مع اقتراب عام 2030 المخطط له أن يكون العام الحاسم في تحول السعودية -وفق رؤيتها- إلى دولة جديدة برؤية اقتصادية مغايرة لما كانت عليه، منذ قيام المملكة في ثلاثينيات القرن الماضي، باعتمادها على النفط كعمود فقري يوفر المدخولات الضرورية لاقتصاد الدولة الأبوية التي ترعى مواطنيها، إلى دولة تعتمد على التكنولوجيا، وتنوع مدخولاتها عبر التصنيع والسياحة واقتصاد المعرفة القائم على الذكاء الاصطناعي، كان مشروع “نيوم” في القلب من عملية التحول والرمز الواضح لها، بكونه يتوفر على كل تلك العوامل.
لكن يبدو الآن أن هذه الخطط شديدة الطموح لن تصبح قابلة للتنفيذ بالشكل الذي كان مخططًا له في ظل الحديث عن تقليص إنجاز مدينة “ذا لاين”، من 170 كيلو مترًا إلى 2.4 كيلو متر بحلول عام 2030، بحسب التقارير الصادرة عن وكالة بلومبرغ في بداية أبريل/ نيسان الماضي، نقلاً عن مسؤولين مشرفين على المشروع، والتي لم يصدر أي نفي سعودي رسمي لها.
مراجعة الخطط
أملت الحكومة السعودية في 2030 أن يكون هناك 1.5 مليون ساكن يعيشون في “ذا لاين”، وهي مدينة مستقبلية تسعى المملكة لبنائها بين زوج من ناطحات السحاب المكسوة بالمرايا، لكن المسؤولين الآن يتوقعون أن تستوعب المدينة أقل من 300 ألف ساكن بحلول ذلك الوقت، وأخبرت مصادر مطلعة الوكالة الأميركية بلومبيرغ، أن تقليص “ذا لاين” يأتي في الوقت الذي لم يعتمد الصندوق السيادي فيه بعدُ ميزانية “نيوم” لعام 2024. ويظهر أن الوقائع المالية للاستثمارات التي تبلغ قيمتها تريليونات الدولارات قد بدأت تثير القلق في أعلى المستويات لدى الحكومة.
وكانت الحكومة السعودية تسعى لأن يكون مشروع “نيوم” الذي تُقدر قيمته بـ1.5 تريليون دولار على ساحل البحر الأحمر، بمثابة تحفة فنية، من شأنها أن تحول اقتصاد البلاد، وأن يكون بمثابة منطقة اختبار للتكنولوجيا التي يمكن أن تحدث ثورة في الحياة اليومية. وإلى جانب مشروع “ذا لاين”، تشمل خطط “نيوم” إنشاء مدينة صناعية وموانئ ومواقع سياحية.
يرى الخبير الاستراتيجي السعودي، الدكتور محمد صالح الحربي “أن المشروعات الكبرى العملاقة “جيجا بروجيكت” مثل مشروع “نيوم” ومدينة “ذا لاين”، وهي مدينة رقمية ذكية تشكل عاملاً مهمًا في اقتصاديات المدن، ولا بد للقائمين على هذا المشروع مراجعة الأهداف والتطورات بشكل سنوي، والتواؤم مع الظروف المحيطة في المنطقة؛ ومنها الأمن والاستقرار والحروب والبيئة، وهناك عوامل مختلفة تؤخذ في الاعتبار أثناء عملية المراجعة”.
ويتوقع الحربي، في حديثه لـ”موطن”، أن المشروع سيتم المضي في تنفيذه؛ فهو ذو طبيعة استثمارية بحتة، ولابد من مراجعة تطوراته من قبل المستثمرين والمشرفين؛ خاصة أن الحكومة تقوم بضخ الأموال فيه بالشراكة مع مستثمرين من داخل المملكة وخارجها، كما يمكن طرحه في سوق الأسهم والسندات العالمية، وكان المفترض أن يتم افتتاحه في 2030 لكن المراجعة المكانية والزمانية قد تؤجل تنفيذه لبعض الأعوام لأنه مشروع استراتيجي مهم للغاية ويعتمد على جذب وضخ الاستثمارات.
