تحقيق: بديعة الصوان وسلمى نصار وصبا منصور
بساق ملفوفة بقطعة من القماش، بدت أصغر حجماً من الساق اليسرى، يشكو “هشام الدقامسة”، ما تعرض له عام 2019، حين أصابته رصاصة من سلاح “بمبكشن”، على إثرها نُقل إلى المستشفى، ليبدأ رحلة علاجيّة قد تستمر لسنوات.
“حتى الولد الصغير معه سلاح”، بهذه الجملة يُشخّص “الدقاسمة” مشكلة ممتدة يعانيها الأردن منذ عقود. يقول الشاب الثلاثينيّ إن الأسلحة النارية منتشرة للحد الذي يخاف فيه المرء الدخول في خلاف مع أيّ شخص؛ تجنباً لاستخدام الطرف الآخر السلاح في لحظة غضب.
بعينيْن شاردتين، يتذكر “الدقاسمة”، الذي كان يسكن بإربد، تفاصيل ذلك اليوم، حين تعرضت سيارته للتحطيم أمام بيته، على يد مجموعة من الشباب، الذين لم يتردّدوا في إطلاق النار بساقه اليمنى، وفق روايته.
السـلاح المنفـلت
حادثة “الدقاسمة” واحدة من مئات الحالات التي يشهدها الأردن بشكل متكرر، بسبب انتشار ثقافة اقتناء السلاح الناريّ (غير المُرخّص)، خاصة في المحافظات الجنوبيّة بالمملكة.
عام 2014، كشفت دراسة أجراها الباحث محمود الجنيدي، عضو الجمعيّة الأردنيّة للعلوم السياسيّة، عن أن نسبة انتشار الأسلحة في إربد تبلغ نحو 21 بالمئة؛ أي أن شخصاً على الأقل من بين خمسة أفراد، يملك قطعة سلاح. في المقابل، ترتفع النسبة في المحافظات الجنوبية لتصل إلى 42 بالمئة.
وزير الداخلية السابق سلامة حمّاد، أشار وفق تقارير منشورة إلى أن عدد الأسلحة غير المُرخّصة يبلغ نحو عشرة ملايين قطعة، مقابل نحو 350 ألف قطعة سلاح مُرخّصة بحسب ما ورد في الدراسة السابقة، بينما ذكرت تقارير أخرى أن عدد غير المرخصة مليون قطعة.
تجارة في الخفاء
داخل سيارة خاصة، يجلس أحمد (اسم مستعار) بجانب رجل آخر، وقد أحضر له الأخير مخازن لقطعة سلاح من نوع “إم 16″، يفحص أحمد القطع بعناية، قبل أن يغادر المكان مسرعاً. قطعة السلاح هذه، واحدة من بين قطع كثيرة “غير مُرخّصة”، يمتلكها أحمد الذي يتاجر في الأسلحة، إلى جانب امتلاكه عدداً من القطع المُرخّصة، التي يحتفظ ببعضها في سياراته.
عاش أحمد في بيئة بدويّة خالصة، زاخرة بالأسلحة جنوب عمّان، حيث يُعدّ السلاح هناك أهم ما يمكن اقتناؤه. مسدس “إسباني عيار 9 ملم” من نوع (ستار)، هو قطعة السلاح الأولى التي اقتناها أحمد في ثمانينيّات القرن الماضي، وصلته مخبأة في “بالة ملابس”. يذكر أحمد أن وقتها كان مراهقاً لم يتجاوز الرابعة عشرة من عمره، ورغم صغر سنه، بدأ ولعه باقتناء الأسلحة.
في سوق السلاح بشارع الملك طلال بعمّان، اعتاد أحمد التردّد على المكان حيث محال تجار السلاح المُرخّص. هؤلاء التجار يتعاملون مع تاجر يقوم بدور الوسيط بينهم وبين الزبائن؛ من أجل بيع أو شراء السلاح غير المُرخّص، وفق أحمد، الذي يُقِرّ بأنه عمل سابقاً في شراء وبيع أسلحة غير مُرخّصة، قبل أن يتوقف عن ذلك، مكتفياً بما لديه من أسلحة.
شارع طلال يروي جزءاً من القصة
في نهاية شارع الملك طلال، يجلس محمد الحنيطي، داخل محله الصغير لبيع الأسلحة. يقول “الحنيطي” إن عُمُر محله اثنتان وستون سنة، ويضيف: “هنا نقوم بتجارة الأسلحة وصيانتها، ونبيع البنادق والخرطوش والمسدسات المسموح بها بالأردن”.
