في إحدى الجلسات الخوالي مع الأصدقاء دار الحديث عن رحلة أحد الزملاء إلى فرنسا، ولأن الطابع العام للجلسة كان فكريًا، أحببنا أن يشاركنا الزميل رؤيته للمجتمع الفرنسي، بمعنى ثقافة وفلسفة ذلك المجتمع؛ ففي العمل الأكاديمي يجري الفصل بين الفلسفات النظرية والعملية، وبين فلسفات الشعوب؛ حيث إن الطابع العام للشعوب يجمع عدة فلسفات ويصهرها في ثقافة واحدة، هي عنوان ذلك الشعب وطريقة تفكيره وإدارة حياته.
كان أبرز ما قاله إن الفرنسيين يحبون الجدل الفكري، ولا يميلون للرؤى البرجماتية الواقعية، لكنه ليس جدلًا فلسفيًا قحًا أكثر منه فلسفة ممزوجة بالأدب؛ فهم يحبون التعبير الأدبي عن أنفسهم والإصغاء جيدًا لمن يحكي بشغف، ولأعمال الأدباء والقصاصين في فرنسا مكانة كبيرة أسهمت في وضع السينما والدراما الفرنسية بمكانة كبيرة، جعلتها مع هوليود (السينما الأميركية) وبوليوود (السينما الهندية) أكثر سينمات العالم تأثيرًا وانتشارًا، ولأن للفرنسيين ثقافة أدبية رفيعة واهتمامًا بصياغة القصص وعرضها؛ فالسينما هناك تتميز بالعمق والتفصيل الدقيق؛ مما يأسر المشاهد ويجعله ليس بحاجة إلى نهايات سعيدة لكي تكتمل القصة، ولكن مجرد أن يأخذك الفرنسيون في عرض المشكلة تتمنى ألا تنتهي
الأدب مرآة الشعوب
أتذكر فيلمًا فرنسيًا بطولة النجمة “جين مورو” (1928- 2017) بعنوان “الآنسة” سنة 1966م، جرى فيه عرض مشكلة الكبت الجنسي عند النساء بطريقة أدت بالبطلة لارتكاب الجرائم للفت الانتباه إلى معاناتها من الحرمان بعد سن الأربعين، وبالأفيش تم تصوير البطلة وهي جاثية على ركبتيها وبطنها أمام رجل واقف متأهب وهي تنظر إليه بصمت وتحدٍ؛ في إشارة إلى حرمانها الجنسي من جانب، واستعدادها للانتقام من جانب آخر، ويمكن اختصار الثقافة الفرنسية بالسينما في هذا العمل الفني الذي يبدو فيه أن الفرنسيين يهتمون بالمشكلة وعرضها أدبيًا أكثر من البحث عن النهايات السعيدة، أو اعتبار البطل ممثلًا لجانب الخير مثلما درجت معظم سينمات العالم.
وفي أفكار أحد أهم فلاسفة فرنسا “جاك دريدا” (1930- 2004) هذا المعنى الأدبي؛ حيث يهتم دريدا بإيجاد العلاقة بين الأضداد والثنائيات، وإعادة تعريف المفاهيم كونها المنظار الوحيد الذي نرى به الكون؛ فلو فسد ذلك المنظار لفسدت الرؤية، والعكس صحيح، والاهتمام بهذه الأضداد ومحاولات تفسيرها هو أحد جوانب “المادية الجدلية” المعروفة، التي اصطلح عليها بنفي النفي؛ فينشغل الناس بالصراع كحقيقة أولى للكون، واعتبار أن ذلك الصراع هو المولد الحقيقي لشخصية الإنسان في التاريخ، ولا يسري ذلك الصراع على نحو مادي دائمًا؛ بل هو كامن في الروح والنفس، وصراعات البشر مع بعضهم هي صراعاتهم الداخلية أولًا، والتي تولدت ظروف لتسمح بانتقالها للخارج في وقت لاحق، وفي مثال فيلم “الآنسة” نجد أن ذلك الصراع أخذ دورته الطبيعية في الداخل أولًا بمشاعر الحرمان والكبت، ثم ينتقل للخارج على شكل جريمة في رسالة إلى ضرورة الاهتمام بعلم النفس ومشكلاتها كشرط أساسي للسلام المجتمعي.
