فقدت عائلة عبد الهادي مأواها بعد قصف منزلهم، شأنهم شأن كافة العائلات في قطاع غزة، لتتحول تلك المنازل لحفنة من التراب، فضلًا عن استشهاد العديد من أبنائهم على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي منذ أحداث السابع من أكتوبر 2023، دفعهم القصف المتتالي لقوات الاحتلال إلى النزوح من مكان للآخر خمس مرات، لتصبح الخيام مأواهم الأخير.
إثر ذلك أصيبت الطفلة ميس عبد الهادي 15 عامًا بفقدان حاسة السمع، لتعدّ واحدة من ضمن حالات عدة عانوا من تلك المشكلة خلال الأشهر الأخيرة، فبحسب التقرير الصادر عن جمعية أطفالنا للصم في قطاع غزة مارس 2024 تسبب القصف والتدمير المستمر لقطاع غزة في ارتفاع معدلات الإصابة بمشاكل سمعية بصورة غير مسبوقة؛ حيث يعيش الأطفال أكثر المواقف خوفًا؛ ما قد تؤدي إلى مشاكل نفسية خطيرة ينجم عنها إصابة نحو 12% من الأطفال بالتأتأة ومشاكل التواصل الأخرى كالصمت المختار.
تحكى السيدة كاميليا محمد، 45 عامًا، ربة منزل، وأحد أفراد العائلة تفاصيل رحلة نزوحها وأسرتها من مدينة غزة لرفح بعد استشهاد 30 من أفراد عائلتها وعائلة زوجها لـ”مواطن” قائلة: “تحولت حياتنا إلى جحيم، وكأن أهوال يوم القيامة نراها يوميًا على يد قوات الاحتلال منذ السابع من أكتوبر، قصف بيتنا الآمن الذي كان يؤوينا أو كنا نظن ذلك فوق رؤوسنا”.
السيدة كاميليا تروي رحلة نزوحهم
وتكمل كاميليا: “شهدت منطقة أبراج المخابرات التي كنا نقطنها قصفًا متواصلًا، ليلة 12 من أكتوبر وكانت الأعنف والأسوأ في حياتي، في هذا اليوم تجمعت أسرتي بأحد زوايا المنزل عند باب الشقة خوفًا من القصف البري والجوي، وحينما حل علينا الليل كنا نهرب إلى الطابق الأسفل من البناية، ولم يتوقف القصف لحظة واحدة، طوال تلك الليلة، أقمنا في غرفة حارس البناية، أنهكنا الرعب والخوف حتى بزوغ الفجر، لنصعد إلى شقتنا بعد صمت مريب دام لأقل من ساعة، لم نلبث في الشقة بضع دقائق حتى فوجئنا بقصف عنيف متواصل ومباشر للبناية الخاصة بنا والبنايات المجاورة، هرعنا إلى الشارع بملابس البيت مرعوبين لا نعرف وجهتنا، لم نحمل معنا سوى بعض الأوراق الرسمية التي كنا جهزناها سابقًا في حقيبة لنبدأ رحلتنا الأولي في النزوح يوم 12 أكتوبر”.
تضيف كاميليا: “كان القصف متواصلًا فوق رؤوسنا، والشظايا تتطاير من كل مكان، لم نجد سوى فندق المشتل المجاور للعقار لنحتمي بداخله، حوصرنا مع عدد كبير من العائلات الهاربة من القصف، ظللنا 12 ساعة بلا طعام أو شراب، منعت قوات الاحتلال وصول سيارات الصليب الأحمر والإسعافات لنقلنا أو لنقل مصابينا من المكان، في اليوم ذاته غادرنا الفندق بعد قصفه سيرًا على الأقدام حاملين رايات بيضاء لنثبت لهم أننا مدنيون لنتجه إلى خانيونس لنقيم بمنزل شقيق زوجي لأيام”.
وتكمل كاميليا: “23 أكتوبر بدأت رحلة نزوحنا الثالثة لمنزل شقيق زوجي الثاني في خان يونس بسبب قصف البيوت المجاورة للبيت الذي نزحنا إليه، في 25 أكتوبر كانت محطتنا الرابعة في النزوح من بيت سلفي لمنزل عائلة زوجي القديم المتهالك بفعل القصف، بقينا فيه ليلة واحدة كانت الأصعب؛ فلم يتوقف فيها القصف لحظة واحدة، لنغادر في صباح اليوم التالي من خان يونس إلى رفح جنوب القطاع بواسطة توك توك، لم نحمل حينها سوى عدد قليل من البطاطين حصلنا عليها من متبرعين، ليعد هذا نزوحنا الخامس والأخير لكنه الأصعب، لم نجد مكان يؤوينا، بتنا بين يوم وليلة مشردين بلا مأوى، فقدنا منزلنا الجميل لنعيش في خيام بائسة تفتقد لأدنى مقومات الحياة، نهارًا نعاني من الحر الشديد، وليلًا نعاني من البرد القارص”.
