ما إن عُرضت الحلقة الأولى من مسلسل الحشاشين، حتى تصدر الترند على مواقع التواصل الاجتماعي، وأثار الجدل بين النقد والإعجاب، وخرجت اتهامات لصانعي المسلسل بأنهم يربطون بين أحداثه وبين منهج جماعات الإسلام السياسي في توجيه أتباعها لممارسة العنف، انطلاقًا من مبدأ “السمع والطاعة”. وشن فريق آخر هجومًا على المسلسل لاستخدامه اللهجة العامية المصرية، والتي لا تتناسب مع أحداث وقعت في القرن الحادي عشر الميلادي في بلاد فارس. فهل كل ما يتداول عن تلك الطائفة يقترب مما جاء في كتب التاريخ؟ وماذا نعرف عنها؟
تأسيس الطائفة
ولد مؤسس الطائفة – الحسن بن الصباح– في مدينة “قم” بإيران 1037، الذي كان شيعيًا على المذهب الاثنا عشري، ثم أخذ يقرأ كتب الإسماعيلية وتأثر بها، أتم تعليمه على يدي أحد معلمي الإسماعيلية وأدى القسم بين يديه، ثم كلفه بالذهاب إلى مصر ليدعو فيها إلى المذهب ويتعرف على من في قصر الخلافة، ثم تحول إلى المذهب الإسماعيلي ودعا إليه.
وترجع أصول الحركة إلى التيار الشيعي، الذي انقسم إلى فرقتين كبيرتين عقب موت الإمام جعفر الصادق (الإمام السادس)، والذي عهد بالإمامة إلى ابنه إسماعيل الذي مات في حياة أبيه، وهنا دبَّ الخلاف بين الشيعة؛ هل تنتقل الإمامة إلى محمد بن إسماعيل؟ أم من حق جعفر الصادق نقلها إلى ابنه الآخر موسى الكاظم؟
اتسم الحشاشون بالسرية الشديدة في تنفيذ عملياتهم، واستخدموا أساليب مختلفة للتخفي والتسلل؛ مثل التنكر بزيّ المتصوفين أو التجار، وكانوا يخططون لعمليات الاغتيال بدقةٍ بالغة.
ومن هنا كان ميلاد فرقتي الشيعة الرئيستين؛ الإسماعيلية والاثنا عشرية؛ حيث أيدت الاثنا عشرية إمامة موسى الكاظم، أما الإسماعيلية بقيادة ميمون القداح فقد ساقت الإمامة إلى محمد بن إسماعيل، ومن ثم دخلت الدعوة إلى طور الستر والغموض، حتى ظهر عبيد الله المهدي مؤسس الدولة الفاطمية، واستطاع السيطرة على شمال إفريقيا ودعا للمذهب الإسماعيلي بين قبائل البربر، ثم استولى على الإسكندرية والدلتا، إلا أن دعوته لمذهب الإسماعيلية وجدت نفورًا، نظرًا لتوطن المذهب السني في مصر وشمال إفريقيا، في المقابل توطدت دعائم الشيعة الفاطميين عسكريًا وسياسيًا.
وفي عهد الخليفة المستنصر الذي اعتلى عرش الخلافة الفاطمية في الحادية عشرة من عمره، وظلت خلافته ستين سنة، دعا لخلافة ابنه نزار، وأيده الحسن الصباح وبايعه على ذلك، وأخذ المستنصر العهد على الحسن الصباح وكلفه بنشر الدعوة الإسماعيلية في بلاد فارس.
إلا أن بدر الجمالي القابض على شؤون الحكم والمدبر الحقيقي لأمور الدولة، لم يكن على وفاق بنزار بن المستنصر؛ فخشي أن يقصيه نزار عن منصبه إذا تولى الخلافة؛ فأطاح بنزار وبايع أخاه أحمد المستعلي بن المستنصر، وانقسم الناس بين النزارية المؤيدين لنزار، وبين المستعلية المؤيدين لأحمد المستعلي. لذلك سميت طائفة “الحشاشين” بالشيعة الإسماعيلية النزارية. تولى المستعلي الخلافة وثار النزارية وهرب نزار إلى الإسكندرية وقام بثورة محلية؛ فما لبث أن أسر ثم قتل.
وظل بدر الجمالي يكيد بالحسن الصباح حتى ألجأه إلى مغادرة مصر إلى إيران. غادر “الصباح” إلى قزوين، واستطاع بعد ذلك الاستيلاء على قلعة آلموت عام 1090م، واتخذها مركزًا لنشر دعوته وتأسيس دولته التي امتدت إلى الشام.
الاغتيالات السياسية
دان أتباع الحسن الصباح له بالولاء، ولم يتورعوا عن طاعته طاعة عمياء، وتنفيذ ما يأمرهم به حتى لو تعرضوا لفقد أرواحهم، ولم يتوانوا أيضًا عن اغتيال من لا يستجيب لدعوتهم، وكان أولهم مؤذن مسجد رفض الانضمام إليهم، حتى اشتهرت الطائفة بعد ذلك بتبنيها لاستراتيجية عسكرية تعتمد على الاغتيالات التي ينفذها الأتباع دون خشية من الموت في سبيل تحقيق أهدافهم، ويعكس هذا جانبًا من عقيدتهم المتعلقة بالتضحية والولاء، وقد نجحوا في اغتيال العديد من الشخصيات المهمة في ذلك الوقت، ومنهم:
- الوزير نظام الملك: وكانت من أشهر عمليات اغتيال الحشاشين، حيث تم اغتياله عام 1092م.