شهدت العلاقة بين السلطة الحاكمة في البحرين وقوى المعارضة السياسية، بما فيها رجال الدين الشيعة محطات عديدة من الصدام والتهدئة
وقد سبق أن شرحنا على مواطن فلسفة دريدا المعروفة بالتفكيكية، وفيها أن الفيلسوف الفرنسي يبحث في الجذور والبنيات المعرفية أكثر من اهتمامه بالنتائج والظواهر الحسية، وهو الذي أعطى للفرنسيين بُعدًا مثاليًا اشتهروا به مع الألمان، ومن خلال البحث في جذور وبنيات الكلمات والمفاهيم، يعرضون التفريق بين الثنائيات والأضداد كمقدمة شرطية للعلم بالنتائج، لأنه لا يمكن معرفة الحقيقة سوى بالبحث عن جذورها المعرفية والطبيعية، وما يتضمن ذلك من ضرورة إعادة تعريف المفاهيم وتجريدها؛ سواء من الذات والتجارب الشخصية بما اصطلح عليه “بالوجودية”، أو بالعقل المجرد بما اصطلح عليه “بالديكارتية”، ووسائل أخرى تميز بها الفرنسيون كانوا فيها أقرب للمثال عرفت في وقت لاحق بالفلسفة القارية.
لقد أعطى ذلك انطباعًا عامًا عن الفرنسي بمثاليته وبحثه الدؤوب عن الحقيقة الأخلاقية والعلمية، ومن هذا الجانب اكتسبت الشخصية الفرنسية طابعًا “ثوريًا” تجلى في مظاهرات وانتفاضات ميّزت التاريخ الفرنسي المعاصر؛ أبرزها أحداث مايو 1968، والتي كانت في نظر الكثيرين نقطة اتصال بين حقبتين، الأولى: رأسمالية إمبريالية شكلها الرئيس شارل ديجول بعد الحرب العالمية الثانية؛ فيما عرفت لاحقًا “بالجمهورية الخامسة”. والثانية: مزيج من الرأسمالية والاشتراكية والنزعة الثورية ضد السلطات، والتي اصطلح عليها لاحقًا بالفوضوية أو الأناركية، وهي نزعة ملحوظة في التاريخ الفرنسي خلال القرنين 19 و 20 لم تتوقف حتى اليوم، آخرها انتفاضة السترات الصفراء ضد الرئيس الفرنسي ماكرون عام 2018.
ولشرح الخلفية وراء ذلك فيمكن تصور ما حدث بأن الجماهير الفرنسية المنتفضة رأت أنه وبعد 170 عامًا من الثورة الفرنسية، أن الدولة ما زالت تحكمها مؤسسات مستبدة ما زالت متأثرة بتناقض النص الديني؛ فالأسلوب الفردي الذي كانت تدار به فرنسا آنذاك بالستينات، هو وريث طبيعي للآلية العقلية التي يعمل بها رجال الدين؛ فالانتفاضة كانت موجهة ضد هذا الاستبداد بالأساس، والذي يراه المتظاهرون دينيًا في جوهره محافظًا في شعبيته؛ فعلى الحكومة أن تُعيد النظر في العقد الاجتماعي بما يضمن تمثيلًا عادلًا للمؤسسات مع ضمان الحريات الشخصية والفردية.
إن هذه الانتفاضة عام 1968 لم تكن سياسية فقط؛ بل فكرية أدت لتغير كبير وهائل في طرق التفكير الفرنسية؛ بل وبالعديد من دول العالم التي تابعت تلك الأحداث وتأثرت بمجرياتها، ولأن كل حدث له مقدمات؛ فالثقافة الفرنسية التي أنتجت تلك الانتفاضة ساهمت بشكل أو بآخر في صنع بعض الظواهر التحررية آنذاك؛ خصوصًا ناحية الجنس فيما اصطلح عليها بالحركة الهيبية، والثورة الجنسية، وهي الظواهر التي أدت لانفتاح البشر اليوم على الجنس دون محاذير؛ فالتغير الذي حدث بفرنسا لم يكن سياسيًا فقط بنهاية شارل ديجول وتهديد جمهوريته الخامسة، ولكن في تغير ثقافي التزم الطابع الفرنسي الخاص بالثورة والتمرد الدائم على السلطات السياسية، وثقافة الرفض لكل السلطات الأخرى؛ بما فيها الأسرة والمجتمع، وإعادة النظر في مفاهيم الحرية والمجتمع وإعادة رسم العلاقة بينهما من جديد.
