لم تتعلق فلسفة ما بعرق وشعب أكثر مما تعلقت الفلسفة الإنجليزية بشعب معين ومعروف تاريخيًا ب”الأنجلوسكسوني”، والذي يُشار إليه بمجموعات المهاجرين البيض من قبائل الجرمان والفايكنج والكلتيين والسلتيين وغيرهم إلى بريطانيا في القرون الأولى للميلاد، وهي مفارقة تُعطي للأنثروبولوجيا موضعها العلمي التجريبي وأثرها البالغ في تشكيل هوية الشعوب.
فالفلسفة الإنجليزية ليست على غرار الفرنسية، وموضع الفرق أن الفلسفة الإنجليزية تتعلق بقوميات وأعراق أكثر مما تتعلق بميول واتجاهات، بينما الفرنسية وما اصطلح عليه بالعقل الفرانكفوني هو أيديولوجي نوعًا ما، يملك في طياته عُمقًا استعماريًا سياسيًا فرنسيًا، لذا فقد نشب حول الفرانكفونية خلافات وظهرت تيارات معها وضدها في دول تسمى بمنظمة الفرانكفون، بينما هذا لم يحدث في ما يُشار إليه بالعقل الأنجلوسكسوني، الذي يتخذ من بريطانيا مركزًا ثقافيًا وسياسيًا ولغويًا ودينيًا له امتداد عند شعوب أوروبا الشمالية والغربية والولايات المتحدة، التي يتشكل أغلب سكانها من المهاجرين الإنجليز بدءً بالقرن 16 الميلادي، واصطلح عليهم بشعوب الأنجلو أمريكي أو أمريكا الإنجليزية.
في إشارة إلى أن العلاقة بين الفلسفة الإنجليزية والعقل الأنجلوسكسوني هي شرطية وضرورية، تجتمع فيها عوامل البيئة واللغة والدين والتاريخ المشترك، كعلاقة العرب والفرس بعلم الحديث مثلاً، والذي يعد خصيصة ثقافية عربية فارسية لم نشهدها عند شعوب وأعراق أخرى بنفس الشكل.
الطابع العقائدي الأنجلوسكسوني
ولأن هذه الخصيصة العربية الفارسية بعلم الحديث دينية الطابع؛ فيبدو أن ارتباط الأنجلوسكسون ليس مقصورًا فقط على الفلسفة الإنجليزية، ولكن بالكنيسة الرومانية المقدسة القديمة، واعتبارها مجدًا مسيحيًا يُرجى إحياؤه، وفقًا للصحفي والمحاضر بجامعات (هارفارد وستانفورد) (ميشيل نوفاك)، الذي يصف دور الأنجلوسكسون الأصوليين بالصابون الذي يطهر العالم من الذنب والإثم والشر، وأن الغربة التي تعاني منها الحرية والديمقراطية والكاثوليكية الرومانية، هي بمثابة كارثة بالنسبة للغرب، لأن كلًا منهما يحتاج إلى الآخر”.. (شاهد على اليمين: المثقفون المحافظون في عصر ريغان/ لديفيد هوفيلر صـ 233، 267)
وينقل ديفيد هوفيلر في نفس الكتاب العديد من مواقف الأصوليين المسيحيين الذين يتخذون موقفًا حادًا ضد العلمانية، ويرون أن التفوق الأنجلوسكسوني يكفي كبديل عن تلك العلمانية التي خربت أمريكا وفقًا لوجهة نظره مثل الصحفي (وليام بكلي الثاني) الذي يرفض العلمانية، ويدعو في المقابل إلى التمسك بالعقيدة المسيحية لحفظ كيان أمريكا (نفس المصدر صـ 36)، أما الصحفي (جورج ول)؛ فإنه يهاجم (جان جاك روسو) متهمًا إياه بتخريب الثقافة الغربية، وينتقد الرأسمالية لكونها سببًا مباشرًا في تغيير البنية الاجتماعية، وبالتالي؛ إضعاف الدين والأخلاق، ويتمنى يومًا تحل فيه الكنائس الإنجيلية مكان ناطحات السحاب في مركز المدينة (نفس المصدر صـ 60، 79). وكذلك (روبرت نزبت) الأستاذ السابق في جامعة كولومبيا؛ الذي يختصر مبادئ اليمين الأصولي في تركيز اهتمامه بالدين بالدرجة الأولى؛ فالكنيسة تعطي الإنسان الضائع في مغالطات المجتمع المعاصر نوعًا من الأمان والاستمرارية، ولابد من ربط الحرية والسلطة بالأسرة والكنيسة (نفس المصدر 178، 201).
