على هامش العاصمة الجديدة.. أزمة مواصلات شرق القاهرة
الزمان: 3 تموز/يوليو 2022
المكان: محطة عدلي منصور بالسلام (شرق القاهرة)
الحدث: افتتاح مشروع القطار الكهربائي الخفيف (LRT)
على رصيف أولى محطات القطار، وقف وزير النقل كامل الوزير بجوار الرئيس عبدالفتاح السيسي، متحدثاً عن القطار الجديد ومحطة انطلاقه المركزية قائلاً: “القطار الكهربائي سابع وسيلة مواصلات تنطلق من محطة عدلي منصور، ورابع وسيلة نقل كهربائية”. وهي المحطة التي تصنفها بيانات الحكومة بالأكبر بمنطقة الشرق الأوسط، ومنحتها مجلة “ENR” العالمية جائزة أفضل مشروع نقل في العالم عام 2022.
ويضيف الوزير: “القطار الجديد يستهدف نقل مليون مواطن يومياً، وسيوفر ما قيمته 1.7 مليار جنيه (90 مليون دولار أميركي، وفقاً لمتوسط سعر الصرف حينها البالغ 18.9 جنيه للدولار الواحد) من الوقود سنوياً”.
بعد مرور أكثر من عام على تشغيل قطار العاصمة، لا يزال يثير جدلاً بين الحين والآخر؛ خاصة مع تكرار اقتراض الحكومة من أجل استكمال المراحل الثلاث المتبقية من المشروع، ومحدودية إقبال المواطنين على استخدامه كوسيلة مواصلات تربط مدن شرق القاهرة، ما رأته الحكومة عزوفاً مؤقتاً. وعلى عكس ما ذكرته تقارير صحفية، من بلوغ خسائر القطار لنحو 25 مليون جنيه مصري (814 ألف دولار وفقًا لسعر الصرف البالغ 30.7 جنيه للدولار في عام 2023) في عامه الأول؛ إلا أن الحكومة نفت وجود أيّ خسائر جراء تشغيل القطار.
باستثناء العاصمة وحدائقها يمر القطار خارج التجمعات السكنية بالمدن الجديدة في شرق القاهرة
القطار الجديد وأعباء الاستدانة
بميزانية مليار و300 مليون دولار أميركي؛ اقترضت الحكومة المصرية منها 1.2 مليار دولار من الصين بفائدة 1.8 في المئة، انتهت الهيئة القومية للأنفاق التابعة لوزارة النقل من تنفيذ وتشغيل المرحلة الأولى والثانية من قطار العاصمة، لخدمة تسع مدن شرق القاهرة.
القطار الكهربائي الخفيف، المعروف باسم “قطار العاصمة” يمر وسط العاصمة الإدارية الجديدة (له ثلاث محطات بالعاصمة؛ محطتان تعملان حالياً وثالثة ما زالت تحت الإنشاء) التي يبلغ عدد قاطنيها نحو ألف ومئتي أسرة، وتضع الدولة هدفاً طموحاً بأن يتجاوز عدد سكانها ستة ملايين نسمة بحلول عام 2050.
قطار العاصمة يمر بالظهير الصحراوي لمدن شرق القاهرة الواقعة على مساره باستثناء العاصمة وحدائقها
في حين يمر القطار بالأطراف المترامية للمدن الثماني الأخرى، التي يتجاوز عدد سكانها 528 ألف نسمة، ويتردد عليها يومياً عشرات الآلاف من قاطني محافظات الدلتا، خاصة الشرقية والقليوبية والقاهرة والجيزة؛ بسبب التوسعات العمرانية التي تشهدها، والمناطق ذات الطبيعة التجارية والصناعية بتلك المدن، بالإضافة إلى الجامعات الخاصة والأهلية، التي توجد مقارها الرئيسية أو أحد فروعها شرق القاهرة.
