مع حلول شهر رمضان، يزخر المشهد العام بمظاهر روحانية مميزة، تتجلى القيم الدينية وتقاليد الصيام في سلوكيات الأفراد، وتُضفي أجواء رمضان لمسة إيمانية على المجتمع ككل. وبينما ينغمس المسلمون في الطقوس الرمضانية، تُثار جدلية حول مفهوم الإفطار العلني في الأماكن العامة، تفرض بعض الدول العربية والإسلامية عقوبات قانونية صارمة على المخالفين، بينما يُطالب آخرون باحترام حرية الأفراد في هذا الشأن. تثير هذه العقوبات حفيظة المُنادين بمبادئ المساواة وحقوق الإنسان، ويعاني منها غير المسلمين في بعض الأحيان من تقييد حريتهم، ويجدون صعوبة في الالتزام بحظر الإفطار العلني.
ومع أن شهر رمضان في الخليج يشهد حضورًا كثيفًا من الوافدين، الذين هم من ديانات أخرى غير الإسلام، لا تختلف قوانين وعادات دول مجلس التعاون في موقفهم من الإفطار العلني عن غيرها من الدول العربية. ويتساءل الكاتب الكويتي عبدالعزيز القناعي في مقاله بين حرية الصائم وقمع غير الصائم؛ رمضان في بلادنا العربية، “هل من اللائق أن يتم منع إنسان من الطعام والشراب؟ ناهيك عن سجنه وتأديبه، لمجرد أن هناك من يصوم من المسلمين؛ فالأمر الصحيح، والتصرف الإسلامي الحضاري المتوقع أن يكون، هو في اعتبار الإنسان حرًا في الصيام من عدمه، حرًا في الأكل في شهر رمضان أو غيره، حرًا في أن يكون اختياره للصيام”.
1. تشريع فرنسي
1. تشريع فرنسي
على الرغم من وجود تشريعات قانونية واضحة في العديد من الدول العربية والإسلامية تجرم المجاهرة بالإفطار، يحتج البعض بأنه لا يوجد نص قرآني أو حديث شريف يُحدد عقوبة محددة للمُفطر.
في كتابه تاريخ الجبرتي، يُحاول المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (1753 – 1825)، تقصي أول فتوى في التاريخ الإسلامي تقول بمعاقبة المُفطر، وتبين أنّ أوّل من أصدرها الجنرال الفرنسي” مينو” الذي تسلم حكم مصر بعد الجنرال كليبر.
ويشير إلى أن مينو أراد التقرّب إلى المسلمين لتوطيد حكمه، ولم يكتفِ بإعلان إسلامه؛ فتزوّج من زبيدة وهي مُسلمة، كان والدها أحد أعيان الرشيد، ومرةً قام أحد الأقباط بشرب الخمر وتناول الطعام جهارًا في أسواق مصر بغرض استفزاز المسلمين الصائمين في شهر رمضان؛ فوقع نزاعٌ كبير بين المسلمين والأقباط؛ فقام الجنرال مينو إثر ذلك بسنّ قانون يُعاقب المجاهر بالإفطار.
يقول شادي (٣٠ عامًا) شاب لاديني، سوري الجنسية يعمل في دبي: "في الإمارات يوجد نسبة كبيرة من الأجانب، لذلك لا يوجد تضييق على أحد في رمضان، ولكن في الشركة التي أعمل بها يلتزم الجميع بالصيام والامتناع عن الطعام والشراب في أماكن العمل وغيرها".
وتلخص المحامية والخبيرة القانونية سمهر العبيدي، الوضع القانوني للإفطار العلني في الدول العربية والإسلامية قائلة لمواطن: “اعتبرت بعض الدول الإسلامية المجاهرة بالإفطار جريمة يعاقب عليها القانون، وتفاوتت العقوبات من دولة لأخرى؛ ففي مصر تعتبر المجاهرة بالإفطار من جرائم الجنح، وتصل عقوبتها بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أيام مع الغرامة”.
وأضافت: “وفي المغرب يعاقب المشرع بعقوبة الحبس من شهر إلى 6 أشهر، وأما المشرع الجزائري فلم يجرم عقوبة المجاهرة بالإفطار كما هو الحال في تونس؛ حيث اكتفت السلطات بإحالة المفطرين بتهمة الإخلال بالآداب العامة، كما منعت ليبيا ولبنان تجريم المفطر تناغمًا مع الحريات واحترامًا لحقوق الإنسان”.
