لا يختلف اثنان على أنّ المبادرة العربية تجاه سوريا التي حملت اسم (خطوة مقابل خطوة) قد ماتت وانعدمت سبل إتمامها، رغم أنّها توّجت بحضور شخصي لافت وغير متوقع، حتى في أشدّ الدوائر المقربة من الحلقة الداخلية للدولة السورية للرئيس الأسد للقمة العربية في جدة 19 أيار/مايو العام الماضي؛ في مؤشر بدا حينها ولما تلاها من أشهرٍ طوال بأنّه يحمل دلالات عميقة لرأب الصدع وطيّ صفحة الخلاف، وعودة الوفاق العربي حيال سوريا بشكلها الدستوري والسيادي والحكومي القائم بقوة الأمر الواقع.
الشكل الممثل بهيكلية الدولة المؤسساتية في وجه دويلات فيدرالية أخرى بعضها يحمل طابع الإرهاب وفق التصنيف الأممي (جبهة تحرير الشام-جبهة النصرة شمال غرب سوريا/ بقايا داعش في البادية/ تحركات انفصالية في الجنوب درعا والسويداء/ قوات سوريا الديمقراطية –قسد شمال وشمال غرب سوريا المدعومة أمريكيا، والمحاربة عسكريًا من قبل تركيا في كل لحظة وتركيا هنا حاضرة على خط تلك الخطوة بخطوة عبر التنسيق مع بعض العرب بما يتعلق بأمنها القومي).
قد تكون عدة دول عربية قليلة حينها وحتى الآن قد أبدت رفضها عودة سوريا للجامعة العربية التامّة في ذلك الاجتماع، وفي قمّة البحرين 2024 ، والتي تلقّى الرئيس الأسد في النصف الثاني من آذار الماضي دعوة حضورها من قبل سفير البحرين في سوريا.
تلك الدول ما زالت تشترط تحقيق شرط إسقاط النظام كلّيًا قبل أيّ خطوة؛ في القمّة السابقة اصطدمت بإجماع أكبر مُهِّدَ له في اجتماع جدة لدول مجلس التعاون الخليجي وبحضور مصر والعراق والأردن (15 نيسان/أبريل 2023)، ثم اجتماع عمان في الأردن (مطلع أيار/مايو 2023) والذي حضرته السعودية والأردن والعراق ومصر وسوريا، ليصل إلى تحقيق رؤية جاءت بسوريا إلى القمة العربية لاحقًا عبر قرارات اجتماع وزراء الخارجية العرب (7 من أيار/مايو – 2023).
بحسب مصادر من وزارة الخارجية السورية لـ “مواطن”، كان اجتماع الأردن هو الفيصل النهائي لكونه واضحًا في جدول أعماله الذي تم بحضور وزير الخارجية السورية فيصل المقداد، وخلاله تم استعراض المطالب التي ينبغي على سوريا التعهد بها وتنفيذها وأن تحمل المرحلة المقبلة عنوان “خطوة بخطوة”؛ فالعرب يقدمون خطوتهم الأولى بعودة سوريا للجامعة بعد 12 عامًا من تعليق عضويتها، ثم ينتظر من سوريا أن تقدم خطوات مطلوبة.
كانت مطالب العرب تتعلق بشكل رئيس بضبط سوريا لجبهتها الجنوبية، وإيقاف عملية تمرير الكابتاغون عبر حدودها، (وهو ما لم يحصل رغم مرور قرابة عامٍ على تلك القمة) ومن بين أبرز المطالب حينها، والتي سرعان ما استشعرت حكومة دمشق خطرها، هي ملف المطالبة السريعة بعودة اللاجئين إلى وطنهم بصورة غير مشروطة (7 ملايين لاجئ سوري في الخارج بحسب تقديرات الأمم المتحدة/2022).
كل اشتراطات وبنود الخطوات المطلوبة كانت تدور في فلك القرار الأممي 2254 المفضي إلى حل سياسي شامل في سوريا، سوريا التي تعاملت بهدوء مع المطالب وأخذت وقتها في التفكير بل والموافقة عليها، ولكن هل ستنفذها؟ هذا ما أجابت عنه الأشهر الست اللاحقة للقمة العربية.