التوسع شرقاً من السبعينيات إلى الألفينيات
ما بين أواخر السبعينيات من القرن الماضي ونهاية العقد الثاني من ألفينيات القرن الحالي، أُنشئت المدن الجديدة في منطقة شرق القاهرة، التي تشهد الامتداد العمراني والنمو السكاني الأكبر بالمدن الجديدة في محيط إقليم القاهرة الكبرى، وفقاً لدراسات أجرتها مجموعة طلعت مصطفى؛ أبرز مطوّر عقاري في هذه الرقعة الجغرافية، حيث تتوقع أن يصل عدد سكان مدن شرق القاهرة إلى عشرة ملايين نسمة عام 2030.
نفي حكومي للخسائر
قُدّر عدد ركاب القطار الكهربائي الخفيف، المعروف بقطار العاصمة، بـألف راكب، خلال أول ستة أيام لتشغيله، بمتوسط 115 راكباً يومياً، وفقاً لما نشرته جريدة فيتو؛ وهو ما لم تنفه الهيئة القومية للأنفاق أو وزارة النقل أو الشركة الفرنسية، التي تمتلك حق إدارة تشغيل قطار العاصمة، رغم إعلان الجهات الثلاث بأن سعة القطار تتجاوز مليون راكب يومياً.
على مدار الثلاثة أشهر الأولى من تشغيل مشروع قطار العاصمة، أظهرت صور ومقاطع فيديو -تمّ تداولها عبر مواقع إخبارية ومنصات التواصل الاجتماعي- عزوف الركاب عن الإقبال على القطار؛ رغم ما يقابلها من نفي حكومي كل مرة، أو تقديم مبررات على شاكلة أن “قلّة الركاب عملية مؤقتة”، ستنتهي بمجرد استكمال نقل موظفي الحكومة إلى العاصمة الإدارية، أو بعد انتهاء تنفيذ المرحلة الثالثة والرابعة من مشروع القطار.
ما دفع وزير النقل السابق حينها (محافظ القاهرة السابق أيضاً)، جلال السعيد لتوجيه رسالة إلى “منتقدي مشروع القطار الكهربائي الخفيف” يطالبهم فيها بالهدوء؛ مشيراً إلى أن قلة عدد الركاب في الأيام الأولى لتشغيل القطار “دفعت الحملات الممنهجة للنيل من المشروع ومن جدواه”، وفق تعبيره.
وأوضح السعيد أن طاقة القطار، في الجزء الذي تمّ تشغيله (70 كيلومتراً)، تتراوح ما بين 15 و25 ألف راكب في الساعة، معترفاً بأن المشروع لم يشهد الإقبال المُتوقع لحركة الركاب في بداياته. متفائلاً بزيادتها خلال أشهر قليلة.
محاولات دون جدوى
وكشف تقرير صحفي لموقع المنصة عن أن تكلفة تشغيل رحلة القطار الواحد، من محطة عدلي منصور إلى العاصمة الإدارية، تُقدّر بـ 140 ألف جنيه مصري (أربعة آلاف و560 دولاراً، وفقاً لمتوسط سعر الصرف في عام 2023)؛ لا تحصل منها الهيئة القومية للأنفاق سوى على خمسة آلاف جنيه.
لكنّ وزارة النقل المصرية نفت بعدها، وفي بيان رسمي، وجود أيّ خسائر، واقتصر البيان على الإشارة إلى تعاقد الوزارة مع شركة RATP الفرنسية لإدارة وتشغيل القطار الكهربائي الخفيف LRT، مقابل نسبة من الإيرادات، من دون الكشف عن قيمة الأرباح أو الخسائر التي سجلها القطار. وأكد البيان الوزاري أن المشروع سيحقق أرباحاً تكفي على الأقل لاسترداد قيمة الأصول خلال 20 عاماً، من دون ذكر أيّ معلومات أو أرقام عن الإيرادات أو عدد الركاب.
وفي ظل استمرار وزارة النقل في إخفاء أرقام إيرادات وتشغيل قطار العاصمة؛ لا تتوقف الأخبار المنسوبة إلى مصادر مُجهّلة بالوزارة، كان من أبرزها خبر بعنوان “وزارة النقل تدرس بيع أصول القطار السريع والكهربائي الخفيف لسداد قروض التنفيذ”، وهو ما نفته وزارة النقل في بيان رسمي، اقتصر على توضيح عام وفضفاض بأن الوزارة تدرس “الشراكة” فقط، لكنها لم تعرض القطار الكهربائي السريع أو الخفيف للبيع.