الفلسفة والحريات ثقافة فرنسية عامة
ولا يمكن تصوير ذلك المتغير على أنه طارئ على الثقافة الفرنسية؛ بل مبادئ عليا حكمت الشخصية الفرنسية منذ ثورتها الكبرى نهاية القرن الثامن عشر (1789- 1799م)، والذي حدث عام 1968 هو مجرد تصحيح أو إعادة تصويب مسار للتاريخ الفرنسي، ووضعه في إطاره الطبيعي وفقًا لاهتمام فرنسا بالفلسفة والحريات الفردية كقيم عليا، وهي القيم التي ترسخت في التعليم حتى صارت الفلسفة “مادة إلزامية” في المدارس الثانوية، يجري من خلالها تدريب الفرنسيين على التفلسف والتفكير الحر دون قيود.
ولقيمة الحرية في التاريخ الفرنسي رأينا الضجة التي حدثت بعد محاكمة الفيلسوف “روجيه جارودي” في التسعينات بعد اتهامه بمعاداة السامية لكتاباته الكثيرة والدقيقة ضد إسرائيل، والتي كان أشهرها “ملف إسرائيل” و “الأساطير المؤسسة لدولة إسرائيل”؛ فالاستثناء بمحاكمة جارودي يؤكد القاعدة على قدسية الحرية لدى الفرنسيين؛ خصوصًا “حرية التعبير”، ولأن الحرية تعني التفاعل الديناميكي بين مكونات المجتمع؛ فالناتج المهم والثمرة الأعلى لها هي العلم ودقة الفكر، ولا يمكن الحصول على تلك الثمرة دون الفلسفة.
لذلك فالنظام الجمهوري الفرنسي الذي جرى تأسيسه منذ القرن 19 يقوم في جوهره على الفلسفة وإعلاء قيمة الفرد بالأساس، ولولا ذلك ما ظهرت “حرية التعبير” كرد فعل على استبداد الكنيسة الكاثوليكية والإقطاع، واعتبار أن هذه الحرية هي عنوان مجتمع فرنسا ومادة فوق دستورية تحكم جميع القوانين، وقد أفاض الفيلسوف الفرنسي “مونتسيكيو” (1689- 1755م) في موسوعته “روح الشرائع” الأسباب المعقولة لأن تكون الفلسفة والحريات شرطًا أساسيًا في تكوين فرنسا، باعتبار أنه لا قانون عادلاً سوى بالفلسفة الحرة، وبدون الفلسفة والحريات لن يكون هناك قوانين عادلة وبالتالي -وفقًا لفهمي لمونتسيكيو-؛ فلا جمهورية حقيقية فرنسية؛ بل إعادة إحياء لاستبداد وظلم من نوع آخر قد يكون مرتبطًا بالاستبداد القديم، أو يقوم عليه أو على بعض أجزائه.
وقد أثر هذا الطابع الفرنسي للجمهورية الأولى على الفلسفة الفرنسية بالقرنين 19 و 20 لتصبغها بصبغة اجتماعية، تكون هي الوسيلة العملية المضمونة لتعزيز “الفلسفة والحريات”، وقد أنجز الفرنسيون علم الاجتماع المعاصر لهذا الغرض عن طريق عدة فلاسفة؛ أبرزهم “إميل دوركايم” (١٨٥٨ – ١٩١٧)، والذي وضع علم الاجتماع المعاصر عن طريق أهم كتبه “تقسيم العمل الاجتماعي” ١٨٩٣ و”قواعد المنهج الاجتماعي” ١٨٩٥ و”الانتحار” ١٨٩٧ و”الصور الأولية للحياة الدينية” ١٩١٢ و”التربية الخلقية” ١٩٢٥. وكان قد أصدر مجلة “السنة الاجتماعية” في ١٨٩٦ وظل يصدرها إلى ١٩١٣ بمعاونة ليفي برول وموس وهوبرت وفوكوني وبوجلي وبسيميان ودافي وهلبكس، وهم أركان علم الاجتماع في فرنسا الآن، وقد استؤنف إصدار المجلة سنة 1925م” (تاريخ الفلسفة الحديثة /يوسف بطرس كرم صـ 432).