وفي نفس السياق، كتب مجموعة مؤلفين مصنفًا هامًا رصدوا فيه طريقة تفكير الأنجلوسكسون من ذوي المرجعية الأصولية الدينية، وهو كتاب “جنود الله.. اليمين العنصري والديني المتطرف في أمريكا”، تأليف هوارد بوشارت، وجون كرايج، ومايرابارنيز، نيويورك، 2000م؛ حيث قالوا ضمن صفحات هذا الكتاب رصدا لآراء هؤلاء الذين يعتقدون بالتفوق الذاتي على الشعوب الأخرى دينا وقبيلة:
- أولاً: سمو العرق الآري الأبيض (الأنجلوسكسون، الجرمان، الغال، الإسكندنافيون، التيتونيون، وغيرهم) باعتبارهم وحدهم أبناء آدم، ومن ثم؛ فإنهم يعدون العرق الأبيض هو شعب الله المختار، ويعدون أمريكا هي إسرائيل البيضاء، وعلى ذلك فهم يقاومون اختلاط الأعراق الذي تسوغه التعددية الثقافية وعملية الصهر داخل المجتمع الأمريكي، ويمكن رصد نشاط هؤلاء ضد المهاجرين في الولايات المتحدة؛ خصوصًا ضد العرب واللاتين والآسيويين؛ خصوصًا في أنصار الحزب الجمهوري.
- ثانيا: الهوية المسيحية هوية دينية، بمعنى أن أمريكا المسيحية هي إسرائيل الحقيقية وريثة مملكة يهوه إله الكتاب المقدس التي تطبق قوانين يهوه، وفي هذه إشارة إلى الارتباط الديني بين الولايات المتحدة وإسرائيل الذي حكيناه على صفحات مواطن من قبل في دراسة بعنوان “أميركا وإسرائيل.. تحالف ديني أم شراكة وتبعية سياسية؟“
- ثالثا: تقديس الحريات الفردية، وعلى رأسها: الحرية الدينية، وحرية التعبير، وحرية حمل السلاح، وحق الدفاع عن النفس، وحق تقرير المصير، ويرون أن هامش الحريات في مجتمعهم خاضع لآراء الحكومة الفيدرالية، وهذا يفسر الازدواجية الأمريكية الحالية في تناول ملف الحريات؛ حيث يُنكرون على خصومهم السياسيين غياب الحريات خارج القطر الأمريكي، إنما داخل القطر فيوجد قمع لفئات كثيرة لا يُسمح لها بالتعبير عن رأيها ومصالحها، وما يحدث حاليًا لمتظاهري الجامعات الأمريكية ضد إسرائيل من فصل تعسفي واعتقال، ومعاقبة الإعلاميين الناقدين لإسرائيل هو خير دليل.
ومفارقة أخرى يجب ذكرها في هذا السياق؛ هي اهتمام المحافظين المسيحيين بالعودة إلى الأصولية المسيحية بوصفها عقلاً أنجلوسكسونيًا، لا يتوقف ذلك على المذهب الكاثوليكي بصفته الوارث التاريخي للإمبراطورية الرومانية المقدسة، التي هي في ذهن هؤلاء أقرب لصورة الخلافة الراشدة عند أصوليي المسلمين، ولكن يمتد هذا الحنين للإمبراطورية الرومانية إلى الإنجيليين، وهي مفارقة يمكن هضمها في ضوء الاتفاق السني الشيعي الأصولي حول فساد العصر الحديث وضرورة العودة لمجد المسلمين بعد موت الرسول في القرن السابع الميلادي، والذي يتلخص عند السنة في الخلافة الراشدة، بينما عند الشيعة في ولاية الأئمة الاثني عشر.