أما في العراق؛ “يُحال المفطر أمام المحاكم العامة وفق أحكام المادة 240 من قانون العقوبات بتهمة مخالفة التعليمات التي تصدر من الحكومة، والتي تمنع المجاهرة في الإفطار مراعاةً للصائمين”.
وعن طريقة تعامل القوانين مع المجاهرة بالإفطار في دول الخليج العربي، تشرح الخبيرة القانونية: “في السعودية ترك المشرع تحديدها للقاضي، وأصبحت تتجه الى عدم تجريمها بعد أن كانت العقوبة سابقًا مقيدة للحرية (السجن)؛ فضلًا عن عقوبة تبعية بالنسبة للمقيمين تتمثل بالإبعاد من البلاد، وفي كل من قطر وسلطنة عُمان، والبحرين فقد حدد القانون عقوبة الحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لكل من يجهر في الإفطار”.
وفي قصة صحفية بعنوان بين الحياة في الظل والمتاجرة بالتعايش السلمي.. أوضاع المسيحيين في الخليج، نشرتها مواطن؛ يحكي باسم حنا، اسم مستعار لمسيحي يقيم في السعودية منذ 15 عامًَا “خلال شهر رمضان، من المعروف أنني لا أصوم، وربما يفطر المسيحيون بنهار رمضان في عدد كبير من الدول العربية، لكن الأمر مرفوض مجتمعيًا في السعودية، وربما يعرضك للإيذاء أو التنمر”.
"أتجنب قضاء رمضان في الكويت"
تقول لمواطن، سارة (٣٣ عامًا)، وهي مهندسة لبنانية مسيحية تتنقّل بين الكويت ولبنان: “من المعروف أنّ قوانين الكويت لا تسمح بشرب الماء أو تناول الطعام قبل موعد الفطور، ولم نواجه أي مشكلة بسبب حرصنا على الالتزام بقوانين البلد”.
وتستطرد: “في إحدى المرات كادت أن تواجه مشكلة مع والداها في إحدى أيام الصيف الحارّة، كان والدي يشرب الماء خلسةً داخل سيارته، حتى فاجأه الشرطيّ على حين غرة، ما كان من والدي غير رمي زجاجة الماء في السيارة خوفًا من الشرطيّ، وأذكر أنني جلستُ في السيارة وتبللت ثيابي بالماء، وكان هذا الموقف الوحيد الذي حصل معنا، وعمومًا معظم الأجانب هنا في الكويت مرتاحون ماديًا ونفسيًا في بيئات عملهم، وباتوا يعرفون قوانين البلاد ويلتزمون بها؛ سواء أعجبتهم أم لا”.
بينما تقول آيلا (٢٩ عامًا) وهي طبيبة سورية مسيحية درست في الكويت: “منذ أيام المدرسة، كنا نتعرض للتنمر من قبل الطلاب الكويتيين وآخرين أردنيين وفلسطينيين، عندما يحين موعد استراحة الطعام في شهر رمضان، ويقولون ‘مو عيب عليكم تاكلو ونحنا صايمين؟‘، لذا كنا نجمع أنفسنا وقت استراحة الطعام في مكانٍ معزول، ننهي طعامنا ثم نعود للانخراط وكأنّ شيئًا لم يكن”.
وتتابع: “أحاول قدر الإمكان عدم قضاء شهر رمضان في الكويت وقضائه عند أقربائي في سوريا ولبنان، لأنّ جميع محال الطعام والمقاهي تُغلق أبوابها، وأشعر أنّ الحياة قد توقفت إذ لا يتبقّى سوى سويعات بعد الإفطار يمكننا خلالها ممارسة حياة طبيعية”.
يحكي باسم حنا، مسيحي يقيم في السعودية منذ 15 عامًَا "خلال شهر رمضان، من المعروف أنني لا أصوم، وربما يفطر المسيحيون بنهار رمضان في عدد كبير من الدول العربية، لكن الأمر مرفوض مجتمعيًا في السعودية، وربما يعرضك للإيذاء أو التنمر".
