وجد في الأدب ملاذًا للحرية، وطريقًا للتمرد على أسوار معتقل القمع الذي استخدمه النظام العراقي خلال عهد صدام حسين، لحبس أنفاس الأكراد وإخماد أصواتهم، سخر لغته الأم -الكردية السورانية- ليشعل الثورة نحو القضية الكردية داخل أعماق المجتمع الكردي؛ لاسيما بعد أن شعر بفساد النخبة السياسية الكردية واستبدادها، حتى صار بختيار علي، في منتصف التسعينيات الكاتب الأكثر شهرة داخل إقليم كردستان.
وكانت فترة الحرب الأهلية الكردية التي سطر فيها بأشعاره ورواياته معاناة الأكراد وآلامهم، بعد أن مُنعت أعماله الأدبية من النشر، واعتُقل خلف الجدران لسنوات طويلة بقرار سياسي رقابي وعقابي، الشاعر الذي أصبح أيقونة النضال الكردي الأدبي، المولود في السليمانية عام 1960، استعمل الفلسفة لطرح أفكاره، أنصف لغته الكردية حينما كتب بها كل أعماله من الشعر والرواية، وردت الكردية له الجميل؛ فحصد عن أعماله جائزة نيللي ساكس عام 2017، ونال جائزة “هيلدا دومين” لأدب المنفى بألمانيا في مارس 2024، تستضيفه مواطن في حوار صحفي عن شعره ورواياته وأدواته السردية، والجوائز التي حصل عليها، ونتذكر معه سنوات الهروب من قبضة الرقابة الدينية والسياسية والاجتماعية.
- كيف ننقذ البشر من بشاعة السیاسة في الشرق؟ ذلك كان هاجسي وسؤالي دائمًا.
- أصبحت السياسة مرادفًا لكراهية الحب والسعادة البشرية.
- ماذا علی الضحیة أن تفعل للآخرین من حولها؟
- أنظر إلى الحالة الكردیة ضمن سياقها الإنساني الشام.
- لیس كل ما أكتبه له علاقة بالتاریخ السياسي لأكراد العراق.
وصف الناقد الألماني شتيفان فايدنر، روايتك “آخر رمانات العالم” بالقنبلة؛ فكيف فجرت الواقع القاسي للشعب الكردي بالعراق قبل الانتفاضة ضد صدام حسين؟
المشكلة لا تكمن أبدًا في الموضوع؛ فلدی كل إنسان كردي وربما عراقي حكایة أو حكایات مؤلمة. حیاتنا في تلك الفترة كانت خارجة عن المألوف؛ حروب مستمرة وخوف دائم وتدمير مبرمج، حتی لو تحول الشعب بكامله إلى روائيين، لن نستطيع سرد الفاجعة بكل تفاصيلها. كانت المشكلة وما تزال هي إیجاد الإطار الروائي المناسب للسرد. لم أجد أبدًا صعوبة في إيجاد مواضیع وشخصیات تجسد المرحلة الكارثیة في تاریخ العراق الحدیث، أما إيجاد التقنيات المناسبة للمعالجة السردية فلم تكن بالعملیة السهلة؛ خصوصًا أن الرواية جنس أدبي جدید عند الأكراد. أخذ الهمّ الجمالي حصة الأسد من جهودي في إيجاد الشكل المناسب، الإيقاع اللغوي الصحیح وتنظیم التنوع الصوتي بین الشخصیات، كل تلك المعاییر إذا استعملت من قبل الكاتب بشكل صحیح، هي كفيلة بإيصال الروایة إلى درجة جمالية، تمكنها من نقل الحكاية التراجیدیة بشكل مؤثر إلى القارئ.
ما الأدوات السردية التي استخدمتها لفضح ممارسات النظام البعثي ضد الأكراد؟ وكيف يساهم الشعر الكردي في تعزيز وعي المواطن الكردي بقضيته؟
أستعمل تقریبًا كل التقنيات السردية المتاحة، في بعض النصوص هناك سارد كلي القدرة، ما نسمیه الراوي الذي یری ويحس بكل شيء، وفي روايات أخرى التقنیة البولیفونیة، أمیل كثیرًا إلی الفخامة الكلاسیكیة، ولكن بدون رتابة السرد الواقعي البحت الذي یعني نوعًا من الواقعية المطعمة بعناصر غرائبية. العنصر الغرائبي السریالي كان دائمًا من أهم أدواتي لكشف الجانب المظلم من الواقع؛ الواقعیة المجردة لیس بإمكانها إنتاج الشحنة المطلوبة لاختراق الواقعً؛ فقط بمساعدة العناصر الشعریة نقوم بتنوير الزوایا الخفیة والحالكة.