تخفيف الضغط على الاقتصاد
هذه التقارير تتوافق مع تصريحات سابقة لوزير المالية السعودي محمد الجدعان في شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي، عندما قال إن الحكومة قررت التمديد لبناء القدرات وتجنب الضغوط التضخمية واختناقات العرض، وذلك بعد تحديد حجم الاقتراض المطلوب لإتمامها، وكشف أن بعض المشاريع قد يؤجل إتمامها لمدة 3 سنوات، والبعض منها سيكتمل عام 2035، وحتى بعض المشاريع ستؤجل أبعد من ذلك، بالإضافة إلى ترشيد بعضها لبناء المصانع وبناء موارد بشرية كافية؛ فإن تأخير بعض المشاريع، أو بالأحرى تمديدها سيخدم الاقتصاد، كما أوضح الوزير أنه تمت مراجعة جميع الخطط على أساس العائدات الاقتصادية والاجتماعية والتوظيف ونوعية الحياة من بين عوامل أخرى على مدى الأشهر الثمانية عشرة الماضية.
“كان من المفترض دعم المشروع -حسب الخطة الموضوعة- بأكثر من 500 مليار دولار خلال الأعوام القادمة من قبل الحكومة السعودية، وصندوق الاستثمارات العامة، إضافة إلى مستثمرين محليين وعالميين” بحسب الحربي، الذي يشير أيضًا إلى وجود خطط لجذب الاستثمارات الخاصة إلى جانب الاستثمارات والشراكات الحكومية.
أسباب تغيير الخطة الزمنية
يعتقد خبير الاقتصاد السياسي، أحمد القاروط أن أحد أسباب تخفيض مشروع نيوم هو أنه يعتمد في جزء كبير منه على استجلاب الاستثمارات الأجنبية للمملكة وليس على التمويل المحلي، باعتباره مشروعًا ثوريًا حضاريًا يمكن أن يساهم في وضع المملكة ووضع المنطقة بأسرها على مسار عالم جديد، لكن هذه الاستثمارات التي كان من المتوقع أن تتدفق على المشروع لم تأت لأسباب متنوعة؛ منها السياسي، ومنها انخفاض الجدوى التقنية والفنية، باختصار؛ لأن المشروع طموح بشكل أكبر من المفترض.
وأضاف القاروط لـ “مواطن”: “من حيث المبدأ، لم يكن المشروع موضوعيًا، وكان أصلاً يرتكن على استثمارات أجنبية، وحين لم تأت اضطروا للنظر في الترتيبات المتاحة، ومن ضمنها تخفيض سقف الطموحات بهذا الشكل الكبير، وفي ظل الأوضاع الاقتصادية والسياسية والأمنية في المنطقة، لا أحد يراهن بأمواله على مشروع هش أمنيًا في بيئة هشة ومضطربة، وقابل للتحول بشكل سريع، وهو في مرمى نيران الحوثيين المناوئين لهم في شمالي اليمن”.
لكنه أشار إلى أن الاقتصاد السعودي ما يزال قويًا بسبب قدرة الدولة على الاقتراض، ومن الملاحظ خلال السنوات العشر الماضية، أو منذ مجيء محمد بن سلمان وإلى اليوم والدولة تستثمر جيدًا، لكن طبعًا المشكلة اليوم أن الدولة ما تزال تلعب دورًا رئيسًا كمحرك للاقتصاد في السعودية، رغم خروج القطاعات الخاصة، وأصبحت أكثر قوة وتأثيرًا، إلا أن الدولة ما تزال هي محرك العجلة الاقتصادية.
