في اليمن، البلد الغارق في أتون الصراع منذ أكثر من تسعة أعوام، يدور بين الحكومة المعترف بها دوليًا، وجماعة الحوثيين التي تسيطر على صنعاء، صراع مالي معقد حول العملة والسياسة النقدية. وعلى الرغم مما خلفه هذا النزاع المتصاعد بين الفينة والأخرى من تداعيات سلبية تبرز( مشكلة) ارتفاع عمولات التحويل المالي، من مناطق سيطرة الحكومة اليمنية إلى مناطق سيطرة الحوثيين، كواحدة من أكثر التحديات تأثيرًا على حياة المواطنين.
المواطن سامي عبد الإله، (38) عامًا يعمل في مجال البناء بالأجر اليومي بمنطقة يافع في محافظة (لحج) جنوبي اليمن، يئن ويصرخ من ارتفاع رسوم حوالة مالية يرسلها كمصروف لأسرته، التي تقطن في محافظة ذمار الخاضعة لسيطرة الحوثيين. ويقول: “تخصم شركات الصرافة عمولة باهظة أرهقت كاهلنا والتهمت أقوات أطفالنا، تصل إلى ثلثي المبلغ كعمولة، ولم يعد المبلغ المتبقي يفي بحاجات العيش لأسرتي من غذاء ودواء وتعليم وصحة”. ما يجعل ليس أمامه من خيار سوى العودة إلى منطقته، والبحث عن عمل تفاديًا للعمولات المجحفة التي تلتهمها شركات الصرافة دون وجه حق، حسب وجهة نظره.
كما تعيش أيضًا زوجة محمد وأطفالها الخمسة الذين يعتمدون على ما يحوله لهم رب الأسرة المقيم في محافظة عدن الواقعة تحت سيطرة الحكومة، أوضاعًا معيشية قاسية منذ أكثر من 7 أعوام، بسبب استقطاع شركات الصرافة 80% من مصاريفهم الشهرية المقدرة بـ 300 ألف ريال يمني، ما يعادل 177 دولار أمريكي والتي لا تكفي لسد احتياجاتهم كرسوم تحويل. ويقول محمد ناصر(33) عامًا، وهو رب الأسرة: “بسبب استقطاع شركات الصرافة رسوم التحويل، أصبح أطفاله في حالة صعبة وظروف معيشية متدهورة، يفتقرون لأبسط متطلبات العيش من الغذاء والدواء وغيرها”.
وفق تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش؛ فإن انهيار العملة اليمنية أدى إلى انخفاض القوة الشرائية للأسر، وأصبح ملايين اليمنيين عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية.
ويستطرد: “المبلغ الذي يصل أبنائي لا يمكنهم من شراء المتطلبات الضرورية؛ خصوصًا في ظل ارتفاع أسعار المواد الغذائية، واختلاف سعر العملة بين مناطق للحكومة ومناطق الحوثيين؛ ما تسبب في تدهور حالتهم المعيشية والصحية”.
ويضيف: “حاولت جاهدًا وعملت إلى جانب عملي، كمحامٍ في بيع القات لأجل تلبية احتياجاتهم، إلا أن ارتفاع عمولات التحويل وعدم الاستقرار كانا مشكلة أخرى حالت دون تحقيق توفير المتطلبات الهامة واللازمة لضمان العيش الكريم لهم”. مشيرًا في ختام حديثه إلى أنه ليس بمقدوره فعل أو تقديم أكثر مما يقدمه لأطفاله الآن أو دفع الضرر عنهم؛ لاسيما في ظل استمرار الصراع المالي وما نتج عنه من اختلاف قيمة العملة الوطنية داخليًا، وتراجع قيمتها أمام العملات الأجنبية.