يشرح “الحنيطي” خطوات امتلاك سلاح مُرخّص بالقول: “يحق لأي شخص يحمل رقماً وطنيّاً أردنيّاً شراء مسدسيْن وثلاث بواريد، وتتمّ عملية الشراء بحصول الشخص على فاتورة من التاجر تسمى فاتورة أمنيّة، توضّح معلومات ومصدر السلاح؛ ليتقدم بهذه الفاتورة مُرفقة بطلب لمديرية الأمن العام”.
بعدها يتمّ الرد على الطلب بالقبول أو الرفض، بحد أقصى 30 يوماً، وفق الحنيطي الذي يؤكد أن الأسلحة المحظور بيعها أو شراؤها هي الآلية “الأوتوماتيكي” فقط، وذلك بموجب القانون الأردنيّ.
حاولنا توثيق هذه التجربة، فتوجّهت إحدى مُعدّات التحقيق إلى المركز الأمنيّ لترخيص سلاح جَدّها المُتوفَى. أخبرها رجل الأمن أنها دون السن القانونيّة؛ إذ لم تتجاوز الـ 23 من عُمُرها، ما يتعارض مع القانون الأردنيّ، الذي حدد السن القانونيّة لترخيص السلاح بـ 21 عاماً، للذكر والأنثى على حد سواء.
راجعتْ المُعدّة المركز الأمنيّ مجدداً، ليتمّ إخبارها بشروط أخرى مُخالفة لما ذُكر لها سابقاً، بالإضافة إلى ضرورة عمل حصر للإرث، وتنازل باقي الورثة عن حقهم في امتلاك السلاح.
مخاوف ترخيص السلاح
“الخوف من مصادرة السلاح، وسهولة تحديد هُوية صاحب السلاح، خاصة عند حدوث المخالفات أو حوادث إطلاق نار”، عوامل تدفع الكثيرين إلى عدم ترخيص أسلحتهم، وفق محمد الحنيطي، صاحب محل لبيع الأسلحة.
يتفق أحمد (اسم مستعار) مع ما ذكره الحنيطي من عوامل تدفع الناس إلى الإحجام عن ترخيص أسلحتهم. لكنّ أحمد يشير إلى تخوف مترسّخ لدى الناس، يتمثّل في أن أول مَن يُقبض عليهم في حال حدوث واقعة إطلاق أعيرة ناريّة، هم أولئك الذين تعلم السلطات حيازتهم للأسلحة (المُرخّصة).
مواقع التواصل: تجارة السلاح دون رقابة
بالقرب من محافظة معان، التقينا عدي (اسم مستعار)، وهو شاب عشرينيّ من الكرك، بدا متفاخراً بفكرة اقتناء السلاح: “إحنا عندنا الولد الصغير ينزل من بطن أمه حامل سلاح”.
وعلى الرغم من أن عدي ينفي امتلاكه أيّ قطعة سلاح، فإنه يؤكد في الوقت ذاته معرفته بكثير من الأشخاص -ممن هم في دوائر اتصالاته- الذين يمتلكون أسلحة غير مُرخّصة عن طريق شرائها بالقطعة. يقول عدي: “هذا الإشي متوفر عندنا، والناس بتاجر”.
عدي أكد أيضاً أن “مواقع التواصل الاجتماعيّ”، خاصة المجموعات المغلقة على فيسبوك، وتطبيقات سيغنال وتلغرام، تُمثّل سوقاً لبيع وشراء الأسلحة غير المُرخّصة.
استخدم فريق التحقيق بعض الكلمات المفتاحيّة في البحث على صفحات الفيسبوك، بهدف الوصول إلى الصفحات والمجموعات المُخصّصة لبيع وشراء الأسلحة. قادهم البحث إلى صفحات ومجموعات تحمل “أسماء” لا تُثير أيّ شبهة أو ريبة، حتى إن سوقاً لبيع “الحلال” هو اسم مجموعة مغلقة على فيسبوك، تتضمن صوراً ومنشورات تتحدث عن بيع وشراء المواشي والأغنام؛ لكنّها في الحقيقة لبيع الأسلحة غير المُرخّصة.