وبسبب الشحّ في المعلومات، واقتصار بيانات وزارة النقل على مضامين عامة، من دون أيّ تفاصيل أو معلومات؛ خضنا تجربة ميدانية بالمدن التي يمر بها القطار، لرصد ما يحدث على أرض الواقع.
إحدى عربات قطار العاصمة في وقت الذروة بعد تحركه من محطة عدلي منصور المركزية متجها إلى العاصمة الإدارية
أزمة مدن الجيلين الثاني والثالث.. الشروق وبدر نموذجاً
كانت البداية من مدينتي الشروق وبدر، وهما من أقدم وأبرز مدن شرق القاهرة، وأكثرها كثافة سكانية بالمناطق العمرانية التي يمر بها القطار الكهربائي الخفيف، ووصل إليهما القطار مع افتتاح المرحلتين الأولى والثانية من قطار العاصمة.
تربط المدينتين -بدر والشروق- بخلاف القطار الكهربائي الخفيف، ثلاث وسائل مواصلات أخرى، تتنوع ما بين سيارات “الميكروباص” الأجرة، وباصات شركة خاصة “مواصلات مصر”، وأخرى حكومية “هيئة النقل العام”، لكل وسيلة منها خطوط سير مختلفة.
توفير 1.7 مليار جنيه سنوياً.. هدف لم يتحقق
بدأ العد التنازلي “لتوفير 1.7 مليار جنيه (نحو 90 مليون دولار وفقًا لسعر الصرف 18.9 جنيها للدولار في يوليو 2022)من الوقود سنوياً”، مع تشغيل قطار العاصمة، كونه الهدف الثاني الذي أعلنه وزير النقل، أثناء افتتاح المشروع. وأوضح حينها وزير النقل، كامل الوزير، أن تحقيق ذلك سيكون من خلال تقليل استخدام وسائل النقل البديلة؛ مثل السيارات الخاصة والباصات العامة وسيارات الأجرة، التي يستقلها قاطنو ورواد المدن الجديدة على طول مسار القطار.
لكن ما حدث بعد مرور عام وعشرة أشهر، كان النقيض تماماً للهدف المُعلن؛ فزاد استخدام وسائل النقل البديلة، وفق ما رصدناه في مواعيد تحرك باصات “مواصلات مصر” بمدينة الشروق، حيث كانت الشركة الخاصة تنقل قبل تشغيل مشروع القطار مئتي ألف راكب شهرياً من الشروق وإليها، بحسب آخر تحديث على موقعها الإلكتروني عام 2021، من خلال ستة خطوط (ثلاثة خارجية ومثلها داخلية) وتحرك عشرات الرحلات على مدار 18 ساعة يومياً.
ومن بين الخطوط الثلاثة الخارجية، يوجد “خط سير” من مدينة الشروق الواقعة شرق إقليم القاهرة الكبرى، إلى وسط مدينة القاهرة؛ الأول (NS5) الذي يتحرك من وسط مدينة الشروق إلى ميدان العباسية، والثاني “باص” (NS7) يتحرك من الشروق إلى منطقة سراي القبة، وتحديداً أمام محطة مترو الأنفاق، التي تحمل اسم منطقة الخط الأول .
بالتزامن مع تشغيل القطار في تموز/يوليو 2022، كان عدد الرحلات على خط العباسية 24 رحلة على مدار 16 ساعة، بحسب المواعيد المعلنة من الشركة وقتها. في المقابل، وبعد مرور عام وعشرة أشهر على تشغيل القطار، وصل عدد الرحلات اليومية، على خط السير نفسه، إلى 27 رحلة في زمن التشغيل ذاته .
في حين زاد عدد الرحلات على خط سراي القبة إلى 25 رحلة يومية، بدلاً من 24 رحلة في آب/أغسطس 2022.