"ندعو إلى دور عربي في إعادة الإعمار كشرط لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم".
John Doe Tweet
القرار 2254 المتخذ في الأمم المتحدة في ديسمبر 2015 نصّ على وقف إطلاق نار شامل في سوريا، يستثني تنظيم الدولة (داعش والنصرة)، ويشدد على ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية نهائية جرى تفسيرها برحيل الأسد، وتشكيل هيئة حكم انتقالية تدير البلاد، وهو الذي ما زال يعطل أيّ مساعٍ جدية في إطار تنفيذه.
وباستثناء كل المطلوب في إطار الخطوات العربية، يُعتقد على نطاق واسع من قبل مراقبين أنّه ما من شيء كان سيشكل إرباكًا حقيقيًا لنظام دمشق أكثر من ملف اللاجئين، الملف الذي يتفوق في قيمته ومكانته وآليته وحجمه على ملف الكابتاغون والعمليات العسكرية الملحّة، وحتى الهيئة الانتقالية بالغة الخطورة والمستبعدة من القاموس السياسي كما يتضح، وهذا ما ستحاول “مواطن” تسليط الضوء عليه بتوسع.
الملف المؤرق لدمشق
إذا ما تم استثناء ملف اللاجئين السوريين في تركيا، وسياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في ترحيلهم نحو مناطق آمنة تسيطر عليها فصائل عسكرية مدعومة من تركيا، والمتوقع أن يتم الشروع به نهاية العام الجاري بحسب ما سربته الصحافة التركية مطلع الحالي؛ فإنّ اللاجئين عينهم أرهقوا دول الجوار التي لم تعد تمتلك طريقة فاعلةً لإعادتهم حتى الآن؛ سيما في لبنان التي وصل عدد اللاجئين السوريين فيها إلى أكثر من مليوني شخص، يتوزعون على نحو 3100 مخيم، وفي الأردن حوالي مليون و 300 ألف لاجئ يقيمون في المخيمات أيضًا، وأعداد تقارب نحو 5 ملايين بحسب تقديرات غير رسمية في أوروبا، بينهم مليون طلب لجوء في الاتحاد الأوروبي فقط في عام 2023.
لا شك أنّ أرقامًا كتلك تثقل كاهل أي دولة؛ فكيف إذا كان الحديث عن دول تملك من المشاكل الاقتصادية ما يجعلها غير قادرة على امتلاك البنية التنموية والمهنية والسوقية التي تسمح لها بدمج الأفراد في إطار الإنتاج كما نجحت في ذلك نسبيًا دول أوروبية احتضنت لاجئين على موجات متتالية خلال الحرب السورية.
تمييع الوعود
يعلم المتابع أنّ سوريا قادرة على تنفيذ عدة مطالب عربية وغربية أحيانًا، وإن بدت تلك المطالب معقدة، ولكن لا بأس بها طالما أنّها لا تمس الشكل الحالي للحكم –مؤقتًا-، وهو مطلب تراجعت عنه مرحليًا معظم الدول العربية باستثناء (قطر)، التي ما زالت متمسكة بإتمام عملية سياسية شاملة سريعة في سوريا، والتي ما زالت تقود دفّة الخلاف الإيديولوجي والسياسي والفكري مع سوريا متصدرةً مشهد العداء، وبدرجة أقل الكويت.
فعليًا؛ كثيرةٌ هي الملفات التي يمكن التفاوض عليهًا؛ بل وأن تخرج منها حكومة دمشق بمكاسب عدّة، ولكن بين تلك الشروط معضلة، وساء حظًا للسلطة السورية أنّ هذا المطلب يريده المفاوضون فوريًا، وهو إعادة اللاجئين السوريين مباشرةً وبشكل طوعي وآمن.