كما توصل فريق التحقيق إلى مجموعات أخرى لبيع “بنادق البومبكشن ومسدسات البريتا والجلوك” وغيرها، عبر تطبيق تلغرام، ولا يستخدم “زبائن” هذه المجموعات مصطلحات أو “أكواد” خاصة، إلا أنه داخل هذه المجموعات، مجموعات خاصة لا يمكن الانضمام لها إلا بموافقة المشرف على المجموعة.
عبر دائرة من الأشخاص، توصل فريق التحقيق إلى تاجر سلاح. ومن خلال مكالمة هاتفيّة، أبدت إحدى مُعدّات التحقيق رغبتها في مقابلته لشراء “قطعة”، من دون ذكر مزيد من التفاصيل. بعد انتهاء المكالمة مباشرة، وضع التاجر صورة لبندقية كلاشينكوف في “حالة الواتساب”، وطلب من مُعدّة التحقيق الاطلاع عليها، ثمّ حذفها مباشرة.
حدود يصعب ضبطها
منذ بداية الحرب في سوريا زادت نسبة التهريب عبر الحدود وفقا لتقارير منشورة، حيث يلجأ المُهرّبون إلى إدخال الأسلحة والمواد المُخدّرة إلى الأردن عن طريق المعابر الحدوديّة الرسميّة، كمعبر حدود جابر، أو من خلال التسلل عبر مناطق حدوديّة، مثل ثغرة الجب في المفرق؛ أو مناطق جبليّة فاصلة بين الحدود الأردنيّة السورية، بعيداً عن أنظار أبراج المراقبة التابعة للجيش الأردنيّ، وصولاً إلى مدينة الرمثا.
بعد فتح المعابر الحدوديّة مع سوريا عام 2018، تمكّن باسم (اسم مستعار) من تهريب أسلحة وذخيرة تسع مرات، قبل أن يتمّ كشفه في المرة العاشرة. خلال هذه المرات، لجأ باسم إلى إخفاء الأسلحة عن طريق وضعها داخل “السبويلر” أو الجناح الخلفي لسيارته، بعد لفها بإحكام بورق “قصدير” كي لا يتمّ كشفها عبر جهاز الأشعة عند معبر حدود جابر.
سمير الحباشنة، وزير الداخليّة السابق، يقول إن الطبيعة البدويّة والعشائريّة بالأردن، خاصة بالمحافظات الجنوبيّة، تميل إلى اقتناء السلاح، لأنه بالنسبة لهم يُعدّ مصدر أمنهم وثروتهم؛ وهذا ما يُفسر “ضعف القبضة الأمنية” بالمحافظات الجنوبية، مقارنة بالعاصمة، فيما يخص مسألة اقتناء السلاح.
لا يتخوف وزير الداخليّة السابق من التوسع في “حيازة الأسلحة”، بل يراها “ضرورة لحماية الأردنيّين من خطر قادم لا محالة”، وفق تعبيره. لكنّ الحباشنة يؤكد أهمية تنظيم عملية اقتناء وتقنين السلاح، لتكون جزءاً من منظومة الأمن الوطنيّ.
كل من صنع أو استورد أو حاز أو نقل أو باع أو اشترى أو توسّط في شراء أو بيع أيّ مدفع أو سلاح أوتوماتيكي بدون ترخيص بقصد استعمالها على وجه غير مشروع يعاقب بالأشغال الشاقة المؤبدة ويصادر السلاح.
المادة 11 من قانون الأسلحة والذخائر رقم 34 لسنة 1952
لوائح غير مُنضبِطة لتقنين السلاح
“لحيازة السلاح” يشترط القانون الأردنيّ أن يكون الشخص أردنيّ الجنسية، أتمّ واحداً وعشرين عاماً، غير مُدان بجنحة أو جناية. شروط يراها باسل الحمد، الخبير النفسي، غير كافية لضمان أهلية “حامل السلاح” من الناحية النفسية؛ لأن سهولة اقتناء السلاح قد يزيد من ارتفاع معدل ارتكاب الجريمة.
ويشير الحمد إلى أن القانون يستند إلى “مبدأ الموثوقيّة” في رخصة اقتناء السلاح، لكنّ الاعتماد فقط على “غير المُدانيين بجنحة أو جناية” كشرط لأهلية مَن يحق له اقتناء السلاح غير كافٍ. ويرى الحمد أن السلاح أداة معقّدة، تحتاج إلى أن يكون الشخص مُدرّباً بدرجة كافية على استخدامه، قبل أن يُمنح الحق في تقنينه. ويؤكد الحمد ضرورة وجود لجان طبيّة تدرس الحالة النفسيّة للمتقدمين لترخيص السلاح.
