في صباح 7 من فبراير/ شباط 2024، خرجت شبكات الاتصالات والإنترنت في السودان عن الخدمة وانقطعت الاتصالات بين السودانيين وبعضهم البعض داخل السودان، وكذلك مع ذويهم وأهاليهم ممن يتواجدون خارج البلاد. كما تأثرت عمليات الإغاثة وتوقفت عمليات المساعدة الإنسانية داخل الولايات السودانية.
منذ اندلاع الحرب في 15 من أبريل/ نيسان 2023، يعتمد السودانيون في شراء احتياجاتهم على التحويلات النقدية عن طريق الهاتف المحمول، وأكثر التطبيقات استخدامًا هو (بنكك)، وذلك بسبب قصف ونهب البنوك ونهب الأموال؛ ما أدى لصعوبة توافر التعامل النقدي المباشر (الكاش)، ومع انقطاع الإنترنت واجه المواطنون صعوبة في توفير احتياجاتهم.
تسببت الحرب في نزوح وهجرة 8.1 مليون سوداني خلال أقل من عام، منهم 6.7 مليون داخل السودان، وتواجه البلاد خطر المجاعة، وانتشر بين الأطفال سوء التغذية إثر الأزمة الإنسانية. نشأت مبادرات غرف الطوارئ (مبادرات شبابية إغاثية لتوفير الطعام ودور الإيواء للنازحين)، وتعتمد تلك المبادرات على التحويلات النقدية من منظمات إغاثية وجهات مانحة لتوفير الدعم النقدي اللازم لاستمرار العمليات.
دعم الاحتياجات الإنسانية
تشرح علا السماني، متطوعة في غرفة “طوارئ بحري” في ولاية الخرطوم، الدور الذي تلعبه غرف الطوارئ لمساعدة النازحين، وكيف تأثرت بانقطاع الاتصالات، قائلة: “نُقدم في غرف الطوارئ دعمًا للاحتياجات النسائية؛ مثل أدوات الكرامة (الأدوات الصحية الخاصة بفترة الدورة الشهرية والنظافة الجنسية للمرأة) والمكملات الغذائية والأدوية للحوامل، واحتياجات كبار السن والأطفال كالحليب والحفاضات”. مضيفة: “نمتلك مساحة آمنة للأطفال يُمارسون فيها اللعب والتلوين والرياضة والغناء والرقص، كما أن لدينا مطبخًا لتوفير الوجبات للنازحين”.
تمتلك غرفة الطوارئ في بحري أيضًا مكتبًا لرصد الانتهاكات وتقديم الدعم النفسي والمساعدة في الإجراءات القانونية وتوفير مكان آمن للضحايا، كما تعمل على توصيل بروتوكول للتعامل في حالات الاغتصاب، بحسب ما قالته علا في حديثها لـ”مواطن”.
تعد العاصمة الخرطوم معقل الصراع بين قوات الجيش السوداني وميليشيا الدعم السريع، وتقع أغلب المناطق داخل الخرطوم تحت سيطرة الدعم السريع، وبينها مدينة “بحري”، وهي أكثر الولايات تأثرًا بالصراع وما تسبب فيه من انقطاع الاتصالات والإنترنت.
خرج قرابة 3.5 مليون (57%) من النازحين في السودان من ولاية الخرطوم، وقرابة 33% من ولايات دارفور، و7 % من الجزيرة.
توقف عمليات الإغاثة
تستقبل غرفة الطوارئ التبرعات عن طريق التحويلات النقدية من الأفراد والمنظمات الإغاثية، والتي تتم عبر الهاتف وباستخدام الإنترنت، كما أنه على الغرفة رفع تقرير بعملها وما قدمته من خدمات وإرساله للجهات المانحة للتأكد من سير عمليات الإغاثة بشكل سليم.
لكن قطع الاتصالات تسبب في توقف تام لجميع أنشطة الغرف، وما استمر منها يسير بصعوبة، تقول علا: “بعد توقف الاتصالات وانقطاع الإنترنت، أصبح هناك صعوبة في التواصل مع حالات الاعتداء الجنسي وإيصال البرتوكول الخاص بالاغتصاب للناجيات”.