أما فيما يخص سيارات الأجرة (الميكروباصات)، التي تنقل الركاب من مدينة الشروق إلى موقف العاشر بمدينة السلام بالقاهرة (مسار القطار الكهربائي نفسه)، ما زالت تعمل على مدار 24 ساعة يومياً، ولم تشهد أيّ تغيير يُذكر في تراجع أعدادها، وفق شهادة أحد سائقي سيارات الأجرة، التي تنقل الركاب من الشروق إلى السلام شرق القاهرة والعكس. وأوضح السائق أن عدد سيارات الأجرة يتراجع ليلاً كالمعتاد، وتحديداً بعد الثانية من منتصف الليل، وحتى ساعات الصباح الأولى؛ لكن في المقابل، وخلال ساعات الذورة، يحتشد الركاب في موقف سيارات الأجرة، منتظرين السيارات التي تقلهم حيث وجهتهم. أما بقية ساعات اليوم، لا يخلو فيها الموقف من سيارات الأجرة، وفق رواية السائق، وهو الأمر ذاته الذي أكده أحد قاطني المدينة.
مسار سيارات الأجرة (الميكروباص)، هو نفسه للقطار الخفيف؛ لكنّ الفارق بينهما أن موقف السيارات يوجد وسط مدينة الشروق، التي تتجاوز مساحتها 16 ألف فدان، في حين أن محطة القطار الخفيف توجد على أطراف المدينة، وتحديداً على طريق مصر إسماعيلية الصحراوي، الذي يبعد عن وسط مدينة الشروق مسافة تقدر بستة كيلومترات، وأقرب منطقة سكنية لها على بُعد اثنين كيلومتر؛ وهي منطقة فيلات فاخرة يعتمد قاطنوها على سياراتهم الخاصة في الحركة والتنقلات اليومية.
لكنّ اللافت أن أجرة الميكروباص تبلغ نحو ثمانية جنيهات؛ وهي أقل من سعر تذكرة القطار، التي تقدر بعشرة جنيهات، بعد تخفيضها مؤقتاً بنسبة تصل إلى 40 في المئة؛ لجذب مزيد من الركاب، بخلاف أجرة “الباص” -البالغة ستة جنيهات- الذي ينقل الركاب من وسط المدينة إلى محطة القطار.
على أطراف المدينة من الجهة الأخرى -طريق السويس القاهرة الصحراوي- وثّقنا بالصور والفيديو، خلال ساعات الذروة، اصطفاف الركاب بموقف سيارات الأجرة، في طوابير طويلة يومياً؛ منتظرين السيارات المتجهة إلى منطقة السلام شرق القاهرة (المسار نفسه لقطار العاصمة) أو المنيب جنوب الجيزة، أو منطقة مسطرد الحدودية بين محافظتي القاهرة والقليوبية.
قطار بلا ركاب
في المقابل، رصدنا من خلال رحلة بالقطار الكهربائي الخفيف، حركة الركاب وقت الذروة. كانت البداية من محطة عدلي منصور، أولى محطات القطار، حيث تحرك القطار في الثالثة مساء، بعد انتظار 15 دقيقة، وكان توافد الركاب على المحطة محدوداً، وأغلب مقاعد العربات بلا ركاب.
وبعد محطتين توقف فيهما القطار؛ لاحظنا حركة محدودة لركاب لا يتجاوز عددهم أصابع اليدين، ما بين صعود ونزول، فقررنا مغادرة القطار في المحطتين الثالثة والرابعة “الشروق، وحدائق العاصمة”. لم يختلف المشهد كثيراً في المحطتين، ففي الأولى “الشروق” كان عدد العاملين بالمحطة، من أفراد الأمن وموظفي التذاكر والخدمات، أكثر من المترددين عليها. ولم نصادف من الركاب غير اثنين نزلا معنا من القطار، وراكب ثالث دخل محطة القطار أثناء خروجنا منها. تزامن ذلك مع وجود “الباص” المخصص لنقل ركاب القطار إلى وسط المدينة، حيث كان الباص الوحيد بساحة انتظار السيارات. تحرك الباص -سعته الإجمالية 26 مقعداً- من أمام محطة القطار، حتى وصلنا إلى “كمبوند” دار مصر؛ ولم يكن به غيرنا، وذلك مقابل ستة جنيهات للتذكرة الواحدة.