وعليه، يأتي القانون الكويتي رقم 44 لعام 1968 واضحًا في عقوبة الإفطار العلني خلال شهر رمضان؛ حيث يُغرم بما لا يتجاوز مئة دينار كويتي، ويُعاقب بالحبس لمدة أقل من شهر؛ سواء من جاهر بالإفطار في مكان عام أو من ساعد أو حرّض على تلك المجاهرة، مع إغلاق المحل العام المُستخدم لذلك الغرض لمدة لا تتجاوز الشهرين.
يشير الكاتب فادي أبو ديب، إلى ميل الجماعات إلى التمسك بأعرافها ومقدساتها بشكل يزداد تشددًا مع ازدياد حدة الأزمات الثقافية. ويوضح لمواطن، أن المجتمعات العربية والإسلامية، تُواجه تناقضًا بين التمسك بالهوية التقليدية، والانفتاح على العولمة التقنية والمالية والاستهلاكية، كما حذر من مستقبل قريب يميز بين الناس لأسباب اقتصادية وثقافية، مما قد يُؤدي إلى مزيد من التشدد في الهوية والإقصاء؛ إذ يعتقد أن الحالة العامة من رفض الإفطار العلني نوع من رفض الآخر وقبول اختلافه.
في الإمارات، تعطيل النص لصالح الحريات؟
يقول شادي (٣٠ عامًا) شابٌ لادينيّ، سوريّ الجنسية يعمل في دبيّ، لمواطن: “في الإمارات يوجد نسبة كبيرة من الأجانب، لذلك لا يوجد تضييق على أحد في رمضان، ولكن في الشركة التي أعمل بها يلتزم الجميع بالصيام والامتناع عن الطعام والشراب في أماكن العمل وغيرها، لذلك كنتُ ألتزم بالجو الرمضاني حفاظًا على جو الألفة في العمل، ومن ثمّ أحببتُ الأجواء والخيم الرمضانية هنا في دبي، وأصبحتُ أصوم رغم عدم قناعتي بمفهوم الصيام”.
وأضاف: “أغلب المطاعم تفتح أبوابها بعد الفطور، وحتى ساعات متأخرة من الليل، أحيانًا حتى الساعة الثالثة صباحًا، وكل مطعم لديه جدول مواعيد محدد؛ ففي رمضان لا ترى الكثير من الناس في المقاهي والمطاعم وبعضها يكون شبه فارغ، ليس بسبب المنع وإنما قلة الطلب”.
هذا وعاقب الفصل 313 من قانون العقوبات في الإمارات العربية المتحدة المجاهر بالإفطار (طعامًا أو شرابًا) بالحبس مدة لا تزيد عن شهر، أو بغرامة لا تتجاوز الألفي درهم. وحول الأريحية التي يشعر بها غير المسلمين خلال رمضان في عدة مناطق في الإمارات العربية المتحدة، قالت الخبيرة القانونية سمر العبيدي: “النص موجود بحسب قراءتي لكنّ العديد من الدول عطلت النصوص حفاظًا على الحريات العامة؛ خصوصًا في ظل وجود أعداد كبيرة من الأجانب المقيمين في الإمارات”.
الوصم والعرف الاجتماعي، أكثر تأثيرًا من القوانين أحيانًا
“كنتُ أعلم بعقوبة المُفطر في الأماكن العامة خلال شهر رمضان، ولكنني لم أستطع احتمال آلام الدورة الشهرية؛ فتناولتُ فطيرة صغيرة من حقيبتي، قبل تناول الدواء المسكن، ثمّ أتبعتها برشفة ماء، خفتُ كثيرًا قبل إقدامي على هذا الفعل”، حسبما قالت، آلاء (٣٥ عامًا) موظفة تعمل في سلطنة عُمان، تعرف نفسها على أنها مُسلمة، لكنها غير مقتنعة بالصيام.
وتتابع: “وعندما أيقنتُ أنّ العقوبة لن تكون بمثابة التشنجات المؤلمة، تشجعتُ على الإفطار في مكان العمل، وقد كان معي في الغرفة نفسها زميلٌ وزميلة، واستأذنتهما على عجلٍ وألمحتُ لموضوع الدورة، الغريب أنّ زميلي الشابّ عذرني، بينما لم تعذرني زميلتي الأنثى ‘عيب عليش، إحنا صايمين'”.