ونظرًا لأهمية علم الاجتماع في الثقافة الفرنسية باعتباره فصلاً من فصول التفلسف السلوكي، يمكن اعتبار أن أعمال الفيلسوف الألماني “إيمانويل كانط” (1724- 1804م) لها إسهامات في تشكيل الثقافة الفرنسية؛ فكانط وبرغم أنه ألماني فقد عاش معظم حياته في روسيا، لكنه صاحب عقل فرنسي تقليدي متناغم مع اهتمامات الفرنسيين في عصره؛ مثل “العقد الاجتماعي – الدولة – القانون – الأخلاق – العقل المجرد – العلم التجريبي”؛ فلم يخرج عن اهتمامات فلاسفة فرنسا المعاصرين له من أمثال روسو وفولتير ومونتسكيو وهولباخ وسان سيمون وغيرهم، والسمت المميز لهؤلاء هو البحث الأنطولوجي الميتافيزيقي إثباتًا ونفيًا؛ فالفرنسيون آنذاك كانوا مهتمين بإثبات حقيقة الدين والبحث في الغيبيات، نظرًا لما قلناه في المقدمة لشرح الفكر الفرنسي، أن الفلسفة الفرنسية تبحث في الجذور مثلما تميزت به تفكيكية جاك دريدا على سبيل المثال لا الحصر.
فكانط وبرغم أنه خصم للميتافيزيقا، لكنه انشغل بها في محاولة لتطوير الديكارتية، وكأنه استغرق في العقل الفرنسي الديكارتي ليرد على أحد أهم جوانب الإيمان؛ وهو “الميتافيزيقا” باعتبارها دليلاً على وجود الله، وكذلك استغرق كانط في مفهوم الدولة من وجهة نظر اشتراكية توجد تفاعلاً بين قيمة الفرد واستقلاله من جانب، وبين سلطة القانون الأخلاقي العام من جانب آخر، مثلما فعل ذلك “روجيه جارودي” (1913- 2012م) في كتابيه “ماركسية القرن العشرين” و “النظرية المادية في المعرفة”، وكذلك ما فعله كانط في كتابه “نقد العقل العملي” يشبه الأفكار التي صاغها الفيلسوف الفرنسي “سان سيمون” (1760- 1825م) أحد أشهر منظري الاشتراكية في العالم، وأستاذ “أوغست كونت” (1798- 1857م) أحد أهم مؤسسي علم الاجتماع الحديث، والأب الروحي للفلسفة الوضعية، ومن هذا المنطق يعتبر الكثيرون كانط من آباء علم الاجتماع الحديث وأحد رواد الاشتراكية الأوائل.
علم الظواهر كثقافة فرنسية
ولأن هناك شيئًا مشتركًا بين الألمان والفرنسيين تجلى في كانط؛ فيمكن اعتبار أن علم الظواهر “الفينومينولجي” هو الشيء الأكثر اشتراكًا بين الثقافتين، لكنه صار فرنسيًا بالغالب بعد تطويره على يد “جاستون باشلار” (1884- 1962م) بعد تأسيسه وشرحه من مدرسه الأول “إدموند هوسرل” (1859- 1938م).
ويقوم هذا العلم على فرضية تأثير الظواهر الحسية في الوعي على هيئة ارتباط شرطي، أي أن كليهما -الواقع والفكر- عارض ومعلول لكل منهما، وبالتالي فهو يخالف مبدأ من يقول بأن هناك موضوعات وذوات منفصلة عن الحس؛ بل يوجد ارتباط وإن لم ندركه، ومن خلال هذا العلم ظهرت مدارس علمية؛ أشهرها في التاريخ لميرسيا إلياد، والتي تنطلق من فكرة دراسة التاريخ والأديان بناء على الظاهرة الإنسانية وسلوكها في الطبيعة، وهو اتجاه ميّز القائلين بالظاهراتية بناءً على هذا الرباط الشرطي المعلوم بين الفكرة والواقع؛ فكلاهما عارض للآخر. فلا واقع حسيًا بدون فكرة أنتجته أو تأثرت به، ولا فكرة بدون واقع أنتجها وأثر فيها.