هناك دائمًا سؤال جوهري تتبلور حوله نصوصي: ماذا علینا أن ننقذ عندما نقف في وسط الكارثة؟ ماذا علی الضحیة أن تفعل للآخرین من حولها؟ هذا السؤال یسیطر علی مخیلة الكثیر من شخصیاتي.
الشعر الكردي كان دائمًا وسيلة للتعبير عن الغضب واليأس والمعاناة، وساهم بشكل مفرط في إنتاج نوع من الرؤية المأساوية للعالم، هو نوع من الوعي القومي المتقوقع على ذاته، حاولت من خلال تجربتي الشعریة الخروج من البعد التراجيدي ـ القومي الضیق، والتوجه نحو قضایا أكثر إنسانية وكونية، دون أن أنسى مهمتي في التعبیر عن الرضّات التاريخية التي تثقل كاهل الإنسان الكردي.
المشهد الثقافي الكردي لا ينفصل عن المشهد السياسي الكردي.. فكيف ظهرت الحرب الأهلية الكردية في أعمالك الأدبية؟
مع الأسف؛ الارتباط بین السياسي والثقافي لیس بظاهرة إیجابیة دائمًا، لعقود طويلة نسبيًا سیطر الهم السياسي والخطاب الحماسي المباشر على مجمل الكتابات الكردیة، وفي بدایة التسعينيات حاول الجیل الجدید تفكيك تلك العلاقة التي كانت تعتبر عند البعض مقدسة، أو على الأقل تنظیم العلاقة حسب معايير جديدة لا يقع فیها الثقافي تحت سطوة السياسي. في كل رواياتي ومقالاتي لدي رؤية نقدية للسياسة، لا أريد أن أستسلم للأساطير التي يروجها السیاسیون في الشرق، یعیش الحقل السياسي في الشرق على العموم، حالة من فك الارتباط مع الفلسفي والمعرفي، انحرف الحقل السياسي كلیًا لتصبح تحت سیطرة المغفلين والشعبویین والمتطرفین، أصبح حقلاً ناتجًا عن الكراهية والتمزق. الحرب الأهلية الكردية خیر دلیل علی تحول الثوريين القدامى إلى نخبة تستعمل السیاسة كوسیلة للهیمنة والسطوة، والهیمنة بمعناها الشامل، بمعنى أنها على طرق الحياة والتفكير، ومن أهم وظائف الأدب تقديم نموذج إنساني مغاير لما تقدمه السیاسة. كيف ننقذ البشر من بشاعة السیاسة في الشرق؟ ذلك كان هاجسي وسؤالي دائمًا.
نشر لك عام 1992 مقال بعنوان “المجتمع الجنائزي”، وهذا ما يدعونا لسؤال؛ لماذا ينظر الأدب الكردي إلى الدراما التراجيدية في الوجود؟ هل يعود ذلك إلى المعاناة التي عاشها الشعب الكردي؟
الرؤية السوداوية، تمجید الموت، وتقديس الشهادة هي من الصفات البارزة عند جميع شعوب الشرق، كراهية الحیاة لها جذور عميقة في التراث الديني والصوفي، مع ظهور الفكر القومي والنضال ضد القوى الاستعمارية أخذ مفهوم الشهادة بعدًا سیاسیًا، أو اندمج البعد السياسي مع البعد الديني لتمتلك جاذبية رهیبة، تقود الأفراد والمجتمعات لتمجيد ثقافة الموت. أعتقد أن ظهور المجتمعات الجنائزية لها علاقة وثيقة بانحراف حركات التحرر في المنطقة عن المسار الإنساني التحرري، لقد أصبحت السياسة مرادفًا لكراهية الحب والسعادة البشرية، واستعمال الفاجعة كسلاح سیاسی، استحضار الأموات لتحريك الجموع بشكل عاطفي، من الصفات البارزة لكل الحركات السیاسة المسلحة في الشرق الأوسط، بما فیها الحركة الكردیة.
