فيما اعتبر رئيس وزراء الكيان المحتل بأن حكومته اتخذت قرارًا متوازنًا بشأن تنظيم الصلاة في المسجد الأقصى خلال رمضان الحالي، أرجعه لما أسماه بالقيود الأمنية، يشعر الفلسطينيون بالقمع لتواجد قيود لا تسمح بمرور فئات عديدة منهم، وممارسة حقهم في الصلاة؛ ما دفع بعض الشباب للتحايل على القرارات الإسرائيلية، وعبور الكمائن الأمنية بطرق اختلفت ما بين التسلل والاختباء.
يعدّ المسجد الأقصى واحدًا من أهم المواقع الدينية لدى المسلمين، وتتضارب الروايات الدينية حول تاريخ بنائه، يعود التصميم المعماري الأساسي المعروف تاريخيًا لعهد الخلافة الأموية، وكان قبلة الصلاة لفترة من تاريخ الإسلام قبل أن تتبدل وجهة القبلة ناحية مكة، كما أنه واحد من ثلاثة مساجد يُشدّ لها الرحال في الإسلام.
وكان أحد هؤلاء الشباب، الذين لم ينصاعوا لقرارات الاحتلال بمنع ذهابهم للأقصى، رأفت أبو عودة (38 عامًا)، من بلدة طمون قضاء نابلس، والذي يحاول منذ ثلاث سنوات الدخول إلى مدينة القدس عبر الحواجز الإسرائيلية المنتشرة بالضفة الغربية، إلا أن جميع محاولاته باءت بالفشل؛ خاصة مع القيود المفروضة من قبل قوات الاحتلال، والتي تسمح للرجال الذين تتعدى أعمارهم الخمسين عامًا بالدخول للقدس؛ فيما يمنع من تقل أعمارهم عن ذلك من دخول المدينة.
لا تخلو محاولات الوصول إلى المسجد الأقصى عبر القفز من أعلى الجدار العازل من المخاطر والحوادث التي قد تصيب الفلسطينيين، كالتعرض للكسر أو الجروح المختلفة، أو الاعتقال من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية
ما دفع رأفت أن يخطط للقفز من أعلى الجدار العازل، ويقول لمواطن: “على الرغم من إدراكي المخاطر التي قد تنجم عن هذه العملية؛ فقد قررت تحدي عراقيل الاحتلال، هممت قبيل بزوغ الفجر الأولى للذهاب إلى المسجد الأقصى، ومعي سلم خشبي قمت بصناعته لتسلق الجدار العازل”.
والجدار العازل هو عبارة عن حاجز ضخم بنته إسرائيل في الضفة الغربية المحتلة، يبدأ من شمال الضفة الغربية وينتهي في جنوبها، ويبلغ طوله 708 كيلومترات، ويتكون من أسلاك شائكة وأسوار خرسانية عالية، ويصل ارتفاعه قرابة الـ 8 أمتار. ووفق وكالة الأنباء الفلسطينية وفا، بدأت حكومة أرئيل شارون بتاريخ 23/6/2002، ببناء جدار الفصل العنصري الممتد على طول الخط الأخضر مع الضفة الغربية، بدعوى منع تسلل منفذي العمليات الفدائية إلى إسرائيل.
بعد نجاح رأفت في اجتياز الجدار، ووصوله إلى الجهة الأخرى منه، سار في رحلة شاقة لمسافة ثمانية كيلو مترات بين الجبال والطرق الوعرة، قبل أن يستقل إحدى الحافلات. “نشوة الفرحة بتخطي الجدار العازل، والدخول الي المسجد بعد أكثر من أربعة ساعات من وصول الحافلة لمدينة القدس، كانت كفيلة بإزالة كافة المتاعب والمشاق التي تعرضت لها خلال رحلتي الصعبة للمدينة”.
