منذ استقرار أم كلثوم في القاهرة في منتصف العشرينيات وحتى نهاية العقد الخامس من القرن الماضي، اقتصرت حفلات أم كلثوم الخارجية على منطقة المشرق العربي، وتحديدًا الشام والعراق؛ ففي بداية عهدها بالغناء طافت الآنسة أم كلثوم في أولى رحلاتها خارج المملكة المصرية في محطات الشام الثلاث؛ وزارت فلسطين ولبنان وسوريا في خريف 1931، وفي العام التالي زارت العراق في زيارة كتب عنها كثيرًا، وكررتها بعد ذلك عام 1946 حين غنت في قصر الرحاب الملكي بالعاصمة العراقية، وطوال عقد الخمسينيات زارت أم كلثوم لبنان وسوريا، وقدمت أجمل حفلاتها في بيروت ومعرض دمشق الدولي.
وظلت منطقة الخليج العربي بعيدة عن فن أم كلثوم؛ فلا نجد في تلك المرحلة المبكرة في الصحافة المصرية والعربية بوادر دعوة لمطربة العرب الأولى من أجل الغناء في إمارات الخليج، ولم تسع أم كلثوم لزيارة تلك البلاد رغم صداقاتها المتعددة والوطيدة مع أمراء وأميرات البيوت المالكة الخليجية، ليأتي عقد الستينيات وتعدل أم كلثوم مسار رحلاتها الخارجية، وتولي تلك البلاد مكانة كبرى في سجل رحلاتها الفنية.
سفيرة الناصرية
لا يمكن بحال من الأحوال فهم جولات أم كلثوم الخارجية التي جاءت في عقدي الخمسينيات والستينيات بمعزل عن تصاعد المد الناصري و ايدلوجيته الحاكمة في المنطقة العربية، وتغير واقع السياسة وشكلها في الشرق بأكلمه؛ فبعد أن خرج عبد الناصر منتصرًا سياسيًا من معركة السويس عام 1956، كان من الطبيعي أن تمتد إلى الخليج العربي موجات من وهج ثورته ومبادئه؛ خصوصًا وأن الواقع الخليجي في تلك الفترة لا زال يحبو للوصول إلى الاستقلال عن الهيمنة البريطانية، وهو ذات المستعمر الذي استطاع عبد الناصر تحطيم غطرسته الكونولونية في معركة التأميم، وتحول القاهرة تدرجًا إلى مركز للتبشير بالوحدة العربية بعد أن تشكلت الجمهورية العربية المتحدة، في محاولة لبناء اتحاد عروبي يقف أمام الرجعية وأطماعها في المنطقة.
كانت كل تلك التغيرات المتلاحقة تلقي بظلالها على فن أم كلثوم باعتبارها فنانة العروبة الأولى، وصوت مصر في كل عهودها السياسية، وحلقة الوصل الناعمة بين أبناء المنطقة العربية، ومع تصاعد اللهجة العدائية بين جمال عبد الناصر وبعض حكام الخليج، أرادت أم كلثوم أن تحيد وجودها في تلك المنطقة، حتى مع وجود شعبية كبرى لها في تلك البلاد؛ فبرغم أنها غنت من كلمات الأمير السعودي عبد الله الفيصل قصيدة “ثورة الشك” في ديسمبر/ كانون الأول 1958، لم تسع لتكرر التجربة مرة ثانية إلا بعد وفاة عبد الناصر، ولم تعد غناء القصيدة مرة ثانيةً بعد حفل إطلاقها الأول.
غير أن الحال لم يكن ذاته بين أم كلثوم والكويت؛ فمنذ بداية الستينيات تصاعدت حركة القوميين في الكويت، وتحولت الأخيرة إلى مركز إقليمي في الخليج والجزيرة العربية للتقارب مع الناصرية؛ خصوصًا بعد أن تباعدت الخطوات بين عبد الناصر وحركة عبد الكريم قاسم في العراق في يوليو/تموز 1958، ووقوف عبد الناصر حائلًا صعبًا ضد “عبد الكريم” ورغبته في ضم الكويت إلى الأراضي العراقية، كل هذا التقارب مع المشروع الناصري شكل حافزًا لأم كلثوم لعقد صلات حية مع الكويت ورجالها.