تستطرد “السماني”: يوجد مطبخ في الغرفة يدعم 6 آلاف و28 أسرة؛ توقف بسبب توقف التحويلات النقدية، كما توقفت مساحات الأطفال عن العمل لانقطاع الدعم عنها. وتضيف: توجد صعوبة للتواصل مع المتطوعين على الأرض لرصد الانتهاكات ورفع الإحصائيات وإرسال تقارير العمل للجهات المانحة.
وفي ولاية سنار؛ نشأت مبادرة “سنار بيتك” لدعم النازحين وتوفير الدعم و”الحوجة” لهم، وخلال تواصل مع المكتب الإعلامي للمبادرة، شرح لنا المسؤول الإعلامي (تم إخفاء الاسم والهوية حفاظًا على سلامته)، كيف تأثرت المبادرة بتوقف الاتصالات في الولاية، قائلًا: “نحنا فيه عندنا أرقام تليفونات يتصل بينا الوافدون من أماكن الحرب علشان نشوف سكن يكون تمام ليهم، ونوفر ليهم الغذاء والرعاية الصحية، ونحنا في غرفة طوارئ سنار ومبادرة سنار بيتك عندنا شباب متطوعين من جميع التخصصات و كنا قادرين نسد أي حاجة”.
يُضيف: “لكن طوال فترة انقطاع الاتصالات عننا كان في أسر كثيرة لم تستطع التواصل مع شباب غرفة الطوارئ، ومن ناحية أخرى نحنا ما كان قادرين نتواصل مع جهات خيرية ومنظمات عشان تدعم مراكز الإيواء، كما انقطعت الوجبات عن الوافدين واعتمدنا على الجهد الشخصي لشباب مبادرة سنار بيتك”.
لدى المبادرة 7 مراكز إيواء، كل مركز يتواجد به ما لا يقل عن 150 أسرة، ويبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة 5 أشخاص، وكل مركز يُقدم وجبتين في اليوم، وفي بداية انقطاع الاتصالات تراجعت إلى وجبة واحدة، ثم توقف تقديم الوجبات.
من المسؤول؟
يوضح المحامي وعضو مبادرة “محامو الطوارئ” في السودان، محمد صلاح، أسباب توقف الاتصالات والإنترنت عن العمل في السودان لما يزيد عن شهر قائلًا: “يوجد في السودان 3 شركات تعمل في مجال الاتصالات وهي: شركة سوداني، وتتبع سوداتيل (شركة حكومية تابعة للدولة) وشركة زين (كويتية تمتلك الحكومة السودانية نسبة فيها)، وشركة MTN (خاصة وتمتلك الحكومة السودانية نسبة منها).
تقع الأبراج الرئيسية لشركة سوداني في أماكن تحت سيطرة الدعم السريع، وهي التي قطعت الاتصالات المربوطة مع شركة سوداتيل، وفاوضت شركة زين لتُعيد الاتصالات لمناطق دارفور (واقعة تحت سيطرة الدعم السريع أيضًا)، لكن الشركة تحججت بأنها لا تمتلك القدرة الفنية والأمنية لإرسال فرق الصيانة لمنطقة دارفور، ودخلت القوات المسلحة السودانية في المفاوضات ومنعت شركة زين من إعادة الاتصالات في مناطق دارفور.. بحسب صلاح.
يُضيف المحامي وعضو “محامو الطوارئ” لـ”مواطن”، وبسبب هذا الرفض قامت قوات الدعم السريع بتعطيل وتوقيف المولدات في المناطق الرئيسية لشبكة زين؛ ما أدى لقطع كامل للاتصالات في كل مناطق السودان.
جريمة حرب
يٌحمّل “صلاح” طرفي النزاع (الدعم السريع، والقوات المسلحة السودانية) مسؤولية قطع الاتصالات عن السودان، ويقول: “بسبب تعنت القوات المسلحة وتدخلها في ملف الاتصالات، وأيضًا إصرار الدعم السريع على عودة الاتصالات في دارفور، وتهديدها بأنه إذا لم تتم إعادة الاتصالات في مناطق دارفور، سيتم قطع الاتصالات عن السودان بأكمله، انعدم التواصل تمامًا داخل السودان وخرج عن الخدمة”.
