هل أثرت حرب غزة على حركة التجارة بين إسرائيل والدول العربية والإسلامية؟
يعيش الشرق الأوسط ديناميكيات سياسية معقدة، تتسم أحيانًا بتناقضات صارخة؛ بينما تتخذ بعض الدول العربية مواقف رسمية معارضة لإسرائيل، تُظهر تطورات حديثة تعاونًا متناميًا بين الجانبين على مختلف الأصعدة. تكشف هذه القصة الصحافية النقاب عن خيوط هذا التعاون الخفي.
إذ كشفت تقارير إسرائيلية عن تعاون استخباراتي بين دول خليجية ودولة الاحتلال الإسرائيلي، شمل تقديم معلومات حساسة عن إيران في أعقاب الهجوم الإيراني الأخير، ولم تقتصر المساعدة على تبادل المعلومات الاستخباراتية؛ بل امتدت لتشمل تقديم دعم مادي ولوجستي لإسرائيل من قبل دول عربية وإسلامية. وتضمنت هذه المساعدات توفير سلع وخدمات حيوية، فضلاً عن وسائل أخرى من وسائل الدعم، حتى خلال العدوان الإسرائيلي الأخير على قطاع غزة.
الإمارات وإسرائيل
وعلى الرغم من محاولات تكتم بعض الدول أو إنكارها لاستمرار دعمها لإسرائيل، إلا أن هناك مواقف وتصريحات ساهمت في فضح تفاصيل هذا الدعم والكشف عن التعاون الخفي بينها وبين كيان الاحتلال، وهو ما أكدته تصريحات رسمية لوزير الاقتصاد الإسرائيلي نير بركات، الذي كان أول مسؤول إسرائيلي يزور الإمارات بعد أحداث السابع من أكتوبر، وذلك لحضور المؤتمر الوزاري لمنظمة التجارة العالمية في العاصمة الإماراتية أبو ظبي. وقال الوزير الإسرائيلي: “إنّ العلاقات التجارية بين إسرائيل والدول العربية لم تتأثّر بالحرب في قطاع غزة، وإن الأمور مستقرة للغاية”.
لاشك أن ما تضمنه هذا التقرير من تفاصيل وأرقام عن حجم وطبيعة الدعم، الذي تقدمه دول عربية وإسلامية لإسرائيل على الرغم من حربها غزة، يستلزم وقفة لإعادة التفكير، والنظر إلى الأمر في إطار من العدالة والإنسانية.
كما كشفت تقارير عن وجود جسر بري بين تل أبيب وأبو ظبي يمتد بالسلع وكافة وسائل الدعم التي يحتاجها الشعب الإسرائيلي، ويعوض من خلالها النقص الحادث نتيجة الحرب.
وشهدت الصادرات الإسرائيلية إلى الإمارات وغيرها من الدول التي وقعت معها اتفاقيات تطبيع مؤخرًا كالبحرين والمغرب، لترتفع بنسبة تجاوزت 41% خلال عام 2023 بحسب تغريدات للسفير الإسرائيلي في الإمارات، كما يوجد تعاون عسكري كبير بين إسرائيل وهذه الدول، وبلغت صادرات تل أبيب العسكرية لهم ما يقرب من 3 مليارات دولار خلال عام 2022، متضمنة أنظمة طائرات مسيرة وصواريخ وأنظمة دفاع جوي، وفق تصريحات لمسؤولين إسرائيليين.
وتعد الإمارات من الدول العربية التي حرصت على الحفاظ على علاقتها بإسرائيل ودعمها خلال حربها الحالية على غزة، وهو ما أكدته صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية.
وخلال كلمة بالقمة العالمية للحكومات، وهي تجمع سنوي لقادة دول ورجال أعمال في دبي، أشادت المندوبة الإماراتية الدائمة لدى الأمم المتحدة، لانا نسيبة، بـالتعاون بين الإمارات وإسرائيل، وذلك على الرغم من جرائم الأخيرة خلال حربها على الفلسطينيين في غزة. وتكشف الأرقام أن الإمارات أكبر شريك تجاري عربي مع إسرائيل حتى اللحظة، وذلك بحجم تجارة بلغ نحو 2.6 مليار دولار، منها 1.9 مليار دولار صادرات.
