أيادٍ في “الظلام”: انتهاكات جنسية ضد طلبة مكفوفين في الأردن
سمع خالد رنة هاتفه الجوّال، فسارع بالرد؛ كان معلمه فؤاد يطلب لقاءه لمساعدته في بعض المهام داخل المدرسة. التقى الفتى الكفيف خالد معلمه في اليوم التالي، الذي لم يكن يوماً دراسياً عادياً؛ فحياة خالد تغيرت إلى الأبد، بعد تعرضه لاعتداء جنسي على يد المعلم، الذي انفرد به في إحدى غرف المدرسة.
خالد أسعد (اسم مستعار) طالب كفيف، يدرس في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم للمكفوفين. يوضح خالد أن معلمه فؤاد، وهو كفيف أيضاً، كان يعامله بداية الأمر باحترام ويتواصل معه، من دون أن يصدر منه شيء لافت.
يقول خالد إن المعلم قدم له هدية قبل وقوع الحادثة: “جاب لي مرة سماعة صغيرة… كنت أيامها صغير ومو فاهم شي”. ما زال خالد يتذكر الحادث وتفاصيله جيداً.
لم يتلقَ الفتى أيّ علاج تأهيلي أو دعم نفسي؛ فالخوف دفعه إلى عدم إبلاغ والديه بما تعرض له، يقول: “كنت خايف يقولوا لي أنت السبب”. ولم يكن خالد الضحية الوحيدة لفؤاد؛ إذ يؤكد الفتى أن هناك ضحية أخرى من زملائه الذكور: “كان بده يعمل نفس الشي مع أشخاص تانيين لكن ما زبطت”.
استدرج المعلم الطالب البالغ من العمر أربعة عشر عاماً؛ "مبيتاً نيته على الاعتداء الجنسي عليه بحجة تدريبه على الطبلة، مستغلاً وظيفته وسلطته التي استمدها من عمله لدى مدرسة المكفوفين، وكذلك كون المجني عليه أحد طلابه وفاقداً للبصر مثله
في مقهى صغير تابع لمؤسسة مختصة بالمكفوفين، قابلنا سامر صديق خالد، (اسم مستعار)، وهو طالب كفيف درس سابقاً في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم، وما تزال تربطه علاقات وثيقة بزملائه داخل المدرسة. يوضح سامر أن المعلم فؤاد، الذي درّسه، كان يبدو كصاحب شخصية محببة، ويحاول التقرب من الطلبة ومصادقتهم، ومع ذلك فقد كان يُلقي أحياناً على مسامعهم عبارات ذات إيحاءات جنسية.
ويضيف سامر إن هذا الأستاذ كان يبدي اهتماماً بالطلبة الأكبر سنّاً. ويستذكر حواراً دار بينهما، حين سأله يوماً: “لماذا لا تُدرّس الطلبة الأصغر سنّاً؟”. أجاب المعلم: “هذه الفئة ما بتهمني”.
ضمن عدد من المقابلات لمعرفة ما يحدث خلف أسوار المدرسة، التقينا سمر (اسم مستعار)، التي عملت سابقاً كمعلمة في مدرسة للمكفوفين، وهي ناشطة في مجال تعليمهم.
أوضحت سمر أن الطلبة المكفوفين يتعرضون لمختلف أشكال الإهمال، وقبل ذلك كله، فهم لا يحظون بتقبل المجتمع؛ ما يجعلهم يجدون في المدارس المخصصة للمكفوفين ملاذاً، إنما ليس آمناً بالضرورة.
وتستذكر بأن طالبـاً كفيفاً في مدرسة للمكفوفين بالعاصمة، تعرض لحادثة اعتداء جنسي على يد معلمه، قبل أكثر من عشرين عاماً.
غياب الكاميرات
زرنا مبنى المدرسة وتجولنا في أروقتها؛ بناء ضخم مكون من أربعة طوابق، أقيم على مساحة تسعة دونمات. في المدرسة عدة غرف مساندة، منها غرفة الحياة اليومية، وغرفة التأهيل الحسي، وغرفة المصادر، والمكتبة، وغرفة طباعة كتب برايل وغيرها، بالإضافة إلى الغرف الصفية وطابق مخصص للسكن الداخلي.