وتنص المادة الرقم 312/10 من القانون العماني على عقوبة السجن التكديري أو الغرامة من ريال إلى خمسة ريالات أو بإحداهما، بحق كل من نقض الصيام علنًا في شهر رمضان من المسلمين بدون عذر شرعي، ورغم استثناء المادة القانونية أصحاب “العذر الشرعي”، غير أنّ آلاء لم تسلم من المضايقات والوصم الاجتماعي.
يتساءل الكاتب الكويتي عبدالعزيز القناعي "هل من اللائق أن يتم منع إنسان من الطعام والشراب؟ ناهيك عن سجنه وتأديبه، لمجرد أن هناك من يصوم؟".
لا يتلاشى القمع أو الضغط أو المنع في الفراغ؛ إنما يذهب لمسالك تفريغية بأشكال متعددة قد تقود إلى تقبل الأمر الواقع، وربما تقود المجتمع إلى رد فعل قوي وعنيف، قد يفوق فعل القمع الأساسي أحيانًا؛ فلا شيء يمر هكذا دون أن يؤثر على المدى القصير والطويل.
عادةً ما يحاول غير المسلمين أو غير المؤمنين الانسجام مع الأجواء الرمضانية من باب احترام الآخر وتقوية الأواصر الاجتماعية بين الناس، لكن في بعض الحالات تذهب القضية في اتجاه الإجبار على الاحترام، وتتحول إلى نهج عام لفرض قيود غير منطقية على المُختلف وعدم تقبل الآخر، وقد تتضخم تلك الأعراف المجتمعية -ولو أخذت شكل تعليقات ساخرة بين الأصدقاء وزملاء العمل-، لتطغى على القانون والدين مجتمعَين، بدلالة عدم وجود نص ديني صريح يُعاقب -بوضوح- المجاهرين بالإفطار في مقابل سخط مجتمعي كبير ومطالبة بعقوبة كبيرة بحق المخالفين.
فهل يصبح الآخر والمختلف معرّض للإلغاء وخسارة الحقوق والحريات على يد قوى اجتماعية سلمية، بسبب توحش العرف المجتمعي، الذي يحدد بدقة متى وأين يمكن ممارسة الفعل الذي يبقى الإنسان على قيد الحياة؟
مع حلول شهر رمضان، يزخر المشهد العام بمظاهر روحانية مميزة، تتجلى القيم الدينية وتقاليد الصيام في سلوكيات الأفراد، وتُضفي أجواء رمضان لمسة إيمانية على المجتمع ككل. وبينما ينغمس المسلمون في الطقوس الرمضانية، تُثار جدلية حول مفهوم الإفطار العلني في الأماكن العامة، تفرض بعض الدول العربية والإسلامية عقوبات قانونية صارمة على المخالفين، بينما يُطالب آخرون باحترام حرية الأفراد في هذا الشأن. تثير هذه العقوبات حفيظة المُنادين بمبادئ المساواة وحقوق الإنسان، ويعاني منها غير المسلمين في بعض الأحيان من تقييد حريتهم، ويجدون صعوبة في الالتزام بحظر الإفطار العلني.
ومع أن شهر رمضان في الخليج يشهد حضورًا كثيفًا من الوافدين، الذين هم من ديانات أخرى غير الإسلام، لا تختلف قوانين وعادات دول مجلس التعاون في موقفهم من الإفطار العلني عن غيرها من الدول العربية. ويتساءل الكاتب الكويتي عبدالعزيز القناعي في مقاله بين حرية الصائم وقمع غير الصائم؛ رمضان في بلادنا العربية، “هل من اللائق أن يتم منع إنسان من الطعام والشراب؟ ناهيك عن سجنه وتأديبه، لمجرد أن هناك من يصوم من المسلمين؛ فالأمر الصحيح، والتصرف الإسلامي الحضاري المتوقع أن يكون، هو في اعتبار الإنسان حرًا في الصيام من عدمه، حرًا في الأكل في شهر رمضان أو غيره، حرًا في أن يكون اختياره للصيام”.
1. تشريع فرنسي
1. تشريع فرنسي
على الرغم من وجود تشريعات قانونية واضحة في العديد من الدول العربية والإسلامية تجرم المجاهرة بالإفطار، يحتج البعض بأنه لا يوجد نص قرآني أو حديث شريف يُحدد عقوبة محددة للمُفطر.