أصدرت مجلة “رامان” عام 2000، ملفًا خاصًا عن أعمالك الأدبية، ونشرت مجلة “نما” ببليوغرافيا شملت جميع كتاباتك والدراسات النقدية الكردية التي أُجريت عن أعمالك الأدبية.. فهل تعتبر نفسك الحبر الذي سّطر معاناة الأكراد في إقليم كردستان؟
أعتبر نفسي من المحظوظین؛ فقد كتبت مئات وربما الآلاف من النصوص والمقالات والدراسات حول ما كتبت. إنه إحساس رائع عندما يتفاعل الآخرون بشكل واسع مع ما تكتب سلبیًا كان أو إیجابیًا. كلا لم أحاول أبدًا أن أكون ناطقًا باسم الآخرين، حاولت دائمًا التفرد بصوتي، لدي الكثير من الأسئلة الفكرية والجمالية والأخلاقية الخاصة، ولیس كل ما أكتبه له علاقة بالتاریخ السياسي لأكراد العراق، أنا أنظر إلى الحالة الكردیة ضمن سياقها الإنساني الشامل. إذا لم نستطع ربط الألم الكردي بالألم الإنساني العام، فلن نستطيع إنتاج أدب رفيع ومفهوم من قبل الجمیع. حاولت دائمًا أن ألقي الضوء على محاولات الإنسان للحفاظ على طبیعته وهویته الإنسانية في أحلك الظروف، لقد عشنا سنوات رهیبة من العنف والقمع، لقد ركزت كثیرًا على عنصر التكاتف الإنساني بين الضحایا. هناك دائمًا سؤال جوهري تتبلور حوله نصوصي: ماذا علینا أن ننقذ عندما نقف في وسط الكارثة؟ ماذا علی الضحیة أن تفعل للآخرین من حولها؟ هذا السؤال یسیطر علی مخیلة الكثیر من شخصیاتي.
الشبكة الرقابية كانت موجودة ولاتزال، حاولت أن أستعمل الحریة التي أتمتع بها في الغرب للهروب من الرقابة السیاسیة والدینیة. لقد انتظرت طویلاً حتى نشر البعض من أعمالي، فترة الحرب والهجرة إلى الغرب والوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور في كردستان لعبت دورًا كبیرًا في هذه المسالة.
كانت روايتك “نظرت مليًا إلى ليل المدينة” الأكثر مبيعًا في كردستان، أول أعمالك الكردية التي يتم ترجمتها إلى الإنجليزية، وبالرغم من أعمالك الشعرية والروائية الكردية المتنوعة إلا أن الأقليم يعرفك بها؛ فبماذا تفسر ذلك؟
اكاد أجزم أن معظم أعمالي استُقبلت بشكل جید عند القراء الأكراد، نشرت إلى الآن أكثر من 44 كتابًا، أنشر سنویًا طبعات جديدة لمعظم ما نشرت في الثلاثين سنة الأخيرة، طبعا هناك كتب فكریة ونظریة موجهة إلى نخبة معينة من المهتمين بالمسائل المعرفية والنظرية. بشكل عام عدد قراء الكتب الفكریة مقارنة مع العدد الهائل من قراء الرواية ضئيل نسبيًا؛ هناك كتب تتعلق مباشرة بالحیاة السیاسیة وبالمسار التاريخي لتطور المجتمع الكردي في ظل التمزق والحروب والتناحرات، ذلك النوع من الروایات يجتذب عددًا أكبر من القراء، لكونها تغطي محطات تاریخیة عاشها القارئ ویملك مفاتیحها. تلك الرواية محاولة لسرد عملية تحول المجتمع الكردي من «مجتمع الثورة» إلى «مجتمع الرخاء والاستهلاك »؛ فهناك صراع حاد بین مجموعة صغيرة يقودها شاعر حالم، وبين نخبة متهورة من بارونات السلطة والمال.
الروایة هي محاولة لإظهار الفرق بين الرؤية الشعرية للعالم في مقابل النظرة النفعية الاستهلاكیة للنخب الفاسدة التي تسیطر علی الشرايين الأساسية للمجتمع، الصراع بین الشعر والسلطة في الروایة يظهر التمزق الحاصل بین الحلم والواقع. سبب شهرة الرواية تعود بالدرجة الأولى إلى نوعیة الأبطال وتعدد الأصوات واللغة الشعرية المستخدمة في السرد، كذلك إلى المواضیع السیاسیة والفلسفية المطروحة في النص.
مواضيع ذات صلة
دائمًا ما يعبر الشعر عن آلام أصحابه ومشاعرهم، برأيك هل عبرت القصيدة الكردية المعاصرة والشعر الكردي بصفة عامة عن القمع الذي تعرض له الأكراد منذ تفكيرهم في إقامة دولة كردية؟
صراحة؛ إن قمع الأكراد لا علاقة له بمشروع الدولة الكردیة، إذا نظرنا إلی برامج الأحزاب الكردیة الرئیسیة في المنطقة في معظم مراحل القرن العشرين، لا نجد إشارات ملموسة تدل على وجود نية لقیام دولة كردیة. هناك أسباب تاریخیة لهذه الظاهرة؛ فمثلاً كان للماركسیة بنزعتها الأممیة تأثير هائل على الإيديولوجيا القومية عند الأكراد، طبعا هناك عدد آخر من الأسباب -لا مجال لذكرها هنا- دفع بالحركات السياسية الكردیة لتطالب فقط بنوع من الحقوق السياسية والثقافية، وتبتعد عن فكرة الدولة؛ فمشروع الدولة لم يكن في الأساس في صلب المشروع القومي الكردي. إن اضطهاد الأكراد له علاقة بنمط الدول القومية في المنطقة. إن تأسيس دولة قومية بهوية أحادية ولغة محددة مهيمنة، تتطلب قمعًا وانصهارًا ومحاولة دمج قسري لكل الهويات الأخرى.