- الوزير الكمال أبو طالب السميرمي: وزير السلطان محمود 1122م.
- الخليفة المسترشد: عام 1135م.
- كونراد دي مونفيراتو: ملك بيت المقدس، عام 1192م.
وجاءت عمليات الاغتيال لدى طائفة الحشاشين بدوافع سياسية، وذلك لإضعاف أعدائهم، استهدفت عمليات الاغتيال بشكل رئيس القادة السياسيين والعسكريين، الذين اعتبرتهم الطائفة تهديدًا لوجودهم أو نفوذهم. ودوافع دينية بمحاربة الكفر؛ حيث اعتبروا أنفسهم حماة للإسلام الحقيقي، ورأوا في بعض الحكام والعلماء “كفارًا” يجب التخلص منهم لنشر دعوتهم وجذب المزيد من الأتباع. ولا تزال دوافع عمليات الاغتيال لدى طائفة الحشاشين موضوعًا مثيرًا للجدل بين المؤرخين، ولا يوجد إجماع حول السبب الرئيسي لهذه العمليات.
ولا يزال بقايا الإسماعيلية النزارية اليوم في كثير من دول العالم، ولعل من أهمها الطائفة التي يُطلق عليها الأغاخانية، التي تنسب إلى حسن علي شاه، الذي ظهر في إيران ولقب نفسه بـ "الأغاخان الأول".
كانت فرقة الحشاشين شديدة الدموية والجرأة في مواجهة الخصوم، وكان السنة والصليبيون على السواء يخافون من غيلتهم ودمويتهم، ومهاراتهم غير المتوقعة في الإجهاز والقتل؛ ففي تقرير أرسله أحد المبعوثين للإمبراطور الألماني فردريك بربروسا سنة 570هـ/ 1175م قال: “إن لهم سيدًا يلقي أشد الرعب في قلوب كل الأمراء العرب القريبين والبعيدين على السواء، وكذلك يخشاه كل الحكام المسيحيون المجاورون لهم، لأن من عادته أن يقتلهم بطريقة تدعو للدهشة”.
اتسم الحشاشون بالسرية الشديدة في تنفيذ عملياتهم، واستخدموا أساليب مختلفة للتخفي والتسلل؛ مثل التنكر بزيّ المتصوفين أو التجار، وكانوا يخططون لعمليات الاغتيال بدقةٍ بالغة؛ حيث يقومون بجمع المعلومات عن أهدافهم ودراسة تحركاتهم، ثم اختيار الوقت والمكان المناسبين للتنفيذ، وأتقنوا استخدام السموم القاتلة، واستخدموها في بعض عمليات الاغتيال، مما زاد من رعب خصومهم، وقد نفذوا بعض عمليات الاغتيال بطريقة انتحارية، حيث يُقدم الفدائي على قتل نفسه بعد تنفيذ الاغتيال، أو يتم قتله على يد أتباع المقتول.
أساطير حول الحشاشين
وقد شاع أن الحسن الصباح جعل في القلعة بساتين وحدائق غناء للسيطرة على أتباعه والتحكم بهم، واعتقد البعض أن لفظ “الحشاشين” جاء من مخدر “الحشيش”، إلا أن النصوص الإسماعيلية لم تشهد بالاستعمال الفعلي للحشيش من قبل أتباع الطائفة، كما أن المؤرخين الرئيسيين للنزاريين مثل الجويني من الذين نسبوا كل أنواع الدوافع والمعتقدات لدى الطائفة، لم يذكروهم بالحشاشين (المتعاطين للحشيش)، كذلك لم تذكر المصادر العربية معنى صريحًا للكلمة.
وما يذكره البعض من أن الحشيش كان وسيلة تجنيد أتباع الطائفة؛ حيث كان الحسن الصباح كان يأخذ الشباب الذين تتراوح أعمارهم بين الثانية عشرة والعشرين لينشئهم تنشئة عجيبة تعتمد على تخديرهم بمخدر خاص، يقال إنه الحشيش، وبعد ذلك يعمد إلى إدخالهم بعد أن تأخذهم السكرة إلى حدائق خاصة أنشأها لهذا الغرض، تحتوى على ما لذ وطاب من الطعام والجواري الحسان، ويخلي بينهم وبينها للاستمتاع فيها، ثم بعد ذلك يعمد إلى إفاقتهم من سكرتهم وإعادتهم إلى حضرته ليطلب منهم بعد ذلك إن أرادوا خلودًا فى الجنة التي أذاقهم جزءً من نعيمها، أن ينفذوا ما يطلبه منهم. إلا أن ذلك غير صحيح، وهو من خيال المؤرخين من أمثال ماركو بولو، الذي أوردها في كتابه دون الاعتماد على أي مصدر موثوق.
