طوال 100 عام كانت بريطانيا في حالة حرب مستمرة، بعض الحروب كانت معلنة، لكن أكثرها وحشية ودموية كانت حروبًا سرية لم تُعلن للعامة إلا بعد سنوات، وما زال الكثير من تفاصيلها مستترًا تحت غطاء السرية، في هذا المقال المطول الذي نُشر في الجارديان البريطانية بعنوان حروب بريطانيا الخفية، وترجمته مواطن للعربية، يذكر الكاتب البريطاني إيان كوبين عددًا من الحروب السرية التي خاضتها بريطانيا وارتكبت فيها الفظائع، كان أطولها وأكثرها وحشية هي الحرب التي خاضتها ضد أهل ظفار بشكل خاص، والعمانيين بشكل عام، بسبب تمردهم على الحكم القمعي، فكيف أحكمت بريطانيا سيطرتها على مقاليد الحكم في مسقط؟
ترجمة: الزهراء عزازي
خلال الشهور التي أعقبت استسلام اليابان في 14 أغسطس عام 1945 ، كان الشعب البريطاني مهيئًا للاعتقاد بأن الحرب قد ولّت. كانت الصحف مليئة بالقصص حول احتمالية الحكم الذاتي للهند، وإضراب عمال الموانئ في لندن وليفربول وهول. لا نعلم بالضبط كم عدد الأشخاص الذين قرؤوا صحيفة مانشستر جارديان في 6 من ديسمبر 1945، ناهيك عن قراءة، مقال قصير مخبأ أسفل الصفحة السادسة، يقع بين رسالة قارئ حول محاكمات جرائم الحرب في نورمبرج ومقال رئيسي حول تأسيس الأمم المتحدة.
تحت هذا المقال الذي كان عنوانه “البريطانيون في الهند الصينية”، ظهرت أيضًا نسخة من رسالة أُُرسلت إلى إرنست بيفين، وزير الخارجية، جاء فيها: “يبدو أننا نتعاون مع القوات اليابانية والفرنسية ضد القوات القومية للفيتناميين”، وتابعت الرسالة: “ما الغرض من هذا التعاون؟ لما لا ننزع سلاح اليابانيين؟ نرغب في تحديد سياسة الحكومة بشأن وجود القوات البريطانية في الهند الصينية”.
كانت الرسالة موقعة من الرتب البريطانية الأخرى (مصطلح في الجيش يعني الرتب الدنيا، أي الرتب دون الضباط وضباط الصف) لقسم الإشارة التابع للواء مشاة متمركز في سايجون. وكان من غير المعتاد أبدًا -على الرغم من روح المساواة التي سادت في الأيام التي أعقبت الحرب- أن نرى مجموعة من القوات البريطانية من الرتب الدنيا يطالبون وزير الخارجية علانية بشرح سياسات حكومته، لكن الأمر الاستثنائي بحق كان الكشف لأول مرة عن أن القوات البريطانية تقاتل السكان المحليين في المستعمرة الفرنسية السابقة، وأنهم يفعلون ذلك جنبًا إلى جنب مع أعدائهم السابقين؛ الجيش الياباني وحكومة فيشي الفرنسية.
أحكمت بريطانيا، على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، قبضتها على سلاطين عمان المتعاقبين لمنع أي قوة استعمارية أخرى من ترسيخ موطئ قدم لها في المنطقة. وقد حققت ذلك بوسيلة بسيطة؛ وهي المال.
قلة من العامة كانوا على علم بأن الحكومة البريطانية كانت حريصة بشدة على رؤية الفرنسيين يستعيدون السيطرة على حيازاتهم الاستعمارية من فترة ما قبل الحرب، لدرجة أنه تم نقل فرقة المشاة العشرين التابعة للجيش البريطاني الهندي بأكملها جوًا إلى البلاد في أغسطس الذي سبق كتابة هذا المقال، وكانت أوامرهم كبح محاولات الشعب الفيتنامي لتشكيل حكومته الخاصة. كان هناك ما يقرب من 26000 جندي مع 2500 مركبة، بما في ذلك العربات المدرعة، كما أُرسلت ثلاثة أفواج مدفعية بريطانية، ونقل سلاح الجو الملكي البريطاني للمعركة 14 طائرة حربية من طراز سبيتفاير، و34 من القاذفات المقاتلة موسكيتو، بالإضافة إلى فرقة قوامها 140 فردًا من البحرية الملكية.
بعد إنزال القوات، أعاد البريطانيون تسليح القوات الفرنسية الفيشية ببنادق بريطانية جديدة من طراز 303، وبعد فترة وجيزة أعيد تسليح القوات اليابانية المستسلمة أيضًا وأجبروا على قتال الفييتناميين، حتى إن بعضهم قاتل تحت قيادة ضباط بريطانيين.
