليم الدينية؟ كيف نصور هذا العنف كله على أنه منقضٍ، نتذكره ونتعلم منه؛ فيما هو لا يزال يحدث بين ظهرانينا وعلى مرأى ومسمع من العالم كله؟ كيف نحتفي بيوم تحرر وإنجاز وعدالة، ونساء مثل نساء إيران اللاتي لا يزلن يرزحن تحت قمع سلطة دينية تتحكم في مظهرهن وتحاسبهن على أنوثتهن البيولوجية، وترسم على أجسادهن ورؤوسهن وشعورهن صور تقواها الذكورية والتزامها الشرعي الأبوي؟
كيف نحتفي والمرأة الإيرانية “تموت فجأة”، بعد أن تَقبض عليها الشرطة النسائية، أو “تختفي فجأة” بعد أن تشارك في مظاهرة، لتحيا خائفة متعثرة طوال حياتها تحت سلطة قوانين حكومة دينية شمولية؟
وحين كتبت قبل أيام تغريدة حزينة أستذكر فيها نساء العالم، وأشير فيها لمعاناتهن بمن فيهن المرأة الإيرانية، ردت علي بعض الإيرانيات بغضبة دفاعية عن إيران، تأكيدًا على الدور الفاعل والوضع المنصف للمرأة الإيرانية داخل بلدها، وتذكيرًا بمشاكلنا الخليجية الداخلية، كل ذلك مصحوب بطلب ساخر بتلافي التدخل في الشأن الإيراني النسائي والالتفات لمظالمنا العربية، وكأن المظالم لها جنسية، وكأن المعاناة تقف عند حدود الدول، وكأن العنف مقنن بجواز سفر، لا يمكن أن تقاومه العقول والضمائر “الأجنبية”، سوى بتأشيرة قبول ودخول.
وها هي مجددًا القومية تغلب الإنسانية، الانتماء العرقي والديني يتغلبان على مفاهيم الحق والعدالة، لتقاوم بعض النساء الإيرانيات، كما تفعل العربيات والخليجيات في أحايين كثيرة، أي حديث ناقد عن أوضاعهن كنساء مصنفات مثل هذا الحديث على أنه تدخل خارجي والقبول به خيانة قومية؟ عوضًا عن النظر له على أنه صورة من صور التعاضد النسائي والتوافق الحقوقي الإنساني.
وكيف يفترض أن نحتفي بالتطورات الإنسانية المنصفة للمرأة والتطورات الإنسانية هذه في عمومها في تراجع وخذلان؟ من كان يتصور أن تستمر عمليات الإبادة الجماعية للفلسطينيين حتى في القرن الواحد والعشرين، وعلى الرغم من التواصل اللحظي التوثيقي لوسائل التواصل الاجتماعي؟
لا عدالة ولا أمن ولا سلامة دون العدالة والأمن والسلامة للبشرية أجمع. أنحتفي ونحن نعيش في عزاء كبير مستمر، يُدفن إبان أيامه، أكثر ما يُدفن، الأطفال الجائعون المشردون؟ فبأي حال عدت يا 8 مارس، وبأي ضمير نحتفي بك؟
لقد مر العالم بمجازر صهيونية بشعة، نذكر البعض الأبرز منها مثل مجازر دير ياسين، كفر قاسم، خان يونس، صبرا وشاتيلا، ومخيم جنين على سبيل المثال لا الحصر، ولكن أن تستمر في هذا القرن الحداثي “الإنساني”، وعلى عينيك يا بشرية هكذا دون خجل؛ فهذا ما يستدعي مراجعة ادعاءاتنا البشرية حول أي تطورات إنسانية حديثة، وخاصة تلك المتعلقة بالنساء. ها هن نساء غزة يُقتلن ويُثكلن ويترملن ويتيتمن؛ فما هو موقف حقوقيي ونسويي ونسويات العالم؟
أي ثورة قامت بها نسويات العالم تحديدًا إنقاذًا لوضع مأسوي في غزة؛ خاصة بالنسبة للنساء، وضع وظروف وضغوط وتهديدات ومخاوف لا يمكن تصورها؟ إذا كان عدد الحوامل من النساء، توقيتًا من 7 أكتوبر في غزة يفوق الخمسين ألفًا، وعدد الولادات لربما يفوق العشرين ألفًا في هذه الفترة؛ فهل يمكن تخيل وضع هذه النساء بحملهن أو بمواليدهن وهن يقمن بأداء أصعب عملية بيولوجية إنسانية تحت أصعب وأقسى ظروف الخطر والجوع والعطش وبتهديد بالتهجير المستمر، وبتفشي الأوبئة والأمراض؟
هل فكرت نسويات العالم الغربيات، الضاجات بالحديث الحقوقي في الحيوات المهددة لنساء غزة، لنساء السودان، لنساء اليمن في تعرضهن للعنف والتحرش والاغتصاب المستمرين، في حرمانهن احتياجاتهن اليومية التي هي تحصيل حاصل بالنسبة لغيرهن، والتي هي أمنية غالية بالنسبة لهؤلاء النساء مثل الحافظات النسائية، أدوية فترات الحيض وبقية الأدوات النسائية الخاصة الملزمة؟