وربما كانت أول خطوة حقيقية لإتمام ذلك التقارب بين أم كلثوم والكويت؛ حين غنت عند استقلاله في 19 من يونيو/ حزيران 1961 قصيدة كتبها شاعر الكويت أحمد العدواني (1923-1990) ولحنها رياض السنباطي، يقول مطلعها: “يادارَنا يا دار/ يا منبت الأحرار”، تحمل القصيدة رؤية وطنية كلاسيكية لإمارة الكويت وشكلها التاريخي المعتاد؛ فتغني أم كلثوم للتبر الذي في برها (النفط) واللؤلؤ الذي في بحرها، إلا أن نهاية القصيدة حملت سابقة في سنوات أم كلثوم بعد ثورة يوليو 1952؛ إذ ذيلت القصيدة بتحية لأمير الكويت آنذاك الشيخ عبد الله سالم الصباح، وهو ما كان ليحدث بشكل من الأشكال في حالة عدم التقارب الحقيقي بين النظامين المصري والكويتي؛ فمن غير المعقول أن تغني مطربة في حجم أم كلثوم لزعيم عربي على خلاف مع بلادها، وزعيمها ناصر الذي تكشف الشواهد إيمانها الشديد به وتقديرها الشخصي له.
ورغم أن تلك القصيدة لم تحصد ما تستحقه من الشعبية والجماهيرية في مصر، لكنها مازالت إلى اليوم تحظى بشعبية جارفة في الكويت؛ خصوصًا بعد أن أعاد محمد المسباح غناءها بعد الغزو العراقي عام 1990، وتقديمها بشكل مصور على شاشة التلفزيون الكويتي، وربما دفع ذلك الصدى الكبير أم كلثوم لتكرار تلك التجربة؛ فسجلت قصيدة أخرى للكويت لنفس الشاعر وذات الملحن، وهي قصيدة “أرض الجدود“، وتختلف التقديرات المحتملة لتاريخ تلك القصيدة الأخيرة، ولكن معظم الإشارات تؤكد تسجيلها في 10 من يونيو/ حزيران 1964 في عيد استقلال الكويت الثالث، ومن المؤكد أن تلكما التجربتين ورواجهما في الكويت، كانتا إشارة البدء لإتمام زيارة طال انتظارها للجزيرة العربية، لتكون الكويت أول محطات سيدة الغناء في بلاد الخليج العربي.
دعم للنسوية الكويتية.
بالبحث عن خلفية الزيارة الكلثومية الأولى لمنطقة الخليج العربي في عام 1963، نجد أنها جاءت بمبادرة أهلية من “الجمعية الثقافية النسائية” الناشئة آنذاك في الكويت، والتي كانت ترأسها الرائدة النسوية الشهيرة لولوة القطامي، وبمراجعة تاريخ نشوء تلك الجمعية نجد أنها تشكلت وأشهرت رسميًا في فبراير/ شباط 1963، وهو ذات الشهر الذي زارت فيه أم كلثوم الكويت للمرة الأولى، وربما يطرح ذلك التطابق بين التاريخين فرضية وجود رغبة داخلية عند أم كلثوم في دعم الحركة النسوية داخل المجتمع الكويتي؛ خصوصًا وأن تلك الزيارة جاءت بعد دعوة متعثرة عام 1959، لكن موافقة أم كلثوم السريعة على تلبية دعوة الجمعية النسائية، دون اهتمامها بالنظر إلى تاريخ الجمعية ونشاطها السابق، يدعم صحة تلك الفرضية؛ فالجمعية أنشئت لنشر معظم الأفكار النسوية التي كانت رائجة في المجتمع العربي آنذاك، والتي كانت تدعمها أم كلثوم بشكل دائم بالحفلات الخيرية والتبرع النقدي.
