“إن الأسرة هي مصدر كل تربية صحيحة”، حسب التربوي السويسري يوهان هينريك بستالوتزي؛ فهل يعد تكوين الأسرة كنواة للتربية من الجوانب التي توضع بعين الاعتبار عند اتخاذ قرار الزواج في مجتمعاتنا العربية؟ هل يضع المقبلون على الزواج من الشباب العربي في بالهم، أن تكوين أسرة لا يكون فقط بالإنجاب والعيون الزرقاء والأكتاف العريضة والأرداف الممتلئة والجيوب الممتلئة؟ وإنما يتطلب الأمر أكثر من ذلك بكثير، ويتعداه إلى تقديم الرعاية والاهتمام وتوفير المحبة والأمان والاستقرار والتوازن، بما يضمن تشكيل أسرة تتحمل مسؤولياتها، ومن أهم هذه المسؤوليات، نمو الأطفال وتنشئتهم تنشئة اجتماعية سليمة، تؤهلهم ليكونوا أعضاءً فاعلين في المجتمع، دون صراعات نفسية، وذكريات سيئة وشخصيات معقدة تعاني.
الزواج في مجتمعاتنا العربية؛ هل هو قرار مدروس مبني على أسس صحيحة، أم أنه مجرد تقليد اجتماعي أو وسيلة لإشباع رغبات شخصية؟
الزواج، لماذا؟
يقول مازن 26 عامًا لمواطن: “إنّ اتخاذ قراره بالزواج كان من أجل ممارسة الجنس؛ فالسبيل الوحيد بالنسبة له للمس امرأة كان الزواج”. ولا يتعلق الأمر فقط بمجتمع مازن المتدين بل به شخصيًا؛ فهو لم يرد أن يقرب الحرام بدافع الشهوة -على حد تعبيره-؛ فقرر الزواج. حال مازن، هو حال الكثيرين من الشباب الذين يعيشون في مجتمعات متدينة، أو الذين نشؤوا نشأة دينية متزمتة؛ فيكون سبيلهم الوحيد لممارسة الجنس هو الزواج، ولكن بعد إشباع الرغبة كيف يكون حال هذا الزواج؟
أما خديجة 16 عامًا، مخطوبة وتستعد للزواج، وعند سؤالها لماذا تريدين الزواج في هذه السن المبكرة؟ أجابت: “أكره المدرسة وأكره الدراسة والمدرسين، تقدم لي عريس مناسب يكبرني بالسن قليلًا، لكن حالته المادية ممتازة، وطلباتي عنده أوامر، وسيشتري لي ثوب الزفاف الذي أحلم به”.
بالنظر إلى كل من مازن وخديجة، حالهما حال نسبة كبيرة من شبان وشابات الوطن العربي. وهنا، لابد لنا من التساؤل عن شكل الأسرة الناتجة في كلتا الحالتين، وعن طبيعة العلاقة الزوجية التي ستتشكل في المستقبل، عن نوع التنشئة الاجتماعية التي سيتلقاها الأولاد، وبالتالي نوع الأفراد الذين سيصيرون أعضاءً في المجتمع فيما بعد.
فهل هناك وعي مجتمعي من الأساس لما يحمله الزواج من مسؤوليات، وما يترتب عليه من أفعال، وما يعول عليه من أهمية في تغيير مجتمعات بكاملها؟ هل تقوم مؤسسات الدولة؛ سواء التربوية أو الثقافية أو الإعلامية بواجبها تجاه هذه الناحية؟ أم هي ما زالت حتى الآن تنظر للزواج على أنه علاقة شخصية، ليس من واجبها سن التشريعات المنظمة والضابطة له؛ خاصة أنّ غالبية قوانين الدول العربية تسمح بزواج القاصرات، وفي الدول التي تحدد سن الزواج بـ 18عامًا، تعطى الوصاية للوالدين للموافقة أو الرفض.
أثناء البحث لإعداد التقرير، وجدنا منشورًا على فيسبوك يتحدث عن إصدار قوانين تمنع زواج القاصرات، وكانت مئات التعليقات لا ترى ضيرًا من تزويج القاصرات؛ فنجد أحدهم قد علق بالقول: “يعني زواج القاصرات جهل وصار فلتان؟ ما هو جهل، تتزوج أفضل ما تروح تنجب طفلاً وترميه بالمزابل”. وكتب آخر،”الغرب يشجع الجنس ويحرم الزواج المبكر، يا له من تناقض! لا يوجد في القاموس الإسلامي ما يسمى زواج القاصرات”، وجاء في إحدى التعليقات”يعني نفهم من كلامك الجنس معليش بس الزواج لا”، وذكر أحدهم” بنات أوروبا بناموا مع صحابن من 15 سنة، هيك معليش، بس زواج المسلمين الشرعي لازم تقضوا عليه”.