كان البريطانيون يقومون بعملياتهم العسكرية وفقًا لأمر يقضي بإظهار تجاهل قاسٍ للمدنيين الذين قتلوا وجرحوا بأعداد كبيرة جراء ذلك؛ إذ جاء في الأوامر التي تلقتها القوات: “لا توجد جبهة في هذه العمليات العسكرية”، و”قد يصعب علينا تمييز الصديق من العدو، لذا استخدموا دائمًا الحد الأقصى من القوة المتاحة لضمان القضاء تمامًا على أية أعمال عدائية قد نواجهها، لن يضر المرء أبدًا استخدام القوة المفرطة، لكن إن استخدمت أقل قدر من القوة على قدر الحاجة؛ فسوف نتكبد الخسائر ونشجع العدو”.
صُدم العديد من الجنود الذين كان من المتوقع أن يتصرفوا بناءً على مثل هذه الأوامر، وكان أحد الموقعين على الرسالة -المذكورة آنفًا- إلى بيفين هو ديك هارتمان، الذي كان وقتها جنديًا يبلغ من العمر 31 عامًا من مانشستر. تذكر هارتمان لاحقًا: “رأينا منازل تُحرق ومئات السكان المحليين يُحتجزون في مجمعات سكنية، ورأينا الكثير من سيارات الإسعاف مفتوحة من الخلف، تحمل في الغالب -حقًا وبشكل كامل- نساءً وأطفالًا تلفهم الضمادات، أتذكر ذلك بوضوح شديد؛ جميع النساء والأطفال الذين كانوا يعيشون هناك، كانوا يقفون خارج منازلهم ، جميعهم متشحون بالسواد، ويحدجوننا بعيون ملؤها الكراهية..”.
أما في المملكة المتحدة فلم يكن لدى البرلمان والعامة أي علم تقريبًا بهذه الحرب، أو بالطريقة التي تُدار بها، أو بدور بريطانيا فيها. ويبدو أن الحكومة ووزارة الحربية أرادتا الإبقاء على حالة الجهل هذه. ومع ذلك، ثار غضب القادة البريطانيين وكبار مسؤولي الدفاع في مقر الحلفاء بجنوب شرق آسيا في سيلان، وفي وزارة الحربية بلندن بسبب الرسالة. تم تحذير هارتمان ورفاقه من أن عميدًا سيأتي لرؤيتهم.
“دخل علينا ذات صباح ووبخنا على الطرق الشريرة التي استخدمناها، وقال إننا لو كنا فعلنا ذلك قبل بضع سنوات، لكنا أُعدِمنا رميًا بالرصاص، ولكن لسوء الحظ لا يمكنه فعل ذلك الآن”. شعر هارتمان بالقلق، لكن بعض رفاقه ممن خاضوا الكثير من المعارك في الغابات، لم يتأثروا بالعميد وتهديداته، وأخبروه بصراحة أنهم يعتقدون أن أسباب بريطانيا في الحرب على هذه البلاد غير عادلة، وأن عليه الرحيل، عندها استدار العميد على عقبيه وغادر المكان.
لكن لم تصل أي رسائل أخرى من سايجون، ولم يحظ الموضوع باهتمام كبير من الصحافة، ولم تكن هناك أية تعليقات تقريبًا في مجلس العموم البريطاني. وعلى الرغم من حجم الالتزام العسكري البريطاني الكبير في الهند الصينية، إلا أن هذه العملية العسكرية البريطانية ستظل تشوبها السرية، وخارج نطاق السيطرة إلى حد كبير، لكنها لن تكون الحملة الأخيرة من نوعها.
بعد مرور ما يقارب 70 عامًا، تحديدًا في سبتمبر 2014، أدلى رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون ببيان أعد فيه البلاد لاستئناف العمل العسكري في العراق، هذه المرة ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية. قال كاميرون وهو يقف أمام العلم البريطاني “نحن شعب مسالم”، “نحن لا نسعى للمواجهة، لكن علينا أن نتفهم أننا لا نستطيع تجاهل هذا التهديد لأمننا، لا يمكننا تجاهل الأمر فحسب إن أردنا الحفاظ على أمن هذا البلد، يجب أن نواجه هذا التهديد”.
لم يشكك أي شخص في أن رئيس الوزراء كان يتصرف تحت ضغط، بعد أن نشر تنظيم الدولة الإسلامية فيديو لعملية القتل الوحشية لموظف إغاثة بريطاني والتهديد بذبح آخر، علاوة على ذلك، لم يجادل أحد في تأكيده بأن البريطانيين “شعب مسالم” لا يسعى للمواجهة.
في الواقع، بين عامي 1918 و1939، خاضت القوات البريطانية معارك في العراق والسودان وأيرلندا وفلسطين وعدن. وفي السنوات التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، قاتل الجنود البريطانيون في إريتريا وفلسطين والهند الصينية الفرنسية وجزر الهند الشرقية الهولندية وشبه جزيرة الملايو ومصر والصين وعمان. وبين عامي 1949 و 1970، بادر البريطانيون بـ 34 تدخلًا عسكريًا أجنبيًا. وفي وقت لاحق، كانت هناك تدخلات عسكرية في جزر فوكلاند والعراق (أربع مرات) والبوسنة وكوسوفو وسيراليون وأفغانستان وليبيا، وبالطبع عملية بانر، التي تم فيها نشر الجيش البريطاني لمدة 38 عامًا في أيرلندا الشمالية.