بينما خارج المحطة الثانية “حدائق العاصمة”، كان يقف باصان مُخصّصان لنقل ركاب القطار الكهربائي من المحطة إلى داخل المدينة والعكس، ركبنا أحدهما مع أربعة ركاب آخرين من سكان وحدات الإسكان الاجتماعي بالمدينة حديثة النشأة. جاب بنا الباص بعض شوارع المدينة، التي لم نجد بها أيّ وسائل مواصلات داخلية، ولا حتى سيارات خاصة في طريقنا. ورغم أن بنايات الإسكان الاجتماعي تتميز بجودة التخطيط “واللاند سكيب” والشكل الحضاري للعمارات؛ إلا أن نسبة إشغال الوحدات كانت ضئيلة.
يرجع محسن محمد (اسم مستعار)، أحد ساكني وحدات الإسكان الاجتماعي، عزوفه عن استخدام القطار الكهربائي الخفيف إلى سببين؛ أولهما ارتفاع سعر التذكرة -التي تبلغ 15 جنيهاً مصرياً (0.32 دولار وفقاً لمتوسط سعر الصرف الحالي البالغ 47 جنيهاً للدولار)- مقارنة بوسائل المواصلات الأخرى، سواء السيارات الأجرة أو باصات هيئة النقل العام.
والسبب الثاني أرجعه محمد لضرورة أخذ وسيلة مواصلات إضافية من أجل الوصول إلى محطة القطار، بخلاف تذكرة القطار نفسه: “أنا ساكن في ميدان الزهور في وحدات الإسكان الاجتماعي بحدائق العاصمة، تبعد عن محطة القطار ثلاثة كيلومترات، وأحتاج إلى مواصلة داخلية للوصول للقطار تكلفتها خمسة جنيهات، وهي التكلفة نفسها لخروجي من المدينة”، ويشتكي محمد من غياب المواصلات العامة وصعوبتها في المدينة.
ساحات انتظار بلا سيارات
توجد ساحات انتظار للسيارات الخاصة أمام كل محطة من محطات القطار الكهربائي الخفيف، تصل سعة بعضها إلى ألفي سيارة ، وهي خدمة مجانية تستهدف جذب أصحاب السيارات الخاصة لاستخدام وسائل النقل العامة، أثناء التنقل في مدن شرق القاهرة، وفقاً لبيانات وزارة النقل، وتصريحات وزيرها كامل الوزير في أكثر من مناسبة.
لكن خلال جولتنا بمحطات العبور وحدائق العاصمة وبدر وهليوبوليس؛ وثّقنا خُلوّ ساحات الانتظار من السيارات، باستثناء باص خدمة الركاب التابع لوزارة النقل، وذلك على النقيض من الصور التي نشرتها وزارة النقل، وتظهر اصطفاف عدد كبير من السيارات الخاصة في ساحات انتظار السيارات، للرد على تداول أخبار بشأن عزوف الركاب عن القطار الكهربائي الخفيف.
ولا يختلف تعامل واستفادة قاطني مدينة بدر مع قطار العاصمة عن مدينة الشروق وقاطنيها، فبحسب الأربعيني فتحي السيد (اسم مستعار)، المقيم ببنايات الإسكان الاجتماعي بحي الأندلس بمدينة بدر، فإن بُعْد محطة القطار عن منطقته، هو الذي يدفعه لعدم ركوبه. فحي الأندلس، الذي يعيش فيه فتحي السيد مع أسرته المكونة من أربعة أبناء وزوجته، منذ ثلاثة أعوام، يوجد في آخر مدينة بدر، ويعاني السكان نقص الخدمات هناك، خاصة المواصلات العامة التي تقتصر على أتوبيسات هيئة النقل العام وشركة خاصة للنقل. ويبعد موقف مدينة بدر العمومي سبعة كيلومترات عن محل سكنه؛ وبينما يقع مقر عمله اليومي في مدينة نصر بالقاهرة، تعيش عائلته وعائلة زوجته بمنطقة المرج، وزيارتهما تمثل صعوبة بسبب قلة المواصلات وارتفاع أجرتها.