وفي تقرير لــ هيومان رايتس ووتش، ذكرت المنظمة أن قطع الاتصالات والإنترنت أثناء نزاع مسلح يجب أن يأخذ في الاعتبار المبادئ الأساسية لقوانين الحرب، بما في ذلك الضرورة والتناسب؛ إذ يسمح مبدأ الضرورة باتخاذ تدابير تحقق هدفًا عسكريًا مشروعًا لا يحظره القانون الدولي الإنساني.
وأوضح التقرير أنه: “قد يخدم قطع الإنترنت غرضًا عسكريًا مشروعًا، مثل حرمان القوات المتحاربة من وسيلة للتواصل مع بعضها البعض وتنفيذ الهجمات. مع ذلك، يحظر مبدأ التناسب الأعمال التي يكون فيها الضرر المتوقع على المدنيين مفرطًا مقارنة بالميزة العسكرية المتوقعة”، ولكنها أشارت إلى أن قطع الإنترنت والهواتف قد يُلحق أضرارًا جسيمة بالسكان المدنيين، متسببًا في الإصابات والموت من خلال منع المدنيين من التواصل مع بعضهم بعضًا بشأن اعتبارات السلامة والوصول إلى المرافق الطبية ومصادر الغذاء والمأوى.
وشدد التقرير على أن قطع الاتصالات يُعرقل عمل الصحفيين ومراقبي حقوق الإنسان الذين يمكنهم تقديم معلومات عن الوضع على الأرض، بما في ذلك الإبلاغ عن الانتهاكات المحتملة لقوانين الحرب. والأهم من ذلك، تُعرقل القيود قدرة المنظمات الإنسانية على تقييم وتقديم المساعدة للسكان المعرضين للخطر. قد يؤدي نقص المعلومات المتعلقة بالظروف والأوضاع التي تواجه السكان المتضررين أيضًا إلى زيادة احتمالية الإصابة والوفاة.
وهو ما أكدته رانيا محمد، عضو الجبهة الديمقراطية للمحامين السودانيين، وممثلة حملة “وديتوهم وين؟” (حملة للبحث عن ضحايا الاختفاء القسري)، قائلة: “انقطاع الاتصالات والإنترنت في السودان أثر سلبًا على عمل حملة “وديتوهم وين؟” المهتمة بقضايا المخفيين قسريًا؛ حيث تعذر الحصول على معلومات دقيقة حول الأشخاص المخفيين قسريًا ورصد دقيق لأعدادهم، مما جعل من الصعب متابعة حالتهم والضغط للإفراج عنهم.
وتضيف: “أثر ذلك أيضًا على صعوبة التواصل مع الراصدين والحقوقيين أعضاء الحملة هناك لمعرفة أي مستجدات، وتسبب في صعوبة وصول أسر المخفيين لأعضاء الحملة والتبليغ عن الحالات”.
وتوضح ممثلة حملة “وديتوهم وين؟”: بشكل عام يعتبر انقطاع الاتصالات والإنترنت عاملًا مضاعفًا زاد من صعوبة التعامل مع قضايا المخفيين قسريًا وقلل من فرص التحقيق والحماية.
أضرار على المدنيين
يؤكد المحامي السوداني محمد صلاح، أن لقطع شبكة الاتصالات والإنترنت أضرارًا جمّة على المدنيين، قائلًا: “جميع المدنيين يتعاملون بالإنترنت في شراء الاحتياجات والمواد التموينية، من خلال التحويلات النقدية البنكية التي تتم عبر الإنترنت، لأنه لا يوجد مصادر دخل في السودان، ولا يوجد أيضًا أموال، يعتمد المدنيون على التحويلات البنكية التي تتم عبر الإنترنت.
يُضيف صلاح: بعد قطع الإنترنت، فقد أغلب المواطنين في السودان ميزة التحويل بالهاتف؛ ما تسبب في أزمة إنسانية، وحتى الآن، هذه الأزمة مستمرة في المناطق التي ما زال الإنترنت فيها مقطوعًا كولاية الجزيرة وشمال كردفان.
وبحسب صلاح تضررت ولاية دارفور كثيرًا من انقطاع الإنترنت والاتصالات، وأصبح الأفراد يعتمدون على نظام المقايضة في عمليات الشراء والبيع، موضحًا أنه قد يشتري شخصًا “إردبًا من الذرة نظير إردب قمح”، ورغم أن المواطنين قد يمتلكون أموالًا في حساباتهم النقدية، لكنهم أصبحوا غير قادرين على تحويلها لبعضهم البعض.