قصتا سامي ومحمد، هما من بين آلاف القصص التي تكررُ نفسها في ظل ما يكابده اليمنيون من مشقة في توفير متطلبات الحياة اليومية، التي أنهكت كاهلهم بسبب ما آلت إليه البلاد من تدهور اقتصادي وانقسام مالي أرهق كاهلهم، وفاقم معاناتهم؛ فأصبح للعملة في مناطق سيطرة “الحوثيين” سعر تختلف قيمته عن سعرها في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية. وعن هذا يقول صادق الحسيني، أحد المواطنين: “إن ارتفاع عمولات التحويلات والقيود على التحويلات الداخلية أثرت بشكل كبير على الجميع؛ لاسيما الفئات المحرومة التي تعتمد بشكل كلي على الراتب الشهري”. ويضيف: “نواجه -نحن ذوي الدخل المحدود- مصاعب اقتصادية خانقة، تفاقمت وزادت بسبب ارتفاع رسوم الحوالات وأسعار العملات الأجنبية بشكل جنوني، بينما يبقى الراتب ثابتًا، دون أية زيادة تتناسب مع هذا الارتفاع”.
ويُوضح صادق (29) عامًا، والذي يعمل معلمًا في إحدى مدارس مدينة المخا التابعة لمحافظة تعز شمال اليمن، أنه يضطر في أغلب الأحيان للعمل في أعمال البناء والتشييد إلى جانب عمله، لكي يستطيع تحقيق تلبية احتياجات أسرته المقيمة في مناطق سيطرة الحوثيين”. ويختم قائلًا: “أخشى أن يأتي يوم لا أستطيع فيه توفير الطعام لأبنائي بسبب التضخم المستمر للاقتصاد، وتهاوي قيمة الريال يومًا تلو الآخر”.
وفي حديثٍ لمواطن، يرجع المصرفي اليمنّي عباس عبد الله ارتفاع عمولات إرسال الحوالات المالية إلى تهاوي سعر صرف الريال في مناطق سيطرة الحكومة الشرعية، وتجاوزه حاجز 1000 ريال للدولار الأمريكي الواحد. مبينًا أنه كلمّا انخفضت قيمة الريال اليمني، انعكس ذلك على عمولات الحوالات ارتفاعًا.
ويشير عباس إلى أن عمولات الحوالات المالية ارتفعت بشكل مهول خلال الفترة الحالية؛ حيث وصلت عمولة إرسال حوالة مالية لمبلغ 100 ألف ريال يمني ما يعادل 192 دولارًا أمريكيًا، من مناطق سيطرة الحكومة الشرعية إلى مناطق سيطرة جماعة الحوثي، ومبلغ 314 ألف ريال، ما يعادل 603 دولارًا أمريكيًا، وذلك بنسبة زيادة بلغت 214%.
وحسب شركات صرافة؛ فإن قيمة الدولار الواحد حاليًا 1692 ريالاً في مناطق سيطرة الحكومة (تعز عدن، وحضرموت، أبين ومأرب، شبوة، لحج)، مقارنة بـ 525 ريالًا للدولار الواحد في مناطق سيطرة الحوثيين (صنعاء، ذمار، صعدة، الجوف إب، البيضاء).
عمولات التحويل الناتجة من الانقسام المالي والتي تظهر كفارق صرف، نظرًا لاختلاف العملة بين المنطقتين، تضاعف من تحديات المواطنين في كلتا المنطقتين بنسب متفاوتة.
ووفق تقرير منظمة هيومن رايتس ووتش؛ فإن انهيار العملة اليمنية أدى إلى انخفاض القوة الشرائية للأسر، وأصبح ملايين اليمنيين عاجزين عن تلبية احتياجاتهم الأساسية، في الوقت الذي يعتمد اليمن على استيراد جميع المواد الغذائية والسلع الأساسية من الخارج.
وحسب بيان حديث لمنظمة اليونيسيف بعنوان (الصراع والازمة الاقتصادية يعمقان انعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية)؛ فإن اليمن -بسبب الصراع والتدهور الاقتصادي- من أكثر الدول انعدامًا للأمن الغذائي على مستوى العالم.