تمنيت كثيرًا، لو سمح لأهل الشمال من النازحين بالعودة مجددًا لنلملم أغراضنا وملابسنا من تحت أنقاض ركام البنايات لكنه يبدو حلمًا بعيد المنال رغم بساطته
John Doe Tweet
بحسب منظمة الصحة العالمية لا يزال أكثر من 80٪ من احتياجات العناية بالأذن والسمع غير ملباة، وتقدر المنظمة تكلفة فقدان السمع غير المعالج 980 مليار دولار أمريكي كل عام وهي التكلفة المتكبدة بسبب تأثير فقدان السمع دون احتساب تكاليف إتاحة إعادة التأهيل، بما في ذلك الخسائر في الإنتاجية والإقصاء الاجتماعي، ويعد تغيير المواقف بشأن العناية بالأذن والسمع ضروريًا لتحسين إمكانية الحصول على الرعاية وتخفيف تكلفة فقدان السمع غير المعالج.
لم تقف معاناتهم عند هذا الحد؛ فبحسب كاميليا تسببت المياه الملوثة والقصف المتواصل في أضرار صحية بالغة لهم، تقول في هذا السياق لـ “مواطن”: “أصيبت ابنتي ميس 15 عامًا فبراير 2024 بالتهابات حادة في الأذن الوسطى أفقدتها حاسة السمع لما يزيد عن الشهر، إلى أن بدأت حالتها تتحسن نوعًا ما، دفعتنا ظروف الحرب لتناول مياه ملوثة بالإضافة لمعاناتنا من شح الأطعمة والأغطية القليلة والملابس الخفيفة التي لاتقينا من البرد القارس فضلًا عن إصاباتنا بالأمراض الفيروسية، كالإنفلونزا الحادة والسعال الذي يستمر لشهر ونصف، ومعاناتي من حصوات الكلى ومعاناة ابنى من خشونة في الركبة، ومع الحرب تفاقمت آلامه دون علاج.
تقول كاميليا: “تمنيت كثيرًا، لو سمح لأهل الشمال من النازحين بالعودة مجددًا لنلملم أغراضنا وملابسنا من تحت أنقاض ركام البنايات لكنه يبدو حلمًا بعيد المنال رغم بساطته، رفح التي تؤوي أكثر من مليون ونصف نازح بتنا مهددين بالموت، لا نعلم مصائرنا، يأتي ذلك في الوقت الذي استشهد نحو 30 من أفراد عائلتي وعائلة زوجي بينهم أطفال، لنعيش حاليًا في عدد من الخيام جوار بعضنا بنطاق رفح جنوب القطاع بعد قصف وحرق بيوت عائلتي وأشقائي السبعة بشكل كامل”.
في حديثه لـ “مواطن” يشير الدكتور هاني عبده أخصائي طب السمع والاتزان، أن التلوث السمعي بالقذائف خطير جدًا على حاسة السمع، حيث تؤثر القذائف والأصوات المرتفعة على شعيرات الأذن الداخلية لينتج عنها ضعف سمعي عصبي حسي، لذا التعرض للأصوات العالية عمومًا والقذائف خصوصًا يعد من أخطر أسباب ضعف السمع، مشيرًا لإمكانية تسبب الالتهابات الحادة في الأذن الوسطى لفقدان حاسة السمع.
من جهته يقول الدكتور حاتم عبد المنعم أستاذ علم الاجتماع البيئي كلية البيئة جامعة عين شمس لـ”مواطن”: “الضوضاء الناتجة عن القذائف المتتالية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي تؤثر تأثير بالغ على حاسة السمع، قد تضعفه أو تتسبب في فقدانه، فضلًا عن تأثيرها بالغ الضرر على البيئة المحيطة ليصل تأثيرها على الجنين في بطن أمه، هذا وتتسبب الحالة النفسية السيئة التي يعيشها سكان القطاع نتيجة الحرب الدائرة وما ينجم عنها من تأثير سلبى على صحتهم، كما قد تتسبب في ضعف السمع أو فقدانه جراء القذائف المتتالية من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي على قطاع غزة، هذا وتؤدى الصدمة النفسية في بعض الحالات للوفاة، فضلًا عن تلوث المياه والهواء الناجم بسبب القذائف ما جعل القطاع مكان غير صالح للإقامة.
بحسب تقرير منظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسف الصادر في نوفمبر 2023، يعيش أكثر من نصف سكان غزة الآن في مرافق الأونروا في ظروف مزرية، في ظل نقص إمدادات المياه والغذاء؛ ما يسبب الجوع وسوء التغذية والجفاف وانتشار الأمراض المنقولة بالمياه.
