أعدت قراءة ثلاثة من أعمال الكاتبة الإنجليزية جين أوستن في الفترة الماضية، وقد كنت من أكثر المعجبات بكتاباتها التي أظهرت لنا طبيعة حقبة القرن الثامن عشر؛ خصوصًا ما تعلق بالمرأة آنذاك، والتي كانت محرومة من الميراث؛ حيث كانت الأملاك تنتقل إلى ذكور العائلة فقط، لدرجة أن ابن العم البعيد الذي لا تعرف عنه العائلة شيئًا قد يظهر فجأة بعد وفاة الأب ليسكن في بيت عمه الذي لم ينجب ذكورًا، ويترك بنات العم ليواجهن مصيرهن؛ فيبدأن رحلة الفقر بعد الغنى بكل ما تحمله من قسوة وظلم.
لقد نقلت لنا جين أوستن الصورة بوضوح، وأظهرت لنا الظلم الذي تعرضت له المرأة في تلك الحقبة، لكنها لم تكن ثورية بالمعنى الحديث في كتاباتها، كانت تعلم تمامًا سقفها المتاح، وكل ما فعلته للمرأة هو محاولة تسويق المرأة المثقفة وإظهارها كخيار أفضل للرجل الثري الواعي؛ فبطلات رواياتها لم يكنّ الأكثر جمالاً، لكن كنّ الأكثر ثقافة واطلاعًا، لكنها لم تثر على الظلم، ولم تجد المخرج للمرأة بالعمل والثورة على القوانين؛ بل استسلمت لفكرة أن أمان المرأة مرتبط بالرجل؛ فالنساء اللواتي يعملن في تلك الفترة هن نساء الطبقة الفقيرة فقط.
أمان المرأة الوحيد في تلك الحقبة كان العثور على زوج ثري، وكانت ثروات الرجال معروفة للجميع، جمّلت جين أوستن المرأة القارئة في عيون القراء، وجعلتها تظفر بأكثر الرجال ثراء، هذا أكثر ما وصل إليه خيال الكاتبة في تلك الحقبة، وقد تبدو واقعية في ذلك الزمن؛ إذ إن معركة التحرر والمساواة بدأت بعد رواياتها بأكثر من مئة عام، عندما بدأت الثورة الصناعية وثارت النساء على التمييز في الأجور وحق التصويت والانخراط في الحياة السياسية والحزبية.
حلم فتاة عصر جين أوستن العربية أن تتزوج ثريًا وإن كان متزوجًا ولديه عشرة أبناء، لم يعد يُنظر للزواج على أنه مشروع العمر، يكفي أن يحقق بعض الأمان للسنوات القادمة، تخرج منه الفتاة ببيت وسيارة فارهة، ومال يكفي لعمليات تجميل مستقبلية تساعد في القفز إلى زوج جديد
تذكرت فتيات عصر جين أوستن وأنا أرى الردة على الأفكار النسوية التي انتشرت في السنوات الأخيرة، بعد أن نجحت القوى الرجعية بإسكات الأصوات النسوية التي كانت تطالب المرأة بالعمل للحصول على الأمان وتطالب الدول بقوانين منصفة تساوي في الحقوق والواجبات بين الرجال والنساء، نجحت تلك القوى في شيطنة الحراك النسوي وإرهاب النسويات، حتى وصل الأمر لحملات تشهير وقذف طالت حقوقيات كان لبعضهن تاريخ مشرف من الدفاع عن المظلومين جميعًا، حتى أولئك الذين ينتمون لتلك القوى الرجعية عندما كانوا في خلاف مع السلطات.
ظهرت أصوات نسائية تبدو وكأنها قادمة من القرن الثامن عشر، تعترف بأن النسوية مكلفة ومتعبة، وأن الحل في الرجوع لأفكار فتيات عصر جين أوستن؛ حيث الأمان في الزوج الثري، المال ثم المال ثم المال، وبما أن القوانين لا تنصف المرأة، وبما أنها لن تستطيع أن تصل للأمان المادي بسبب قوانين الميراث والجنسية والأحوال المدنية التمييزية؛ فالحل السهل هو العثور على “مستر دارسي” في رواية “حب وكبرياء”، وهو الأعزب المفرط في الثراء، ولا مانع بالحصول على الكولونيل “براندون”، وهو الرجل الأربعيني أو الخمسيني الذي تزوجته ماريان في رواية “العقل والعاطفة”، والتي تصغره بعشرين عامًا.