النظڕ إلی الكردي كـ «الآخر» الذي لا يندمج في الهویة الشاملة، ویقف حجر عثرة أمام تحقيق مفهوم «الأمة الواحدة»، وراء محاولة طمس الهوية الكردية أو حصرها في مساحات ضيقة جدًا. أنا أعتقد أن الشعر الكردي لم يساهم فقط في التعبیر عن معاناة الأكراد؛ بل ساهم في الحفاظ على اللغة، وأنقذ الذاكرة الجماعیة من الاندثار. الشعر الكردي حمل في مراحل معينة على عاتقه إنتاج كل الأحاسيس والخطابات الضرورية للبقاء، عمل كماكينة أیدولوجیة تنتج ما لا تستطیع السیاسة إنتاجها، هیمن الخوف من الزوال والانصهار طوال القرن العشرین على الوجود الكردي، عبر الشعر بشكل واعٍ أحیانًا، ولا شعوري أحیانًا أخرى عن ذلك الخوف، وعن مقاومته وعدم الاستسلام له.
حينما كتبت رواية “موت الوحيد الثاني” في مخيم اللاجئين بإيران، كنت طالبًا مغضوبًا عليه من النظام العراقي مما عطل نشرها بالعراق، وبعد مرور 10 سنوات على كتابتها نشرت في السويد. حدثنا عن شبكات الرقابة السياسية والدينية والأخلاقية والإيديولوجية التي حالت بينك وبين نشر أعمالك؟
الشبكة الرقابية كانت موجودة ولاتزال، حاولت أن أستعمل الحریة التي أتمتع بها في الغرب للهروب من الرقابة السیاسیة والدینیة. لقد انتظرت طویلاً حتى نشر البعض من أعمالي، فترة الحرب والهجرة إلى الغرب والوضع الاقتصادي والسياسي المتدهور في كردستان لعبت دورًا كبیرًا في هذه المسالة. في فترة حكم صدام حسین كوني جندیًا هاربًا من الخدمة العسكریة مُنعت الرواية من النشر، بعد الانتفاضة لم تكن هناك رقابة مباشرة، لقد تمتعنا بحریة حقیقیة لفترة من الزمن، إلا أن الوضع الاقتصادي كان كارثیًا بشكل لا يصدق، لم یكن هناك دور نشر ومؤسسات ثقافیة قادرة على نشر الكتب. مع بدايات حياتي بألمانیا بدأت أفكر بجدیة في النشر، لقد كتبت ونشرت تقریبًا عن كل ما أريد، لا أستطيع أن أشكو سطوة الرقابة كزملائنا في إيران مثلاً، هناك ضغط سياسي وديني لتفادي الكثیر من المواضیع، ولكن لم أهتم في السنوات الأخيرة بتلك الضغوط، لقد كتبت تقریبًا كل ما أرید.
في مراسم خاصة؛ تم منحك جائزة “هيلدا دومين”، الجائزة المخصصة لأدب المنفى، وهي جائزة ذات قيمة أدبية رفيعة في ألمانيا.. ماذا أضافت لك هذه الجائزة على المستوى الشخصي؟
حصولي علی هیلدا دومین وعلى جائزة نلي زاكس من قبل، لها قيمة رمزية هائلة عندي، رغم قلة الترجمة وصعوبة النشر باللغات الأوروبية؛ فقد استطاعت كتبي القليلة المترجمة إثارة الانتباه؛ ففي كلتا الجائزتين أنا الحامل الوحید الذي لا یكتب باللغات الأوروبية. الأوربیون لا يهتمون غالبًا بالكُتاب الذین یستعملون لغتهم الأم في الكتابة، یمیلون بشدة إلى مؤلفين من أصول غیر أوروبية، شرط أن يكتبوا باللغات الأوروبية. أن كسر تلك الهيمنة للغات الأوروبية على الجوائز هو شيء مهم لنا ولكتابنا في المستقبل، أنا سعيد أنني حصلت على الجائزتین دون أن أتنكر للغتي ولقضایا وطني، هذا شيء رائع بلا شك.