كما أشار تقرير حديث بعنوان الحرب من أجل السيطرة النقدية لمركز صنعاء للدراسات الاستراتيجة، إلى أن المواطنين هم من يدفعون الثمن ويتحملون أيضًا تكاليف حرب العملة المتصاعدة، ومن المتوقع أن يتحمل السكان -الذين يعيش ملايين منهم بالفعل على حافة المجاعة- التكاليف المتزايدة؛ ما سيؤدي إلى تآكل القوة الشرائية وتدهور الوضع الإنساني بسبب حرب العملة المتصاعدة.
وأشار تقرير البنك الدولي بعنوان التداعيات الاقتصادية للحرب في اليمن لعام 2023م، نقلًا عن المذكرة الاقتصادية القطرية، إلى أن أزمة العملة وارتفاع أسعار المواد الغذائية، أثرا بشكل كبير على حياة الأسر اليمنية؛ لا سيما التي تقف على أعتاب انعدام الأمن الغذائي.
وبين التقرير إلى أن هناك مسوحات استقصائية هاتفية عالية التواتر، وجدت أن نسبة الأسر اليمنية ذات الاستهلاك الضعيف أو الحديّ من الأغذية، ونسبة الأسر ذات الأداء المتدني أو المتوسط على مؤشر استراتيجية القدرة المنخفضة على التكيف، زادت بمقدار 11 نقطة مئوية، و10 نقاط مئوية على الترتيب بين يوليو/تموز وأكتوبر/تشرين الأول 2018، وهو الشهر الذي سجَّل فيه الريال اليمني المتداول في مناطق الحكومة المعترف بها دوليًا أدنى قيمة له، علاوةً على ذلك زادت نسبة الأسر ذات الاستهلاك الضعيف أو الحديّ من الأغذية، ونسبة الأسر ذات الأداء المتدني أو المتوسط على مؤشر استراتيجية القدرة المنخفضة على التكيف زادت بمقدار 7 نقاط مئوية بين مارس/آذار 2020 وفبراير/شباط 2021.
في المقابل فإن الــ 11 مليون يمني ما زالوا يعانون بشكل يومي في سبيل الحصول على ما يكفي من الغذاء، كما بلغ عدد اليمنيين الذين وجدوا صعوبة كبيرة في الحصول على الغذاء 3 ملايين في 2018، ومليونين في (2021)، كما هو مبين في مدونة البنك الدولي.
مواضيع ذات صلة
من جانبه، يقول الخبير الاقتصادي ورئيس مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي الاستاذ مصطفى نصر : “إن عمولات التحويل الناتجة من الانقسام المالي والتي تظهر كفارق صرف، نظرًا لاختلاف العملة بين المنطقتين، تضاعف من تحديات المواطنين في كلتا المنطقتين بنسب متفاوتة”.
مشيرًا إلى أن الإجراءات والقرارات المالية الأخيرة بين البنك المركزي التابعة للحكومة الشرعية، والبنك الخاضع لسلطة الحوثيين تؤثر بشكل مباشر على المواطنين؛ لا سيما في ظل استمرار العلاقات التجارية وتشابك المصالح التجارية وتبادل السلع وغيرها من المصالح المرتبطة بالتحويلات المالية.
بداية الانقسام
منذ إعلان الحكومة الشرعية في 18/أيلول 2016، نقل البنك المركزي من العاصمة صنعاء إلى مدينة عدن جنوب اليمن. في المقابل، احتفظت جماعة “الحوثيين” ببنك صنعاء الرئيسي كمصرف يرسُم السياسة النقدية لصنعاء ويدير قطاعها المصرفي.