الفلسفة الإنجليزية ليست على غرار الفرنسية، وموضع الفرق أن الفلسفة الإنجليزية تتعلق بقوميات وأعراق أكثر مما تتعلق بميول واتجاهات، بينما الفرنسية وما اصطلح عليه بالعقل الفرانكفوني هو أيديولوجي نوعًا ما، يملك في طياته عُمقًا استعماريًا سياسيًا فرنسيًا
John Doe Tweet
ولأن العقل الأنجلوسكسوني قومي في جوهره، يجمع بين التأثير اللغوي والعشائري الإنجليزي، نرى تجليات هذا الصراع تظهر في المشكلات الكبيرة بين الولايات المتحدة وأكثرية جزر البحر الكاريبي؛ خصوصًا بين الولايات المتحدة وبين كوبا وبورتوريكو والدومينكان بوصفهم أحفاد اللاتين المهاجرين من إسبانيا، ولا ينتمون للعقل الأنجلوسكسوني الإنجليزي، وأيضًا مشكلة الولايات المتحدة ضد هاييتي التي تتحدث الفرنسية وتتبع الثقافة الفرانكفونية، بينما هذه المشكلة لا توجد مع جامايكا التي تتحدث الإنجليزية.
الفلاسفة الإنجليز وحركة التصحيح
لقد أدى شيوع هذا الوضع في بريطانيا بعصور مبكرة إلى خروج حركة اعتراضية فكرية، هي التي صنعت ما يُسمى “الفلسفة الإنجليزية” التي قدمت الحس والتجارب على الخيال والمثال، وعُرفت بالمادية العملية في أغلب مراحل ظهورها؛ سواء في بريطانيا أو الولايات المتحدة الأمريكية، وقد كان موضع هذا الاعتراض في أن سيطرة الأصوليين البيض أدى لتخلف علمي وعقلي كبير في أوروبا بالقرون الوسطى، وإلى حروب طائفية خطيرة قتلت أكثر من نصف الشعب المسيحي في أوروبا؛ فكان الاعتراض على هذا التخلف علميًا إنسانيًا بالمقام الأول، ولأجل ذلك خرج العديد من الفلاسفة من قلب بريطانيا يقولون بأولوية التجارب والحس على الخيال والمثال كفرانسيس بيكون (1561- 1626م)، وتوماس هوبز (1588- 1679م) و كجون لوك (1632- 1704م) و”ديفيد هيوم” (1711- 1776) وغيرهم.
وتطور حديثًا هذا الفكر العملي التجريبي لعدة فلسفات شرحناها على مواطن؛ منها “الفلسفة التحليلية” و “البرجماتية” التي هي صنيعة الشعب الأنجلوسكسوني بالأساس؛ سواء الذي يسكن حاليًا بريطانيا أو الذي شارك أصول الإنجليز الأولى من الألمان والنمساويين والسلتيين والإسكندنافيين..وغيرهم. وبما أن التاريخ المشترك جزء من صناعة هوية الشعوب؛ فالأنجلوسكسون بمن فيهم الفلاسفة الإنجليز الذين انتقدوا التشدد الأصولي والرجعية العقلية والعلمية في بريطانيا ومحيطها ما زالوا يميلون لمرجعية تشكل هويتهم الأولى في أعقاب الغزو الجرماني لبريطانيا بالقرن 5م والغزو النورماندي أيضًا لبريطانيا في القرن 11م.