علمًا بأن الظاهراتية وإن شرحها هوسرل وباشلار، لكنها قديمة منذ القرن 18، وإن صاغها العديد من الفلاسفة بأشكال مختلفة؛ أبرزهم “كانط وهيجل”؛ بل في تقديري هي أقدم منذ عصر “ديكارت”، الذي ربط بين الواقع والفكر بمقولته “أنا أفكر إذن أنا موجود”، في أول رباط شرطي بين الفكر والوجود، وهو الرباط الذي أدى لرباط شرطي آخر بين الفكر والواقع/ الحس، ولأن مؤداها يعني التنوع؛ حيث إن اختلاف الظواهر يعني اختلاف الأفكار المنتجة، بالتالي فلا يجوز القول بأن جميع الناس ترانا مثلما نراها، أو أن الآخرين يرون الكون مثلما نراه؛ فالصور الحسية الطبيعية على مدى اختلافها هي نتيجة لأفكار مختلفة وصور ذهنية شديدة التباين ما بين التنظيم والارتباك، ما بين الذكاء والغباء، الفكرة التي انتبه إليها جاك دريدا ووصل إليها في التفكيكية أن تلك الثنائيات والمتضادات من الضروري العلم بها كأساس لفهم الإنسان والواقع وبالتالي الوصول للحقيقة.
ولأن فرنسا عملت بالظاهراتية؛ فالعقول الفرنسية نشأت على احترام العلم، لأن علم الظواهر يحترم العلم الطبيعي والتجريبي، ويظهر من مصنفات باشلار هذا الاتجاه العلمي مثل ” تكوين العقل العلمي والفكر العلمي والعقلانية التطبيقية وجدلية الزمن وحدس اللحظة وجماليات المكان”. هذا الذي أدى لأن تكون فرنسا قوة عظمى طوال 200 عام، وأن يصبح جيشها من أقوى جيوش العالم، وإمبراطوريتها الأكثر اتساعًا بالتنافس مع بريطانيا، ولأن القوة يلزمها الجمال والأخلاق للاتساع؛ فاهتم الفرنسيون بالجمال، حتى ضُرب المثل بالعاصمة الفرنسية “باريس” بعاصمة الجمال والنور من فرط اهتمام سكانها بالعطور والملابس والزهور.. إلخ.
أتذكر أن للفيلسوف الفرنسي باشلار أحد الكتب المتناغمة مع هذه الطبيعة الجمالية، وهو “شاعرية أحلام اليقظة”، الذي صاغه وفقًا للمنهج الظاهراتي في رصد جماليات الكون انطلاقا من الذات الأنثوية الكامنة في جميع البشر، وقد شرح نظريته حول أنثوية التأملات الشاردة، وجهد لإيضاح أن التأملات الشاردة وأحلام اليقظة تنتمي إلى الأنيما (الجانب المؤنث في الشخصية الإنسانية في كل رجل وامرأة)، ويرى أن الأنيما ليست ضعفًا، وأنها المبدأ الداخلي لراحتنا، ويربطها بحالة الإبداع والتخيل والصور الشاعرية؛ حيث يؤكد الخيط الرابط بين الحلم والفناء؛ وبين الأنيما في لحظة الإبداع واللحظة الشعرية خاصة (الموسوعة العربية العالمية).
رسالة التنوع والسلام
يبقى أن ما يميز الشخصية الفرنسية هي “التجدد”، بما لديها من قدرة على ملاءمة الواقع المتغير، والتكيف مع المستجدات دون التعارض مع الجانب المثالي والأدبي الذي تميزت به، ومن أبرز علامات هذا التجدد؛ فأكثر فلسفات ما بعد الحداثة شيوعًا وتأثيرًا هي فرنسية الأصل، أو روادها الأوائل ومعلموها وشارحوها فرنسيون، كالتفكيكية على يد جاك دريدا (1930- 2004م)، والبنيوية على يد ليفي شتراوس (1908- 2009)، والوجودية على يد سارتر (1905- 1980)، والوضعية على يد أوجست كونت (1798-1857م) وقد أفضنا على “مواطن” بشرح بعض هذه الفلسفات كالتفكيكية والبنيوية، ومن المؤكد أن خروج هذه الفلسفات المعاصرة والمؤثرة على الفكر البشري من فرنسا لهو علامة على ثراء الثقافة الفرنسية وحيويتها وتجددها وشبابها الدائم.