تخرج فتاة عربية على الشاشة اليوم لتتحدث بكل فخر عن الرجل الذي عرض عليها مليون دولار لزيجة تستمر شهرًا واحدًا، وأخرى تعلن انفصالها عن رجل متزوج له 7 أبناء لأنه اشترى لها شقة بدلاً من فيلا حسب الاتفاق، أما الثقافة التي دعت لها جين أوستن في كتاباتها؛ ففتيات عصر الجاهلية الحديثة لا يؤمنَّ بها؛ فالمرأة اليوم لم تعد بحاجة لتتجمل بالثقافة مع وجود كل عيادات التجميل المنتشرة، التي جعلت الجمال مألوفًا مصطنعًا، لكنها ساهمت في خلق بيئة ينتشر فيها الشعور بالاستحقاق عند الفتيات والثقة الوهمية.
لم تنتشر الموجة في العالم العربي فقط؛ بل وصل الأمر إلى ترندات عالمية تعبر فيها فتيات الجاهلية الحديثة عن نظرتهن للحب الحديث، الحب يعني المال،” لا تحب إن كنت لن تستطيع ملء حقيبة حبيبتك بالمال”. هذا ما خرجت به فتيات من كل الجنسيات عبر مواقع التواصل، متناسيات أن المال عادة لا يقدم بدون مقابل، وأن الفتاة تدفع ثمنه من كرامتها وحريتها بالتأكيد.
إلا أن الأمر في عالمنا العربي كان أكثر وضوحًا و”قرفًا”؛ فحلم فتاة عصر جين أوستن العربية أن تتزوج ثريًا وإن كان متزوجًا ولديه عشرة أبناء، لم يعد يُنظر للزواج على أنه مشروع العمر، يكفي أن يحقق بعض الأمان للسنوات القادمة، تخرج منه الفتاة ببيت وسيارة فارهة، ومال يكفي لعمليات تجميل مستقبلية تساعد في القفز إلى زوج جديد عندما تنتهي زيجة المصلحة الحالية.
لم تنتشر الموجة في العالم العربي فقط؛ بل وصل الأمر إلى ترندات عالمية تعبر فيها فتيات الجاهلية الحديثة عن نظرتهن للحب الحديث، الحب يعني المال..
لا شك أن الرجل العربي يتحمل مسؤولية كبرى فيما وصلت إليه الفتيات؛ فلهث الأثرياء وراء الفتيات الجميلات صغيرات السن وإغرؤئهن بالمال، ساهم في تغيير المعايير والنظر للزواج كمشروع تجاري يحصل فيه الرجل على الجمال والشباب، وتحصل فيه الفتاة على المال والرفاهية، وزاد الأمر سوءً ما تراه الفتيات الصغيرات من تجارب الزواج المألوفة في محيطهن، والتي تنتهي بمآسي المحاكم والخيانات والأطفال المشردين بسبب قصور القوانين.
المضحك للمتابع أن أكبر المتضررين من الوضع الحالي هو الرجل من الطبقة المتوسطة وما دونها، وهم الأغلبية، الرجل الذي حارب النسوية خوفًا على مكتسباته، يجد نفسه اليوم غير قادر على تأمين تلك المتطلبات في زمن صعب يحتاج لعمل الرجل والمرأة معًا، ويجد نفسه في تنافس دائم، وتعالت أصوات الشباب الذين يطالبون بمساعدة النساء لهنً على مواجهة الحياة الصعبة، والكثير منهم اليوم لا يجد من تقبل بظروفه الصعبة.
إذن؛ فقد ظل الحال على ما هو عليه، وأعتقد أن الموجة النسوية القادمة سيقودها رجال مستعدون للتنازل عن حقوق لم تعد بفائدة على الرجل، بمقابل مساواة تجعل المرأة شريكة كاملة له، يستند عليها في تحمل أعباء الحياة بدلاً من أن تكون باربي، التي تنتظر من الرجل تحقيق أحلامها فتزيد من أعبائه وتقصم ظهره وتشعره بنواقصه.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.