غير أن فكرة إقامة حفل لأم كلثوم في الكويت كان قادرًا على تحقيق تغيير معنوي في المجتمع الكويتي المحافظ، وذلك قياسًا على ما أحدثته حفلات أم كلثوم في المجتمع المصري خلال فترة العشرينيات؛ فالمرأة المصرية لم تخرج إلى الحفلات العامة إلا مع بزوغ عصر أم كلثوم الغنائي، وذلك بعد أن فرضت أم كلثوم شكلًا من أشكال الرقابة الذاتية على أغانيها، وأخضعت كلمات الأغاني لذائقة الوعي عند الطبقة المتوسطة المحافظة، وهذا ما كان سيسهل نسبيًا خروج المرأة الكويتية أيضًا إلى الحفلات العامة، دون أن يمنعها حجابها عن التمتع بغناء أم كلثوم، شأنها شأن الرجال، وأغلب الظن أن السيدة لولوة القطامي أرادت أيضًا من تلك الدعوة تدشين الجمعية بحدث استثنائي في تاريخ الكويت الاجتماعي، وهو ما سيكون قادرًا على نشر اسم الجمعية والترويج لها، وكذلك استغلال نفوذ أم كلثوم الكبير دخل مصر، وعلاقتها الوطيدة بالمجتمع النسوي المصري في خلق صلات دائمة بين المجتمع النسائي الوليد في الكويت ومركزية القاهرة.
لكن بكل تأكيد احتاجت “الجمعية الثقافية النسائية” من يدعم موقفها عند أم كلثوم، وهو ما تتذكره السيدة لولوة القطامي بعد سنوات طويلة إذ تقول في مقابلة معها عام 2020 إنها سعت إلى وساطة الشيخة منيرة هلال المطيري وزوجها الأمير دعيج سلمان الصباح عند السيدة أم كلثوم، لإتمام تلك الزيارة الأولى، بعد أن عرفا عن الأمير وزوجته قربهما الشديد من سيدة الغناء، لدرجة تواتر معظم الأخبار على أن هلال أم كلثوم الماسي الشهير، والذي لم يفارق صدرها في معظم حفلاتها الشهرية كان هدية من صديقتها الحميمة الشيخة منيرة هلال المطيري.
حفلان للتاريخ
وقفت أم كلثوم عام 1963 تغني على مسرح سينما “الأندلس”، وقدمت ليلتين على ذات الركح، الأولى يوم الاثنين 25 من فبراير/ شباط 1963، وغنت فيه “حيرت قلبي معاك” لرامي والسنباطي، و”أنساك” لمأمون الشناوي وبليغ حمدي، و”حسيبك للزمن” لعبد الوهاب محمد والسنباطي، وبعد يومين عادت لنفس المسرح لتقدم الحفل الثاني يوم الأربعاء 27 من فبراير 1963، حين غنت ثلاث وصلات غنائية أيضًا، هي بالترتيب: “هجرتك” لرامي والسنباطي، و”ظلمنا الحب” لعبد الوهاب محمد وبليغ حمدي، وأخيرًا “هو صحيح الهوى غلاب؟” لبيرم وزكريا أحمد.
ومن يستمع إلى ذلك التسجيل الأخير في تلك الليلة، يلاحظ كيف حاولت أم كلثوم تفكيك المقطع الأخير من الأغنية لحنيًا وإعادة بنائه مرة أخرى؛ فعند نهاية الأغنية وعند مقطع “يا قلبي آه الحب وراه أشجان وألم” سَبَحت أم كلثوم في تفاريد غنائية بعيدة عن اللحن الأصلي، وظلت قرابة النصف ساعة أي ما يزيد عن نصف التسجيل ترتجل في التركيبة اللحنية الأصلية؛ فتزور المقامات المجاورة للمقام الأصلي وتعود لتستقر على مقام آخر، لتعطي المقطع الأخير من الأغنية بُعدًا جديدًا، وتمنح المقطع هامشًا أكثر حزنًا من متن الشيخ زكريا أحمد، وإن كان هامش أم كلثوم لا يقل عادةً عن متون الملحنين.
