على الرغمِ من التكتم المُخيّم على أوضاعِ الشيعةِ في الخليجِ، إلا أنّ هناك وقائع تكشف درجات مختلفة من الانتهاكات الحقوقية الواقعة عليهم من قبل الأنظمة الحاكمة في دول الخليج، كسحبِ الجنسيةِ والتجريد من الحقوق المدنية، بالإضافة إلى رصد محاكمات وصفت من قبل مؤسسات حقوقية دولية، بغير العدالة، بالإضافة إلى أشكال أخرى من التمييزِ والاضطهادِ تقع على أبناء هذه الطائفة الدينية، حتى وإن كانوا يمثلون أغلبية السكان في بلد مثل البحرين.
حول أوضاع الشيعة في الخليج
تتراوح التقديرات حول عدد الشيعة ما بين 150 و200 مليون نسمة، بنسبة 10-13% فقط من إجمالي عدد المسلمين في العالم، يعيش نحو ثلاثة أرباع هذ العدد العدد في إيران والعراق ولبنان وسوريا واليمن وبلدان الخليج العربي، ويمثل الشيعة ما بين 65 إلى 70% من سكان البحرين، وما بين 15 إلى 25% في السعودية، أما الكويت فتتراوح بين 10 و15%، ثم الإمارات العربية المتحدة ما بين 5 و10%، ويأتي أقل الشيعة عددًا وأكثرهم غنى في عمان ما بين 3 و7%، في الوقت الذي لا توجد أرقام محددة لهم في دولة قطر، إلا هناك تقديرات تحصيهم بـ 10% من السكان.
وبينت تقارير تعرض الشيعة الاضطهاد والإقصاء في المملكة العربية السعودية، وذكرت هيومان رايتس عن تجاوزات وممارسات قمعية في المملكة، وأشار تقرير الإحاطة بشأن الحرية الدينية وحقوق الإنسان، إلى التمييز السلبي في الحقوق والحرمان من المناصب والتضييق في ممارسة الشعائر، إضافة إلى تقييد الحريات السياسية والإنسانية- والزج بأعداد كبيرة في السجون. وندد تقرير آخر لـ هيومن رايتس وتش بالممارسات التعسفية وخطاب الكراهية الذي يتعرض له الشيعة في السعودية، ووصف الإصلاحات السعودية بأنها لا تتضمن التسامح مع الشيعة. وتتواجد الأغلبية الشيعة في المنطقة الشرقية من المملكة، الغنية بالنفط؛ خاصة في القطيف والأحساء.
وكشف تقرير الإحاطة بشأن الحرية الدينية عن استهداف الأغلبية الشيعية في البحرين، واضطهادها عبر مضايقة رجال الدين، وسجن المعارضين للحكومة، وأوضح أن هناك تمييزًا على مستوى التوظيف والتعيين في قوات الأمن، بالإضافة إلى مواجهة عدد من العوائق على مستوى المساواة في المشاركة في المجتمع والحكومة.
ويؤكد لمواطن الحقوقي البحريني سيد يوسف المحافظة: “الشيعة ممنوعون من العمل في بعض الجهات الحكومية، كما أن المناصب العامة تستند إلى معيار الولاء والطائفة، وهذا يكشف عن غياب الثقة بين المواطنين الشيعة وبين الحكم”.
ويعدد في بلاده أمثلة التضييق الديني المتمثل في إسقاط الجنسيات والترحيل قسرًا لشخصيات علمائية شيعية في البحرين، وقوائم المنع من السفر أو دخول البلاد لبعض الشخصيات، بالإضافة إلى اعتقال عشرات من رجال الدين الشيعة، وإجراءات أخرى تصل لمنع الصلاة، وحملات اعتقال في مواسم عاشوراء.
وفي الكويت تتمكن الأقلية الشيعية من ممارسة عبادتها دون تدخل الحكومة، بشرط ألا تزعج جيرانها أو تنتهك القوانين المتعلقة بالتجمع والقيود المفروضة على التبشير، كما تُفرض قيود على إصلاح المساجد القائمة الخاصة بهم، أو بناء أخرى جديدة. ونادرًا ما يصل الشيعة إلى مناصب قيادية، أما في عمان فيبدو وضع الشيعة أفضل؛ حيث يتمتعون بنفوذ سياسي واقتصادي، وربما يكون هذا بحكم العلاقة الأفضل التي تجمع السلطنة بإيران، مقارنة بسائر دول الخليج.
يقول الحقوقي البحريني، سيد يوسف المحافظة: "تتباهى البحرين بأنها دولة تتسامح مع الأقليات، وهو أمر نشيد به وندعمه كحقوقيين، ولكن السؤال ماذا عن الغالبية؟ لماذا لا يتسامح الملك مع الأغلبية الشيعية ويحمي حقوقهم وحريتهم الدينية؟".