نحتفي بك يا 8 مارس ونساء غزة لدن على الأرض الباردة تحت القصف، يمررن بعمليات ولادة قيصرية بلا تخدير، تحِضن بلا محارم تقيهن النزيف العلني والأمراض المتفشية عنه، تفقدن الأبناء والأزواج والآباء، تتعرضن لأبشع صور العنف الجسدي الجنسي في السجون، تعانين في مخيمات اللجوء بردًا وجوعًا وعطشًا وحرمانًا وقلقًا على أبناء لا يستطعن توفير أبسط وسائل العيش لهم؟ نحتفي بك يا 8 مارس وقصص اغتصاب النساء السودانيات لا تتوقف ولا تصل مكتملة، وكأن العالم أطفأ النور عن هذه البقعة منه حتى يتسنى للوحوش المسيطرة عليها أن تنتقم وتبطش وتمزق أجساد وأرواح النساء بلا حسيب ولا رقيب؟ بأي وجه نحتفل بك يا 8 مارس؟
وبأي إنجازات للمرأة نحتفي في 8 مارس، ولا زالت هذه المرأة محرومة من أبسط حق مدني في أكثر من ثلاث وعشرون دولة في العالم؛ ألا وهو حق تمرير جنسيتها لأبنائها؟ بأي إنجاز نحتفي ولازالت أغلبية نساء العالم يرزحن تحت رحمة قوانين الشرف، يُزوجن طفلات، يحكمن بقوانين أحوال شخصية مكبِّلة استعبادية، تدخل من خلالها المرأة زواجًا لا تستطيع الخروج منه، تفقد من خلالها حضانة أطفالها حال قررت استكمال حياتها مع زوج آخر، تُحبس من خلالها في زواج لرجل غائب ولو بقي غائبًا العمر كله، تبقى من خلالها تحت وصاية الذكور إبان حياتها كلها، لا تصدّر لنفسها ورقة، لا تعقد لنفسها على زوج، لا توقع لنفسها على عملية جراحية؛ بل ولا تملك حتى جسدها الذي يصبح ملكًا لزوج يمكنه أن يغتصبها برضى القانون ومباركته.
كيف نحتفي ومن بنات جنسنا، من شريكاتنا في بيولوجيتنا وتاريخنا البشري الأنثوي وأحمالنا المجتمعية المتشابهة تقريبًا ظروفها حول العالم، من تتعذب تحت هكذا ظروف وعلى علم ومرأى ومسمع من العالم كله؛ بل وفي أحيان كثيرة بمباركته العاداتية والتقاليدية والقانونية والدينية؟
نعم هناك إنجازات، هناك خطوات وهناك تغييرات أثرت في وأنقذت وأسعدت الكثير من النساء، ونقلتهن من مكان إلى مكان. وفي كل سنة نحاول نحن أن نتذكر هذا الإيجابي ونحن نحتفي على مضض بهذا التاريخ الذي دومًا ما يكون مرًا بحلاوته، نحاول أن نتعامل مع اليوم بأمل، أن نخلق منه دافعًا، أن نتعلم من تخصيصه درسًا، لكن ولأن هذه السنة غير كل سنة، وهذه الظروف غير كل الظروف، لابد لنا أن نتوقف ونتساءل؛ هل كل الإنجازات -أيًا كانت كمًا ونوعًا- كافية؟ لماذا لا تزال أغلبية نساء العالم في معاناة وخطر وعذاب؟ ولماذا، حين تضرب المِحن؛ سواءً كانت حروبًا أو مجاعات أو فقرًا، تقع المرأة، كأول من تقع، ضحية لها؟
لا يمكن الاحتفاء، لا يمكن حتى مجرد ذكر 8 مارس في غير سياق عذابات نساء غزة والسودان واليمن، هذه السنة ولربما معهن النساء الإيرانيات والأفغانيات، وإن كانت عذاباتهن مؤجلة للأسف أمام هول ما نرى ونسمع في المناطق الأخرى، دون الصراخ في نسويات ونسويي العالم أن أين أنتم؟ أين صوتكم وما يحدث لهؤلاء يحدث على مرأى ومسمع منكم؟ متى كانت هناك في المنطق النسوي الذي تهتفون به، نساء أهم من نساء؟ متى كان مقبولًا أن “نترك جنديات في المعركة”؛ فنخرج نحن لنحتفي فيما بنات جنسنا غارقات في عذاب وألم وضياع مستمرين، عذاب وألم وضياع معروضين على الشاشات، مصورين صوتًا وصورة ببجاحة ونذالة صَنعت كلها وضعًا كارثيًا لا نهاية له، ولا جهود حقيقية مبذولة لإيقافه؟ كم هي صغيرة كل الإنجازات أمام ما نرى من هول العذابات!!
لا يمكن الاحتفاء هذه السنة تحديدًا بسبب جريمة الإبادة المستمرة اليوم في غزة، جريمة ضد كل الإنسانية، وما الحراك النسوي اليوم سوى حراك إنساني عام شامل، نعم هو يرى عذابات بنات جنسه، لكنه يدرك أن لا عدالة ولا أمن ولا سلامة دون العدالة والأمن والسلامة للبشرية أجمع. أنحتفي ونحن نعيش في عزاء كبير مستمر، يُدفن إبان أيامه، أكثر ما يُدفن، الأطفال الجائعون المشردون؟ فبأي حال عدت يا 8 مارس، وبأي ضمير نحتفي بك؟
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.