والشيء المميز في الفلسفة الفرنسية المعاصرة هي نقد الحداثة ومنتجاتها؛ بل وصل الأمر بها لاتهام الحداثة بالتعصب والتحيز، مثلما درج على ذلك جاك دريدا في كتاباته باتهام الفلسفة الغربية بالتحيز الديني الميتافيزيقي، ولعل ما رآه دريدا من حقبة الاستعمار هي التي دعته لذلك الاتهام الشائع، وكان سببًا في انقلاب العديد من الفلاسفة على حكوماتهم؛ فالصورة التي بدا عليها الاستعمار ليست رحيمة ولا عقلانية مثلما يحرص قادة الغرب على تصوير عملياتهم العسكرية وحروبهم دائما؛ بل واستغلال الحداثة نفسها ومنجزات الحضارة والتحدث باسمهم حين يوجه قادة الغرب خطاباتهم إلى الشرق، وهي نزعة احتكارية رآها التفكيكيون والبنيويون عمومًا أنها موروثة من استبداد الكنيسة الأوروبية، وبالتالي فسلوكيات حكام الغرب لم تتخلص بعد من الموروث الطبقي الديني الذي ميز أوروبا في العصور الوسطى.
لقد حرص الفرنسيون على حل مشكلة “الآخر” في الفكر البشري، وهي المشكلة التي أرقت الإنسان طوال تاريخه، وتسببت في حروب لا حصر لها، وسقط فيها مئات الملايين من الضحايا، حتى في اللحظة التي قرر فيها الإنسان أن يتحضر وامتلك الوعي، لذلك نراه قد سقط في حروب أكثر عبثية وجرمًا وتدميرًا مما سبق؛ فالآخر مثّل معضلة لم نجد لها حلاً في الذهنية الغربية لدى كُتّاب ما بعد الحداثة، لذا فنجد كتابات جاك دريدا مهتمة بتفكيك هذا الآخر في بعض أعماله؛ مثل “أحادية الآخر اللغوية”، “الصفح”، “الكتابة والاختلاف”، “تاريخ الكذب”، “استراتيجية تفكيك الميتافيزيقا”، وآخر أعماله “ما الذي حدث في 11 سبتمبر؟”، والذي رصد فيه مشكلة تفكير الغرب ناحية الشرق بالعموم وتأثره بمنهجية استبدادية موروثة ما زالت تتحكم في تصوراته رغم الديمقراطية الشكلية التي يتمتع بها منذ زمن.
والشيء المميز في الفلسفة الفرنسية المعاصرة هي نقد الحداثة ومنتجاتها؛ بل وصل الأمر بها لاتهام الحداثة بالتعصب والتحيز، مثلما درج على ذلك جاك دريدا في كتاباته باتهام الفلسفة الغربية بالتحيز الديني الميتافيزيقي
John Doe Tweet
وعلى هذا النحو درج الفيلسوف الفرنسي “ميشيل فوكو” (1926- 1984م) على نقد الفلسفة الغربية والمجتمع الغربي بالعموم، عبر تسليط الضوء على الطبقة الأوليغارشية التي تتحكم في مصادر المعرفة، وبالتالي الطعن في منتجها العلمي ذي الصفة الاحتكارية؛ فيظهر من الفلسفة الفرنسية طابعها النقدي بوضوح مع أبرز منظريها، كذلك يظهر في كتابات الفيلسوف والأديب المسرحي “جابرييل مارسيل” (1889- 1973م) هذا الطابع النقدي الاجتماعي الذي وجهه بالدرجة الأولى لمجتمعه، “كالمسافر الإنسان” و”رجل ضد المجتمع”، الذي أعاد فيهما الاعتبار للقيم الإنسانية والمجتمعية كمعيار حاكم ومهيمن فوق كل السلطات، مثل “الحب والإخلاص والإيثار” ومقاومة النزعة المادية الاستهلاكية التي هيمنت على الشخصية الغربية في زمنه.