ولم تنقطع منذ اليوم أخبار أم كلثوم في الصحافة الكويتية، والدعوات الدائمة إلى حضورها إلى الكويت أو حتى تكريمها؛ فمثلًا قدمت صحيفة “الوطن” الكويتية اقتراحًا في عدد 26 أغسطس 1966 تحت عنوان “تمثال لأم كلثوم” جاء فيه: “شرعت بلدية الكويت مشكورة باتخاذ ترتيباتها لإعادة تخطيط الساحة الرئيسية في العاصمة وحتى ساحة “الصفاة”، وبهذه المناسبة تتقدم “الوطن” باقتراح ترجو أن ينال حقه من الاهتمام، نحن نقترح أن يقام لأم كلثوم تمثال في إحدى ساحات الكويت الرئيسية”.
وقبل أن يلاقي ذلك الاقتراح ما هو متوقع من اعتراضات ساقت الصحيفة ما يبرر طلبها؛ فتقول: “لئن رد مكابر؛ ما دخلنا بأم كلثوم وأهل النيل أنفسهم لم يصل اهتمامهم بها إلى حد إقامة التماثيل؟ وما أجدرنا بتكريم أبناء بيئتنا المحلية، من الشعراء والفنانين إن كان التمثال من نصيب الفن لا محالة، وحول هذه النقطة نقول إن عبقرية أم كلثوم فريدة ولا تكرر، وهي فخر للكويتي كما هي فخر للمصري أو السوداني أو اللبناني، وشخصيتها الآسرة وفنها العظيم محط إعجاب الأوساط الفنية في عصرنا الحاضر، وصوتها النادر فذّ لا يدانيه صوت آخر في الدنيا، وهكذا نجد أن إقامة تمثال لأم كلثوم في الكويت لهو مشروع سياحي يغطي الكثير من نقصنا في ميدان السياحة”.
وبالطبع لا يمكن قراءة تلك الدعوة التي قدمتها الصحافة لإقامة تمثال لأم كلثوم في وسط العاصمة الكويتية، إلا في سياق التقارب الشديد بين القاهرة والكويت، وهو ما شكل تفردًا في العلاقات الخليجية-المصرية في مرحلة الستينيات؛ خصوصًا مع تفاقم أزمة اليمن، والصراع المصري -السعودي الذي بلغ حدًا خطيرًا، ولم يوقفه إلا نكسة 1967، واجتماع القمة الأول بعد الهزيمة في الخرطوم في أغسطس من نفس العام، حين حاول عبد الناصر ترميم علاقاته بالخليج العربي، والتصالح مع قادة الجزيرة من أجل خلق تكتل عربي واحد في وجه العدوان وآثاره الكارثية، وهو ما سيدفع أم كلثوم لتوسيع زياراتها للخليج، وتكرار زيارتها للكويت، وكذلك زيارة بلاد المغرب العربي التي كانت على خلاف مع الدولة الناصرية قبل الهزيمة، مثل المملكة المغربية والجمهورية التونسية.
الفن من أجل المجهود الحربي
وفي أعقاب نكسة 1967، وضمن إطار حملتها الشهيرة من أجل دعم المجهود الحربي، شاء القدر أن يكون أول مبلغ تتبرع به السيدة أم كلثوم لخزانة الدولة المصرية محول إليها من دولة الكويت؛ إذ تذكر الصحافة أنها قدمت يوم 20 من يونيو 1967 مبلغًا وقدره 20 ألف جنيه استرليني للدولة المصرية، محولة إليها من الكويت نظير إذاعة بعض أغانيها في الإذاعة الكويتية، ولم تنقطع بعد ذلك تحويلات وتبرعات الأمير دعيج سلمان الصباح للمشاركة في حملة أم كلثوم الكبرى من أجل تخطي الهزيمة والعدوان، ومع نشاط أم كلثوم الخارجي وغنائها في باريس نوفمبر/ تشرين الثاني 1967، ثم رحلتها التاريخية للمملكة المغربية في مارس/آذار 1968.