وفي ديسمبر/ كانون الأول من العام نفسه، شرعت حكومة عدن بطبع أوراق نقدية جديدة قُدرت بنحو ترليون و700 مليار ريال؛ فقابل الحوثيون هذا الإجراء بقرارات تحظر تداول الطبعة الجديدة من العملة في نطاق سيطرتهم؛ ما أدى إلى تباين في أسعار الصرف بين المحافظات اليمنية، وأنتج انقسامًا نقديًا ألقى بظلاله على مختلف المناحي الاقتصادية والمعيشية في البلاد؛ فأصبح للعملة في مناطق سيطرة “الحوثيين” سعر تختلف قيمته عن سعرها في مناطق سيطرة حكومة الشرعية.
في ذات السياق، يقول الخبير الاقتصادي اليمني رشيد الحداد: “حتى سبتمبر من العام 2016م، لم يكن هناك أي انقسام نقدي ومالي بين صنعاء وعدن؛ حيث كان الجميع يتعاملون بعملة واحدة”. مشيرًا إلى أن قرار نقل البنك المركزي من القرارات غير الصحيحة والفادحة التي ارتكبتها الحكومة الشرعية، والتي أدت إلى ضرب الوحدة النقدية في البلد.
ويرى الحداد أن هذه الخطوة أدت الى تزايد حدة الصراع المالي بين الطرفين، وأنتجت انقسامًا نقديًا خلّف الكثير من التحديات على الملايين من أبناء الشعب اليمني، نتيجة تفاوت أسعار صرف العملة بين صنعاء وعدن. في حين يعتبر الصحفي والمحلل الاقتصادي محمد الجماعي، أن قرار نقل البنك المركزي أشعل فتيل الصراع المالي، لافتًا إلى أن معالجة أزمة السيولة وحل مشكلة الرواتب ساهما بشكل كبير في إضعاف قيمة العملة المحلية.
حلول ممكنة
ومع استمرار تفاقم حدة الصراع المالي، وارتفاع رسوم التحويلات من عدن إلى صنعاء في الوقت الرهن، ووصولها إلى 200% من إجمالي المبلغ المرسل، في ظل غياب الحلول اللازمة للحد من وطأة تداعياتها السلبية وآثارها الكارثية؛ يرى الخبير الاقتصادي صالح الجعفري أن السلام يُعَدُّ الحل الأمثل؛ لاسيما أن عوامل الصراع المالي هي نفسها التي أدت إلى الصراع العسكري، بما في ذلك التمرد على الشرعية اليمنية.
من جانبه، يقول الخبير المالي والاقتصادي ورئيس مؤسسة الإعلام المالي للدراسات والاستشارات أحمد شماخ: “إن الحلول موجودة في يد الأطراف المتصارعة، وإنه لن يتحقق أي حل إلا بالاتفاق بينهم، وإن عدم تحقيق توحيد السياسة النقدية بين الطرفين سيؤدى إلى انهيار العملة أمام العملات الأجنبية”.
مؤكدًا على ضرورة التوصل إلى اتفاق بين الجانبين بشأن إنشاء بنك مركزي موحد، واستئناف تصدير النفط وتوجيه عائداته إلى هذه الخزينة، لكي نتمكن من القضاء على آثار هذا الانقسام الذي خلف تداعيات كثيرة؛ مثل الفقر والجوع والبطالة وغيرها. ويشدد الخبير الاقتصادي على ضرورة التدخل العاجل لإيجاد حلول تجنب الكارثة التي ستكون لها تأثير كبير على المستوى الاقتصادي والمعيشي في اليمن.
في الختام؛ تبقى آمال الشعب اليمني معلقة بتحقيق اتفاق سياسي شامل يؤدي إلى توحيد السياسة النقدية في البلاد، وإقامة حكومة وحدة وطنية تسترد السيادة على جميع الأراضي اليمنية؛ فالصراع النقدي المستمر قد أضاف معاناة إضافية على عاتق المواطن اليمني، وفاقم من الآثار الاقتصادية والإنسانية للأزمة. وفي ظل غياب حل سياسي شامل، ستبقى البلاد رهينة نزاعات لا تنتهي وأزمات متشعبة، أبرزها الصراع على السيطرة النقدية.