وعلى مدار الـ 100 عام الماضية لم يمر عام واحد إلا وانخرطت القوات المسلحة البريطانية في عمليات عسكرية في مكان ما بالعالم، وهذا ما يميز البريطانيين عن غيرهم؛ إذ لا يمكن قول الشيء نفسه عن الأمريكيين أو الروس أو الفرنسيين أو أية دولة أخرى، فقط بريطانيا من تخوض الحروب بصفة دائمة.
هناك سببان وراء ندرة الاعتراف بهذا الأمر، الأول أنه في السنوات التي تلت الحرب العالمية الثانية وقبل فترة الشك بالنفس على مستوى الدولة، والتي أثارتها أزمة السويس عام 1956، خاضت بريطانيا العديد من المعارك الصغيرة في مرحلة أفول الإمبراطورية، حتى اعتاد الرأي العام البريطاني على النشاط العسكري، وكان يعتبره قاعدة لا تستحق الذكر. السبب الثاني هو أنه منذ عام 1945، خاضت القوات البريطانية سلسلة من الحروب الصغيرة التي لم تحظ بتغطية إعلامية كبيرة وأصبحت الآن طي النسيان، أو في حروب طغت عليها أحداث أكثر دراماتيكية في أماكن أخرى أثناء خوضها.
هناك الكثير من المعلومات المتاحة عن بعض الصراعات، مثل حرب فوكلاند عام 1982 وغزو العراق عام 2003، وأصبح دور بريطانيا في الحربين العالميتين، بطرق عدة، عنصرًا أساسيًا في الرواية الوطنية. لكن لا يُتذكر سوى القليل عن صراعات أخرى، أو أنها ظلت دائمًا مخفية وبعناية.
إحدى الحروب الاستراتيجية النشطة التي خاضتها بريطانيا لأكثر من عقد من الزمان، دارت معظمها في سرية تامة. في يناير 1972، فتح قراء صحيفة الأوبزرفر/ Observer صفحات الجريدة ليطالعوا تقريرًا بعنوان “هل تخوض بريطانيا حربًا سرية في الخليج؟” وفي نفس اليوم، نشرت صحيفة صنداي تايمز مقالًا شبيهًا بعنوان “هل حرب ظفار هي حرب بريطانيا السرية؟”، وكشفت الصحيفتان النقاب عن تورط القوات البريطانية في الحرب التي يخوضها سلطان عمان ضد المتمردين في جبال ظفار جنوب البلاد.
بعد أحداث تمرد الخمسينيات، أُعيد تنظيم القوات المسلحة لسلطنة عمان، وهنا قدمت بريطانيا المشورة والتدريب والمعدات والتمويل، وتم تجنيد عدد أكثر من العمانيين في صفوف الجيش، لكن جميع الضباط كانوا بريطانيين.
قبل أربع سنوات من كتابة هذين التقريرين، أجبرت أزمة انخفاض قيمة العملة حكومة هارولد ويلسون على التعهد بسحب القوات البريطانية من جميع النقاط الواقعة شرق السويس بحلول ديسمبر 1971 باستثناء قوة صغيرة كان من المقرر بقاؤها في هونغ كونغ. وتساءل تقرير صحيفة الأوبزرفر آنذاك: “هل سحبت بريطانيا حقًا جميع قواتها من الخليج العربي وشبه الجزيرة العربية؟ أم أن الحكومة البريطانية، مثل الأمريكيين في لاوس، تخوض حربًا سرية دون معرفة البرلمان والشعب الكاملة؟”. تمكنت الأوبزرفر من تحديد موقع أحد قادة المتمردين، الذي أخبر مراسلها أن الحرب بدأت “بانفجار” في البلاد يوم 9 يونيو 1965، نتيجة لما وصفه بسوء الإدارة المحلية و”طغيان البريطانيين”، وفي الوقت الذي نشرت فيه صحيفتا الأوبزرفر وصنداي تايمز تقاريرهما الأولى المقتضبة، كانت بريطانيا تخوض حربًا في عمان منذ ست سنوات ونصف.
تقع سلطنة عمان في الزاوية الجنوبية الغربية لشبه الجزيرة العربية، وتحدها الإمارات العربية المتحدة من الشمال، والمملكة العربية السعودية واليمن من الغرب والجنوب الغربي. تطل البلاد أيضًا على مضيق هرمز، وهو الممر المائي الذي يبلغ عرضه 33 ميلًا، ويمر من خلاله النفط من الخليج العربي إلى الأسواق العالمية. في الستينيات، كان أكثر من 60% من النفط الخام في العالم الغربي يأتي من الخليج، وكل 10 دقائق كانت تمر ناقلة نفط عملاقة عبر مضيق هرمز. ومع تدفق النفط، ازدهرت الاقتصادات المحلية وأصبحت أسواق مهمة للبضائع البريطانية المُصدّرة؛ ما يعني أن لندن أصبحت أكثر حرصًا على حماية مصالحها في المنطقة، وأيضًا على حماية الحكام المحليين الذين يدعمونها.