وكشفت صحيفة معاريف الإسرائيلية عن توقيع اتفاق بين الإمارات وإسرائيل لإنشاء جسر بري بين البلدين؛ حيث وقعت شركة “تراكنت” الإسرائيلية الاتفاقية مع شركة “بيورترانز” الإماراتية للخدمات اللوجستية، ليبدأ تسيير الشاحنات المحملة بالبضائع من ميناء دبي مرورًا بالأراضي السعودية ثم الأردنية، وصولاً إلى ميناء حيفا في إسرائيل، وذلك التفافًا على حصار الحوثيين في منطقة البحر الأحمر بحسب ما كشفت صحف أجنبية وعبرية.
الأردن ليست بعيدة
شهدت العلاقات الأردنية الإيرانية توترًا ملحوظًا في أعقاب تصريحات أدلى بها وزير الخارجية الإيراني، شكك فيها بمواقف الأردن من القضية الفلسطينية، واتهم المملكة بالتصدي للصواريخ الإيرانية الموجهة نحو إسرائيل، ردًا على هجوم إسرائيلي على القنصلية الإيرانية في سوريا.
اعتبرت الأردن هذه التصريحات مسيئة، وقامت على إثرها باستدعاء سفير إيران في عمان وتوجيه مذكرة احتجاج رسمية، طالبت فيها الحكومة الإيرانية بتقديم اعتذار رسمي والتنصل من تلك التصريحات.
وأعلنت مصادر أمنية أردنية أن سلاح الجو اعترض عشرات الطائرات المسيرة الإيرانية وهي في طريقها لإسرائيل، كما أكد على ترقب نشاط المسيرات القادمة أيضًا من سوريا أو العراق لضرب إسرائيل، وهو ما أكده رئيس الوزراء الأردني بشر الخصاونة، بأن قوات بلاده تصدت لأجسام طائرة دخلت الأجواء الأردنية.
على الرغم من التصريحات الرسمية الأردنية التي بررت التصدي للمسيرات الإيرانية المتجهة لضرب إسرائيل بأنها حماية لأمن المواطنين على أراضيها، إلا أن حالة من الغضب والاستنكار سادت بين الأردنيين الذين اعتبروا تصدي بلادهم للمسيرات الموجهة لإسرائيل فيه دعم للأخيرة التي ترتكب المجازر اليومية بحق الفلسطينيين.
ونشر مغردون أردنيون تغريدات على مواقع التواصل الاجتماعي، تعكس هذا الغضب والاستنكار الشعبي، متسائلين عن سبب مشاركة الأردن في التصدي للصواريخ الإيرانية. وبلغ الغضب الشعبي من الموقف الأردني حد المطالبة بإلغاء اتفاقية السلام مع إسرائيل، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الأردني.
لم تكن واقعة التصدي للمسيرات الإيرانية هي الأولى من نوعها في مسيرة الدعم الأردني لإسرائيل منذ أحداث طوفان الأقصى، وتجمع البلدين علاقات تجارية كبيرة في إطار اتفاقية السلام بينهما؛ ما يجعل الأردن في المرتبة الثانية بعد الإمارات في الشراكة التجارية بقيمة تبلغ 536 مليون دولار، منها 469 صادرات هامة لإسرائيل، تشمل مواد غذائية وخضروات للشعب الإسرائيلي خلال فترة الحرب على غزة، وهو ما أثار غضبًا شعبيًا أردنيًا كبيرًا، وثار جدل سياسي واسع عرف بــ”أزمة الطماطم الأردنية“.
وعن هذا يقول لمواطن، الباحث الفلسطيني، والخبير في الشؤون الإسرائيلية، إسماعيل مسلماني: “رأيت بعيني كراتين البندورة -الطماطم- التي تحمل اسم المملكة الأردنية منتشرة في الأسواق التجارية الإسرائيلية”. وهو أمر لا يمكن فصله عن إجمالي الاتفاقيات المبرمة بين البلدين، خاصة ما يتعلق بشراء الأردن للمياه الإسرائيلية، وتجديد طلبه بتمديد الاتفاقية الخاصة بذلك لمدة عام، واشتراط السلطات الإسرائيلية، “تخفيف المسؤولين الأردنيين من انتقاداتهم الصريحة لإسرائيل، وإعادة العلاقات الدبلوماسية بين الجانبين”، وذلك بحسب ما ذكرته صحيفتا “جيروزاليم بوست” و”تايمز أوف إسرائيل“.