عام مضى على مخرجات اجتماع عمان الذي وافقت عليه سوريا وبوصف موضوع اللاجئين أولوية قصوى، لكن لم يعد اللاجئون حتى الآن، وحتى إنّ الحكومة لم تتخذ أو تقم بأي إجراء يمهد تلك العودة الآمنة والسريعة؛ بل مارست سياسة ما يعرف بـ “أذن من طين وأخرى من عجين”.
منطق المنتصر
في اجتماع وزراء الخارجية العرب في جدة قبل عام، والذي سبق القمة العربية بيوم وحضره وزير خارجية سوريا قال فيه نصًا: “ندعو إلى دور عربي في إعادة الإعمار كشرط لعودة اللاجئين السوريين إلى بلادهم”.
يبدو أنّ هذا التصريح بالضبط هو جوهر القصة كاملة؛ فالآن سوريا في مزاد، تريد أموالًا لإعادة الإعمار، ثم قد تفكر في وضع خطة لعودة ملايين اللاجئين، وحتى ذلك الحين على دول الجوار والإقليم كافةً أن تدفع أثمانًا اقتصادية واجتماعية وأمنية وسياسية.
تتصرف الدولة السورية منذ بداية الحرب بمنطق المنتصر القادر على وضع شروطه على الطاولة في أي وقت، ورغم أن حلفاءها يمرّون بأسوء مراحلهم هذه الأيام (إيران والعقوبات المتنامية – روسيا والأزمة العسكرية والاقتصادية – حرب غزة)، إلا أنّ دمشق رغم ذلك تفتح البازار في أي وقت تريده وعلى أي قضية كانت، متعهدة بالالتزام بتقديم المقابل في حينه، وحين يجيء موعد السداد تكون السلطة وجدت ملفًا آخر للمساومة.
ارتياح التفاوض
يقول الأكاديمي يعرب جابر المتخصص بالعلوم السياسية خلال حديثه مع “مواطن”: “إنّ السلطة في دمشق تستغل استحواذها على نقاط قوة تفاوضية، ومن بينها الدعم والغطاء الواسع على الأقل سياسيًا من دول وازنة ومصلحتها في بقاء الحكم الحالي”.
ويضيف: “القيادة السورية تقارب الملف العام من زاوية أنّها الآن ترزح تحت أشد أنواع العقوبات التاريخية التي فرضت على بلد ما، وبأنّها عانت عزلةً دولية استمرت لعقد كامل، وبأنّ شعبها اليوم يموت حرفيًا من الجوع، دون أن يكون هناك مصدر قلق داخلي من الفئة التي تدعم الحكم شعبيًا لأسباب متعددة ضمن البيئة الحاضنة”.
ويتابع: “كل ذلك يقود للنتيجة التي تجعل السلطة مرتاحةً في التفاوض رغم الضغوط الهائلة، والتي تتماشى مع انعدام الرغبة الجدّية دوليًا في إزاحتها، وفوق ذلك جاء العرب إلى دمشق وذهبت سوريا إليهم وقالوا لها تعالي نفتح صفحة جديدة، ونرى رغم ذلك أنّ سوريا عادت لتضع شروطها”.
استبعد يعرب جابر إمكانية أي عودة قريبة للاجئين رغم حملات التنسيق الحثيثة والمستمرة على مستوى الوزارات بين لبنان والأردن وسوريا، ولكنّ ذلك بحسب رأيه يبقى في سياق التعامل البروتوكولي والدبلوماسي، لأنّ سوريا دولة “أذكى” من أن تسد القنوات الدبلوماسية رغم تمسكها النهائي بمطالبها في لحظات القرار.
متابعون آخرون يتفقون مع وجهة النظر هذه في العموم؛ فيما يمكن ملاحظة رأي آخر مرتبط نسبيًا ويعتمد على مقاربة الأمور من ناحية استراتيجية أبعد زمنًا؛ فبدء السلطة السورية لتنفيذ المطالب العربية سيعني موافقةً ضمنية على تطبيق القرار الأممي”2254″، قرب ذلك اليوم أم بعد، والقرار عينه ينهي الملف السوري عبر عملية انتقال سياسي يسلم بموجبها الرئيس الحالي السلطات إلى (حكومة – مجلس – هيئة انتقالية) تشارك فيها المعارضة الخارجية.