ومن علامات هذا الميل النظر لشعوب شمال أوروبا ومحيط بريطانيا كشعب واحد متعدد القبائل، بالضبط كما ينظر العرب لأنفسهم كشعب واحد متعدد القبائل، ومثلما حارب العرب أنفسهم على أساس عشائري، حارب الأنجلوسكسون أنفسهم أيضًا على أساس عشائري مثلما حدث في حروب الاستقلال الاسكتلندية (1296-1357م) وحرب الاستقلال الأيرلندية (1919- 1921م) كمثال؛ فالفلاسفة الأنجلوسكسون نظروا لتلك الحروب كظاهرة سياسية عشائرية أكثر مما هي دينية قومية كبرى تستدعي النقد والثورة والبحث في جذورها وتداعياتها، وهذا مفتاح سر غياب النقد السياسي والأيديولوجي لفلاسفة بريطانيا التجريبيين لهذه الحروب، أو النظر لشعوب اسكتلندا وأيرلندا كأعداء لإنجلترا مثلاً.
إن الهجرات الكبيرة لشعوب الفايكنج والجرمان والنورماندي للجزر البريطانية، مثلت أحد أهم إدراكات الوعي الأنجلوسكسوني، ولا يمكن النظر إليها كغزوات استعمارية أكثر مما هي مكوّن مشروع للثقافة الإنجليزية، وبالتالي نشط الفلاسفة البريطانيون ومن جاورهم في الأنجلوسكسون على تقديم النقد العقلي والعملي أكثر على النقد السياسي؛ فتمتعت بريطانيا إثر ذلك بتاريخ طويل جدًا من القوة والاستقرار عُرفت به الدولة بالإمبراطورية التي لا تغيب عنها الشمس، من احتلال هونج كونج شرقًا إلى الولايات المتحدة وكندا غربًا.
ماذا أضاف الفلاسفة الإنجليز؟
ولشرح الإضافة الفكرية التي أضافها الفلاسفة الإنجليز لتغيير هذا الواقع الأصولي الديني والعشائري للأنجلوسكسون، هو افتراض أن الإنسان يُولَد صفحة بيضاء، بالتالي فالذهن البشري في بداياته هو صفحة بيضاء يأخذ طور تشكله عبر سلسلة طويلة من الخبرات والتجارب من عمليات، كالملاحظة والتحليل والتركيب والتعميم والتجريد، لذا فهم قدموا التجربة على الخيال والمثال؛ باعتبار أن الذهن البشري لم يتعلم ولن يتعلم سوى بالإضافات التي أحدثتها هذه التجارب على الصفحة البيضاء الأولى، حتى لمن يقولون بأسبقية الخيال والمثال؛ فلديهم قول اشتهروا به، وهو أنه “لا شيء في العقل لم يُوجَد قبله في الحسّ”، وأشهر من قال بذلك جون لوك.
ويبدو أن الإنجليز استعاروا هذه العبارة من فلاسفة الإغريق ما قبل الفترة الهلنستية، كالفيلسوف “ديموقريطس” (460- 360 ق.م)، الذي قال بتشكل الطبيعة من ذرات، وهي المقولة التي ألهمت فلاسفة التحليل الإنجليز لاحقًا كالفيلسوف “برتراند راسل” (1872- 1970م)، الذين افترضوا أن التحليل لا يمكن سوى بفرضية تشكل الطبيعة أيضًا من ذرات تعمل وفق مسار منطقي وعلمي بحاجة لاكتشافه؛ فالصفحة البيضاء التي يُولَد بها الإنسان وتتغير بالتجارب، هي تعمل وفق نفس الآلية التي يعمل بها المنطق، وهو التغير من القلة إلى الكثرة والعكس؛ فالصفحة البيضًاء قلة، ثم وبتغيرها إلى الكثرة تكتسب العقل والإدراك، والعكس الذي يمكن أن يحدث بالتغير من الكثرة إلى القلة هو الذي يؤدي لتخلف البشرية بعد تقدمها، أو إلى سقوط الأمم بعد قوتها ونُضجها.
بالتالي فالتجربة وحدها هي التي تكفل بقاء القوة، والاعتماد على الحس والثقة فيه يعني ضمان ألا تتغير هذه القوة إلى ضعف، ومن ثم إلى سقوط، ولعل هذه المنهجية الفكرية التي تميز بها الإنجليز هي التي أدت لصعود دولتهم كقطب عالمي منذ 600 عام ولم يسقط إلى اليوم، برغم ظهور أقطاب دولية سقطت منذ ذلك الحين كالإمبراطورية القيصرية الروسية والعثمانية والصفوية والقاجارية والألمانية والإسبانية والنمساوية المجرية وغيرها.