انقطاع التواصل
كما حرم قطع الاتصالات السودانيين الذين يتواجدون داخل السودان من التواصل مع ذويهم وأهاليهم في الخارج، وتسبب أيضًا في وقف المساعدات الإنسانية في الداخل؛ فمنظمات المجتمع المدني وغرف الطوارئ في السودان تعتمد على تحويل الأموال إلى الأفراد، وقطع الاتصالات تسبب في وقف هذه التحويلات النقدية، وأيضًا تسبب في مشكلة الرصد وتسجيل الانتهاكات والوصول إلى المصادر والمعلومات تأثر بشكل كبير.
يشير صلاح لمسألة وصفها بالمهمة، قائلًا: “عندما انقطع الاتصال في السودان، تسبب في وقف المعاملات الحكومية، كالجمارك والضرائب والسجل المدني؛ فجميع مؤسسات الدولة تعمل عن طريق الاتصالات والإنترنت”.
شبكة ستار لينك
ولكي يستمر عمل غرف الطوارئ، تدفع بعض الغرف حوالي 3 آلاف جنيه سوداني (5 دولارات) للدعم، نظير استخدام شبكات ستار لينك (شبكة إنترنت فضائي تصل العالم بالإنترنت من خلال الفضاء)، وهو الأمر الذي تُطبقه غرفة “طوارئ بحري”، أما في “سنار” فشبكات “ستار لينك” تقع تحت أيدي القوات المسلحة، التي تمنع استخدامها إلا لأغراض عسكرية؛ ما يضطر متطوعي الغرفة السير لحين الوصول لمناطق تتوافر بها شبكة اتصالات؛ وهو ما يٌعرضهم لأخطار على طول الطريق.
وتعليقًا على استخدام شبكات “ستار لينك”، يقول المحامي السوداني إن الدعم السريع يؤجر شبكة “ستار لينك” للمواطنين بـ 3 آلاف جنيه سوداني (5 دولارات) نظير الساعة الواحدة، وفي مناطق بورت سودان أو التي تتبع الجيش السوداني، وصل إيجار الساعة إلى 30 ألف جنيه سوداني (50 دولارًا)، وهي مبالغ مرتفعة للغاية على المواطنين.
ويوضح أن المناطق المدعومة بشبكة ستار لينك محدودة، ويقطع المواطنون مسافات طويلة سيرًا على الأقدام، أو باستخدام المواصلات للحصول على الإنترنت؛ “مثلاً في محلية 24 قرشي بولاية الجزيرة، والتي تقع على الحدود مع ولاية النيل الأبيض، يُسافر المواطنون من المحلية حتى النيل الأبيض، للحصول على الإنترنت واستقبال التحويلات المالية وشراء الاحتياجات للمواطنين”.
تهديد وانتهاكات للمتطوعين
يعمل متطوعو غرف الطوارئ في ظروف أمنية غير جيدة، تقول علا السماني، متطوعة غرفة طوارئ بحري: “يوجد تضييق عظيم على عمل المتطوعين، ويعملون في ظل تهديد بالاعتقال والاعتداء الجنسي، وتذكر واقعة اغتصاب لإحدى متطوعات الغرفة أثناء عملها من قبل أفراد الدعم السريع، ولتفادي تلك الاعتداءات، يُراقب الأفراد والمواطنون الحركة على الطريق، لتحاشي أي قوات قد تُهددهم، كما يتجنبون ذكر أسماء الفتيات اللائي يعملن مع الغرفة”.
ويمر أفراد مبادرة “سنار بيتك” أثناء بحثهم على شبكة لاستقبال الاتصالات على مناطق اشتباكات أو يتعرضون للتفتيش.
احتياج مستمر
تسبب قطع الاتصالات في إيقاف غرفة طوارئ بحري لمركز ولادة تعمل على تجهيزه، كما يوجد احتياج كبير لتوفير الفوط الصحية للنساء، أما في سنار؛ فإلى جانب آثار قطع الاتصالات، تتعنت الحكومة السودانية في دخول وإيصال المساعدات للولاية التي تستقبل آلاف النازحين.
أنتجت هذه المادة بالتعاون بين “مواطن” و”المهاجر“