والموافقة على تطبيق القرار تأتي محمولةً على رغبة عربية ودولية تم التعبير عنها في كل فرصة قبل وبعد حضور سوريا للقمة العربية؛ فمخرجات الاجتماع العربي في القاهرة والذي حسم مسألة عودة سوريا إلى الجامعة تضمن تنويهًا إلى أنّ القادم يجب أن ينتهي بتطبيق القرار الأممي المذكور سابقًا، وكذلك هذا ما قاله زوار دمشق في الفترات السابقة، وبينهم وزير خارجية الأردن ووزير خارجية مصر.
الزلزال مهد الطرق
الزلزال الذي ضرب سوريا في السادس من شباط/فبراير 2023 كان خير مدخلٍ للانفتاح على دمشق، ومنه يمكن ملاحظة تطويع الخطوات اللاحقة، ليصب حدثٌ جديد في مصلحة دمشق التي تلقت عونًا ماديًا من كل حدب وصوب حينها، ولعلّ الزلزال عينه الذي كان وبالًا على متضرريه وخيرًا على حاكميهم، حمل معه لاحقًا معطيات على صعيد المطلب السوري بإعادة الإعمار.
وحول ذلك سألت “مواطن” دبلوماسيًا عراقيًا يتردد إلى دمشق رأيه؛ فاستجاب مطالبًا بسرية المصدر لعدم التشويش على سير القنوات الدبلوماسية؛ خصوصًا بعد زيارة رئيس وزراء بلده محمد شياع السوداني إلى دمشق في وقت سابق.
القرار 2254 المتخذ في الأمم المتحدة في ديسمبر 2015 نصّ على وقف إطلاق نار شامل في سوريا، يستثني تنظيم الدولة (داعش والنصرة)، ويشدد على ضرورة الوصول إلى تسوية سياسية نهائية جرى تفسيرها برحيل الأسد، وتشكيل هيئة حكم انتقالية تدير البلاد، وهو الذي ما زال يعطل أيّ مساعٍ جدية في إطار تنفيذه.
John Doe Tweet
يقول: “سلطات دمشق لم تنجح في تدارك هول الكارثة بعد الزلزال، رغم كل الإمدادات المادية والسياسية واللوجستية والاجتماعية، هناك بعض العرب يسألون عن مصيرها، ومن بينهم أكثر العرب قربًا مع دمشق؛ خصوصًا أنّ الإمدادات لم تصل بشكل سليم لمستحقيها، ولم تتخذ أي خطوة في إطار إعمار منازلهم؛ فماذا سيكون مصير حوالي ألف مليار دولار تحتاجها سوريا اليوم للإعمار؟”.
ويؤكد أنّ موقف بلاده منفتح وأخوي وإيجابي للغاية من دمشق، وبأنّها تسعى لتكون صلة وصل لحلّ المشاكل العالقة، ومن ضمن ذلك ألّا ينخرط العراق في عمل عدائي ضد دمشق تحت أي ذريعة، ولو كان عبر الدبلوماسية السلبية، منوهًا أنّ التنسيق بين البلدين هو في مصلحتهما وخصوصًا في ظلّ وجود تهديدات أمنية وعسكرية مشتركة.
وبيّن الدبلوماسي أنّ ذلك لا يعني خروج بغداد عن الإجماع العربي، ولكنّه يعني تدشين مرحلةٍ جديدة تطوي ما سبق من مشاكل العالم العربي، وهو ما يمثل رؤية معظم بقية الدول العربية أيضًا لإنهاء حمام الدم والكوارث الاقتصادية التي تعصف بسوريا.