إن ما أحدثه هيوم والتجريبيون الإنجليز بشكل عام كان صادمًا، لقد ضرب أحد أقوى أدلة المؤمنين؛ وهو العلّية كما بينا، وأضيف أنه عمل على مسار آخر للرد على المؤمنين، وهو إنكار البرهان المنطقي الذي يستند عليه علماء اللاهوت الدفاعي عند المسيحيين، وعلم الكلام عند المسلمين
John Doe Tweet
والمُتابع لحركة التاريخ يرى أن صعود الأمم سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا يرافقه صعود تجريبي علمي بالأساس، وقد حدث ذلك مع الحضارة الإسلامية التي برع فيها العديد من أمثال “جابر بن حيان” (721- 815م) و”الخوارزمي” (781-847م) و”الحسن بن الهيثم” (965- 1040م) وغيرهم. بالضبط كما برع أبقراط وأرشميدس وفيلو البيزنطي وغيرهم عند اليونان؛ فالحركة العقلية تتقدم بمنجزات التجارب، بالضبط كما صدمت تجارب كوبرنيكوس وجاليليو ونيوتن وأينشتاين العقل البشري ودفعته للنظر إلى نفسه ومراجعة ذاته وإدراكاته والشك في معلوماته، والكثير ينسب الفضل بنشوء عصر التنوير والنهضة إلى الإنجاز العلمي التجريبي الذي لاح في الأفق الأوروبي منذ القرن 15م.
وليس معنى قوة ومنطق الفكر التجريبي الإنجليزي أنه لم يظهر له خصوم؛ بل ظهروا وإلى اليوم تعد جميع الفلسفات المثالية خصمًا للفكر التجريبي والمادي، ومن أبرز هذه الفلسفات اليوم هي “الفلسفة القارية” التي أعادت الثقة مرة أخرى في العقل والخيال، واعتمدت عدة وسائل للرد على الفلسفة التحليلية الإنجليزية، شملت علوم اللغة والنفس، واعتبرت أن مصدر العلوم يعود إلى الإنسان؛ فقال بعضهم بأولوية وجوده على هويته، وتأثير مشكلات النفس العميقة في سلوك الإنسان ودفعه للتصرف بشكل غير مفهوم ومضلل، بالتالي فلا يمكن الاعتماد فقط على الحس الذي يُعرضنا في كثير من أحواله للخطأ.
وبعيدًا عن هذا السجال الفلسفي فالبريطانيون أولوا اهتمامًا كبيرًا للرد قديمًا على المثاليين وحديثًا على القاريين؛ فحتى قبل نشوء عصر النهضة والتنوير الأوروبيين وقبل صدمات نيوتن وجاليليو وكوبرنيكوس ظهر فيلسوف إنجليزي؛ هو “روجر باكون” (1214- 1294م) الذي قال بأولوية الحس والتجارب في مرحلة مبكرة في القرن 13 الميلادي، والذي يبدو من سيرته الذاتية أنه كان قسيسًا تعلم أو احتك بالعلماء المسلمين التجريبيين كالحسن بن الهيثم.
وكذلك أولى ديفيد هيوم جهدًا مشهورًا في الرد على المثاليين بطرح أقوى الأدلة على الشك في العقل المنطقي المعروف “بالصوري”، وطعن في أهم أدلته وهو “السببية”؛ فالعالِم التجريبي وفقًا لهيوم لا يرى العلاقة بين الأشياء كعلة ومعلول، ولكن كتوالٍ ومقارنات ومشتركات ينتجون جميعًا عن تفاعلات وحركات تعمل وفقًا لقوانين معلومة أو مجهولة، هي بالنسبة لنا بحاجة لاكتشاف، مثلما نرى أن الحرارة تصدر من الشمس مثلاً وفي ذات الوقت تصدر من احتكاك المواد؛ فالقول بأن الشمس علة الحرارة يتجاهل نتائج التجربة التي أثبتت مصادر أخرى للحرارة غير الشمس، والمذهب التجريبي هنا يضع مشتركات ومقارنات لفهم آليات عمل الكون، ولا يفترض أن للأشياء علة ومعلولاً؛ بل حدوثًا مشروطًا بقوانين يجري اكتشافها بالتجارب.