وعلى الرغم من ضبابية أوضاع الشيعة في قطر، إلا أن هناك انتهاكات دينية تتعرض لها الطائفة، حسب مصادر شيعية فيما يتعلق بحريات ممارسة الشعائر، كما لا يُمكّن أبناء الشيعة في قطر من المناصب العليا في البلاد، ومع أن الإمارات أكثر بلدان الخليج إقرارًا بالحرية الدينية، إلا أنها لم تنج من تهم التمييز ضد الشيعة، واتهمتها منظمة هيومن رايتس ووتش، بالإخفاء القسري لأربعة باكستانيين على الأقل، وترحيل ستة آخرين على الأقل لأنهم من الشيعة.
عن واقع المواطنة في الخليج
من واقع أوضاع الشيعة التي رصدتها جهات حقوقية ودراسات بحثية، يتبين أن هناك نظرة ريبة وشك لكثير من المواطنين الشيعة داخل بلادهم؛ إذ تشكك السلطات في ولائهم للوطن؛ ما يجعلهم مواطنين من الدرجة الثانية، ومحرومين من الحقوق الأساسية ومستبعدين من المناصب الرفيعة.
حول ذلك يؤكد د. عبد الله العودة لمواطن: “إن الشيعة في الخليج والسعودية بالتحديد يعانون بشكل كبير، وعمومًا الجميع يعاني، ولكن الشيعة بحكم أنهم أقلية دينية يعانون بشكل أكبر”. ويعزو السبب إلى فقدان معايير المواطنة بسبب التعامل مع المواطنين في السابق وفق صفقة سياسية، تعتمد على مضاعفة الامتيازات والاستمتاع ببعض المميزات مقابل الولاء المطلق”.
ويُشير العودة إلى أنّ الدولة الحالية في السعودية هي دولة جمعت أسوأ الكوارث؛ حيث تسلب الامتيازات العادية، وبالمقابل تطلب الولاء المطلق من الشعب والمواطنين، ويعتقد أنّ هذه المعادلة قضت على كلّ إمكانية لإصلاح العقد الاجتماعي، وأنّ الشيعة يعانون بشكل مضاعف ضمن هذه المعادلة، لأنّه كان يتم التعامل معهم على أنّهم لا يحملون الولاء، وتتم مطالبتهم بمضاعفة البراهين والإثباتات المقدمة والدالة على الولاء؛ ليس للدولة ولكن للحاكم، ويؤكد على أن الحل يكمن في دولة المواطنة.
ويرى أيضًا الكاتب السعودي، محمد المحفوظ، أن إصلاح العلاقة المذهبية في الخليج، “مرهون إلى حد بعيد بالإصلاح السياسي وبناء دولة محكومة بقانون ودستور، ويكون ( النظام السياسي ) معبرًا حقيقيًا عن كل الأطراف والشرائح الاجتماعية؛ حيث تكون الدولة، دولة للجميع دون انغلاق أو نبذ لبعض المكونات والتعبيرات”.
وهو ما يستلزم إصلاحًا سياسيًا وثقافيًا واجتماعيًا، حيث لاتتحول التباينات المذهبية التاريخية أو الحديثة إلى حاجز يحول دون تشكيل كتلة تاريخية خليجية تعمل من أجل الإصلاح. وفقًا للمحفوظ؛ الذي عاد وأكد على ضرورة إبراز الـقـيـم الـي تمنع الـتعدي على الحقـوق، وأن الاختلاف المذهبي لا يشرع لأي طرف التعدي على حقوق الطرف الآخر .
ولا تختلف رؤى الحقوقي البحريني، سيد يوسف المحافظة، عن الأصوات الأخرى، وأن هناك غيابًا تامًا لمفهوم المواطنة في البحرين، ويقر بأن هناك حاجة ماسة لعقد اجتماعي جديد بين بيت الحكم وبين الغالبية من المواطنين، والتي يصف العلاقة بينهما الآن بالمتشنجة، ويشدد على أن هناك تغييبًا متعمدًا لمشاركة المواطنين في صناعة القرار وصناعة السياسات العامة.
ويضيف: “علاقة الحكم في البحرين مع المواطنين، علاقة قبيلة مع حلفاء وداعمين، يفضل فيها قبائل معينة ويهمش قبائل أخرى، يفضل طبقات اجتماعية، ويهمش طبقات أخرى، ويمارس التمييز الطائفي ضد الشيعة كمواطنين درجة سابعة”. ولا ينفي المحافظة، وجود معارضة من السنة يتعرضون لاضطهاد، إلا أنه يرى أن نصيب الشيعة في البلاد من القمع أكبر، ويعزو القمع عامة للمواطنين في البحرين إلى غياب مفاهيم المواطنة والمواطن.