لا تخلو محاولات الوصول إلى المسجد الأقصى عبر القفز من أعلى الجدار العازل من المخاطر والحوادث التي قد تصيب الفلسطينيين، كالتعرض للكسر أو الجروح المختلفة، أو الاعتقال من قبل السلطات الإسرائيلية، وهي إجراءات حسب رأي أبو عودة لم تنل من إصرار وعزيمة الشباب الفلسطينيين، ولم تمنعهم من الصلاة في المسجد الأقصى.
التخفي في ثلاجة حفظ اللحوم
الإصرار نفسه لم يختلف لدى الفلسطيني أنس الخطيب (٢٩ عامًا)، من بلدة دورا قضاء الخليل، وبعد منع الاحتلال من دخوله لمدينة القدس عدة مرات عبر الحواجز العسكرية، قرر التخفي داخل ثلاجة حفظ اللحوم، وعلى الرغم من خطورة المحاولة التي قام بها، إلا أنه اعتقد أن عليه المضي قدمًا إلى مبتغاه دون خوف من عراقيل الاحتلال. يقول: “وصلت للمسجد الأقصى بعد ثلاث ساعات من مكوثي داخل مركبة حفظ اللحوم، والتي حاولت اجتياز طرق التفافية، بهدف الاختفاء عن أكبر عدد ممكن من الحواجز الإسرائيلية، حتى تمكنت من الوصول للأقصى بسلام”.
تشير المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن "لكل شخص الحق في حرِية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة". وهو ما لا يتم احترامه كغيره من مواثيق دولية من قبل قوات الاحتلال.
لم تكن المرة الأولى لأنس الذي يحكي أنه فعل هذه العملية ثلاث مرات على مدار الأربعة أعوام الأخيرة بالرغم من خطورتها والتي قد تؤدي إلى مقتله، أو حتى اكتشاف أمره واعتقاله على حواجز التفتيش الإسرائيلية، إلا أنه سعيد بما فعله، وتمكنه من الصلاة في المسجد الأقصى خلال شهر رمضان، حسبما وضح.
عبر أنابيب تصريف المياه
كما اتخذ حمزة أبو جيش (٢٣ عامًا) من بلدة يعبد شمال الضفة الغربية، من أنابيب تصريف مياه الأمطار والصرف الصحي، والتي تم إيصالها من قبل الاحتلال الإسرائيلي بين الضفة الغربية والقدس، للتخلص من هذه المياه، سبيلاً للوصول إلى المسجد الأقصى. يقول: “لا يتجاوز قطر هذه الأنابيب مترًا واحدًا، وتمتد لمسافات طويلة، وتصل أطوال بعضها إلى قرابة ثلاثة كيلو مترات، ويقوم الاحتلال الإسرائيلي بتغطية فتحاتها بنوافذ معدنية، وتحديدًا من الجانب الفلسطيني، لمنع محاولات التهريب عبرها”.
يكمل: “إصراري على الوصول للأقصى دفعني بقوة لعدم التردد لحظة واحدة لخوض هذه التجربة للمرة الأولى رغم مخاطرها، للظفر بالصلاة فيه خلال الشهر الفضيل؛ في حين تقوم القوات الإسرائيلية بين الفينة والأخرى بإطلاق قنابل الغاز بداخل هذه الأنابيب، لمنع وإحباط أية محاولات فلسطينية لدخولها”.
وجاء اختيار أبو جيش لأحد الأنابيب التي قام فلسطينيون سابقًا بإحداث ثغرة في شباكها المعدني للدخول إلي مدينة القدس، وبعد قرابة ساعتين ونصف من المشي باخل تلك الأنابيب المعتمة، وصل إلى مدينة القدس والمسجد الأقصى. “لم تعد هذه الفتحات والثغرات والقفز من فوق الجدار السبيل الوحيد لوصول السكان الذين يمنعهم الاحتلال من الدخول للأقصى؛ بل باتت طرقًا للعمال الفلسطينيين للتسلل والعمل في الداخل المحتل، والذين لم يتمكنوا من الحصول على تراخيص عمل من الجانب الإسرائيلي”. حسبما أضاف في حديثه.