ومثلما نرى ظواهر كالباريدوليا مثلاً والتي تتشكل فيها أجسام معروفة في السُحُب وعلى الأرض عن طريق الصدفة، ومثلما تتشكل تماثيل في الثلج أو معادن منصهرة مثلاً على هيئة أجسام معروفة عن طريق الصدفة، وذلك بفعل حركة الهواء والذرات؛ فالأصل لديهم أنه مثلما يؤدي النظام إلى نظام وإلى فوضى، تؤدي الفوضى أيضًا إلى نظام، أحيانًا نخطئ في تفسير حدوث ذلك النظام على أن حدوثه كان منطقيًا، لكنه في جوهره كان فوضى وليس نظامًا.
لقد أدى هذا المذهب التجريبي ليس فقط للبعض بالرد عليه، ولكن لانتفاضة عُرفت بالدفاع عن الميتافيزيقا؛ سواء من الفلاسفة المؤمنين ورجال الدين الذين رأوا ما يقوله التجريبيون إلحادًا ونفيًا لوجود الله، كونه لم يُعرَف بالتجربة ولا بالمقارنات، ولكن بالمنطق الصوري والعلّية، أو فلاسفة لا دينيين آخرين رأوا خطأ هذا التجريب في قوله بنفي الميتافيزيقا، وذهب البعض منهم للقول باستحالة إثبات أو نفي الميتافيزيقا عقلاً، وأشهر هؤلاء الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1724- 1804م)؛ فحسب هيوم (لا يوجد الله)، لأنه لا يوجد تجربة توصلنا به؛ فانتقد كانط هذه الجزئية وقال إن حدود التجربة والعقل معًا أضعف من الوصول لحقائق الميتافيزيقا، لأن التجربة بالأساس لا تعطينا حقائق ميتافيزيقية غيبية، علاوة على أن رؤيتنا للتجارب ستكون غير مبرأة من انحيازنا العقلي المحض وميولنا النفسية وأعرافنا الاجتماعية، وبالتالي ففهمنا للتجارب نفسه غير كامل.
التبسيط كمنهج للإنجليز
يأخذنا هذا السياق للإشارة إلى أحد أهم جوانب الفلسفة الإنجليزية وهي “التبسيط”؛ فالتجريبية نزعة تبسيطية بالأساس خرجت لتقاوم تعقيد المثاليين واستغراقهم في تصور وتعريف المفاهيم وفقًا للمنطق الصوري، وقد عَرف الإنجليز هذا التبسيط مبكرًا في فلسفة الراهب الإنجليزي “وليم الأوكامي” (1288- 1348 م)، عبر مبدأ مشهور عرف “بشفرة أوكام” أو “نصل أوكام“، واختصاره في عبارة “أن شرح أي ظاهرة يجب أن يعتمد على أقل عدد من الفروض، وترك أية فروض زائدة لا تساعد في تفسير الظاهرة، ولا يجب الذهاب الى أبعد من الضرورة في تبرير الأحداث، لأن أبسط النظريات هي أقربها الى الصواب”، وهي العبارة التي اعتمد عليها كثير من فلاسفة التحليل لاحقًا كبرتراند راسل، وكان يرددها بشكل دائم وينصح بضرورة التبسيط والوضوح كحد أدنى للعلم.