ويوضح أن بعض القوى الغربية، التي تتحالف مع البحرين في ملفات سياسية واقتصادية وعسكرية، تغض الطرف عن الانتهاكات الحقوقية في البلاد، وتضمن عدم المساءلة الدولية لها. ويختم: “تتباهى البحرين بأنها دولة تتسامح مع الأقليات، وهو أمر نشيد به وندعمه كحقوقيين، ولكن السؤال ماذا عن الغالبية؟ لماذا لا يتسامح الملك مع الأغلبية الشيعية ويحمي حقوقهم وحريتهم الدينية؟”.
تسييس المذهبية
على الرغم من رسوخ الجذور الشيعية في المنطقة وتاريخها الطويل من التعايش السلمي داخل مجتمعاتها، إلا أن الثورة الإيرانية عام 1979 في إيران، أدت إلى تحولات ساهمت في تأجيج الصراعات الطائفية في المنطقة؛ ما أدى إلى تغيير طبيعة العلاقة بين إيران وجيرانها من خلاف أيديولوجي أو برجماتي إلى علاقة قائمة على تصدير الثورة الإسلامية، أدى إلى استغلال أوضاع الشيعة في بعض الدول من قبل جهات مختلفة؛ ما ساهم في تعميق الأزمة الطائفية في المنطقة.
على مدار العقود الماضية، شهدت المنطقة العربية صراعات سياسية خطيرة، تحولت في بعض الأحيان إلى حروب أهلية مدمرة، بسبب الخلافات العقائدية بين السنة والشيعة، ظهر ذلك بشكل صارخ في العراق؛ حيث أدت الحروب الطائفية إلى كوارث إنسانية حقيقية؛ من قتل واغتيالات وتشريد، ولم تكن التدخلات الإيرانية ببعيدة عن هذه الكوارث، حسب الدول التي وقعت فيها هذه الصراعات، وهذا الأمر لا يمكن فصله عن أحداث وتداعيات حرب الخليج الأولى بين العراق وإيران، والتي حظي فيها العراق بدعم خليجي كبير باعتباره يحارب الشيعة في منطقة سنية.
تُعد الحرب المعروفة بـ عاصفة الحزم نموذجًا على تسييس القضية المذهبية وتحقيق مكاسب سياسية. بدأت هذه الحرب في عام 2015 بتحالف السعودية وحلفائها ضد الحوثيين المدعومين من إيران، الذين سيطروا على العاصمة اليمنية صنعاء، على الرغم من أن التحالف العربي برر تدخله بدعم الشرعية اليمنية، إلا أن الحرب ساهمت في تأجيج الصراعات المذهبية بين اليمنيين؛ ما أدى إلى كارثة إنسانية حقيقية.
ولا يخفى لعب السياسة دورًا في الطائفية، ونظر بعض الأنظمة الحاكمة إلى مواطنيهم على أنهم أداة لمشروع سياسي معادٍ من الخارج، يعمق من أزمة الشيعة في بلدان الخليج، التي لا تعرف الكثير من الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والحريات.
كان أحد أبرز المواقف التي تم فيها تسييس واستغلال الخلاف الشيعي السني، احتجاجات الربيع العربي في البحرين، وطالب المحتجون بمطالب مشروعة بالحقوق السياسية والحريات، لكن تم تحويل القضية إلى صراع مذهبي طائفي يثير المخاوف على وحدة الدولة وأمنها، واستغلت الأجهزة الأمنية هذه المخاوف لقمع الثورة بعنف، مما أدى إلى انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان.
حارث حسن، الباحث السياسي بمركز كارنيجي الشرق الأوسط للأبحاث، لا يرى مشكلة في الخلافات المذهبية بحد ذاتها، ويقول لمواطن: “كل الأديان والعقائد والأفكار تتشعب تدريجيًا إلى مذاهب وتيارات متعددة ومتنافسة، لكن المشكلة تكمن في تسييس تلك الخلافات وتحويلها الى هويات اجتماعية-سياسية، ومن ثم تعبئة الناس حولها في إطار موقف صراعي وثنائية”نحن وهم”، وهي عملية تسمى بالتطييف؛ أي تحويل الهويات المذهبية والطائفية إلى هويات سياسية، وفي سياق صراعي إلى هويات مسلحة تشرعن قتل الآخر. وفي النهاية ليس مطلوبًا التخلي عن الاختلافات المذهبية؛ بل عدم تسييسها، وقبول مساحة الاختلاف تلك ونزع الطابع الصراعي عنها”.