أحكمت بريطانيا، على مدار القرنين التاسع عشر والعشرين، قبضتها على سلاطين عمان المتعاقبين لمنع أي قوة استعمارية أخرى من ترسيخ موطئ قدم لها في المنطقة. وقد حققت ذلك بوسيلة بسيطة: المال؛ ففي منتصف الستينيات، تلقى الحاكم المستبد للبلاد، السلطان سعيد بن تيمور، أكثر من نصف دخله مباشرة من لندن، وبداية من عام 1967، عندما تم استخراج النفط العماني من الأرض لأول مرة، بدأت البلاد في إنتاج معظم دخلها الخاص.
حتى حينئذ، كانت بريطانيا تحكم سيطرتها على السلطان؛ إذ كان وزير دفاعه ورئيس استخباراته ضابطين في الجيش البريطاني، وكان مستشاره الرئيسي دبلوماسيًا بريطانيًا سابقًا، وكان جميع وزراء حكومته -عدا واحدًا- بريطانيين. وكان قائد القوات المسلحة لسلطنة عمان يلتقي يوميًا مع الملحق العسكري البريطاني، وأسبوعيًا مع السفير البريطاني، ولم يكن للسلطان أي علاقة رسمية مع أية حكومة أخرى غير حكومة المملكة المتحدة.
كان الموقف البريطاني الرسمي هو أن سلطنة عمان دولة ذات سيادة تامة ومستقلة، لكن في الحقيقة، كانت مسقط مستعمرة بريطانية بحكم الواقع، وبالتالي، كانت الحكومات البريطانية المتعاقبة مسؤولة عن الظروف السياسية والاجتماعية والاقتصادية المزرية التي عانى منها رعايا السلطان، وكلاهما -السلطان والبريطانيون- كانا سببًا في خلق وإذكاء الثورة الشعبية.
في منتصف الستينيات، كانت عمان بها مستشفى واحد، وكان معدل وفيات الرضع 75%، ومتوسط العمر المتوقع حوالي 55 عامًا. لم يكن هناك سوى ثلاث مدارس ابتدائية -والتي كان السلطان يهدد بإغلاقها دائمًا-، ولم تكن هناك مدارس ثانوية. ونتيجة ذلك كانت أن 5% فقط من السكان يمكنهم القراءة والكتابة، لم تكن هناك هواتف أو أي بنى تحتية أخرى، باستثناء سلسلة من قنوات المياه القديمة، في ذلك الوقت حظر السلطان أي شيء يعتبره منحلًا؛ ما يعني أنه منع العمانيين من امتلاك المذياع وركوب الدراجات ولعب كرة القدم، وارتداء النظارات الشمسية والأحذية أو السراويل، أو حتى استخدام مضخات كهربائية في آبارهم.
كانت أقسى العقوبات تُوّقع، وأكثرها وحشية على من يخالف قوانين السلطان، كانت هناك إعدامات علنية، ويقال إن ظروف السجن في عصره -حيث كان الحراس الباكستانيون يتلقون أوامرهم من السجانين البريطانيين- كانت مروعة؛ إذ كان يُقيد عدد كبير من السجناء معًا في زنازين مظلمة، دون طعام أو رعاية طبية مناسبة.
كان الشعب العماني يحتقر ويخشى كلاً من السلطان والبريطانيين الذين أبقوه في السلطة وتواطؤوا مع سياسته المتمثلة في عدم التنمية، ومن غير المستغرب أن السلطان اضطر في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بالبريطانيين لتوفير القوة العسكرية اللازمة لحمايته من شعبه.
خلال الخمسينيات، كانت هناك انتفاضات عدة في شمال البلاد قمعتها القوات البريطانية. وقد لعبت كل من القوات الخاصة البريطانية والقوات الجوية الملكية البريطانية دورًا حاسمًا في وأد محاولات التمرد هذه، على سبيل المثال؛ بين يوليو وديسمبر 1958، قام سلاح الجو الملكي البريطاني بـ 1635 طلعة جوية، وألقى 1094 طنًا من القنابل، وأطلق 900 صاروخ على المتمردين وقراهم التي تقع على قمم الجبال وأعمال الري، وهذا يزيد عن ضعف كمية القنابل التي ألقتها القوات الجوية الألمانية (اللوفتفافه) على مدينة كوفنتري في نوفمبر 1940.
في عام 1966، اندلع تمرد جديد جنوبي البلاد بين سكان محافظة ظفار، وفي العام الذي تلاه، وبعد نجاته من محاولة اغتيال، تقاعد السلطان وزوجته الظفارية في قصره المطل على شاطئ صلالة، وأصبح ظهوره نادرًا جدًا، لدرجة أن العديد من رعاياه اقتنعوا بأنه مات، وأن البريطانيين يخفون ذلك عنهم.
تم خوض صراعات ما بعد 11 من سبتمبر في أفغانستان والعراق تحت أعين وسائل الإعلام، وأصبحت تطارد السياسيين الذين بدؤوها. ورغم ذلك، استمرت بريطانيا في الاستثمار في الحرب -سياسيًا وفنيًا وماليًا-، وجعلت منها وسيلة لإظهار القوة وتأمين النفوذ بين الحلفاء الرئيسيين.