من واقع معايشته للداخل الإسرائيلي ومتابعته للأحداث يؤكد الباحث الفلسطيني، أن التعاون مستمر بين الأردن والإمارات كأكبر دولتين عربيتين مستمرتين في دعم إسرائيل تجاريًا ولوجستيًا أثناء حربها على غزة، ويقول: “الإمارات ترسل شاحناتها للإسرائيليين، على طريق يمتد بطول 2000 كم عبر السعودية والأردن، بعد توقف الشاحنات على طريق البحر الأحمر بسبب اليمنيين، وتتضمن منتجات زراعية وأطعمة، كما يشاركها الأردن بإرسال الخضروات وبعض السلع الأخرى، التي تعرضت للنقص بسبب عدم وجود عمال بالضفة الغربية للقيام بأعمال الزراعة”.
ويشير مسلماني، إلى وجود غضب شعبي كبير في الأردن جراء هذا الدعم؛ ما دفع القيادة إلى القيام بإنزال مساعدات يومية على الفلسطينيين للتغطية على ما يجري على أراضيها ويتناقض مع المنطق، في ظل الإبادة والتجويع اللذيْن تمارسهما إسرائيل ضد سكان قطاع غزة، وهو ما يصفه بأنه طعنة للقضية الفلسطينية.
كازاخستان وأذربيجان في الصورة:
تعد كل من كازاخستان وأذربيجان العضوتان في منظمة التعاون الإسلامي على رأس الدول المقدمة للدعم الكبير لإسرائيل، وعن هذا يقول المحلل السياسي الروسي ديمتري بريجع: “هناك تعاون كبير بين هاتين الدولتين القابعتين في منطقة آسيا الوسطى وبين الدولة العبرية بالشرق الأوسط، ويجمعهم اتفاق تجاري ضخم، ولإسرائيل استثمارات واسعة داخلهما ولم يتوقف أو يتأثر التبادل التجاري بما يجري في فلسطين”.
ويشير إلى وجود لوبي يهودي نشط وقوي داخل أذربيجان يجعلها تدعم ملفات إسرائيل في سياستها الخارجية، بما في ذلك ما يتعلق بحربها على قطاع غزة، كما تدعم قنواتها الإعلامية من خلال التقارير والأخبار والمقابلات عن الموقف الإسرائيلي.
ويكشف بريجع، أن إسرائيل استفادت كثيرًا من ضعف الأنظمة داخل دول الاتحاد السوفييتي السابق، بما فيها الدولتان المذكورتان، واخترقوها بكل قوة حتى أصبح لها تأثير على الشركات وقطاع الأعمال العام والخاص، كما أن عائلة الرئيس الأذربيجاني إلهام علييف تحتفظ بعلاقات وطيدة مع إسرائيل.
تشير الأرقام إلى أن إسرائيل تحصل على 60% من إجمالي احتياجاتها النفطية من أذربيجان وكازاخستان، وأن أذربيجان تُمثِّل شريكًا شديد الأهمية بالنسبة إلى إسرائيل؛ حيث تمدها بنحو 40% من النفط. ويعقب إسماعيل مسلماني: “إن أذربيجان واحدة من أهم الدول المتقدمة التي تتعاون في مجال التسليح مع إسرائيل، ومعها كازاخستان واللتان تعتبران من أهم مصادرها للحصول على النفط والوقود والمواد الخام”.
هل من الممكن أن يوجد حل عادل للقضية الفلسطينية في ظل هذه الأجواء والعلاقات الداعمة لكيان الاحتلال؟
وفيما يتعلق بالتعاون العسكري بين إسرائيل والعرب، أشار إلى أن مثل هذه الأمور لا تكون علنية كغيرها من المجالات لحساسيتها، منها على سبيل المثال تلك المصانع الموجودة في جنوب السودان وتنتج السلاح لإسرائيل، وهي قضية كارثية تم الإشارة إليها دون توضيح، وأثارت في حينها استياء كافة القوى والنخب والمثقفين. وأضاف أن العرب لا ينتجون سلاحًا ليصدروه، ولكنهم هم من يستوردونه من إسرائيل، كما تستخدم الأخيرة أراضي كل من الأردن والإمارات لتمرير تجارتها من السلاح استيرادًا وتصديرًا.
باكستان أيضًا من الدول الإسلامية الكبرى، التي لا تكف عن التصريح رفضها للاحتلال الإسرائيلي لفلسطين، ومع ذلك رصدت مواقع متخصصة قيامها بتزويد إسرائيل بقذائف مدفعية عيار 155 ملم.