موظفو وعمال قطار العاصمة
استكملنا الرحلة عبر القطار إلى العاصمة الإدارية، التي توجد بها محطتان للقطار؛ “مطار العاصمة، ومدينة الفنون والثقافة” ومحطة ثالثة ما زالت تحت الإنشاء. وبخلاف مدن شرق القاهرة التي يمر بها القطار، تقع محطات القطار وسط العاصمة، وتصطف أمامها باصات لنقل الموظفين إلى الحي الحكومي، وغيره من الأحياء والأماكن العامة داخل العاصمة.
رحلة العودة من العاصمة الإدارية إلى محطة عدلي منصور في وقت الذروة والتي كانت الأكثر كثافه مقارنة بباقي رحلات القطار على مدار اليوم
وفي رحلة العودة، صعد العدد الأكبر من الركاب من محطتي العاصمة الإدارية؛ خاصة موظفي الحي الحكومي، الذين نُقلوا إلى العاصمة الإدارية منتصف عام 2023، حين انتقلت مئة جهة حكومية، يتجاوز عدد العاملين بها 40 ألف موظف، يمارسون عملهم حالياً من المقرات الجديدة، بامتيازات وفّرتها الحكومة لتشجيعهم على الانتقال؛ منها صرف بدل انتقال مغرٍ أو توفير شقق سكنية سواء في العاصمة أو حدائقها.
ورغم نقل هذا العدد الكبير من موظفي الجهات الحكومية، لم يشهد القطار زحاماً مع انتهاء مواعيد العمل الرسمية، حيث وثّقنا وجود مقاعد خالية من الركاب.
ولم يتغير المشهد خلال رحلة العودة إلى محطة القطار الأولى “عدلي منصور”، فكانت محطتا “مطار العاصمة، ومدينة الفنون والثقافة” تمثلان نقطة عبور العدد الأكبر من الركاب الذين استقلوا القطار، ولم يصعد من المحطات الأخرى غير عدد محدود، لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة داخل العربة التي كنا بها، وكذلك العربتان المجاورتان لها من اليمين واليسار.
إنفاق المصريين على المواصلات
لا توجـد بيانـات كافيـة حـول إنفاق الأفـراد علــى المواصــلات، التي تحتل المرتبة الرابعة من نفقات المصريين السنوية، وشهدت زيادات متكررة على مدار العقد الأخير، مع تطبيق الحكومة لبرنامج رفع الدعم عن الوقود.
يتباين إنفاق المصريين على التنقل والمواصلات العامة ما بين ستة في المئة إلى 30 في المئة من الدخل السنوي للأسرة، لكنّ الوضع مختلف تماماً بالنسبة لمحسن محمد، الذي يُنفق تقريباً نحو ستة آلاف جنيه؛ أي ما يعادل إجمالي راتبه الشهري. فهو يعمل بالتجمع الخامس، الذي يقع ضمن النطاق الجغرافي لمدن شرق القاهرة؛ فيضطر إلى ركوب أربع وسائل مواصلات للذهاب إلى عمله، ومثلها للعودة إلى بيته، بتكلفة يومية قدرها 70 جنيهاً (نحو 1.5 دولار وفقاً لمتوسط سعر الصرف الحالي البالغ 47 جنيهاً للدولار)؛ بالإضافة إلى تكلفة وسائل التنقل الخاصة بأبنائه الثلاثة، وهم في مراحل تعليمية مختلفة.
تختلف الأسماء، لكن الأعباء المالية هي ذاتها، الخاصة بوسائل التنقل. فتحي السيد، أحد سكان مدينة بدر، ينفق 50 في المئة من راتبه الشهري، الذي يبلغ ستة آلاف جنيه، على المواصلات؛ فرحلة ذهابه للعمل والعودة منه تكلّفه 50 جنيهاً يومياً (نحو دولار واحد، وفقاً لمتوسط سعر الصرف الحالي)، تُضاف إليها ما يماثلها تقريباً؛ وهي تكلفة تنقلات أفراد أسرته من وإلى مدارسهم ودروسهم.
محمد محسن وفتحي السيد؛ نموذجان من المستفيدين من مشروع الإسكان الاجتماعي، الذي أطلقته الحكومة المصرية عام 2014، والمعروف إعلامياً بـ”مشروع المليون وحدة”؛ لخدمة فئات لا تتمتع برفاهية امتلاك سيارة خاصة، وتعتمد على المواصلات العامة بصورة أساسية، في مدن بدر وحدائق العاصمة والشروق والعبور شرق القاهرة.