شكلت العلاقة الوثيقة مع سلطنة عمان مشكلة أيديولوجية بالنسبة لحكومة حزب العمال الجديدة في بريطانيا، انتُخب حزب العمل عام 1964 ببرنامج انتخابي تضمن تعهدًا بشن “حرب جديدة على العوز” في العالم النامي، والقتال من أجل “الحرية والمساواة العرقية” في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وكان الحزب سيتعرض لإحراج شديد لو أصبح معروفًا على نطاق أوسع -محليًا وخارجيًا- أن عمان كانت آخر دولة على وجه الأرض ما زال فيها الرق قانونيًا. كان للسلطان حوالي 500 عبد، وتشير التقديرات أن 150 منهم كن جواري أبقاهن في قصره في صلالة، ويقال إن عددًا من عبيده الذكور قد شُوهوا جسديًا بسبب المعاملة القاسية التي تعرضوا لها.
بعد أحداث تمرد الخمسينيات، أُعيد تنظيم القوات المسلحة لسلطنة عمان، وهنا قدمت بريطانيا المشورة والتدريب والمعدات والتمويل، تم تجنيد عدد أكثر من العمانيين في صفوف الجيش، لكن جميع الضباط كانوا بريطانيين، وكان بعضهم “ضباطًا معارين”، بينما كان هناك ضباط آخرون يُسمون بـ”ضباط العقود” أو المرتزقة، وهم جنود خدموا سابقًا في عمان مع الجيش البريطاني، واختاروا العودة لكسب مكافآت مجزية.
في البداية، كان المتمردون الذين واجهوا البريطانيين في ظفار قوميين عربًا، ومع ذلك، في الغرب من ظفار تقع عدن، والتي اضطرت القوات البريطانية إلى الانسحاب منها نهاية عام 1967، بعد أن واجهت تمردات عنيفة متزايدة، وتم استبدال الحكم البريطاني بدولة ماركسية، جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، التي تلقت مساعدات من كل من الصين وروسيا، وفي بداية عام 1968، تطورت إحدى الثورات القومية الظفارية إلى حركة ثورية مدعومة من الصين، تطمح لاتحاد الدول العربية. بالنسبة للضباط البريطانيين، كان العدو دائمًا يُسمى ببساطة “العَدُوّ” (adoo) باللغة العربية. بحلول نهاية عام 1969، استولى “العَدُوّ” على مدينة ريسوت الساحلية، وبحلول أوائل العام التالي سيطروا على معظم المرتفعات، وأصبحوا على مرمى حجر من القاعدة العسكرية لسلاح الجو الملكي البريطاني الموجودة في صلالة.
بدأت حقول النفط الجديدة الواقعة في الصحراء بين ظفار والعاصمة مسقط، تبدو وكأنها عرضة للهجوم، وسيطر قلقٌ ما على بعض المسؤولين في لندن حول نظرية دومينو مخيفة في الشرق الأوسط؛ حيث تصوروا أن مضيق هرمز سيقع تحت سيطرة الشيوعيين.
كان رد فعل البريطانيين عديم الرحمة، إذ كتب أحد الضباط: “أحرقنا قرى المتمردين، وأطلقنا النار على خرافهم وأبقارهم، أي جثث تقع تحت أيدينا للعدو، كنا نعرضها بشكل مهين في سوق صلالة لتكون درسًا قاسيًا لكل من تسول له نفسه أن يكون مقاتلًا باسم الحرية”. وأوضح ضابط آخر أنه على عكس أيرلندا الشمالية؛ حيث كان الجنود حريصين على تجنب قتل أو إصابة المدنيين، كان يعتقد أنه لا يوجد في ظفار أبرياء؛ فقط “العَدُوّ”، وقال ” لا يوجد مدنيون في هذه المنطقة؛ فكل سكانها عن بكرة أبيهم أعداء، لذا يمكنك المضي قدمًا في القيام بمهمتك، اقصف المنطقة بالهاون، وقم بالرد على إطلاق الرصاص من الأسلحة الصغيرة، دون القلق بشأن إيذاء المدنيين الأبرياء”.
وفي إطار سعيهم الحثيث على قمع تمرد شعبي ضد قسوة وإهمال حاكم مستبد تمسكت به ومولته بريطانيا، قامت القوات التي تقودها بريطانيا بتسميم الآبار وإحراق القرى وتدمير المحاصيل وإطلاق النار على الماشية، وخلال استجواب المتمردين طوروا أساليب تعذيبهم، وابتكروا أساليب تعذيب باستخدام الضوضاء، وتحولت المناطق التي يقطنها المدنيون إلى مناطق إطلاق نار عشوائي؛ فلا عجب إذن أن بريطانيا أرادت خوض هذه الحرب في سرية تامة.