وظهرت منهجية التبسيط عند فلاسفة الإنجليز بشكل خاص والأنجلوسكسون بشكل عام في نظرية الفيلسوف الإنجليزي النمساوي “كارل بوبر” (1902- 1994م) المعروفة “بقابلية الدحض، وتتلخص هذه النظرية في أنه لا يمكن الحكم على صدقية وجود شيء سوى القول باحتمالية نفي وجوده؛ فلو لم تقدر على نفي وجود الله وفقًا لبوبر فلا يمكنك إثبات وجوده، وهي نظرية تُعتبر عارضًا من عوارض منهجية التبسيط والتخلي عن الفرضيات المُقيّدة للذهن البشري التي يُكثر منها المثاليون، وفقًا لوجهة نظر بوبر، والتي تُدخِلنا هذه الفرضيات مجال البحوث العلمية أحيانًا بعواطف وميول مسبقة تُعطل الذهن عن الوصول للحقيقة الواقعية المادية بشكل كبير، وبالتالي فقد أعادت هذه النظرية الاعتبار للتجريب مرة أخرى بعد الضربات التي تلقاها التجريبيون على أيدي فلاسفة القارية، أو كثير ممن عرفوا بفلاسفة ما بعد بعد الحداثة، والتي ربما نكتب عنها في مواطن مستقبلاً بشكل مفصل.
الفلسفة الإنجليزية لم تول اهتمامها فقط بالميتافيزيقا والعلم والتجريب، ولكن اهتمت أيضًا بالسياسة، وجذور العقد الاجتماعي قبل صياغتها عند روسو
John Doe Tweet
إن ما أحدثه هيوم والتجريبيون الإنجليز بشكل عام كان صادمًا، لقد ضرب أحد أقوى أدلة المؤمنين؛ وهو العلّية كما بينا، وأضيف أنه عمل على مسار آخر للرد على المؤمنين، وهو إنكار البرهان المنطقي الذي يستند عليه علماء اللاهوت الدفاعي عند المسيحيين، وعلم الكلام عند المسلمين، وقد طرحت عبارة شارحة لرأي هيوم في مقالي على الحوار المتمدن بعنوان “كيف نفهم الوحي؟” المنشور بتاريخ سبتمبر 2020 ومما جاء فيه: “أن قضايا الوحي لا تثبت بالبرهان وبالتالي إنكاره لا يكون بالبرهان؛ فهو مسألة غيبية قابلة للتصديق والتكذيب حسب سلطة وشيوع ذلك المقدس، وإن كانت له مداخل عقلية يمكن فهمه بها كأسباب للتدين بشكل عام، وبالتالي فالعلاقة بين الوحي والدين الفردي علاقة وثيقة، وقد ذهب الفيلسوف “ديفيد هيوم” لهذه النتيجة بأن البرهان على وجود الله والنفس والجوهر مثلاً هو عديم الجدوى؛ فهي أمور واقعية عند المؤمنين بها لا يمكن شهادتها، وكذلك لا يمكن تكذيبها بقضية أخرى متناقضة أو يلزمها التناقض كالعقل مثلاً؛ فهو وسيلة قد تقبل الضدين والمختلف معًا في الأمور الفلسفية كالعلّة الأولى وتسلسل العلل اللانهائي”.
ومعنى هذه العبارة أن إنكار هيوم لحُجية البرهان المنطقي يعود بالأساس لإنكاره مبدأ العلية الذي يُنظم عمل ذلك البرهان؛ فهو يرى أن تلك العلية مرهونة بصحة التجربة لا الكلام، لأن الحقيقة عند هيوم تجريبية، بينما الكلام هو مجرد ادعاء مرسل لا دليل عليه، بالتالي فالبحث الديني سوف يكون محكومًا برؤى نسبية وأحكام مسبقة، هي في ذاتها مجرد ادعاءات لا تصلح للعلم، وفي تلك الجزئية يميل هيوم لمنهجية التبسيط كون الدخول في البحث الديني عن برهان سوف يفضي لمناقشة تفاصيل ذلك البرهان، التي هي الأخرى محكومة بفرضيات قد تكون لا علاقة لها بالبرهان أساسًا ولا هدفه بالأخير؛ فلا يحصل من المتحاورين أو المتباحثين سوى التشتيت والعمل في الفراغ دون إثمار أي جهد علمي حقيقي.