أراد “الكويت” أن يحفظ لنفسه موضعًا في مجهود السيدة الحربي؛ فتواصلت لولوة القطامي ووكليتها السيدة نوار ملا حسين مع أم كلثوم لعرض فكرة إقامة حفل يذهب ريعه للمجهود الحربي المصري، وبالفعل طارت لولوة ونوار ملا حسين للقاهرة، وقابلتا أم كلثوم في فيلتها في نهاية مارس 1968، للاتفاق ووضع الخطوط العريضة لبرنامج الزيارة، وفي حديثها الطويل مع جريدة “القبس الكويتية” تؤكد الرائدة لولوة القطامي تجاوب أم كلثوم مع الفكرة، ورفضها القاطع لكتابة عقد، تقول: “بعد أن قدمت لنا أم كلثوم الضيافة في منزلها واستعرضت مجموعة من الملابس التي ترتديها في الحفلات، سألتها إن كان يجب التوقيع على عقد كي تحيي الحفل في الكويت؛ فصرخت في وجهي وقالت: عيب يا ست لولوة، نحن والكويت أهل، ولا توجد بيننا عقود!”
كانت رحلة أم كلثوم للكويت في أبريل 1968 هي أولى رحلاتها الخارجية بصفتها الرسمية، وذلك بعدما منحتها الجمهورية العربية المتحدة جواز سفر دبلوماسيًا، حتى تستطيع القيام بدورها الذي كرست له حياتها في سنواتها الأخيرة، وهو ما فرض على الكويت ترتيب استقبال رسمي طبقًا لقواعد البروتوكول المتعارف عليها، وفي مساء ليلة 18 من أبريل 1968 وصلت طائرة مصرية تقل أم كلثوم ووفدًا إعلاميًا وتلفزيونيًا وصحفيًا ضخمًا من أجل تغطية الرحلة، وبعد مراسم الاستقبال في قاعة كبار الزوار، استقر المقام بالسيدة أم كلثوم في قصر “الفنطاس” المطل على ساحل الخليج، والذي كانت تملكه الشيخة منيرة هلال المطيري زوجها الأمير دعيج الصباح، وفي صباح اليوم التالي زارت أم كلثوم قصر”السيف” العامر، وقابلت أمير الكويت صباح السالم الصباح (1913-1977)، الذي أعرب عن مدى تقديره للسيدة ودورها القومي.
قابلت بعدها السيدة أم كلثوم رئيس الوزراء الشيخ جابر الأحمد الصباح (1926-2006) الذي دار بينه وبينها حديث اجتماعي حول الكويت وتطوره، وأبدت أم كلثوم إعجابها بالنهضة العمرانية، وطالبت الشيخ جابر الأحمد بتفعيل الاختلاط الجامعي؛ فمن غير المعقول أن تظل الكويت تفصل بين الجنسين في الجامعات رغم ما تشهده من نهضة عمرانية وفكرية وفنية، ووعدها الشيخ جابر بتفعيل ذلك وقتما تسمح الظروف الاجتماعية بذلك، وربما تمنحنا تلك المقابلة تؤكيدًا حقيقيًا على دعم أم كلثوم الدائم للنسوية الكويتية، ورغبتها في توصيل المطالب الحقوقية لـ”الجمعية الثقافية النسائية” لعتبات الدوائر الحكومية، وهو ما سيتكرر بعد ذلك في كل زيارة ولقاء بين أم كلثوم مع المسؤولين والأمراء في الخليج العربي،
بعد ذلك قابلت الشيخ جابر العلي السالم الصباح (1928-1994) وزير الإرشاد الكويتي، الذي ناقش مع أم كلثوم ولولوة القطامي الإجراءات التي تجري على الأرض من أجل الحفلة المنتظرة، واستعرض معها كافة التجهيزات التي تعمل الوزارة على توفيرها قبل يوم الحفل في 25 من أبريل 1968، وقد شكلت تلك المقابلات مادة غنية للصحافة الكويتية، التي خرجت عنوانيها الرسمية يوم 21 من أبريل 1968 تزف للكويت فرحتين؛ الأولى لقاء السيدة أم كلثوم بسمو أمير البلاد، والثانية فرحة العثور على بئر للمياه، أثبتت الدراسات أنه صالح للشرب والاستخدام البشري.