لم يكن هناك حاجة للجوء إلى قوانين الأسرار الرسمية أو نظام الإشعارات D (هو قانون منع النشر في بريطانيا لأسباب تتعلق بالأمن القومي) لإخفاء حرب ظفار، والطريقة الوحشية التي تم خوض الحرب بها، عن العالم الخارجي، في المقابل تم تطبيق أسلوبين بسيطين: لم يُسمح بدخول أي صحفيين إلى عمان، ولم يذكر أحد في الحكومة الحرب؛ على سبيل المثال، عندما نشر ويلسون روايته عن حكومة العمال في الفترة بين عامي 1964-1970، ذكر حرب الولايات المتحدة مع فيتنام حوالي 250 مرة، ولم يذكر الحرب التي تخوضها حكومته في عمان ولو مرة واحدة.
بينما حكومة ويلسون كانت لديها كافة الأسباب لتكون حساسة تجاه ذكر الدعم العسكري الذي تقدمه إلى مستبد يملك عبيدًا، ويمكن وصف حكمه -على أقل تقدير- بأنه حكم من القرون الوسطى، إلا أنه كانت هناك أسباب إضافية لانتهاج السرية التامة؛ إذ كان هذا العصر هو الفترة التي رُفض فيها الاستعمار من قبل العالم النامي والأمم المتحدة، وتنامت قوة القومية العربية لعقود. لذا، كان من الضروري لمصداقية المملكة المتحدة في الشرق الأوسط أن يظل دورها في عمان مخفيًا إلى أقصى حد.
يقترح جون أكهورست، قائد قوات السلطان المسلحة منذ عام 1972، سببًا إضافيًا لعدم رغبة الحكومة البريطانية في لفت الانتباه إلى حربها في ظفار: “ربما كانوا قلقين من أننا سنخسر هذه الحرب”. وبكل تأكيد يعد هذا سببًا مفهومًا، لأنه بحلول صيف عام 1970، كانت حرب بريطانيا السرية تسير من سيء إلى أسوأ، لدرجة تطلبت اتخاذ إجراءات يائسة.
ففي 26 يوليو، أعلنت وزارة الخارجية في لندن أن السلطان سعيد بن تيمور قد عزله ابنه البالغ من العمر 29 عامًا، قابوس بن سعيد، في انقلاب بالقصر، لكن في الحقيقة كان الانقلاب شأنًا بريطانيًا بحت؛ إذ خُطط للانقلاب في لندن من قبل جهاز الاستخبارات الخارجية البريطانية (MI6) وموظفي الخدمة المدنية في وزارتي الدفاع والخارجية، وتم اعتماده بعد الانتخابات التي أتت بإدوارد هيث رئيسًا للوزراء.
قام السلطان الجديد على الفور بإلغاء الرق، وحسّن البنية التحتية للري في البلاد، وبدأ في إنفاق عائدات النفط على قواته المسلحة، ووصلت أعداد من القوات الخاصة البريطانية (SAS)، في البداية كحراس شخصيين للسلطان، ثم بقوة سرب لمحاربة “العَدُوّ”، وفي النهاية، انقلبت نتائج المعركة، وسُمح للصحفيين بدخول البلاد، وبحلول صيف عام 1976 تم الانتصار في الحرب.
كانت حرب ظفار، من الناحية الاستراتيجية، أحد أهم الصراعات في القرن العشرين، لأن المنتصر من المتوقع أن يسيطر على مضيق هرمز وتدفق النفط. لقي الآلاف حتفهم، وفاز البريطانيون واستمرت أنوار الغرب مضاءة. ما تزال هذه الحرب تُدرَس حتى اليوم في كلية القيادة والأركان للخدمات المشتركة في بريطانيا، ولكن لأن بريطانيا نجحت في عملية إخفاء أية معلومات حول هذه الحملة العسكرية الطويلة أثناء خوضها، فقد مُحيت تقريبًا من ذاكرة الأمة. ومثل حروب بريطانيا في إريتريا والهند الصينية وجزر الهند الشرقية الهولندية وبورنيو، لا يتذكرها في بريطانيا سوى الرجال الذين شاركوا في هذه الحروب وعائلاتهم.
لا تزال بعض الجوانب الخاصة بدور بريطانيا في الانقلاب والحرب من بين الأسرار العميقة للدولة البريطانية، على سبيل المثال ستظل مراسلات ويلسون حول عمان، وكذلك مراسلات خليفته هيث تحت غطاء السرية، ولن يعرف عنها المؤرخون والجمهور حتى عام 2021. وفي عام 2005، تم الإفصاح، لفترة وجيزة، عن مذكرة أصدرتها وزارة الخارجية تصف الطريقة التي تولى بها وزير دفاع السلطان السابق، العقيد هيو أولدمان، الدور الرئيسي في التخطيط للانقلاب الذي أطاح بحاكم عمان، لضمان وصول بريطانيا إلى نفط البلاد وقواعدها العسكرية، ثم سُحب المستند على عجل، وقالت وزارة الخارجية إن إصداره كان خطأً مؤسفًا.
بالنظر إلى العقد ونصف العقد الماضيين، لا توجد دلائل على أن الدولة البريطانية على وشك أن تفقد شهيتها للحرب؛ فأول صراع شاركت فيه المملكة المتحدة في القرن الجديد كان الهجوم على نظام طالبان في أفغانستان عقب أحداث 11 من سبتمبر.