يتضح من خلال مثل هذه التعليقات الخلط الواضح بين ممارسة الجنس وبين الزواج؛ فقدرة الأنثى على ممارسة الجنس بيولوجيًا بمجرد الوصول لسن البلوغ، يعتبر معيارًا للزواج هنا.
يقول غدير، طبيب (28عامًا): "عندما التقيت بالشريك المناسب، الذي لا يقدم نفسه على أنه قائمة من الطلبات؛ بل على العكس يرى أنه عضو مشارك ومسؤول، وأهم شيء متحرر من الكثير من العادات والتقاليد المكبلة لحياتنا، عدلت عن رفضي للزواج؛ فمشكلتي لم تكن بالزواج نفسه؛ بل بالشكل الذي تأخذه هذه المنظومة".
بطبيعة الحال؛ لا يمكن تعميم نظرة كل من مازن وخديجة للزواج على جميع الشباب العربي أو حتى أصحاب تعليقات المنشور، ولربما يكون لاختلاف البيئة أو الثقافة السائدة في المجتمع الذي يعيش فيه الفرد تأثير كبير على نظرته للأمور؛ فعلى صعيد مغاير وبنظرة مختلفة تمامًا، يحكي حازم قواس 34 عامًا، يعيش في السويد، أن ممارسة الجنس شيء، والزواج شيء آخر تمامًا، حتى إنه اختار المساكنة على الزواج؛ فهو يرى أن الزواج مجرد تعقيد للعلاقة؛ وخاصة في حالات الانفصال، وأن الزواج في نهاية المطاف لا تحدده الأوراق والمعاملات؛ بل يحدده التفاهم والتقارب بين الشريكين. ويؤكد أن أغلب السويدين يعيشون بهذه الطريقة، وهذا لا يسقط أبدًا قيمة العائلة لديهم؛ بل على العكس فهم يهتمون بالعائلة والأولاد بشكل كبير.
هل تؤثر الثقافة على النظرة للزواج والأسرة؟
يقول غدير، طبيب (28عامًا): “كانت فكرة الزواج لفترة طويلة خارج مخططاتي؛ فالفكرة التي كونتها عن الزواج نتيجة ملاحظاتي وعلاقاتي الاجتماعية، لم تكن تتعدى فكرة العلاقة الطفيلية، التي تقوم على أساس أن الرجل هو المسؤول الأول عن هذه العلاقة، وأن عليه تقديم كل شيء، وتنفيذ قائمة من الطلبات التي أفني حياتي في سبيل جمع ما يكفي من المال لتلبيتها، العلاقة بهذا الشكل كانت مرفوضة بالنسبة لي”.
ويكمل: “لكن عندما التقيت بالشريك المناسب، الذي لا يقدم نفسه على أنه قائمة من الطلبات؛ بل على العكس يرى أنه عضو مشارك ومسؤول، وأهم شيء متحرر من الكثير من العادات والتقاليد المكبلة لحياتنا، عدلت عن رفضي للزواج؛ فمشكلتي لم تكن بالزواج نفسه؛ بل بالشكل الذي تأخذه هذه المنظومة في مجتمعاتنا”.
ويتابع: “إن كان الزواج سيؤدي بشكل بديهي لتكوين أسرة؛ فبالتأكيد هناك تصورات وقواعد موجهة وضابطة لهذه الأسرة، ربما أولها التربية المرنة وتعدد مصادر المعرفة والمعلومات لأطفالي بشكل يجعلهم يعيشون في جو لا يلزمهم بشيء، ولكن بذات الوقت يسمح لهم بتحقيق أكبر قدر من الانسجام مع المجتمع الذي يعيشون فيه”.
يشير التربوي سيد إبراهيم الجبار في كتابه التربية ومشكلات المجتمع، إلى أنه لا تتحقق الإيجابية التربوية إلا إذا استطاع الوالدان بناء علاقة مُرضية ومتوازنة تفرض نفسها على الطفل، وتكون أضمن كفالة للسلطة الأبوية التربية العامة.
ويؤكد على أهمية أن يكون اختيار الشريك قائمًا على تشابه من النواحي الثقافية، لأن على عاتق الأسرة تقع مسؤولية تربوية أساسية وصعبة، تفرض عليهم الاتفاق على أسلوب تربوي واحد. الفوضى في المطالب التربوية أو حتى التناقض الذي قد يحصل بين الوالدين، والذي يرجع إلى اختلافات البيئة والتوجهات، والثقافة، تدفع الطفل إلى سلوك فوضوي مضطرب، وعلى العكس من ذلك عندما تتسم صفات الوالدين بالتوافق والانسجام؛ فإن الطفل ستعزز ثقته بنفسه وبمن حوله.