لاحظنا غياب الكاميرات داخل إحدى الغرف التعليمية البعيدة عن الغرف الصفية. وقد تبين خلال إجراء التحقيق، بوقوع محاولة اعتداء جنسي على عاملة نظافة في هذا المكان.
رصدْنا وجود كاميرات –لا نعلم أعلم إن كانت تعمل أم لا-، في أماكن محدودة داخل المدرسة، لم تكن غرفة الموسيقى منها، وهي أيضاً شهدت حادثة اعتداء جنسي على طالب من قبل معلم قبل سنوات.
حيث استدرج المعلم الطالب البالغ من العمر أربعة عشر عاماً؛ “مبيتاً نيته على الاعتداء الجنسي عليه بحجة تدريبه على الطبلة، مستغلاً وظيفته وسلطته التي استمدها من عمله لدى مدرسة المكفوفين، وكذلك كون المجني عليه أحد طلابه وفاقداً للبصر مثله”، بحسب ما جاء في قرار المحكمة.
وقام المعلم بمباغتة الطالب بفعله، كون الأخير لا يرى ما يفعله المتهم، بحسب ما أوضحت تفاصيل القضية. وقد أصدرت المحكمة قرارها بوضع الجاني في الأشغال الشاقة المؤبدة؛ عشر سنوات وستة أشهر.
تؤكد أمل سعيد (اسم مستعار) وهي إحدى العاملات في المدرسة، غياب الكاميرات عن العديد من مرافق المدرسة؛ إذ توجد في أماكن محدودة ومنها مكان جهاز بصمة الموظفين، وموقف الحافلات وبعض الممرات.
وقد كشف تقرير نشره المركز الوطني لحقوق الإنسان عام 2019، عن عدم تفعيل كاميرات المراقبة داخل المدرسة لأكثر من شهر، وذلك عقب زيارة رصد أجريت في الشهر ذاته، الذي شهد وقوع حادثة الاعتداء في غرفة الموسيقى.
انتهاكات مستمرة في المدرسة
تقول أمل إن هناك معلماً آخر كان يتعمد الإمساك بالجزء العلوي من أجساد الطالبات خلال بعض الأنشطة المدرسية؛ بحجة أنه يحاول التحقق من هويتهن.
ويقول مدير مديرية برامج الطلبة ذوي الإعاقة، في وزارة التربية والتعليم، الدكتور محمد الرحامنة، إن الوزارة لديها نظام إبلاغ عن التجاوزات والانتهاكات التي تقع بحق الطلبة ذوي الإعاقة في المدارس الحكومية، ويتم الإبلاغ من خلال “قسم الحماية الآمنة في إدارة التعليم – مديرية الإرشاد التربوي”.
ووفقاً للرحامنة، لم تتلقَ الوزارة، عبر هذا النظام الذي وصفه بالآمن، أيّ شكاوى تتعلق بانتهاكات جسدية تعرض لها الطلبة، في مدرسة المكفوفين الحكومية.
من جهته كشف مصدر حقوقي مطلع، غير مخول بالتصريح، عن عدد من حوادث الاعتداءات الجسدية، التي تعرض لها الطلبة في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم للمكفوفين، وهي المدرسة الحكومية الوحيدة للمكفوفين.
ووفق المصدر، فإن معلماً كفيفاً حاول الاعتداء جنسياً على طالب في غرفة الصف أثناء الحصة الدراسية؛ إذ بادر باحتضانه من الخلف، بعد أن أمره بالكتابة على السبورة. كما أكد أن العديد من الطلبة (من الجنسين) تعرضوا للتحرش بمسك أجزاء من أجسادهم، إلا أنهم لم يتمكنوا من تحديد الفاعل لعدم قدرتهم على رؤيته.
خلال هذا التحقيق قمنا بإجراء مقابلات مع أكثر من عشرين شخصاً، من بينهم ناجون؛ بهدف كشف حقيقة ما يتعرض له طلبة مكفوفون في المدرسة.
حالات التحرش الجسدي بالطلبة وصلت إلى المنازل، تحت غطاء "دروس التقوية". إذ تقول والدة سناء، إنها اكتشفت تعرض ابنتها للتحرش في المنزل، على يد معلمها الكفيف، وهو معلم في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم.