حققت هذه الحرب نجاحًا مبكرًا، لكن ما لبثت أن تعثرت وتدهورت بعد أن امتدت مهمة المملكة المتحدة إلى ولاية هلمند جنوب البلاد. طالت الحرب وأودت بحياة ما يقدر بـ 95000 شخص طوال 13 عامًا، بينهم 453 من الجنود البريطانيين، ولم يستفد منها الشعب الأفغاني إلا قليلًا، وربما تكون الحرب الثانية التي خاضتها بريطانيا في القرن الحادي والعشرين -أي غزو العراق عام 2003- أكبر كارثة في السياسة الخارجية البريطانية منذ حرب السويس؛ إذ تتفاوت تقديرات الخسائر البشرية بشكل كبير، فتتراوح بين 150 ألف قتيل وتصل إلى أكثر من مليون، لكن ما لا يمكن الجدال فيه أن 179 من القتلى كانوا بريطانيين، وبعد عقد من الزمان، ما زالت الفوضى تعصف بالعراق.
تم خوض صراعات ما بعد 11 من سبتمبر في أفغانستان والعراق تحت أعين وسائل الإعلام، وأصبحت تطارد السياسيين الذين بدؤوها. ورغم ذلك، استمرت بريطانيا في الاستثمار في الحرب -سياسيًا وفنيًا وماليًا-، وجعلت منها وسيلة لإظهار القوة وتأمين النفوذ بين الحلفاء الرئيسيين، وأيضًا، كما يبدو في بعض الأحيان، في محاولة منها لفرض النظام وتأمين درجة من الألفة على عالم فوضوي وغير متوقع.
لكن هل يمكنها تحقيق ذلك في الخفاء؟ بالتأكيد في عصر وسائل الإعلام العالمية، وقنوات الأخبار التي تبث على مدار 24 ساعة، ووسائل التواصل، وقدرة القوات نفسها على تسجيل ومشاركة صور الصراع بشكل فوري، هل سيكون من المستحيل على أية حكومة بريطانية أن تشن حربًا وتخفي حملاتها العسكرية بنفس الطريقة التي ظلت بها حرب بريطانيا في ظفار مخفية عن الجمهور لمدة ست سنوات ونصف؟ فكّر توني جيبس، الذي قاد أول سرب من القوات الخاصة البريطانية التي تم نشرها سرًا في عمان، في هذا السؤال، وقال إنه على الرغم من أن مثل هذه السرية كانت “وضعًا مثاليًا”، لكن قد يكون من المستحيل تكرارها.
في السنوات التي أعقبت حرب ظفار، توسعت قوات النخبة البريطانية تدريجيًا، ومنذ عام 1996، أصبح على جميع أعضائها التوقيع على اتفاقية سرية. وقد عزز هذا من مبدأ التصرف بالحذر الذي ينتهجه أفراد وحدات النخبة داخل الجيش بشكل طبيعي أثناء أداء مهامهم، ونادرًا ما تم تجاوزه.
كما قدم تطور الأجيال المتعاقبة من الطائرات بدون طيار (الدرونز) للمخططين العسكريين فرصًا أكبر لشن عمليات يمكن أن تظل مجهولة، وتكون معلومة فقط لمن يصدر الأمر بها ويخطط لها وينفذها، وبالطبع من يتعرضون لها في النهاية.
اعتماد المجتمعات الحديثة على الإنترنت، والوتيرة المتزايدة التي تتحقق بها الدول من بعضها بعضًا، وتهاجم الدفاعات الإلكترونية لبعضها بعضًا، أدى ببعض المحللين إلى الحديث عن حرب هجينة، يكتنف الإنكار الكثير منها. والنتيجة أن الخط الفاصل بين الحرب والسلام يزداد ضبابية.
في السنوات التي أعقبت أحداث 11 من سبتمبر، بدأت تظهر دلائل في هوامش بيانات ميزانية وزارة الدفاع، ومن خلال الأدلة الصغيرة المتناثرة التي تم انتشالها من القرى الساحلية في الصومال وجبال اليمن ومدن ليبيا، على أن البريطانيين كانوا يشنون مرة أخرى حربًا في الخفاء. بدا أن ثالوثًا فتاكًا من القوات الخاصة والطائرات بدون طيار والخوادم الوسيطة يتم استخدامها بطريقة تجنب الشعب البريطاني التفاصيل المزعجة لطبيعة الحرب الحديثة، وتُعفي البرلمان من الحاجة إلى مناقشة الحكمة من شنها.
في يوليو 2007، وبعد أقل من أسبوع من تولي توني بلير رئاسة الوزراء، أعلن جوردون براون عن سلسلة من التغييرات الدستورية الشاملة، التي قال إنها ستجعل الحكومة البريطانية “خادمًا أفضل للشعب”. وكان أحد هذه التغييرات -من الواضح أنه رد على حرب العراق التي لا تحظى بأي شعبية على الإطلاق والحملة الكارثية والمكلفة على هلمند- هو إعطاء أعضاء البرلمان القول الفصل في إعلانات الحرب.