وتتفق معه محللة السياسات الدولية، الأميركية إيرينا تسوكرمان، بالقول إن السبب الرسمي المعلن، هو أن المخططين أخطأوا في تقدير التكاليف بشكل كبير ولم يتمكنوا من الحصول على عدد كافٍ من المستثمرين، حتى من الصين. كما أن نيوم، كما قيل إنهم خططوا لها، لا يمكنها أن تؤوي العدد المعلن من السكان لأنها بعيدة تمامًا عن المناطق المأهولة في بقية ذلك الجزء من البلاد، وبالتالي ستكون معزولة جدًا حتى لو تم تشغيل نيوم بالكامل، ومن بين القضايا الأخرى التي أثارت الشك في المشروع، المعارضة الموجودة من قبيلة الحويطات؛ حيث يُزعم أن المشروع في شكله الكامل يمتد إلى مناطقهم القبلية.
وأضافت تسوكرمان، لـ “مواطن”: “من بين المشاكل المختلفة أنه لم تتم الموافقة بعد على ميزانية نيوم لعام 2024، في حين يتضاءل صندوق الثروة السيادية السعودي بسرعة، وسط مشاكل عامة في جذب المستثمرين على الرغم من كل الضجيج حول السياحة، لكن الأسباب الحقيقية للمشاكل أعمق، ولم يكن المشروع الأصلي، كما أعلن عنه ولي العهد محمد بن سلمان، بهذه الضخامة؛ لقد كان مجرد مركز ترفيهي يشابه لاس فيجاس، وبعيدًا عن المدن التي يمكن استخدامها؛ ليس فقط كفرصة سياحية قيمة، ولكن لجلب المستثمرين والشركات من جميع أنحاء المنطقة، مما يوفر فرصة لدمج القدرات والمساهمة في المشروع”.
وتابعت: “يمكن وصف ذلك ليس فقط باعتباره إنجازًا سعوديًا مميزًا؛ بل باعتباره إنجازًا كبيرًا في العلاقات الإقليمية في قطاع الأعمال والسياحة، كانت الفكرة الأصلية وراء الرؤية هي التوحيد؛ فلم يكن الأمر يتعلق فقط بإبهار العالم أو مجرد إظهار الحجم، ومع ذلك، انتقل المشروع في النهاية من الإدارة المباشرة لولي العهد؛ حيث لم يعد اسمه موجودًا حتى على الصفحة الرسمية”.
التوجه للقروض
كان المخطط أن تصل تكاليف المشروع إلى نحو 350 مليار دولار حتى 2030، وأن تبلغ تكاليف كامل المشروع 1.5 تريليون دولار، يمول الصندوق السيادي السعودي نصف التكاليف، ويتم اللجوء لتمويل النصف الآخر إلى استثمارات خارجية وقروض.
ولكن يبدو أن السيولة في الصندوق السيادي انخفضت إلى 15 مليار دولار السنة الماضية من أصول تبلغ نحو 900 مليار دولار، وأن أصول الدولة ومدخلاتها انخفضت السنة الماضية، ما سيؤدي لأزمة اقتصادية نتيجة لانخفاض سعر البترول وحجم الإنتاج.
وفي يوليو/ تموز الماضي كشفت مصادر عن أن “نيوم” تدرس الحصول على قرض بقيمة 10 مليارات ريال (2.7 مليار دولار)، وتجري الشركة محادثات مع مجموعة من البنوك المحلية لجمع القرض بهدف تمويل المراحل المبكرة من مشروع المدينة المستقبلية بكلفة 500 مليار دولار.
وفي سياق متصل، تخطط “نيوم” أيضًا لجمع ما يصل إلى 3 مليارات ريال (800 مليون دولار) من البنوك المحلية لتمويل تطوير جزيرة “شوشة”، وهي إحدى أهم الوجهات الساحلية ضمن مشروع “نيوم”، وحصل المشروع بالفعل على القرضين في الربع الأول من العام الجاري.
وأسهمت كل تلك الأسباب في تخفيض وتيرة العمل في مشروع نيوم؛ خصوصًا في مجال الصناعة؛ إذ إنه من المفترض أن تكون الطاقات البديلة النظيفة هي أساس المشروع، كالطاقة الشمسية والهيدروجين الأخضر.