ومن هذا الجانب، وضحت المرشدة الاجتماعية، رولا حمود لمواطن: “لا نستطيع القول بأن هذه التجمعات البشرية الصغيرة التي تربطها صلة الدم هي دائمًا أسر بالمعنى الحقيقي للكلمة، ببساطة لأن هذه الأسر لا تقوم بدورها كأهم مؤسسة اجتماعية، عليها أن تكون البيئة التربوية المرجعية التي يمارس فيها الطفل تفاعلاته وعلاقاته الاجتماعية بالصورة الأمثل؛ حيث يعتقد الكثير من الآباء والأمهات أن أدوارهم تتوقف عند تأمين الطعام والشراب والمسكن والترفيه.
وفي هذا السياق تقول “رؤى”، مهندسة (30 عامًا): “لم تكن فكرة الزواج واردة بالنسبة لي قبل إنهاء دراستي الجامعية، لأنني على دراية كاملة بالمسؤوليات الكبيرة التي تتبع مثل هذا القرار، وليس فقط الدراسة الجامعية؛ فالاستقلال المادي والحصول على وظيفة كان من الأهداف التي سعيت لتحقيقها قبل الزواج”.
وتضيف لمواطن: “عندما أصبحت فكرة الزواج واردة، وضعت في بالي أن يكون شريك حياتي في المستقبل يشاطرني اهتماماتي إلى حد ما، ومن حسن حظي أني حظيت بهذا الشريك الذي كنت أبحث عنه، وقبل كل شيء عن الصديق الذي أستطيع أن أشاركه بكل أفكاري مستقبلًا، وأبني معه أسرة أساسها الحب والاحترام قبل أي شيء”.
السعادة الزوجية تؤدي إلى خلق البيئة الأسرية المناسبة لعيش الطفل، وهذا ما ينعكس على نموه؛ فينمو نموًا متوازنًا ومتكاملاً؛ فلا نستطيع نسيان أن العلاقات الودية والقائمة على الاحترام المتبادل بين الوالدين، تعزز في نفوس الأطفال احترام الآخرين ومحبتهم، كما تزيد من فرصهم في المستقبل للتفاعل مع المجتمع والتكيف مع الظروف المختلفة. حسب أستاذ التربية في جامعة دمشق، عيسى الشماس في كتابه “التربية العامة”.
تقول رولا (35 عامًا): "لا يوجد اهتمام واحد مشترك بيني وبين زوجي، يعيش كل واحد منا في عالم يشعرني بالإحباط والفشل، حتى إنه أثر على علاقتي بأطفالي، وفي نهاية الأمر وجدت نفسي أبحث عن الإشباع العاطفي عن طريق الدخول بعلاقات افتراضية مع أشخاص آخرين".
كما أكدت المرشدة الاجتماعية رولا حمود، على أنّ أغلب الأطفال الذين يراجعونها أثناء عملها في المدرسة، هم أطفال يعيشون في بيئة أسرية غير مستقرة، تنتشر فيها المشاكل والعنف، وقلة الاحترام بين الوالدين.
وأساليب تعامل الوالدين مع الأطفال هي ما تؤسس لسلوك الطفل في المستقبل، ولا يتوقف الأمر هنا حيث تترك هذه الأساليب أثرها أيضًا على قدرات الطفل ومدى استعداده للتعلم؛ فهو يتأثر بشكل كبير بالجو الأسري في فترة ما قبل المدرسة، وبهذا فإن وظيفة الأسرة التربوية تظهر بقوة في شتى مظاهر نمو الطفل وحتى في ذكائه، وهذا ما بالضبط ما يجعل لقوة العلاقة الزوجية ومدى ترابطها أثرًا بالغ الأهمية في نجاح التربية الأسرية وإعداد الفرد للمجتمع.
يعد تكيف الزوجين مع حياتهما الأسرية ومع الجو العائلي أساسيًا لتنشئة الأطفال التنشئة السليمة؛ فالأسرة التي يسودها الحب والتفاهم والعمل على تقوية دور كل عضو من أعضائها، ودعمهم وتقبلهم، يقدم للأولاد بشكل طبيعي وتلقائي السلوكيات التكيفية السوية؛ فيصبح أكثر قدرة وجرأة على إظهار مواهبه والتعبير عن ذاته، ومواجهة المواقف التي قد يتعرض لها.