ولقد طرحت هذه العبارة وهذا المقال “كيف نفهم الوحي؟” للإشارة بأن ردود هيوم على الوحي والسببية والعلية هو استخدام المؤمنين الخطأ لتلك الأشياء في تقريب وإثبات عقائدهم؛ فكتبت ذلك المقال الفلسفي للتوسط ولشرح جوانب الوحي عند المسلمين من منظور مختلف، ربما يكون لنا معه وقفة بشكل أوسع؛ حيث يعتمد التجريبيون في تناولهم للميتافيزيقيا على شطحات وخرافات بعض أو أغلب المتدينين، بيد أن التجريبية في ذاتها قد تصلح كمنهج علمي، إنما في تعرضها لمسائل الأديان والإيمان نراها قد بالغت وشطحت هي الأخرى، بيد أنها تنطلق في فهم الميتافيزيقا بنفس أدوات فهمهم للمادة في الكون، وهذا وإن كان متاحًا ويصلح كدليل؛ إنما في الأخير يبقى ظنيًا لا يُحدِث يقينًا، على الأقل وفقًا لكتابات كانط التي كان يرد فيها على التجريبيين في هذا السياق.
الفلسفة ضد التعصب
ويبقى القول بأن ما كتبه ونشط فيه الفلاسفة الإنجليز، هو رد فعل طبيعي على شيوع التعصب والجهل في مجتمعاتهم؛ فقوانين نيوتن أشارت إلى أن كل فعل له رد فعل مساوٍ له في القدرة ومضاد له في الاتجاه؛ فلو كانت نظريات التعصب الديني والقومي فشت وتمكنت من المجتمع الأنجلوسكسوني؛ فمقاومة ذلك والعمل بخلافه أو ضده سوف تكون بنفس الدرجة أو أكبر، وهو ما رأيناه خلال هذا العرض الذي تبين منه مرور العقل الإنجليزي والأنجلوسكسوني في تطوره بين تناقضين، ما زال في رأيي هذا التناقض سمة مميزة لذلك المجتمع، يتجلى حاليًا في دعم جرائم إسرائيل بالشرق الأوسط من منطلق ديني ومقاومة تلك الجرائم من منطلق إنساني.
فالفلسفة الإنجليزية لم تول اهتمامها فقط بالميتافيزيقا والعلم والتجريب، ولكن اهتمت أيضًا بالسياسة، وجذور العقد الاجتماعي قبل صياغتها عند روسو، صيغت من قبل عند الإنجليزيين توماس هوبز وجون لوك، وقد أبدع الأنجلوسكسون أيضًا في تطورهم الأخير مذهب المنفعة أو العملية المصطلح عليه بالبرجماتية، وأشهر من كتبوا فيه وأسسوه فلسفيًا ونفسيًا الفيلسوفان الأمريكيان “وليم جيمس” (1842- 1910 م) و”جون ديوي” (1859- 1952 م)، وقبلهما كتب الإنجليزي “جون ستيوارت ميل” (1806- 1873 م) في المنفعة حتى أثر ذلك على سلوك الإنجليز ناحية معظم مناحي الحياة.
إن الدرس المستفاد من هذا العرض والتحليل هو إلقاء الضوء على تجارب الآخرين ورصد كيفية تطورهم للأقوى والأفضل؛ فالتعصب الذي فشا قديمًا عند الأنجلوسكسون حتى أوشكوا على الإبادة الجماعية بفعل حروبهم الطائفية والقومية، أسهم ذلك في تنويع خبراتهم والنظر إلى تلك التجارب بعين النقد لا بعين التقديس، حتى في ظل وجود من ورثوا هذا التعصب الأنجلوسكسوني الحالي وخطرهم على الدولة والمجتمع، بدا أن عصر الإصلاح في أوروبا صنع أجيالاً عند الإنجليز الأنجلوسكسون يمكنهم رؤية المشاكل وتصويب مسارهم باحترافية دون خسائر كبيرة مثلما حدث في الماضي، وهذه هي الثمرة لدراسة التاريخ بشكل عام، أن كل أمة لا تتعلم من ماضيها فلن تعيش حاضرها وبالتالي؛ فلا مستقبل لها.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.