الموقف الأمريكي
يبرز فوق كل ذلك ما يمكن تسميته العقدة الأمريكية التي نظرت إلى التطبيع العربي بعين المعطّل، وذلك منذ بدء الانفتاح الأول خلال الحرب (الإمارات والبحرين والأردن وسلطنة عمان)، الذي تزامن مع قانون قيصر (2019) ليليه قانون الكابتاغون عام 2022، ثم قانون “محاربة التطبيع مع النظام السوري” والذي أقرّه مجلس النواب الأميركي أواسط شباط/فبراير الفائت بانتظار مصادقة مجلس الشيوخ عليه ليصير إلى توقيعه من قبل الرئيس الأميركي “جو بايدن” فيصبح نافذًا في إطار التطبيق.
ذلك القانون الأخير يعاقب “النظام” أكثر، ويتعداه ليعاقب أي بلد أو حكومة أو جهة أو مؤسسة أو أفراد يتعاملون مع الحكومة السورية القائمة، أو أي حكومة لاحقة يرأسها الأسد، إلّا أنّ العرب بلا شك لم يقدموا على خطواتهم التقاربية تلك لولا مؤشرات كثيرة في جعبتهم، وإن كان الحديث عن السعودية التي قادت التطبيع؛ فإنّ المملكة شعرت بعدم جدية الأمريكيين في مسعاهم لتغيير الحكم في سوريا، وكان ذلك واضحًا لهم عبر سياسة ثلاثة رؤساء بالتتالي؛ أوباما، ترامب، وبايدن. إضافة لأسباب أخرى بعضها يتعلق بحرب اليمن والتفاهم الإيراني برعاية الصين.
فصل الكلام
خرج الرئيس الأسد في لقاء وصفته أوساط متابعة بالأكثر أهمية له خلال الحرب، على قناة سكاي نيوز عربية من دمشق (بثّ في 9 من آب/أغسطس 2023)، وخلال اللقاء بيّن الأسد ما بدا أنّه المواقف النهائية للدولة السورية؛ فوصف العلاقات العربية بالشكلية، وأغلق المسار التركي، وأشار أنّ عودة اللاجئين مرتبطةٌ بعودة البنى التحتية؛ إذ لا يمكن إعادة اللاجئين ولا خدمات كهرباء وصحة وماء وغيرها في بلادهم، وعزا أسباب الفوضى والمخدرات ومسألة اللاجئين وغيرها إلى التدخل الخارجي الذي قاد إلى الوضع الحالي.
يضاف لكل ذلك ما هو أهم في هذا الشأن؛ فهل اللاجئون أنفسهم يريدون العودة؟ هذا سؤال محفوف بالمخاطر الوجودية التي تتبناها عقولهم فتترجمها كرغبات لا يصعب الإحاطة بها.
مخدرات في كل مكان
بعد ذلك اللقاء نفّذ الأردن غارات جوية مكثفة على مواقع ونقاط في الجنوب السوري (درعا – السويداء)، أثارت سخطًا في الشارع السوري لسببين، الأول: أنّها تناقض مسار السياق العربي المتفق عليه مسبقًا، والآخر: أنّها بدت سمجة وارتجالية بلا أهداف منطقية نظرًا لنتائجها.
أعلن الأردن أنّ غاراته المكثفة والمستمرة حتى الآن هي في إطار محاربة تهريب الكابتاغون، ولكنّ غاراته فعليًا قتلت أسرًا بأكملها في مرات كان في تلك البيوت المستهدفة نساء وأطفال فقط؛ فاستعدى الأردن من حيث لا يدري بيئة بالأساس تملك اليوم نزعة انفصالية غير مسبوقة عن النظام الحاكم في دمشق.
وإلى جانب الغارات؛ فإنّ الأردن يخوض بتواتر مستمر ومتنامٍ معاركه البرية على الحدود في وجه مئات المهربين أسبوعيًا، والذي ينجح في القضاء على الكثير منهم؛ فيما يفلت آخرون في “بورصة” مع الوقت، يبدو أن الخليج سيحتاجها ويحتاج منتجات المخدرات أكثر؛ فلولا سوق تصريف مهولٍ وتعاون فاضح هناك لما كانت مرّت شحنة مخدرات واحدة واصلةً إلى هدفها.
الأغرب من كل ذلك أنّ حكومة دمشق أعلنت خلال الربع الأول من العام الجاري عن ضبطها شحنة مخدرات مؤلفة من عدة أطنان تتجه من بلد عربي إلى العراق، مستخدمةً سوريا كبلد للعبور، تكمن غرابة الخبر في سهولة تفسيره، بلد عربي: إذن ليست تركيا، والعراق هو الهدف، إذن هو الضحية، تبقى الأردن ولبنان، الأردن يحارب المخدرات ليل نهار؛ فالخيار المنطقي الوحيد المتبقي هو لبنان، ومن يمكن له أن يصنع المخدرات في لبنان حصرا؟ لتتم إثارة تساؤل ضروري وخطير للغاية؛ هل الهدف من نشر الخبر هو الضغط على إيران عبر التصويب على جماعتها في لبنان؟ وهما –أي إيران وجماعتها في لبنان- حليفان مركزيان ثابتان خلال الحرب؛ فلماذا؟
العلاقة المستحيلة
يعيش سوريو الداخل اليوم في ظل ظروف قهرية وقاهرة؛ لا دواء، والكهرباء متاحة ساعتين فقط يوميًا، المياه لا تصل لمعظمهم، مرتبات حكومية شهرية لا ترتقي بأفضلها لعشرين دولار أميركي، غلاء فاحش جعل شكل الحياة أشبه بالموت، لمن قالت عنهم الأمم المتحدة إنّ 90% منهم كشعب يعيش تحت خط الفقر.
سوريا لا تريد لاجئيها، هذه خلاصة منطقية، ولاجئوها لا يريدونها في ظلّ هذه الأوضاع الغريبة، ولكن لا بأس في استثمارهم من قبل السلطة كورقة ضغط وتفاوض، وحتى تبصر قضيتهم النور، كانت ولا تزال موجات الهجرة السورية مستمرة بحرًا وبرًا إلى دول العالم، وفي تلك الرحلات يفقد الكثير أرواحهم ويقضون دون مراسم عزاء ويدفنون بلا مراسم.
يفقدون حياتهم مع علمهم المسبق بإمكانية ذلك، يسافرون غير آبهين بقضية، جلّ ما يسعون إليه حياة كريمة في بلد كريم لا يساوم فيها أحد على وجودهم.
حرب غزّة
لا شك أنّ حرب غزة على تعقيداتها الجيوسياسية حملت وقتًا إضافيًا للنظام السوري يمكنّه من تجميع أوراقه ووضع سياسات جديدة مستغلًا التهاء العرب عنه وعن الخطوة بخطوة.
وكذلك انتظاره انتصارًا إقليميًا لمحور “المقاومة” يفضي لشروط جديدة عبر مكاسب افتراضية تحصل عليها طهران من خلال مفاوضتها واشنطن في الدوحة برعاية قطرية، وإن كانت تلك المفاوضات على حدّ السيف ولكن معركة غزة ما كانت بدأت لتنتهي كما بدأت.
فرض قواعد اشتباك جديدة لصالح حماس بتبعيتها الإقليمية يعني اختلافًا واسعًا ورفضًا من قبل “المحور” لما كان مقبولًا قبل السابع من أكتوبر الماضي حين بدأ “طوفان الأقصى”، هذا في حال افتراض أنّ الأمور لن تسير في منحى آخر تمامًا يخسر فيه المعسكر الشرقي رهانه كاملًا.
هذه النظرية قد تظل عمليًا ومرحليًا في الإطار النظري مؤقتًا، ولكنّها لا شك ستغير المشهد، لا سيما بعد أن عرفت إسرائيل وأمريكا أن الروس والإيرانيين لن يموتا بالمنطقة، ومن خلفهما حوثيون يمتلكون صواريخ بالستية، وحزب في جنوب لبنان قرارته تصاغ في عواصم بعيدة، وبين كل أولئك دمشق التي وفي محنتها لا يمكن العثور على نظام قادر على الخروج بمكتسبات كمثلها ولو من تأثير فراشة في اليابان.