بعد ست سنوات، في أغسطس 2013، مارس البرلمان حقه الجديد عندما رفض النواب اقتراحًا حكوميًا، كان من شأنه أن يُجيز التدخل العسكري في الحرب الأهلية الدموية في سوريا. صُدم وزراء حكومة الائتلاف من نتيجة التصويت، ويُقال إنه أول تصويت ضد سياسة رئيس وزراء بريطاني في مجال السياسة الخارجية منذ عام 1782، وجادلوا بأنه لم يمنع نشر القوات البريطانية فحسب؛ بل منع المملكة المتحدة أيضًا من تقديم أي مساعدة عسكرية على الإطلاق.
وقال رئيس الوزراء ديفيد كاميرون لمجلس العموم: “يتضح لي أن البرلمان البريطاني، الذي يعكس آراء الشعب البريطاني، لا يريد رؤية تحركات عسكرية بريطانية، أفهم ذلك وستتصرف الحكومة وفقًا لذلك”. لكن جملة – “التصرف وفقًا لذلك” – لم تكن بالضبط كما تبدو عليه.
في يوليو 2015، قدم وزير الدفاع مايكل فالون لنواب البرلمان تحديثًا عن العمليات العسكرية المتجددة في العراق -الحملة التي أعلن عنها كاميرون وهو يقف أمام علمين بريطانيين كبيرين معلنًا أن البريطانيين “شعب مسالم”- وقال إن سلاح الجو الملكي البريطاني شن 300 غارة جوية في العراق، بمشاركة 900 جندي بريطاني، وبلغت تكلفة العملية 45 مليون جنيه إسترليني في الأشهر الاثني عشر السابقة، وطمأن الحضور قائلًا: “إن موقفنا ما زال يقضي بعودتنا إلى مجلس العموم للحصول على موافقة قبل شن غارات جوية في سوريا”.
وقبل الإدلاء بهذا البيان، قيل إن فالون شعر بالقلق من الحديث الذي يدور في الدوائر السياسية الأمريكية عن أن رفض المملكة المتحدة التحرك في سوريا ليس إلا علامة على التدهور البريطاني. وكان بيانه مضللًا للغاية؛ فلمدة 18 شهرًا على الأقل، كان طيارو سلاح الجو الملكي الذين قيل إنهم “مندمجون” مع قوات الجيشين الأمريكي والكندي، ينفذون غارات جوية ضد أهداف في سوريا، وكان آخرون يقومون بمهام قتالية مع الجيش الفرنسي فوق مالي. قيل إنهم كانوا تحت قيادة هذه القوات الأجنبية، لكنهم بشكل واضح كانوا مساهمة بريطانية في حرب قرر النواب أن تتجنبها البلاد.
بعد أسبوعين، كُشفت الحقيقة، وعاد فالون إلى مجلس العموم ليشرح أسبابه لنواب غاضبين. وصرّح أن أمر الجنود “المُندمجين” معروف وليس بجديد؛ فهم يمتثلون للقانون البريطاني، لكن “يجب عليهم الامتثال لقواعد الاشتباك للدولة المضيفة”. ولم يعلن عما كان يحدث، لأن هؤلاء الطيارين كانوا يساعدون دولاً أخرى في العمليات العسكرية. علاوة على ذلك، أوضح أن عدم الإعلان عما كان يحدث يجب اعتباره “إجراءً متبعًا”.
في ديسمبر 2015، صوّت النواب أخيرًا على المضي قدمًا في العمليات العسكرية المعلنة ضد قوات تنظيم الدولة الإسلامية، ومُنحت الحكومة موافقة برلمانية على العمليات العسكرية التي كانت جارية سرًا لمدة عامين بالفعل.
وفي الخليج العربي تم الكشف -في الوقت نفسه- عن أن جنودًا بريطانيين كانوا يجلسون في غرف التحكم التي كان سلاح الجو السعودي يستخدمها لتوجيه قاذفاته نحو الأهداف العسكرية باليمن. كان البريطانيون يساعدون نظراءهم السعوديين في إدخال الرموز التي تساعدهم على تحديد ومهاجمة أهدافهم، ولم يكن السعوديون يطيرون بمقاتلات بريطانية، ويُسقطون قنابل بريطانية الصنع فحسب؛ بل كانوا يسقطون أعدادًا كبيرة منها. وعلى مدار ثلاثة أشهر في عام 2015، ارتفعت قيمة صادرات القنابل والصواريخ البريطانية الصنع بنسبة 11000٪، ومن 9 ملايين جنيه إسترليني إلى مليار جنيه إسترليني.
وقد تعرضت حملة القصف تلك لانتقادات شديدة من قبل جماعات حقوق الإنسان، لأنها تسببت في مقتل آلاف المدنيين، أما في البرلمان؛ فلم يكن لدى الحكومة البريطانية الكثير لتقوله حول هذا الأمر، بخلاف الإصرار على أنها “تحترم قواعد القانون الدولي الإنساني”.
مرة أخرى، يبدو أن الحكومة تجر البلاد بهدوء إلى صراع شرق أوسطي دون أي رقابة أو موافقة برلمانية، ويمكن اعتبار الحروب الخفية وغير المصرح بها والمعلن عنها حقيقة في العديد من العمليات العسكرية البريطانية، وليست مجرد احتمال.