في كتابه تاريخ الجبرتي، يُحاول المؤرخ المصري عبد الرحمن الجبرتي (1753 – 1825)، تقصي أول فتوى في التاريخ الإسلامي تقول بمعاقبة المُفطر، وتبين أنّ أوّل من أصدرها الجنرال الفرنسي” مينو” الذي تسلم حكم مصر بعد الجنرال كليبر.
ويشير إلى أن مينو أراد التقرّب إلى المسلمين لتوطيد حكمه، ولم يكتفِ بإعلان إسلامه؛ فتزوّج من زبيدة وهي مُسلمة، كان والدها أحد أعيان الرشيد، ومرةً قام أحد الأقباط بشرب الخمر وتناول الطعام جهارًا في أسواق مصر بغرض استفزاز المسلمين الصائمين في شهر رمضان؛ فوقع نزاعٌ كبير بين المسلمين والأقباط؛ فقام الجنرال مينو إثر ذلك بسنّ قانون يُعاقب المجاهر بالإفطار.
يقول شادي (٣٠ عامًا) شاب لاديني، سوري الجنسية يعمل في دبي: "في الإمارات يوجد نسبة كبيرة من الأجانب، لذلك لا يوجد تضييق على أحد في رمضان، ولكن في الشركة التي أعمل بها يلتزم الجميع بالصيام والامتناع عن الطعام والشراب في أماكن العمل وغيرها".
وتلخص المحامية والخبيرة القانونية سمهر العبيدي، الوضع القانوني للإفطار العلني في الدول العربية والإسلامية قائلة لمواطن: “اعتبرت بعض الدول الإسلامية المجاهرة بالإفطار جريمة يعاقب عليها القانون، وتفاوتت العقوبات من دولة لأخرى؛ ففي مصر تعتبر المجاهرة بالإفطار من جرائم الجنح، وتصل عقوبتها بالحبس مدة لا تقل عن ثلاثة أيام مع الغرامة”.
وأضافت: “وفي المغرب يعاقب المشرع بعقوبة الحبس من شهر إلى 6 أشهر، وأما المشرع الجزائري فلم يجرم عقوبة المجاهرة بالإفطار كما هو الحال في تونس؛ حيث اكتفت السلطات بإحالة المفطرين بتهمة الإخلال بالآداب العامة، كما منعت ليبيا ولبنان تجريم المفطر تناغمًا مع الحريات واحترامًا لحقوق الإنسان”.
أما في العراق؛ “يُحال المفطر أمام المحاكم العامة وفق أحكام المادة 240 من قانون العقوبات بتهمة مخالفة التعليمات التي تصدر من الحكومة، والتي تمنع المجاهرة في الإفطار مراعاةً للصائمين”.
وعن طريقة تعامل القوانين مع المجاهرة بالإفطار في دول الخليج العربي، تشرح الخبيرة القانونية: “في السعودية ترك المشرع تحديدها للقاضي، وأصبحت تتجه الى عدم تجريمها بعد أن كانت العقوبة سابقًا مقيدة للحرية (السجن)؛ فضلًا عن عقوبة تبعية بالنسبة للمقيمين تتمثل بالإبعاد من البلاد، وفي كل من قطر وسلطنة عُمان، والبحرين فقد حدد القانون عقوبة الحبس مدة لا تزيد عن ثلاثة أشهر، وبغرامة لكل من يجهر في الإفطار”.
وفي قصة صحفية بعنوان بين الحياة في الظل والمتاجرة بالتعايش السلمي.. أوضاع المسيحيين في الخليج، نشرتها مواطن؛ يحكي باسم حنا، اسم مستعار لمسيحي يقيم في السعودية منذ 15 عامًَا “خلال شهر رمضان، من المعروف أنني لا أصوم، وربما يفطر المسيحيون بنهار رمضان في عدد كبير من الدول العربية، لكن الأمر مرفوض مجتمعيًا في السعودية، وربما يعرضك للإيذاء أو التنمر”.
"أتجنب قضاء رمضان في الكويت"
تقول لمواطن، سارة (٣٣ عامًا)، وهي مهندسة لبنانية مسيحية تتنقّل بين الكويت ولبنان: “من المعروف أنّ قوانين الكويت لا تسمح بشرب الماء أو تناول الطعام قبل موعد الفطور، ولم نواجه أي مشكلة بسبب حرصنا على الالتزام بقوانين البلد”.