العقل الفرنسي والفرانكفونية
يتبقى القول بأن أن الطابع العام للفرانكفونية مختلف في تفسيره بين نظريات تميل للمؤامرة، وفي هذه تجتمع بعض تيارات اليسار والقومية والإسلامية على أن تعريف “الفرانكفونية” هو خضوع للاستعمار الفرنسي (الحركة الإسلامية في تونس/ دكتور يحيى أبو زكريا صـ 15، 21، 30)، وبين نظريات أخرى تقول بأن الفرانكفونية غطاء وتجمع لعدة شعوب تتحدث اللغة الفرنسية، بلغت حوالي 80 دولة (مجلة الآداب الأجنبية/ قمر كيلاني العدد 88 لسنة 1996 صـ 7 بعنوان الفرانكفونية وافتتاحية العدد).
ومصدر هذا الاختلاف يتمحور حول دور السياسة في الثقافة وتشكيل وعي الشعوب، وكيف ينظر المثقفون لهذا الدور بين من يراه علميًا إنسانيًا، وبين من يراه تغربًا سياسيًا، ولكن الذي يجمعهم هو الاتفاق على تأثير اللغة الفرنسية في ثقافة هذه البلدان؛ إما سلبًا أو إيجابًا؛ فيميل الفريق الأول للتمترس حول اللغة العربية وبيانها وبلاغتها كجزء من الاعتزاز بالهوية ومقاومة التغريب، بينما يميل الفريق الثاني للتصالح مع فرنسا تاريخيًا والعمل على الاستفادة من قدراتها الاقتصادية والسياسية والعسكرية للتطوير والنهوض بدول المجموعة التي تأسست عام 1970، وأن هذا التعاون لا يعني التفريط في الهوية العربية أو الإسلامية؛ بل هو من قبيل الفعل الحداثي التي تتجاوز فيه شعوب العالم تاريخها وكثيرًا من آلامها في الماضي.
حُجة الفريق الأول أن فرنسا تخلت عمليًا عن شعارات ثورتها الكبرى (الحرية الإخاء المساواة)، وأنها استعمرت شعوب العالم لكي تفرض ثقافتها الدينية والاجتماعية ليس إلا، وبالتالي فرفض الفرانكفونية يحمل في طياته رفضًا للتبشير المسيحي وعادات المجتمع الفرنسي، كالأزياء والملابس المتحررة مثلاً، أو ثقافتها العلمانية المتشددة في فصل الدين عن الدولة بشكل مختلف عن أغلب شعوب العالم العلمانية، وهو ما جرى تفسيرها (بالعلمانية الفرنسية) التي قال فيها عمرو الشوبكي في مقاله بصحيفة الشرق الأوسط: “إن خصوصية العلمانية الفرنسية ترجع إلى أنها ظلت لقرون في حالة «كفاحية» لاقتلاع سلطة الكنيسة الدينية وفصل الدين عن المجال العام، وليس فقط المجال السياسي كما توافقت عليه النظم العلمانية في العالم”.
بالطبع سوف يؤدي هذا التصرف –وفقًا لتعريف الشوبكي– لردة فعل محافظة ترى وجوب رفع الهوية القومية والدينية، كإجراء دفاعي واحترازي ضد فرنسا، وعلى هذا المنوال ظهرت الحركات القومية والدينية العربية والأفريقية، والتي تجلت في استقلال دول الفرانكفونية عن فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، وعن أحداث سياسية مؤخرًا في أفريقيا تقاوم وتكافح ما تسميه “النفوذ الفرنسي” في البلاد، أشهرها ما يحدث في “مالي وتشاد والنيجر وبوركينا فاسو”.
بالتالي فالفرانكفونية عند هذا الفريق هي مجرد كيان استعماري باسم الثقافة، يتجاوز إطارها التاريخي التي صدرت عنه؛ فوفقًا للباحثة “رقية بوقراص” وبحثها بعنوان “الفرانكفونية في السياسة الخارجية الفرنسية، و”بن يوسف بن خدة” للسنة الدراسية 2008، 2009 بجامعة الجزائر صـ 25، أن الفرانكفونية تعني (صوت فرنسا)، وهي مكونة من مقطعين؛ فرانكو يعني فرنسا، وفون يعني صوت، وقد صدر لأول مرة عام 1871م عن طريق الجغرافي الفرنسي “أونسيم ريكلو”، في سياق التوسع الجغرافي الفرنسي في القارة الأفريقية والشرق الأوسط، وتبرير هذا التوسع على أنه امتداد للحالة الثورية الفرنسية بتصدير النور إلى العالم وفقًا لتعريف قادة فرنسا للتنوير الذي كان شعارًا لتسويق احتلالهم للبلدان الأفريقية والعربية طيلة أكثر من 100 عام.