لم يكن الأمر سهلاً، بسبب خشية الأهالي والمعلمين، الذين قابلناهم، من عواقب ذلك؛ وبالتحديد من احتمالية إغلاق المدرسة؛ ما يضطرهم إلى اللجوء إلى مدارس عادية لا تتقبل الكفيف -معلماً كان أم طالباً- ولا ترى في دمج المكفوفين مع الآخرين حقاً أساسياً من حقوقهم الإنسانية، بحسب مخاوف أفصح عنها العديد من المكفوفين خلال إجراء التحقيق.
أشار تقرير المركز الحقوقي إلى أن أوضاع الطلاب النفسية في المدرسة غير جيدة؛ لعدم تقبل المجتمع لهم، لافتاً إلى “ضعف الدمج بالتعليم، ومعاناة الطلبة من حالة العزل الاجتماعي الذي يعانونه، والاغتراب في المدارس الحكومية التي كانوا ملتحقين بها، بسبب تهميشهم والسخرية منهم”.
"أخذت بنتي وهربت"
سناء علي (اسم مستعار) هي طالبة درست في الصفوف الأساسية الأولى بمدرسة عبد الله بن أم مكتوم. تحدثت والدة الطالبة سناء عن تجربة ابنتها في المدرسة، شجّعها على الحديث انتقال ابنتها للدراسة في مدرسة أخرى منذ سنوات.
في منزل أسرتها. جلست الفتاة بشجاعة وبدأت تتحدث عن تجربتها، حين تعرضت للتحرش من معلمها، عندما كانت في الصف الثالث. كان المعلم يتلمّس أجزاء مختلفة من جسد الطفلة، على نحو لا يفسر بحاجة تعليمية، بحسب ما أوضحت والدتها.
تقول والدة سناء، إن الخوف على سلامة ابنتها دفعها إلى نقلها من المدرسة المهيأة لتعليم المكفوفين: “أخذت بنتي وهربت… لم أتحمل أن أترك ابنتي في هذه المدرسة”.
الاعتمادية على الآخرين
تعرضت سناء أيضاً لحوادث متعددة، منها حادثة سقوط مع عدد من الطالبات، نتيجة عدم قدرتهن على التنقل بسهولة.
أما أسماء عيسى فتقول إن ولدها الذي يدرس في تلك المدرسة، لم يتلقَ تدريباً على التنقل بمفرده؛ على الرغم من رفض إدارة المدرسة أن يستخدم الطالب عصاة بيضاء داخل مرافقها.
وتؤكد أمل (اسم مستعار) التي تعمل في المدرسة، أن هناك تراجعاً في الاهتمام بالقسم الذي يطور مهارات الطلبة في الاعتماد على أنفسهم، والتنقل بحرية، من دون الحاجة إلى الاستعانة بمعلمين ومعلمات للتنقل.
تقول مرام محمد (اسم مستعار) والتي كانت طالبة في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم حتى وقت قريب، إن الاعتماد على الآخرين في التنقل أمر مألوف داخل أروقة المدرسة، مؤكدة أن العديد من المعلمين المكفوفين غير قادرين على التنقل من دون الاستعانة بآخرين، مع أنهم قضوا سنوات طويلة في هذا المبنى.
"درس خصوصي"... غطاء للتحرش
حالات التحرش الجسدي بالطلبة وصلت إلى المنازل، تحت غطاء “دروس التقوية”. إذ تقول والدة سناء، إنها اكتشفت تعرض ابنتها للتحرش في المنزل، على يد معلمها الكفيف، وهو معلم في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم.
الأمر ذاته تعرض له خالد، الذي قال إن معلمه فؤاد حاول التحرش به، أثناء إعطائه درساً خصوصياً في منزل أسرته، إلا أن محاولته لم تنجح وقتها.
ويؤكد تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان، الذي نُشر حول الأكاديمية عام 2019، عدم كفاية الإجراءات بحق المعلّمين المُشتكى عليهم، ممن يقومون بصورة من صور العنف الجسدي، ومنها لمس الطلاب. كما لفت التقرير إلى أن الأمر ذاته ينطبق على مَن يمارسون العنف اللفظي.
تقول سناء، التي تستذكر أيام دراستها في المدرسة، إنها اضطرت يوماً إلى الاختباء في خزانة داخل غرفة الصف، خشية تعرضها للعقوبة من أحد المعلمين؛ إذ كان يهددهم بالضرب إن لم يقوموا بحل الواجب.