المشروعات الكبرى العملاقة "جيجا بروجيكت" مثل مشروع "نيوم" ومدينة "ذا لاين"، وهي مدينة رقمية ذكية تشكل عاملاً مهمًا في اقتصاديات المدن، ولا بد للقائمين على هذا المشروع مراجعة الأهداف والتطورات بشكل سنوي، والتواؤم مع الظروف المحيطة في المنطقة؛ ومنها الأمن والاستقرار والحروب والبيئة
وحول ذلك تقول المحللة الأميركية: “مع تولي أشخاص آخرين للمشروع، أصبح الأمر بمثابة ذريعة لمحاولة جذب الاهتمام الدولي بأفكار غريبة ومثيرة للدهشة بشكل متزايد، وبدرجة أقل حول التنفيذ العملي للرؤية الأصلية، ويرجع ذلك جزئيًا إلى أن مديري المشروع المختلفين كانوا يتطلعون إلى الحصول على الفضل في ذلك، ولقد أصبح الموضوع طريقة سهلة لجذب الاستثمار، مع العلم جيدًا أن عالم الأفكار على مستوى الخيال العلمي الذي يتوسع باستمرار لا يمكن أن يقترب من التحقق. ومع ذلك، بدون الحصول على موافقة المجتمع الدولي على الاستفادة من هذا التمويل الذي يمكن بعد ذلك إعادة توجيهه نحو استخدامات أخرى، يصبح الأمر معقدًا”.
وحقيقة إن المشروع لا يمكن تنفيذه كما هو معلن عنه؛ فلم يكن المقصود منه أبدًا أن يكون حلمًا بعيد المنال؛ على الرغم من أنه ما يزال يُنسب إلى ولي العهد، إلا أنه في الواقع مجرد وهم أنشأه العديد من الأشخاص المختلفين الذين كانت رؤاهم تتعارض مع بعضها البعض وتتعارض مع الواقع، ولكنهم كانوا مهتمين بالاهتمام بالمال أكثر من اهتمامهم بتسليم المنتج النهائي، بحسب تسوكرمان.
طرح الصكوك
وتم الكشف في أبريل/ نيسان، عن وجود خطط لشركة “نيوم” لطرح أدوات دين مقومة بالريال لأول مرة في وقت لاحق من العام الجاري؛ حيث تسعى لتعزيز روافد تمويلها لمشاريع البناء الضخمة في المدينة المستقبلية، وفقًا لأشخاص على دراية بالأمر، وهو الأمر الذي قد يحدث في النصف الثاني من العام الحالي وفق ظروف السوق.
قال الأشخاص، الذين طلبوا عدم الكشف عن هوياتهم كون المعلومات خاصة: “إن نيوم عينت بنوكًا بما في ذلك “إتش إس بي سي هولدينغز” (HSBC Holdings)، ووحدات الأوراق المالية التابعة لمصرف الراجحي، والبنك الأهلي السعودي، لتقديم استشارات حول الطرح المرتقب للصكوك، وأضافوا أن الصكوك ستكون مقومة بالريال، ويمكن أن يصل إجمالي الطرح لما يصل إلى 5 مليارات ريال (1.3 مليار دولار).
تتزامن خطة طرح الصكوك في “نيوم” مع جهود الصندوق السيادي السعودي لتسريع مبيعات الديون التي يصدرها هو والشركات التابعة له. كما يدرس صندوق الاستثمارات أيضًا الحصول على قروض مصرفية أو طرح أسهم في الشركات التي يسيطر عليها بحثًا عن مصادر جديدة للسيولة.
وتأتي خطط الصندوق لتأمين تمويل أكبر وسط توقعات بوصول إجمالي إنفاقه إلى أكثر من 70 مليار دولار سنويًا بعد عام 2025، بينما يقارب الإنفاق حاليًا 40 إلى 50 مليار دولار سنويًا.