وعلى العكس تمامًا؛ فالأسر المفككة غير المتماسكة التي يسودها جو من عدم الأمان والاستقرار، الناتج عن طلاق أو انفصال أو توتر في العلاقة بين الوالدين، أو تسلط أو أساليب تربوية قمعية، تبني الجدران والحواجز بين أفرادها؛ تفقد بطبيعة الحال القدرة على تحمل المسؤولية التربوية الملقاة على عاتقها، باعتبارها مؤسسة تربوية بالدرجة الأولى، وينعكس هذا على الطفل، وينتج سلوكًا سلبيًا سيئًا؛ سواء تجاه نفسه أو تجاه أفراد أسرته أو أفراد المجتمع، ويجعله عاجزًا عن التكيف فاقدًا للثقة، أو تظهر عليه صفات وسلوكيات أخرى كالأنانية أو السرقة أو العدوانية، وإذا ما وجد فيما بعد في بيئة مشجعة سيكون أكثر ميلًا للانحراف وللخروج على القانون؛ فالأطفال يولدون وهم مزودون باستعدادات عاطفية يتم تشكيلها وتطويرها ضمن الجو الأسري؛ فمدى الإشباع الذي يحصل عليه داخل الأسرة هو ما يقوده إلى الانضباط الذاتي والانضباط الاجتماعي.
وقد وجدت الباحثة التربوية هاتويك، ارتباطًا موجبًا بين التوتر الذي يشيع في جو الأسرة نتيجة لخلافات الوالدين، وبين أنماط من السلوك بين الأطفال، كالغيرة والأنانية والخوف والشجار وعدم الاتزان الانفعالي، وجميع هذه السلوكيات مردها الأسرة التي لا يتوافر فيها جو من الأمن النفسي والاستقرار.
وهذا ما يعيدنا للنقطة التي بدأنا منها، وهي ضرورة العمل على رفع ثقافة الوالدين التربوية، هذه الثقافة التي يجب أن تكون جزءًا لا يتجزأ من خطة أي شريكين مقبلين على الزواج، وحتى من خطة الحكومات؛ فكما يتم إجبار المقبلين على الزواج للخضوع لفحوصات جسدية، لماذا لا يتم وضع خطط لرفع سويتهم التربوية، والتأكد من سلامتهم النفسية بغض النظر عن تحصيلهم الدراسي أو مستواهم الثقافي؟
والحقيقة أن أثر التفكك الأسري لا يظهر على الأطفال فقط؛ بل أيضًا يمتد ليطال الزوجين ويخرب حياتهما؛ فيعيش كل منهما في عالم منفصل تمامًا عن الآخر، كما تتأثر علاقاتهما الاجتماعية ونظرة كل واحد منهما لنفسه وللآخر.
مواضيع ذات صلة
تقول رولا (35 عامًا): “لا يوجد اهتمام واحد مشترك بيني وبين زوجي، يعيش كل واحد منا في عالم يشعرني بالإحباط والفشل، حتى إنه أثر على علاقتي بأطفالي، وفي نهاية الأمر وجدت نفسي أبحث عن الإشباع العاطفي عن طريق الدخول بعلاقات افتراضية مع أشخاص لديهم نفس اهتماماتي، وهذا ما زاد من الفجوة بيني وبين زوجي”.
هل الأسرة هي المسؤول الأول عن تغيير المجتمع؟
داخل كل شخص منا كائنان: الأول يعبر عن ذواتنا وعن فردانيتنا، أي باختصار عن ذاتنا الفردية. أما الثاني فهو ممثل ما نكتسبه من أفكار ومشاعر وعادات تعبر عن الجماعة التي ننتمي لها، هذا ما يمكن أن نسميه الكائن الاجتماعي الذي يتشكل بطبيعة الحال ضمن الأسرة. ومن خلال التربية التي يخضع لها.
لا مجتمع دون تربية، وهذه هي الحقيقة الهامة التي لا يجب تجاهلها أو البحث خارجها، وفي هذا الصدد لا بد من ذكر مفهوم التربية التنموية، التي تركز على تعديل أنماط سلوك الأفراد إلى مستويات راقية ومتحررة تتلاءم مع ما يسعى أي مجتمع لتحقيقه.
ومن الطبيعي أن تختلف أهداف التربية بين مجتمع وآخر، ومن الطبيعي أيضًا، أن تكون التربية التي نتلقاها داخل أسرنا هي السبيل الأول لإحداث أي تغيير في المنظومة الفكرية السائدة في أي مجتمع من المجتمعات؛ فلا يرى علماء الاجتماع أن الهدف من التربية فقط هو خلق نوع من التواؤم بين الفرد ومجتمعه؛ بل أيضًا عليها العمل على تطويره إلى أنماط جديدة تتماشى مع التغيرات التي تطرأ على العالم، وبذلك علينا العمل جديًا على نشر الوعي بما يخص معايير الزواج وتشكيل أسرة، لتتخلص قدر الإمكان من شكلها الفوضوي والاعتباطي، ولتأخذ شكلًا أكثر جدية وإفادة للمجتمع.