لكنّ سمير الحباشنة، وزير الداخلية السابق، يقول إن السلطات الأمنيّة المختصة تقوم بالتقصي عن الشخص وأهليته النفسية؛ على الرغم من أن القانون لم يذكر ذلك بشكل صريح. الحباشنة أشار أيضاً إلى أن وزير الداخليّة له صلاحيات قانونيّة بمنح أشخاص بعينهم رخصة اقتناء سلاح أوتوماتيكي؛ كأولئك الذين يمتلكون مكانة اجتماعيّة مرموقة في محيطهم.
قانون لا يرى النور
أثار “مشروع قانون جديد” يقضي بعدم شرعيّة حيازة وحمل الأسلحة بل وتسليمها إلى السلطات المعنيّة، جدلاً كبيراً في الأردن؛ إذ شمل أيضاً الأسلحة المُرخّصة.
وزير الداخليّة السابق، سلامة حمّاد، طالب الأردنيّين حينها بتسليم السلاح خلال ستة أشهر، مع التعهد بمنحهم التعويض المناسب؛ مبرراً ذلك بخطورة الوضع الأمنيّ بسبب انتشار السلاح، ما يتطلب إعادة النظر في قانون الأسلحة والذخائر.
وأكد حمّاد أن تهريب كميات كبيرة من الأسلحة من سوريا إلى الأردن؛ يوجب تعديل بعض الجزئيّات القانونيّة، الخاصة بضوابط ترخيص واقتناء السلاح، واستحقاق امتلاكه من عدمه.
يقول خالد رمضان، النائب السابق، عضو اللجنة القانونيّة التي ناقشت مشروع القانون الجديد عام 2019، إن 92 في المئة من المخالفات التي ضُبطت بالأردن، سواء كانت إطلاق نار أو اعتداء أو جرائم، تُنفذ بأسلحة غير مُرخّصة.
ويشير رمضان إلى أن السلاح يجب أن يكون بيد الدولة، وأن مهمة الدفاع الوطنيّ تقع على عاتق الجيش والمؤسّسات الأمنيّة فقط، وفق تعبيره.
ويمنع “مشروع القانون الجديد”، بصورة مطلقة، حمل أو بيع أو شراء أو حيازة أو استيراد أيّ نوع من بنادق الصيد، التي تعمل بواسطة مخزن ذخيرة ثابت أو متحرك، كما يحظر “مشروع القانون” حمل السلاح المُرخّص داخل المنشآت والمباني الرسميّة والجامعات والمعاهد العلميّة، وأثناء الاحتفالات الرسميّة والعامة والمؤتمرات والاجتماعات والمسيرات.
لكّن هذا المشروع، الذي دعمته بعض الأصوات في أوساط مختلفة، وأمَل منه الأردنيّون خيراً في ضبط مسألة حيازة وتقنين السلاح، لم يرَ النور حتى تاريخ نشر هذا التحقيق.
وبشأن تعامل الأجهزة الأمنية مع مسألة انتشار حيازة الأسلحة النارية غير المرخصة، تواصلنا مع وزارة الداخلية الأردنية، وكان ردها كالتالي:
“إن التشريعات النافذة تُجرّم حيازة الأسلحة النارية والمتاجرة بها ويتم مصادرة كل سلاح ناري غير مرخص يتم ضبطه وإيقاع العقوبات اللازمة بحق الشخص الذي ضُبط السلاح بحوزته، أما بخصوص وجود بؤر أو مناطق ينتشر فيها بيع واقتناء السلاح، فإننا نرى ذلك غير واقع في محله، خاصة مع المتابعة الدائمة لموضوع حيازة السلاح والمتاجرة به، وبشأن الترويج فإن الأمر مُتابَع من قبل الأجهزة الأمنية المختصة، مع الإشارة إلى أنه قد تمّ الانتهاء من إعداد مشروع قانون جديد للأسلحة والذخائر، يتضمن تغليظ العقوبات على حيازة السلاح والمتاجرة به بشكل مخالف”.
تمكّن فريق التحقيق من الوصول لأشخاص يتاجرون في الأسلحة، شمال البلاد ووسطها وجنوبها، لكن تجنباً لمخالفة القوانين المعمول بها داخل الأردن، لم نُقدم على شراء أيّ “قطعة سلاح”، رغم سهولة ذلك.
أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من أريج – إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية.