في بلد تُكتم فيه الأصوات المخالفة، وتُقيد به حرية الرأي والتعبير، يلقى الكاتب العماني محمد علي بخيت البرعمي عواقب تجاوز المحظور والخطوط الحمراء، باعتقاله في السابع من مارس/آذار، بسبب منشورات على حسابه في فيسبوك، انتقد فيها الحكومة العمانية وبعض الأنظمة الخليجية والعربية، حسبما كشفت مصادر خاصة لمواطن.
عمل البرعمي ميكانيكيًا في وزارة الدفاع، كما عمل في محطات التوليد في صلالة، وظفار للطاقة، إلى أن اتجه للكتابة ومتابعة أعماله الحرة، وكتابه الأشهر رجال من ظفار، يسرد ويؤرخ لحياة وقصص شخصيات ظفارية منذ حقبة الثورة.
وجاءت منشورات البرعمي، التي تسببت في اعتقاله، حاملة نوعًا من النقد الساخر واللاذع أحيانًا للأنظمة الحاكمة في كل من مصر والأردن والإمارات والسعودية، بسبب مواقفهم من حرب غزة الأخيرة. كما أشار إلى تملق حكام الخليج من بعض المواطنين، واعتبره نوعًا من النفاق، كما وجه النقد إلى (وزير الاقتصاد العماني) ووزارة الإسكان في عمان.
قضية البرعمي ليست مجرد قضية كاتبٍ مُعتقل؛ بل هي قضية كل من يسعى للتعبير عن رأيه المخُالف والمختلف في عمان؛ ما يُجسد مدى الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، ومدى قمع الحريات في البلاد. فهل ستظلّ حرية التعبير أسيرة القيود والقوانين المُقيدة؟
لم تُعلن السلطات العُمانية رسميًا عن التُهم الموجهة إلى البرعمي. ويرى المدير التنفيذي لمركز الخليج لحقوق الإنسان “إن واقعة اعتقال البرعمي ليست مجرد حادثة عابرة؛ بل هو نمط ممنهج من الممارسات القمعية التي ينتهجها جهاز الأمن الداخلي، بمعاونة ذراعه التنفيذية القسم الخاص”.
ويضيف: “يُشكل هذا النهج القمعي خنقًا ممنهجًا للحريات العامة، وعلى رأسها حرية التعبير؛ سواء على الإنترنت أو خارجه، ولا تقتصر هذه الممارسات على مصادرة الرأي؛ بل تتخطى ذلك لتشمل التنكيل بأصحاب الرأي الآخر وتخويفهم وترهيبهم بالاعتقال والسجن التعسفيين”.
ويكمل حديثه قائلًا: “العقلية الحاكمة لا تحترم الحقوق المدنية والإنسانية للمواطنين؛ فالقوانين لا تكفي حتى وإن كانت جيدة، إن كانت السلطات تعادي حقوق الإنسان ولا تحترم الرأي الآخر، ولا تحترم مبدأ المشاركة العامة لجميع الأطراف في العملية السياسية، وتمنع نشوء مجتمع مدني مستقل يساهم في بناء مستقبل مشرق للجميع”.
عمان خارج العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية
ولا تلتزم السلطنة بالمادة 19 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية التي تقر بحق كل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى آخرين.
ولم تصدق عمان التي تشير المادة 76 من قانونها الأساسي على أن المعاهدات الدولية تصبح قانونًا وطنيًا عند التصديق عليها وقابلة للتنفيذ محلياً. على العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، على الرغم من إعلان قبول التوصيات بالتصديق عليه خلال الإستعراض الدوري الثالث أمام مجلس حقوق الإنسان، التابع للأمم المتحدة في يناير/كانون الثاني 2021، وأبدت موقفًا متحفظًا تجاه تعديل تشريعاتها لحماية الحريات الأساسية في البلاد، أو الالتزام بما يرد في المواثيق الدولية حول الحقوق السياسية.
مواضيع ذات صلة
يعزو باحث سياسي عماني -فضّل عدم ذكر اسمه- تأخر عمان في الانضمام إلى العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية إلى مجموعة متنوعة من العوامل. ويقول: “تاريخيًا، كانت عُمان حذرة في اعتماد الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، مفضلة إعطاء الأولوية لقوانينها وأنظمتها المحلية، بالإضافة إلى ذلك، في العادة تنضم السلطنة إلى الاتفاقيات التي ترى أنها ضرورية أو تواجه ضغطًا دوليًا للانضمام إليها مع مراعاة تمكنها من الوفاء بالالتزامات الناشئة من الانضمام”.
كما يوضح أن “تاريخ العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية وفصله عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في عهد منفصل، يعود إلى صراع أيديولوجي في ردهات الأمم المتحدة ما بين الشرق والغرب والمعسكر الاشتراكي والمعسكر الرأسمالي، وهناك دول كثيرة ممن لم تنضم بعد”.
ويضيف: “إذا ما قررت عمان الانضمام الى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية؛ فسوف يتطلب ذلك منها تغيير نظامها السياسي، وهذا غير منظور في العهد القريب أو المتوسط ، إلا إذا جاء ضمن توافق أو تفاوض بشأن ضريبة الدخل التي تنوي الحكومة فرضها بداية من عام 2025”.
ويعتبر أن “مجرد قبول الحكومة بتوصية انضمامها إلى العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية، يعد بارقة أمل؛ خاصة إذا ما أخذنا في الاعتبار بعض المؤشرات الملحوظة منذ تولي السلطان هيثم الحكم؛ مثل الانضمام إلى العهد الدولي للحقوق الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، والتقييم الحالي لوضع اللجنة الوطنية لحقوق الإنسان بقصد أن تكون مستوفية فعلًا لمتطلبات مبادئ باريس، والسماح بالوقفات التضامنية الشعبية مع الفلسطينيين مع تصاعد الانتهاكات الإسرائيلية وعدوانها الاحتلالي على غزة والضفة الغربية؛ خاصة تلك التي كانت في جامع السلطان قابوس الأكبر”.
حرية الرأي ممنوعة
مع أن المادة 29 من الدستور العماني تشترط السماح بحرية الرأي والتعبير بالالتزام بـ”حدود القانون”، ذلك المصطلح الذي يقيد أصلًا حرية التعبير، ويضع المعارضين أمام طائلة القانون بحسب ما تراه السلطات مناسبًا، على حد تقدير خبراء ومراقبين. وتنص على أن “حرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون”. فهناك عددًا من القوانين التي تكبل الحريات؛ منها المادة (19) من قانون مكافحة جرائم تقنية المعلومات لسنة 2014، والتي تنص على أنه يعاقب بالسجن مدة لا تقل عن شهر، ولا تزيد على ثلاث سنوات، وبغرامة لا تقل عن ألف ريال عماني ولا تزيد على ثلاثة آلاف ريال عماني أو بإحدى هاتين العقوبتين، كل من استخدم الشبكة المعلوماتية أو وسائل تقنية المعلومات في إنتاج أو نشر أو توزيع أو شراء أو حيازة كل ما من شأنه أو ينطوي على المساس بالقيم الدينية أو النظام العام.
هذا بالإضافة إلى قوانين تنظيم الاتصالات العماني لعام 2002 وقانون مكافحة الجرائم الإلكترونية لعام 2011، والتي يتم استخدامها أيضًا في ملاحقة الأصوات المعارضة داخل البلاد.
"تعزيز الحريات يمكن أن يساهم في بناء مجتمع أكثر شمولًا وتشاركية، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز النسيج الاجتماعي، ووضع عمان بشكل إيجابي على الساحة العالمية من حيث حقوق الإنسان وثلاثية الحكم التي دعت لها السلطنة في تقريرها الوطني الأول للتنمية البشرية".
وقامت السلطات في أغسطس 2022 باعتقال د. أحمد عيسى قطن، إثر تغريدات طالب فيها بإصلاحات اقتصادية وتشريعية وأدوار رقابية على السياسات الحكومية، وهو ما أثاره رجل الأعمال هاني السرحاني في وقت سابق من نفس العام متحدثًا عن تردي الأوضاع الاقتصادية، وبعد يوم واحد فقط من نشر تعبيره عن آرائه بفيديو، فقامت الحكومة مع باعتقاله.
ليس الحديث عن الاقتصاد وحده الممنوع في عمان التي تقيد سلطاتها كل أشكال التعبير عن الرأي تقريبًا، وفي 7 من يونيو/حزيران 2022، واصلت السلطات استخدام المادة 269 من قانون الجزاء العماني لمحاكمة الأشخاص على أفعال تصنفها السلطات بأنها معادية للإسلام أو تسيء إلى القيم الإسلامية.