وتستطرد: “في إحدى المرات كادت أن تواجه مشكلة مع والداها في إحدى أيام الصيف الحارّة، كان والدي يشرب الماء خلسةً داخل سيارته، حتى فاجأه الشرطيّ على حين غرة، ما كان من والدي غير رمي زجاجة الماء في السيارة خوفًا من الشرطيّ، وأذكر أنني جلستُ في السيارة وتبللت ثيابي بالماء، وكان هذا الموقف الوحيد الذي حصل معنا، وعمومًا معظم الأجانب هنا في الكويت مرتاحون ماديًا ونفسيًا في بيئات عملهم، وباتوا يعرفون قوانين البلاد ويلتزمون بها؛ سواء أعجبتهم أم لا”.
بينما تقول آيلا (٢٩ عامًا) وهي طبيبة سورية مسيحية درست في الكويت: “منذ أيام المدرسة، كنا نتعرض للتنمر من قبل الطلاب الكويتيين وآخرين أردنيين وفلسطينيين، عندما يحين موعد استراحة الطعام في شهر رمضان، ويقولون ‘مو عيب عليكم تاكلو ونحنا صايمين؟‘، لذا كنا نجمع أنفسنا وقت استراحة الطعام في مكانٍ معزول، ننهي طعامنا ثم نعود للانخراط وكأنّ شيئًا لم يكن”.
وتتابع: “أحاول قدر الإمكان عدم قضاء شهر رمضان في الكويت وقضائه عند أقربائي في سوريا ولبنان، لأنّ جميع محال الطعام والمقاهي تُغلق أبوابها، وأشعر أنّ الحياة قد توقفت إذ لا يتبقّى سوى سويعات بعد الإفطار يمكننا خلالها ممارسة حياة طبيعية”.
يحكي باسم حنا، مسيحي يقيم في السعودية منذ 15 عامًَا "خلال شهر رمضان، من المعروف أنني لا أصوم، وربما يفطر المسيحيون بنهار رمضان في عدد كبير من الدول العربية، لكن الأمر مرفوض مجتمعيًا في السعودية، وربما يعرضك للإيذاء أو التنمر".
وعليه، يأتي القانون الكويتي رقم 44 لعام 1968 واضحًا في عقوبة الإفطار العلني خلال شهر رمضان؛ حيث يُغرم بما لا يتجاوز مئة دينار كويتي، ويُعاقب بالحبس لمدة أقل من شهر؛ سواء من جاهر بالإفطار في مكان عام أو من ساعد أو حرّض على تلك المجاهرة، مع إغلاق المحل العام المُستخدم لذلك الغرض لمدة لا تتجاوز الشهرين.
يشير الكاتب فادي أبو ديب، إلى ميل الجماعات إلى التمسك بأعرافها ومقدساتها بشكل يزداد تشددًا مع ازدياد حدة الأزمات الثقافية. ويوضح لمواطن، أن المجتمعات العربية والإسلامية، تُواجه تناقضًا بين التمسك بالهوية التقليدية، والانفتاح على العولمة التقنية والمالية والاستهلاكية، كما حذر من مستقبل قريب يميز بين الناس لأسباب اقتصادية وثقافية، مما قد يُؤدي إلى مزيد من التشدد في الهوية والإقصاء؛ إذ يعتقد أن الحالة العامة من رفض الإفطار العلني نوع من رفض الآخر وقبول اختلافه.
في الإمارات، تعطيل النص لصالح الحريات؟
يقول شادي (٣٠ عامًا) شابٌ لادينيّ، سوريّ الجنسية يعمل في دبيّ، لمواطن: “في الإمارات يوجد نسبة كبيرة من الأجانب، لذلك لا يوجد تضييق على أحد في رمضان، ولكن في الشركة التي أعمل بها يلتزم الجميع بالصيام والامتناع عن الطعام والشراب في أماكن العمل وغيرها، لذلك كنتُ ألتزم بالجو الرمضاني حفاظًا على جو الألفة في العمل، ومن ثمّ أحببتُ الأجواء والخيم الرمضانية هنا في دبي، وأصبحتُ أصوم رغم عدم قناعتي بمفهوم الصيام”.
وأضاف: “أغلب المطاعم تفتح أبوابها بعد الفطور، وحتى ساعات متأخرة من الليل، أحيانًا حتى الساعة الثالثة صباحًا، وكل مطعم لديه جدول مواعيد محدد؛ ففي رمضان لا ترى الكثير من الناس في المقاهي والمطاعم وبعضها يكون شبه فارغ، ليس بسبب المنع وإنما قلة الطلب”.