وعلى ذات المسرح الذي وقفت عليه أم كلثوم 1963 عادت لتقف مرة أخرى، كانت الكويت ليلة الخميس 25 من أبريل 1968 عروس الخليج ومنارته المضيئة، منذ صباح يوم الحفل والوفود الخليجية تصل تباعًا للكويت لحضور الحفل، ومشاركة أم كلثوم في مجهودها الوطني، كانت اللجنة المشرفة على الحفل قد حددت أسعار التذاكر من 5 إلى 20 دينارًا، وتركت بعض المقاعد الأمامية دون تحديد سعرها، حتى يمكن المزايدة على أسعار تذاكرها، مما أدى إلى رفع سعر بعضها إلى ألف دينار كاملة، وهو المبلغ ذاته الذي تبرع به أمير البلاد ورئيس وزرائه ووزير الإرشاد، وبعد أن قدم المذيع الكويتي أحمد المؤمن الحفل في الإذاعة الكويتية؛ فُتح الستار عن السيدة أم كلثوم التي حيت جمهورها الذي ملأ جوانب المسرح، وجلس في كافة أرجائه بعدما نفدت كل التذاكر المطروحة للبيع.
غنت أم كلثوم ليلتها وصلتين فقط؛ الأولى “فات الميعاد” لمرسي جميل عزيز وبليغ حمدي، والثانية هي “الأطلال” لإبراهيم ناجي ورياض السنباطي، وكعادة أم كلثوم لم تترك منفذًا للارتجال إلا وولجته؛ فقدمت قصيدتها الأثيرة في 76 دقيقة تقريبًا، وعند مقطع “أيها الساهر تغفو/ تذكر العهد وتصحو” وقفت أم كلثوم وقدمت تفريدًا طويلًا لم يسبق أن قدمت مثله في نسخ الأطلال المتوفرة والمسموعة، وقد بلغت الحفل والتبرعات للمجهود الحربي قرابة الخمس وعشرين ألف دينار؛ أي ما يوزاي 30 ألف جنيه استرليني آنذاك، خصص منها 13 ألفًا للمجهود الحربي، و12 ألفًا لأعمال المقاومة العربية.
وبعد ليلة الحفل بقيت أم كلثوم في الكويت قرابة الأسبوع، شهدت خلالها الاحتفالات الخاصة والعامة التي أقيمت ابتهاجًا بوجودها في الخليج، وضمن فصل “السفيرة في الكويت” في كتاب “أم كلثوم وسنوات المجهود الحربي” (تنمية، القاهرة 2022)، حاولت قدر الإمكان تسجيل يوميات أم كلثوم في الكويت ورصد تحركاتها العديدة داخل المجمتع المدني الكويتي، ومدى الحفاوة التي قابلتها في كل مكان، وتصريحاتها العديدة عن سعادتها الشخصية بصحوة المدنية الحديثة في ساحل اللؤلؤ.
وقبل مغادرة “السّت” للكويت في 2 مايو/آيار 1968 أجرت مقابلتين تلفزيونيتين؛ الأولى مع التلفزيون الكويتي كلفت بمحاورتها الفنانة والإعلامية ليلى عبد العزيز، والثانية مع الإعلامية المصرية ملك إسماعيل، كما شهدت سيدة الطرب قبل سفرها للقاهرة فنون الكويت؛ فأقامت الشيخة منيرة هلال المطيري حفلاً لوداعها، دعت فيه كل فنانات الكويت لعرض فنهنّ أمام سيدة الغناء العربي، وقد حفظ لنا القدر من تلك الليلة تسجيلاً صوتيًا قصيرًا تؤدي فيه أم كلثوم مع المطربة عائشة المرطة أغنية سامرية يقول مطلعها “مدري علامك يالغضي زعلان”، وقد نشر ذلك التسجيل مؤخرًا مركز “الشيخ جابر الأحمد الثقافي” كدليل وشاهد على رحلتين خالدتين في تاريخ المجتمع الكويتي والصحوة الفنية في الكويت.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.