واللافت أن التحرش الجسدي لا يقتصر على الطلبة؛ إذ صرحت أمهات بتعرضهن للتحرش، “بمسك” أجزاء حساسة من أجسادهن، من جانب عدد من المعلمين لدى زيارة المدرسة.
أوضح سامر أنّ الطالب من ضحايا التحرش قد يمتنع عن الإبلاغ عما يتعرض له؛ خوفاً من الوصم، أو من لومه على ما حدث. سامر أكد أيضاً تعرض أحد الطلبة من ضحايا التحرش في المدرسة للوصم والتنمر، من طلبة ومعلمين بسبب ما وقع عليه.
يوضح خبير علم النفس، دكتور علي الغزو، أن المتحرش يلجأ لتحقيق أهدافه إلى أساليب للسيطرة على الضحية، ومنها التلفظ بعبارات نابية، أو جمل تحمل إيحاءات جنسية، ويُعد ذلك “اختباراً قبلياً للضحية”.
وبحسب الغزو، يُشكل صمت الضحية تجاه ذلك إشارة للمتحرش، بالانتقال إلى مرحلة اللمس الجسدي لمناطق كالوجه والشعر والأماكن الحساسة، فيحاول بواسطته استشعار خوف الضحية، ويتمادى في ذلك وصولاً إلى السيطرة الكاملة.
ويقول الخبير النفسي أن المتحرش قد يلجأ إلى تقديم الهدايا لخلق نوع من الألفة بينه وبين الضحية. فيبني الأخير آمالاً بأن يحصل على هدايا أخرى أو هدايا أكثر قيمة في المرات المقبلة. وفي مرات قليلة، قد يستغل المتحرش موهبة أو ميولاً لدى الضحية. وتجاوز تلك المراحل يُشعر المتحرش بالأمان ويتمادى بشكل أكبر.
أُلحقت مدرسة عبد الله بن أم مكتوم بوزارة التربية والتعليم عام 2001، بعد أن كانت تتبع وزارة التنمية الاجتماعية. وتضم المدرسة 278 طالباً وطالبة، يقوم على تدريسهم 151 معلماً ومعلمة.
ويؤكد تقرير المركز الوطني لحقوق الإنسان وجود عدد فائض من الأساتذة على الأعباء الدراسية في المدرسة، ليس لديهم برامج للتدريس، ما يُشكّل “وجود أوقات فراغ لديهم، ويخلق جواً غير تعليمي فيها”. ومع ذلك، يوجد في المدرسة طلبة لا يقرأون ولا يكتبون، وهم في مستوى الصف السادس والتوجيه وفق تقرير المركز.
الخوف من الوصم
تؤكد مرام أنها تعلمت الكثير في مدرسة عبد الله بن أم مكتوم، ومع ذلك فهناك العديد من الطلبة في المدرسة انطوائيّون وغير قادرين على القيام بحاجاتهم اليومية باستقلالية.
خالد، الذي وقع ضحية للمعلم فؤاد، يؤكد أنه لم يسبق لأحد أن قام بتوعيته بشأن حدود علاقته بالآخرين، والأجزاء التي يمكنهم لمسها من جسده. يقول: “بتمنى لما بدهم يوظفوا معلم في المدرسة يكونوا واثقين منه”.
أما سامر فيقول: “ما حدا بوعي الطالب، ما بيقولوا له ما تخلي حدا يشلحك بنطلونك”. مضيفاً أن هناك العديد من المعلمين الجيدين في المدرسة، ومع ذلك على الطالب أن يحافظ دائماً على مسافة آمنة بينه وبين معلمه.
كما أوضح سامر أنّ الطالب من ضحايا التحرش قد يمتنع عن الإبلاغ عما يتعرض له؛ خوفاً من الوصم، أو من لومه على ما حدث. سامر أكد أيضاً تعرض أحد الطلبة من ضحايا التحرش في المدرسة للوصم والتنمر، من طلبة ومعلمين بسبب ما وقع عليه. يقول سامر بمرارة: “الضرر النفسي هنا قد يكون أكبر من الاعتداء ذاته… والمجتمع ما برحم”.
أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من أريج – إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية.