في بلدٍ تطحنه الحروب والأزمات منذ ما يقارب 10 أعوام، أصبحت البرامج الإغاثية وسيلة حياة لأكثر من ثلثي الشعب اليمني؛ حيث يعيش ما يزيد عن 70% من بينهم اليوم على المساعدات التي تقدمها منظمات الإغاثة، ويعتمدون عليها اعتمادًا كليًا، لا سيما في ظل تدهور قيمة العملة اليمنية، وارتفاع معدل البطالة وانقطاع رواتب الموظفين في جميع المؤسسات الحكومية في الدولة بشكل كامل منذ أواخر العام 2017.
وبالتزامن مع ارتفاع وتيرة العمليات العسكرية في البحر الأحمر بين قوات الحوثيين من جهة، وقوات التحالف الدولي الذي تقوده الولايات المتحدة الأمريكية من جهة أخرى؛ أعلنت العديد من المنظمات الدولية العاملة في المجال الإغاثي في اليمن توقفها عن العمل؛ فيما أعلنت أخرى عن اقترابها من اتخاذ القرار نفسه في حال ما استمر التصعيد العسكري في البحر الأحمر، والذي بدوره يهدد الوضع الأمني في البلاد ويعرقل حركة عمل المنظمات الإغاثية.
اليوم، ومع إعلان معظم المنظمات الإغاثية التوقف عن العمل في اليمن، تكون البلاد على مقربة من الدخول في أزمة إنسانية كبيرة وخطيرة، ستكون تبعاتها وتأثيراتها الإنسانية -على المدى القريب- كارثية على حياة ملايين اليمنيين.
المنفذ الأخير للعيش
يعتقد الناشط الحقوقي “محمد العامري” أن الأنشطة الإغاثية التي كانت تقوم بها المنظمات المحلية والدولية في اليمن، بمثابة المنفذ الأخير الذي يربط ملايين من الشعب اليمني بالحياة.
وأشار العامري، خلال حديثه لـ “مواطن”، إلى أن توسع حدة الحرب الدائرة في اليمن منذ سنوات، والتي أفرزت واحدة من أكبر الأزمات الإنسانية في العالم، بالإضافة إلى انقطاع رواتب الموظفين بشكل كلي، وانعدام فرص العمل في البلاد، كل هذه عوامل جعلت من تواجد منظمات الإغاثة وأعمالها في اليمن رافدًا مهمًا للمواطنين؛ حيث استطاعت -على الأقل- توفير أساسيات العيش لعدد كبير من ضحايا الأزمة”.
بحسب آخر إحصائية لبرنامج الأغذية العالمي في اليمن، والذي توقف عن العمل بشكلٍ مفاجئٍ قبل عدة أشهر؛ فإن نحو 18.6 مليون شخص بحاجة للمساعدة الإنسانية الغذائية في 2024.
بالمقابل؛ فقد شكَّل انسحاب هذه المنظمات من اليمن بهذا الشكل المفاجئ خطرًا حقيقيًا ينبئ بدخول البلاد في أزمةٍ إنسانية جديدة أكثر فتكًا من سابقاتها.
وذهب العامري إلى أن البلاد سنشهد في خلال الأيام القليلة القادمة تزايدًا في عدد الفقراء والمتسولين والمحتاجين، ممن كانوا قد اعتمدوا على ما يتحصلون عليه من تلك المنظمات اعتمادًا كليًّا.
ثلثا الشعب مهدد بالجوع
بحسب آخر إحصائية لبرنامج الأغذية العالمي في اليمن، والذي توقف عن العمل بشكلٍ مفاجئٍ قبل عدة أشهر؛ فإن نحو 18.6 مليون شخص بحاجة للمساعدة الإنسانية الغذائية في 2024. ونحو 17 مليون شخص -أكثر من نصف سكان اليمن- يعانون من انعدام الأمن الغذائي، وفق تصنيفات الأزمات والطوارئ (التصنيف المرحلي المتكامل 3 و4)، بما في ذلك 2.2 مليون طفل و1.3 مليون امرأة حامل ومرضعة تعاني من سوء التغذية.
ووفقًا للبرنامج فإن المساعدات الغذائية تشكل عاملاً حاسمًا لتجنب الكارثة في اليمن؛ حيث يوجد ما يقدر بنحو 6.1 مليون شخص على بعد خطوة واحدة فقط من المجاعة.
وفي بيان وقعت عليه 26 منظمة إغاثية عاملة في اليمن؛ بينها “سايف ذي تشيلدرن” والمجلس النرويجي للاجئين” في يوم الثلاثاء 26 من يناير الماضي، أعربت هذه المنظمات عن “قلقها البالغ إزاء الآثار الإنسانية للتصعيد العسكري الأخير في اليمن والبحر الأحمر”.
وقالت المنظمات إن التصعيد العسكري سيؤدي إلى وقف العمليات الإنسانية في اليمن، والذي يحتاج ثلثا سكانه إلى المساعدات. وذكرت أن بعض المنظمات علقت عملياتها، وأخرى في الطريق لأسباب مرتبطة بالوضع الأمني.
أول ملامح الكارثة
معاذ الفقيه، من أبناء محافظة ذمار وسط اليمن، يعمل معلمًا منذ عشرة أعوام، متزوج وأب لأربعة أبناء. كان معاذ واحدًا من المدرجة أسماؤهم ضمن قائمة المستفيدين من المساعدات الغذائية التي يقدمها برنامج الأغذية العالمي شهريًا وبشكل شبه منتظم، في كثير من الأرياف على مدى ثلاثة أعوام، قبل أن يُصدم بخبر توقف البرنامج عن العمل قبل خمسة أشهر.
يروي الفقيه لـ “مواطن” جزءًا من معاناته، قائلًا: “لم أكن بحاجة لمساعدة أحد أو أية جهة قبل اندلاع الحرب وانقطاع الرواتب، لكني ومنذ سبع سنين، ومثلي ملايين من الشعب، لم نستلم ريالًا واحدًا من رواتبنا التي كانت كل ما نملك، كما لم نستطع السفر والبحث عن فرصة عمل أخرى بسبب تهديدنا بالفصل من قبل من وزارة التربية والتعليم”.
ويضيف “الفقيه” أن خبر توقف برنامج الأغذية العالمي ومعه منظمات إغاثية أخرى عن العمل، مثَّل صدمة وخيبة أمل كبيرة له ولغيره من آلاف المستفيدين، الذين كانوا يعتمدون بشكل كلي على ما توفره هذه المنظمات الإغاثية في ظل انقطاع مرتبات الموظفين، وانعدام فرص العمل للشباب.
من جانبه، أفاد الأستاذ داوود المرير، رئيس أحد فروع برنامج الأغذية العالمي في محافظة ذمار، لـ “مواطن” بأن عدد المستفيدين من البرنامج في الفرع الذي يرأسه فقط بلغ نحو 528 مستفيدًا، مؤكدًا أن جميعهم الآن -بعد توقف البرنامج عن العمل- أصبحوا معرضين لواحدة من كبرى الكوارث الإنسانية منذ اندلاع الحرب في البلاد.
أكدت عدة منظمات إغاثية عاملة في اليمن بشكل واضح على أن سبب توقفها عن العمل عائد إلى التصعيد العسكري الجاري حاليًا في البحر الأحمر
إبراهيم فتيني، مواطن من أبناء محافظة الحديدة، غربي اليمن، له من العمر 71 عامًا، مُقعَد ويعاني من إعاقة دائمة. يعيش “فتيني” بمفرده في خيمة متهالكة على أطراف المدينة بلا أسرة أو أهل يساعدونه. وهو -حسب حديثه لـ “مواطن”- يعيش اليوم الصدمة نفسها التي يعيشها معاذ الفقيه إزاء إعلان منظمات الإغاثة الدولية توقفها عن العمل في اليمن.
يقول “فتيني”: “كنت أحد المستفيدين من برنامج الغذاء العالمي منذ عامين، وكانت المساعدات، وهي عبارة عن نصف كيس دقيق وقارورة زيت، التي أتحصّل عليها كل شهرين أو ثلاثة أشهر من البرنامج تكفي حاجتي الأساسية من الغذاء لمدة أسبوعين فقط، وبقية الأيام أقضيها صائمًا إلا من شربة ماء أو بعض المساعدات التي تأتي أحيانًا من جيراني، لكن منذ أربعة أشهر لم أستلم شيئًا، لأفاجأ قبل أيام بخبر توقف منظمات الإغاثة الدولية، ومن بينها برنامج الغذاء العالمي عن العمل في اليمن إلى أجلٍ غير مسمى، والآن لم يبقَ لي إلا الله”، ختم حديثه بنبرة حزينة مرتعشة.
لماذا توقفت البرامج الإغاثية؟
أكدت عدة منظمات إغاثية عاملة في اليمن بشكل واضح على أن سبب توقفها عن العمل عائد إلى التصعيد العسكري الجاري حاليًا في البحر الأحمر، غير أن منظمات إغاثية أخرى، بينها “برنامج الأغذية العالمي” التابع للأمم المتحدة ذكرت أسبابًا أخرى تتعلق بضعف التمويل، ومواجهتهم لعراقيل وضعتها سلطة الحوثيين أمام سير نشاطهم الإنساني، وهو ما تنفيه حكومة صنعاء (جماعة الحوثيين).
وعن سؤالنا حول الأسباب الحقيقية وراء توقف برنامج الأغذية العالمي عن العمل، أجاب “داوود المرير” بأنه حسب ما وصله وزملاءه من رؤساء الفروع في المحافظات؛ فإن البرنامج قد توقف عن العمل في المناطق الشمالية لليمن، وتحديدًا المحافظات التي تقع تحت سيطرة جماعة أنصار الله الحوثيين (غير المعترف بها دوليًا)، وذلك بسبب محدودية التمويل وعدم التوصل الى اتفاق مع السلطات (جماعة الحوثي) من أجل تنفيذ برنامج أصغر يتناسب مع الموارد المتاحة للأسر الأشد ضعفًا واحتياجًا.
من جهته، نفى “المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي” التابع لسلطة صنعاء، ادعاءات برنامج الأغذية العالمي حول أسباب توقفه عن العمل.
وأشار المجلس في بيان له بتاريخ 10 من ديسمبر 2023 إلى أن توقف برنامج الأغذية العالمي عن العمل في المحافظات الواقعة تحت سيطرة سلطة صنعاء هو “قرار عقابي بحق أبناء الشعب اليمني المناصر للقضية الفلسطينية، وأن هذا القرار يأتي تنفيذًا للتهديدات الأمريكية السابقة بقطع المساعدات الإنسانية في حال استمر الموقف اليمني المناصر للشعب الفلسطيني”، حسب ما ورد في البيان.