إلا أن فرنسا نشرت معنى دلاليًا آخر بعد الحرب العالمية الثانية، يعني الشراكة والتعاون بين فرنسا والدول الناطقة فالفرنسية؛ خصوصًا منذ حقبة الستينيات بهدف مقاومة حالات الاستقلال والانسلاخ عن فرنسا كليًا التي رفعتها الأحزاب القومية والدينية، وقد تحدث بهذا المعنى الدلالي الزعيم الفرنسي “شارل ديجول” والتونسي “الحبيب بورقيبة ” والسنغالي “ليوبولد سنغور” (الفرانكفونية والتعريب/ مصطفى الغربي صـ 90، 91)، علمًا بأن هذا المعنى يتجاوز التعبير اللغوي لآخر عقلي، وهو الإبقاء على الصلات المشتركة المتمثلة في معرفة اللغة الفرنسية وثقافتها، وتوثيق الصلات بين أعضاء المجموعة وفرنسا الأم (الموسوعة الاقتصادية الاجتماعية/ إسماعيل عبدالفتاح صـ 373)، وهو ما يعزز منطق المؤامرة عند شعوب المنظمة الفرانكفونية، وكثيرًا ما يصنع ذلك مشكلات سياسية وفجوات بين الشعوب وحكامها في تلك المنظمة.
إذن فنحن لا نجد في الواقع “عقلاً فرانكفونيًا” متفقًا عليه بسبب عمليات تسييس هذا العقل، ونزعه من إطاره الثقافي إلى إطار آخر سياسي يتضخم أحيانًا ليصل إلى المستوى العسكري، لكن شيئًا ما في هذا العقل ظل وارثًا لإنجازات فرنسا الأولى المعروفة بالعقد الاجتماعي والديمقراطية الانتخابية، التي كانت فرنسا أول من صدرته إلى شعوب الشرق والجنوب إبان حملات نابليون بونابرت وخلفائه، وكذلك هناك شيء ما في تفسير الحريات على نحو إنساني ينزع لمقاومة حالات الأسلمة والتعريب القبائلي – وليس اللغوي –، ولهذا تميل شعوب المغرب (تونس وليبيا والجزائر والمغرب وموريتانيا)؛ حيث ظهرت فيها حركات ترى أن العروبة والانتماء للوطن العربي يكون (لغة ودينًا) وليس قبيلة وعرقًا، ولذلك لا يجوز استيراد ثقافة وسلوكيات قبائل العرب الصحراوية في الخليج واعتبارها من الإسلام أو هي ركن أساسي أو فرعي في الدين.
ويبدو أن هذا التيار الذي يفسر العروبة بهذا الشكل هو الذي أنتج حالة من التنوير لدى هذه الشعوب في العقود الأخيرة، ومن أبرز روادها “مالك بن نبي والصادق نيهوم والطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري وطه عبد الرحمن.. وغيرهم”. وهناك من يُعيد حالة الفكر التقدمي هذه لزمان أقدم من تأثيرات الثورة الفرنسية؛ حيث إنه يمكننا استكشاف أثر الجغرافيا على الثقافة، وبالتالي تأثير أوروبا المسيحية في القرون الوسطى على شعوب المغرب بحكم الجوار الجغرافي والاحتكاك؛ فهؤلاء الفلاسفة والمفكرون السابق ذكرهم هم امتداد طبيعي لأسلافهم بالأندلس كالقاضي أبي الوليد بن رشد (٥٢٦–٥٩٥ﻫ/١١٢٦–١١٩٨م)، وأبي بكر بن طفيل (٥٠٦–٥٨١ﻫ/١١١٠–١١٨٥م) ، وأبي بكر بن باجة (المتوفى عام ٥٣٣ﻫ/ ١١٣٨م )..وغيرهم.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.