وأدانت إحدى المحاكم في شمال عمان اثنين من أربعة أشخاص اعتُقلوااستنادًا فقط إلى مناقشاتهم ورسائلهم الخاصة على الإنترنت حول قضايا تتعلق بحرية الفكر، والدين، والإلحاد. وحكمت المحكمة على مريم النعيمي بالسجن ثلاث سنوات، وعلى عليّ الغفري بالسجن خمس سنوات، وأحالت القضية المرفوعة ضد عبدالله حسن إلى المحكمة المختصة للنظر فيها، وبرأت ساحة غيث الشبلي.
ونشرت مواطن تقريرًا مفصلًا حول القضية، وتقريرًا آخر حول توغل السلطة الدينية للمفتي العماني، والذي يعتقد أن له دورًا في ملاحقة مثل هؤلاء الشباب ونصب محاكم التفتيش لهم. ورصدت مواطن في يونيو 2021 حملة اعتقالاتٍ دفعت المؤسسة الدينية حسب مصادر خاصة للقيام بها، والسعي لقمع أي نشاطٍ فكريٍ ناقدٍ أو معارض لتوجهات ورؤى المؤسسة الدينية في عمان.
ولا يمكن أن تمتد القيود لمنع الحديث في الدين أو الشأن العام وغيرهما من قضايا، دون أن تقيد حرية الصحافة والإعلام في البلاد، وعلى الرغم من أن الدستور يكفل حرية التعبير والصحافة، إلا أن قانون العقوبات يقيدهما بشكل كبير. وحلت السلطنة في المرتبة 137 عالميًا من بين 180 دولة في مؤشر حرية الصحافة لعام 2024 الصادر عن منظمة مراسلون بلا حدود، ووصف المؤشر الصحافة المستقلة في عمان بالمستهدفة من قبل السلطات، بسبب تناولها لمواضيع حساسة، كالفساد مثلًا.
كما وصف أيضًا الصحافة العمانية بالمبالغة في إضفاء الطابع الإيجابي على الأحداث خلال تغطيتها الإخبارية، في محاولة لنقل صورة جيدة عن البلاد؛ حيث يقتصر الصحفيون على المعلومات الواردة من المؤسسات الحكومية والخاصة، علمًا بأن أي شكل من أشكال الانتقاد يُقابَل بالرفض.
ويرى الباحث السياسي العماني، “أن الوضع فيما يتعلق بحرية الرأي والتعبير في بلاده موضع قلق، وذلك لأسباب كثيرة منها عدم وضوح القوانين، أو وجود سلطات تقديرية واسعة للجهات ذات الصلة التي تتعامل مع حالات مثل الكاتب محمد علي البرعمي، وغيرهم في كر وفر. ولربما يعود ذلك ايضا الى عدم وجود دراية كافية لدى المعنيين في الدولة بحدود التعبير المسؤول أو سياسة واضحة بخصوص حرية التعبير والرأي أو عدم وجود بنية أساسية ثقافية ومؤسسية ترى فائدة في حرية التعبير والرأي وتوظيفه للمصلحة الوطنية. ما أرى أن هناك خوفا دائما. يحسبون كل صيحة عليهم”.
ويكمل: “من الضروري أن تحقق عمان توازنًا بين ضمان الأمن القومي وحماية الحريات الفردية، بما في ذلك الحق في التعبير عن الآراء دون خوف من الانتقام. وينبغي بذل الجهود لدعم حرية التعبير والسماح بتنوع وجهات النظر في المجال العام”.
ويختم بأن: “تعزيز الحريات يمكن أن يساهم في بناء مجتمع أكثر شمولًا وتشاركية، ما يؤدي في نهاية المطاف إلى تعزيز النسيج الاجتماعي، ووضع عمان بشكل إيجابي على الساحة العالمية من حيث حقوق الإنسان وثلاثية الحكم التي دعت لها السلطنة في تقريرها الوطني الأول للتنمية البشرية”.
قضية البرعمي ليست مجرد قضية كاتبٍ مُعتقل؛ بل هي قضية كل من يسعى للتعبير عن رأيه المخُالف والمختلف في عمان؛ ما يُجسد مدى الانتهاكات الصارخة لحقوق الإنسان، ومدى قمع الحريات في البلاد. فهل ستظلّ حرية التعبير أسيرة القيود والقوانين المُقيدة؟