بتنا بلا مأوى ولا محرم، ولا مطعم ولا مشرب، متنفسنا دخان القذائف، ورائحة الموت المقيتة، أنا طفلة طموحة، أحب الحياة وأحبها أكثر للناس أجمعين، لا أريد موتًا يغتال إنسانيتي، ويبتر إبداعي بت أعيش خارج وعي الأطفال، داخل محرقة الأحلام، يحيطني فزع ثم فزع ثم فزع، لا يرحمني
John Doe Tweet
ووفقًا للتقييمات الأولية التي أجرتها الأونروا، فإن 4,600 امرأة حامل نازحة، وحوالي 380 مولودًا جديدًا ممن يعيشون في هذه المرافق يحتاجون إلى الرعاية الطبية، وأبلغ عن أكثر من 22500 حالة من التهابات الجهاز التنفسي الحادة إلى جانب 12000 حالة إسهال، وهو أمر مثير للقلق بوجه خاص نظرًا إلى ارتفاع معدلات سوء التغذية.
من جانبها قالت الشاعرة ميس عبد الهادي رئيسة مجلس أطفال فلسطين على مستوى قطاع غزة، والمتحدث الرسمي باسم أطفال القطاع لـ”مواطن“: “فقدنا مأوانا وكل ما نملك، لم يتبق لنا إلا ستر الله وضاقت بنا السبل، لتطالب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي بالعمل على إخراجها وعائلتها المكونة من ستة أفراد، من خان يونس عبر معبر رفح ليقيموا لفترة في مصر على أن يعودوا مجددًا لغزة عقب انتهاء العدوان وعودة الاستقرار لبلدها”، وتضيف: “بتنا بلا مأوى ولا محرم، ولا مطعم ولا مشرب، متنفسنا دخان القذائف، ورائحة الموت المقيتة، أنا طفلة طموحة، أحب الحياة وأحبها أكثر للناس أجمعين، لا أريد موتًا يغتال إنسانيتي، ويبتر إبداعي بت أعيش خارج وعي الأطفال، داخل محرقة الأحلام، يحيطني فزع ثم فزع ثم فزع، لا يرحمني”.
حسب تقرير جمعية “أطفالنا” للصم في قطاع غزة في مارس 2024 يعد فحص السمع أحد أهم التدخلات التي يجب تقديمها للمتضررين أثناء الأزمات والطوارئ لعدة أسباب؛ حيث إن الضوضاء الناتجة عن الحروب والأزمات مضرة للسمع، علاوة على أن القدرة على السماع بوضوح أمر حيوي خلال الأزمات والحروب، حيث يمكن أن يعتمد الناس على التواصل الصوتي لتبادل المعلومات وتحديد المخاطر، حيث تؤدي الأزمات والحروب إلى إصابات في الأذن تتطلب تقديم رعاية طبية فورية، كما أن فحص السمع يمكن أن يساعد في الحفاظ على الصحة النفسية خلال الأزمات والحروب، حيث يمكن أن يكون العزل الاجتماعي والضغط النفسي مرتفعين، وقد يكون القدرة على الاستماع إلى الآخرين مهمًا للشعور بالاتصال والدعم.
وأشارت الجمعية في تقريرها إلى أن 5.5% من الأشخاص الذين تم فحصهم حولوا للتقييم التشخيصي، بالإضافة إلى أن 14.7% ظهر لديهم مشاكل طبية تحتاج إلى تدخل طبي كـ (إزالة الشمع أو الإدارة الطبية لخلل في الأذن الوسطى)؛ حيث تمثل تلك الأرقام ضعف عدد الأشخاص المحالين في الفحوصات السابقة، مما يثير علامة حمراء للعدد الهائل من الأشخاص الذين يعانون من مشاكل في السمع، وحالات طبية في الأذن أظهرت الفحوصات إصابة 10% ممن تم فحصهم في مراكز الإيواء بالتهابات في الأذن الوسطى وشمع مضغوط في الأذن الخارجية حال عدم علاج تلك الحالات، قد يؤدي ذلك إلى فقدان السمع الدائم لدى ما لا يقل عن 6% من إجمالي عدد الأشخاص الذين يعانون من تلك الحالات الطبية.
توقعت الجمعية زيادة الأعداد بسبب الازدحام في الأماكن التي يعيش فيها هؤلاء في ظل الوضع الراهن لسكان قطاع غزة؛ حيث يعاني الأطفال في الملاجئ من زيادة في قنوات الأذن الخارجية لأسباب صحية، مما يتطلب وجود طبيب أنف وأذن وحنجرة مع فريق الفحص لإزالة الشمع وإجراء اللازم لتقليل تأثير الشمع المضغوط على السمع واكتساب الكلام/اللغة؛ حيث إن فقدان السمع الدائم والمؤقت يؤثر مباشرة على قدرات التعلم لدى الأطفال؛ ما يعيقهم عن تلقي رسائل التواصل بشكل واضح.