ومن تلك الروايات غير الموثوقة أيضًا وتعد محض خيال، علاقة الصداقة المزعومة التي ربطت بين الحسن الصباح وبين نظام الملك وعمر الخيام؛ فمن المعلوم أن نظام الملك ولد عام 1020 وقتل 1092، أما تاريخ الحسن الصباح وعمر الخيام فغير معروف، إلا أن “الصباح” مات عام 1124، ومات “الخيام” 1123، وبمقارنة تلك التواريخ فمن غير المحتمل أن يكون الثلاثة قد تعاصروا كطلاب علم.
وقد عاش الحسن الصباح في قلعة آلموت معتزلاً الخروج منها، وذكر بعض المؤرخين أنه لم يخرج منها طيلة حكمه سوى مرتين، وكان يقضي وقته في القراءة والتدوين والتأمل بين مكتبة ضخمة تم تدميرها على يد التتار بعد ذلك، وكان زاهدًا قانعًا لا يعرف البذخ أو الترف، ومتشددًا في تطبيق شريعة الإسماعيلية، ولم يجرؤ أحد من أتباعه على إتيان شيء من المحرمات أو حتى اللهو بشرب الخمر أو سماع الموسيقى، حتى إنه أقدم على قتل ابنه لأنه شرب خمرًا، وقام بطرد أحد دعاته لأنه تسلى بالعزف على الناي.
وفي مرضه الأخير أحس بدنو أجله، فأوصى باستخلاف أحد أخلص أتباعه؛ هو “برزك آميد”، وحث الناس على طاعته، ثم ما لبث أن توفي عام 518هـ ودفن بالقلعة.
وكانت الحروب الصليبية وظهور صلاح الدين الأيوبي وسقوط الدولة الفاطمية، مؤشرًا على انتهاء حركة الحشاشين في بلاد فارس على يد المغول بقيادة هولاكو في عام 1256م؛ حيث استولى على قلعة آلموت، والتي كانت حصنًا قديمًا فوق صخرة عالية في منطقة وعرة وسط الجبال على ارتفاع ستة آلاف متر أو يزيد، وقد بُنيت بطريقة شديدة الإحكام؛ فليس لها إلا طريق واحد فقط للوصول إليها؛ ما يصعّب على الغزاة اقتحام هذه الطريق الوعرة، ولم يعرف على وجه الدقة أول من بنى هذه القلعة.
ويقال إن من بناها هو أحد ملوك الديلم القدماء وأسماها (ألوه أموت) ومعناها عش النسر، وقد روى ابن الأثير قصة دخولهم هذه القلعة قائلاً: “إن الحسن الصباح كان يطوف على الأقوام يُضلّهم؛ فلما رأى قلعة آلموت واختبر أهل تلك النواحي، أقام عندهم وطمع في إغوائهم ودعاهم في السر، وأظهر الزهد ولبس المسح فتبعه أكثرهم، والعلوي صاحب القلعة أحسن به الظن وجلس إليه يتبرك به، فلما أحكمَ الحسنُ أمره دخل يومًا على العلويّ بالقلعة فقال: اخرج من هذه القلعة. فتبسّم العلوي وظنه يمزح؛ فأمر ابن الصباح بعض أصحابه بإخراج العلوي فأخرجوه إلى دامغان وأعطاه ماله وملَك القلعة.
ولا يزال بقايا الإسماعيلية النزارية اليوم في كثير من دول العالم، ولعل من أهمها الطائفة التي يُطلق عليها الأغاخانية، التي تنسب إلى حسن علي شاه، الذي ظهر في إيران ولقب نفسه بـ “الأغاخان الأول”، وهو واحد من أغنى أغنياء العالم؛ نظرًا لما يتحصّل عليه من أتباع هذه الطائفة التي تبلغ نحو العشرة ملايين شخص في أرجاء العالم.
وهم الآن لا يُمارسون أية أدوار لها علاقة بالسياسة كما كان يفعل الحشاشون قديمًا؛ بل يُركزون على الأنشطة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ويُشاركون بنشاط في الحوار بين الأديان، ويقومون بإنشاء المؤسسات التعليمية والصحية والخيرية، ويُساهمون في تنمية المجتمعات التي يعيشون فيها.
وإذا كان الحشاشون منبوذين قديمًا، نظرًا لسلوكهم السياسي العنيف مع مخالفيهم؛ وتواريهم عن الأنظار في قلعتهم، وعدم اختلاطهم بالطوائف الأخرى، وإحاطة أنفسهم بشيء من الغموض؛ مما فتح الباب لكثير من الأساطير التي حيكت حولهم؛ ففي المقابل هم الآن -متمثلين في الأغاخانية- فرقة ضالة في نظر أغلب طوائف المسلمين؛ فلا يجوز الصلاة على موتاهم، ولا دفنهم في مقابر المسلمين، ولا تجوز مناكحتهم، ولا تحل ذبيحتهم ولا معاملتهم معاملة المسلمين. ذلك حسب فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.