هذا وعاقب الفصل 313 من قانون العقوبات في الإمارات العربية المتحدة المجاهر بالإفطار (طعامًا أو شرابًا) بالحبس مدة لا تزيد عن شهر، أو بغرامة لا تتجاوز الألفي درهم. وحول الأريحية التي يشعر بها غير المسلمين خلال رمضان في عدة مناطق في الإمارات العربية المتحدة، قالت الخبيرة القانونية سمر العبيدي: “النص موجود بحسب قراءتي لكنّ العديد من الدول عطلت النصوص حفاظًا على الحريات العامة؛ خصوصًا في ظل وجود أعداد كبيرة من الأجانب المقيمين في الإمارات”.
الوصم والعرف الاجتماعي، أكثر تأثيرًا من القوانين أحيانًا
“كنتُ أعلم بعقوبة المُفطر في الأماكن العامة خلال شهر رمضان، ولكنني لم أستطع احتمال آلام الدورة الشهرية؛ فتناولتُ فطيرة صغيرة من حقيبتي، قبل تناول الدواء المسكن، ثمّ أتبعتها برشفة ماء، خفتُ كثيرًا قبل إقدامي على هذا الفعل”، حسبما قالت، آلاء (٣٥ عامًا) موظفة تعمل في سلطنة عُمان، تعرف نفسها على أنها مُسلمة، لكنها غير مقتنعة بالصيام.
وتتابع: “وعندما أيقنتُ أنّ العقوبة لن تكون بمثابة التشنجات المؤلمة، تشجعتُ على الإفطار في مكان العمل، وقد كان معي في الغرفة نفسها زميلٌ وزميلة، واستأذنتهما على عجلٍ وألمحتُ لموضوع الدورة، الغريب أنّ زميلي الشابّ عذرني، بينما لم تعذرني زميلتي الأنثى ‘عيب عليش، إحنا صايمين'”.
وتنص المادة الرقم 312/10 من القانون العماني على عقوبة السجن التكديري أو الغرامة من ريال إلى خمسة ريالات أو بإحداهما، بحق كل من نقض الصيام علنًا في شهر رمضان من المسلمين بدون عذر شرعي، ورغم استثناء المادة القانونية أصحاب “العذر الشرعي”، غير أنّ آلاء لم تسلم من المضايقات والوصم الاجتماعي.
يتساءل الكاتب الكويتي عبدالعزيز القناعي "هل من اللائق أن يتم منع إنسان من الطعام والشراب؟ ناهيك عن سجنه وتأديبه، لمجرد أن هناك من يصوم؟".
لا يتلاشى القمع أو الضغط أو المنع في الفراغ؛ إنما يذهب لمسالك تفريغية بأشكال متعددة قد تقود إلى تقبل الأمر الواقع، وربما تقود المجتمع إلى رد فعل قوي وعنيف، قد يفوق فعل القمع الأساسي أحيانًا؛ فلا شيء يمر هكذا دون أن يؤثر على المدى القصير والطويل.
عادةً ما يحاول غير المسلمين أو غير المؤمنين الانسجام مع الأجواء الرمضانية من باب احترام الآخر وتقوية الأواصر الاجتماعية بين الناس، لكن في بعض الحالات تذهب القضية في اتجاه الإجبار على الاحترام، وتتحول إلى نهج عام لفرض قيود غير منطقية على المُختلف وعدم تقبل الآخر، وقد تتضخم تلك الأعراف المجتمعية -ولو أخذت شكل تعليقات ساخرة بين الأصدقاء وزملاء العمل-، لتطغى على القانون والدين مجتمعَين، بدلالة عدم وجود نص ديني صريح يُعاقب -بوضوح- المجاهرين بالإفطار في مقابل سخط مجتمعي كبير ومطالبة بعقوبة كبيرة بحق المخالفين.
فهل يصبح الآخر والمختلف معرّض للإلغاء وخسارة الحقوق والحريات على يد قوى اجتماعية سلمية، بسبب توحش العرف المجتمعي، الذي يحدد بدقة متى وأين يمكن ممارسة الفعل الذي يبقى الإنسان على قيد الحياة؟