لا بأس، من تجربة للمرة الخامسة
كما لم تمنع المخاطر والفشل، الفلسطيني نصر سلمان (٢٦ عامًا) من بلدة دير استيا قضاء سلفيت، من تكرار تجربته للمرة الخامسة، للوصول إلى الأقصى والصلاة فيه خلال رمضان المبارك، وأيام الجمعة من كل أسبوع. حسبما بين لمواطن.
وتعرض سلمان خلال المرات السابقة لثلاث محاولات اعتقال من قبل الجيش الإسرائيلي؛ فيما كسرت قدمه خلال المحاولة الرابعة أثناء قفزه من فوق الجدار. يقول: “جهزت الحبل الذي سأقوم من خلاله بتجاوز الجدار العازل، ونجحت هذه المرة في اجتيازه بسلام نحو الجهة الأخرى، وذلك خلال الأسبوع الأول من شهر رمضان الحالى”. وأثناء تواجده في الجانب الآخر من الجدار، اكتشفته قوة إسرائيلية كانت تقوم بدورية مفاجئة في المنطقة المحيطة، إلا أنه استطاع الهروب داخل إحدى الأراضى الزراعية المجاورة.
يكمل: “مكثت قرابة الساعتين متخفيًا بين الأشجار عن أعين الجنود الإسرائيليين، والذين كانوا يحاولون العثور عليّ واعتقالي، لكنني تمكنت من النجاة هذه المرة، ثم وصلت إلى موقف الحافلات المؤدي إلى منطقة باب العامود بمدينة القدس، استقللت إحدى الحافلات في رحلة استغرقت قرابة الساعة الواحدة”.
شهدت السنوات الخمس الماضية على سبيل المثال منحىً متصاعدًا من خلال القيود المفروضة على حرية العبادة والانتهاكات المرتبطة بها، وتسمح قوات الاحتلال بدخول المستوطنين المتشددين للقيام بجولات استفزازية داخل المسجد الأقصى تحت حراسة أمنية، ولم تسلم أماكن العبادة المسيحية من مثل هذه الجوالات، وهو ما حدث في كل من كنيسة الجثمانية وكنيسة سجن المسيح؛ ما تسبب في أضرار مادية في الكنيستين، وفي كثير من الأحيان يقوم المستوطنون بالبصق على الفلسطينيين ومضايقة وشتم رجال الدين والراهبات، وتتم الاعتداءات مع إفلات تام من العقاب.
تشير المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان على أن “لكل شخص الحق في حرِية الفكر والوجدان والدين، ويشمل هذا الحق حريته في تغيير دينه أو معتقده، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم، بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة”. وهو ما لا يتم احترامه كغيره من مواثيق دولية من قبل قوات الاحتلال.
ومن ناحية قانونية، وفق المادة 43 من لائحة لاهاي الرابعة لسنة 1907م؛ فالاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن يرتب لسلطاته أية حقوق أو آثار على حق السيادة الأصلي للمناطق الفلسطينية المحتلة؛ بل يبقى حق السيادة قانونًا للدولة الأصلية صاحبة الإقليم المحتل، وإن الاحتلال الإسرائيلي لمدينة القدس لا يؤدي إلى نقل السيادة للقوات المعتدية؛ لأن الاحتلال مؤقت ومحدود الأجل بحسب قراري مجلس الأمن 242 لسنة 1967 و 338 لسنة 1973؛ ما يجعل قرار منع دخول المسجد الأقصى غير قانوني، وليس من حق قوات الاحتلال.
ختامًا؛ لا يعد الأمر بالنسبة لهؤلاء الشباب من الضفة مجرد صلاة رمضانية في مسجد من ثلاثة مساجد تعد أيقونية في تاريخ الإسلام، قدر ما هو تحدي إرادة تحاول قدر ما تستطيع ألا تهزم في وجه احتلال استيطاني، يرغب في إحباط عزيمتها؛ بل والتدخل في كل تفاصيل حياتها، مع أوجه متعددة من التمييز السلبي والقمع الأمني والحقوقي وحتى الديني عليهم.