حسابات السياسة مختلفة
إلى ذلك تأتي تركيا ضمن الدول الإسلامية التي تقدم دعما كبيرًا لإسرائيل رغم كل ما يتردد من تصريحات رسمية نافية لذلك، وهو ما فضحته الانتقادات التي تصاعدت حدتها في الشارع التركي ضد الحكومة للمطالبة بوقف تقديم السلع إلى إسرائيل تضامنًا مع أبناء غزة.
وتجمع مجموعة من المواطنين الأتراك خلال مارس من العام الحالي في مظاهرة أمام مقر زورلو القابضة، وهي إحدى أبرز الشركات الاستثمارية في تركيا العاملة في مجال الطاقة ذات الحضور القوي بإسرائيل، والمقدرة استثماراتها هناك بما يزيد على مليار دولار، وذلك للمطالبة بإغلاقها.
وتعتبر تركيا الشريك التجاري الأكبر لإسرائيل، وما زالت تقدم السلع المهمة للشعب الإسرائيلي؛ ما دفع زعيم حزب المستقبل، أحمد داود أوغلو لتوجيه النقد لإدارة أردوغان، قائلاً: “إنه من العار أن ترسل تركيا الطعام الذي يتغذى عليه الجنود الإسرائيليون، والوقود الذي تستخدمه الطائرات الإسرائيلية، والإسمنت والحديد المستخدم في بناء المستوطنات الإسرائيلية”. كما وجه تساؤلاً استنكاريًا للرئيس التركي حول سبب إرسال النفط والحديد إلى إسرائيل.
وحاول الموقف الرسمي التركي أن يتعاطى مع حالة الغضب تلك من خلال بعض التصريحات حول حظر تصدير عدد من السلع لإسرائيل، والزعم بأن جميع البضائع المتجهة إلى المنطقة الفلسطينية يجب أن تمر عبر الجمارك والموانئ الإسرائيلية تحت اسم إسرائيل.
وعن هذا صرح لمواطن، في تقرير منشور بعنوان “أردوغان.. الخليفة المناصر لغزة، أم البراجماتي الذي يتعاون مع إسرائيل؟”، الباحث السياسي اللبناني المتخصص في الشأن التركي محمود علوش: “إن المصالح المشتركة هي المحرك الأساسي في العلاقة بصرف النظر عن الخطاب السياسي الذي يتخذه أردوغان حسب الحاجة وفق منهجه البراجماتي”. ويرى مراقبون متخصصون في الشأن التركي أن حسابات السياسة الداخلية المتخمة بالشعارات تختلف عن حساب الأنظمة، من بينهم د.محمد نور الدين خبير الشؤون التركية، الذي يرى أن التعاون التجاري بين البلدين مستمر مهما كان هناك حديث عن معاقبة إسرائيل.
لاشك أن ما تضمنه هذا التقرير من تفاصيل وأرقام عن حجم وطبيعة الدعم، الذي تقدمه دول عربية وإسلامية لإسرائيل على الرغم من حربها غزة، يستلزم وقفة لإعادة التفكير، والنظر إلى الأمر في إطار من العدالة والإنسانية، وإذا كان هذا التعاون شرًا لابد منه؛ فمن المفترض أن يتم توظيفه إيجابيًا لنصرة الفلسطيني وليس لدعم المحتل، والعمل على استغلال هذا الوضع واستخدامه كورقة ضغط على إسرائيل.
بطبيعة الحال هناك تعاون وعلاقات اقتصادية وعسكرية قوية بين إسرائيل والعديد من دول العالم، لكن تم التركيز على التعاون مع دول المنطقة العربية والمنتمية للعالم الإسلامي، بحكم العلاقة المباشرة بقضية فلسطين، ويبقى السؤال خاصة مع تداول أخبار عن مشروعات محتملة تم الكشف عنها مؤخرًا لسعي إندونيسيا للتطبيع مع إسرائيل، بالتزامن مع تصريحات وزير الخارجية السعودي حول اقتراب الوصول إلى اتفاق أمني مع أمريكا، وهو ما يشي بوجود صفقة تتعلق بعلاقة المملكة بإسرائيل بشكل أو بآخر. فهل من الممكن أن يوجد حل عادل للقضية الفلسطينية في ظل هذه الأجواء والعلاقات الداعمة لكيان الاحتلال؟