وهو ما يؤكده الكاتب السعودي محمد المحفوظ، بأن التحريض المذهبي والطائفي اليوم ليس بريئًا، وإنما هو جزء كم أجندة سياسية، ويوضح أن التحريض الطائفي لن ينهي السنة أو الشيعة من المنطقة، وإنما سيوفر أسباب الاحتراب والكراهية، وحينما تتعمق فإننا جميعًا نصبح أمام خطر حقيقي على أمن واستقرار المنطقة بأسرها.
ويعزو التوترات الطائفية بين السنة والشيعة إلى عوامل سياسية واقتصادية واجتماعية حالية، ويرى الخطوة الأولى في مشروع معالجة هذا الملف، هي بناء مواطنة متساوية في الحقوق والواجبات، مع تجنيب الشيعة العرب أي تأثيرات سلبية للصراع أو التنافس العربي مع إيران.
بينما يرى الحقوقي البحريني، أن الإدارة بعقلية فرق تسد غاية للاستمرار في الحكم، ترى في إثارة الفتن الطائفية وتعزيزها وسيلة من أجل ضمان حرف البوصلة عن المطالبة بالحقوق المدنية للمواطنين، ويعتقد أن الحل يمكن في عقد اجتماعي جديد ينظم العلاقة بين المواطنين والحكومة، في نظام ديمقراطي، به برلمان يمتلك صلاحيات وآلية رقابة فعالة، وكذلك مؤسسات مجتمع مدني قوية وعدالة اجتماعية.
على الرغم من هدوء أوضاع الشيعة نسبيًا في الكويت، إلا أنها ليست بعيدة عن التوترات بين حين وآخر ولأسباب مختلفة، بين حملات انتخابية أو مناوشات إلكترونية على مواقع التواصل، وهو ما حذرت منه وزارة الداخلية، وأوضحت أنها ستتصدى لأية محاولات إشعال فتن طائفية/قبلية في البلاد، وفي 2015 وقع تفجير مسجد الإمام الصادق، الذي يرتاده المسلمون الشيعة، في حادثة إرهابية، أعلن تنظيم الدولة الإسلامية، مسؤوليته عن الاعتداء في حينه، وهو ما أثار مخاوف عدة من أوضاع وحياة الشيعة والأمن الاجتماعي في الكويت بشكل عام.
وتعزو الكاتبة والأكاديمية الكويتية، د. سلوى سعيد حدوث حالات الاستقطاب المذهبي، والتي تراها قليلة الحدوث، نتيجة أوضاع وصراعات إقليمية واستقطاب سياسي طائفي في بعض الأحيان، وتضرب مثالًا بفترة الحرب العراقية الإيرانية، “وهو ما لا يتعلق بالطائفة الشيعية بل بالسياسة”. حد قولها.
وترى أن الكويت في هذا الملف، تعيش حالة من الاستقرار، بسبب إتاحة قدر كبير من الحقوق للكويتيين الشيعة: “لا يوجد تمايز بين السني والشيعي في الحقوق والواجبات، بما يعني أن الطائفة الشيعية موجودة في كافة بل وأهم مرافق الدولة، لذلك لا توجد حالة الاستقطاب الطائفي الموجودة في سائر دول الخليج، ولو ظهرت فإنها تكون بسبب محفزات ومحاولات إقليمية للعبث بالوضع الداخلي ليس أكثر”.
ختامًا؛ يبقى الشيعة جزءً لا يتجزأ من المجتمعات الخليجية، إلا أن التاريخ واللغة والدين المشترك، عوامل لم تكن كافية لهدوء واستقرار الأوضاع. لكن بعيدًا عن التباينات واختلاف أوضاع الشيعة من بلد إلى بلد، فالمؤكد أن هناك معاناة حقيقية يعانيها الشيعة في منطقة الخليج، وتتمثل في الحرمان من الحقوق المدنية والسياسية والتمييز الطائفي، ولا تقتصر المعاناة على كون الشيعة أقلية في بعض المناطق؛ بل يتعرضون للظلم حتى وهم أغلبية في مجتمعهم من قبل أقلية حاكمة، كما هو الحال في البحرين.
ولا يخفى لعب السياسة دورًا في الطائفية، ونظر بعض الأنظمة الحاكمة إلى مواطنيهم على أنهم أداة لمشروع سياسي معادٍ من الخارج، يعمق من أزمة الشيعة في بلدان الخليج، التي لا تعرف الكثير من الديمقراطية وحقوق الإنسان والمواطنة والحريات، لتبقى سيادة سوء النوايا في التعاطي مع قضايا الشيعة، تفاقم من حدة المشكلة.