الحدائق وهليوبوليس "من يجاور العاصمة لا يسعد"
على عكس المثل الشعبي السائد في مصر: “من يجاور السعيد يسعد”، لم يحدث أيّ تطور في موقف مدينة هليوبولس، المجاورة للعاصمة الإدارية، التي تسبق نشأتها العاصمة الجديدة بـ 20 عاماً، لكنّها لا تزال “مدينة أشباح” كما يصفها عبد البصير الرحماني، أحد قاطنيها، بالقول: “أسير في المدينة الساعة 12 ظهراً، بصعوبة أصادف في طريقي سيارة ولا يوجد مَن يسير على قدميه، فما بالك ليلاً”.
ورغم أن وجود محطة لقطار العاصمة، على أطراف المدينة من جهة طريق القاهرة الإسماعيلية الصحراوي، وترى الحكومة فيهاحلاً لمشكلة المواصلات المزمنة، يرى عبد البصير أن القطار لم يغير أيّ شيء على أرض الواقع، مُرجعاً السبب إلى وجود محطة القطار في شمال المدينة، ولا تتوفر مواصلات داخلية لنقل الركاب من جنوب المدينة إلى شمالها لركوب القطار.
يُقدّر عبد البصير المسافة بين وحدته السكنية ومحطة القطار بسبعة كيلومترات؛ وهي مسافة يصعب قطعها من دون سيارة أو وسيلة مواصلات داخلية، وفقاً لعبد البصير. في حين يفضل القاطنون في جنوب المدينة اللجوء إلى طريق مصر السويس، لركوب أيّ مواصلة لوجهتهم، بدلاً من المرور عبر المدينة بأكملها لمحطة القطار من الجهة الشمالية.
ويشتكي عبد البصير، كونه واحداً من ألف ساكن في المدينة، التي تتجاوز مساحتها خمسة آلاف و888 فداناً، من تأخر تعمير المدينة وغياب المواصلات؛ وعلى الرغم من أن عمر المدينة يقترب من 30 عاماً، لا تتوقف شكاوى سكان مدينة هليوبوليس الجديدة من نقص الخدمات الأساسية.
أسطول نقل من أجل العاصمة وليس حدائقها
في شباط/فبراير 2023، تعاقدت وزارة النقل مع تسع شركات نقل جماعي لنقل الركاب من القاهرة إلى العاصمة الإدارية، بإجمالي 369 أتوبيساً، تعمل عبر 48 مساراً.
ورغم أن مدينة حدائق العاصمة أُنشئت بهدف تسكين موظفي الحكومة، الذين نُقلوا إلى مقرات عملهم الجديدة بالعاصمة الإدارية، اكتفت وزارة النقل بعدد محدود من الباصات لنقل سكانها إلى العاصمة، وهو ما اعترض عليه محمود علي، أحد الحاصلين على وحدة سكنية في مدينة حدائق العاصمة، قائلاً: “أسطول أتوبيسات يقف في العاصمة في ظل غياب الركاب، لا نجد مواصلات في حدائق العاصمة”. وعندما تواصل محمود ومجموعة من السكان مع وزارة النقل وشركة المواصلات، جاء الرد كالآتي: “الشركة ستخسر في حدائق العاصمة لقلة الكثافة السكانية”.
يتساءل محمود: “كيف خصصت الدولة وحدات سكنية لمحدودي الدخل، في ظل غياب المواصلات؟”.
يرى محمود أن القطار الكهربائي الخفيف، هو وسيلة المواصلات الوحيدة التي خصّصتها وزارة النقل لخدمة سكان حدائق العاصمة. وبحسب محمود، فإن السكان لم يستفيدوا من القطار؛ بسبب بُعده عن وحدات الإسكان الاجتماعي أكثر من ثلاثة كيلومترات، ولا توجد وسيلة مواصلات داخلية تقطع المسافة إلى المحطة.
تواصل سكان المشروع مع جهاز مدينة حدائق العاصمة، الذي أخبرهم أن الأمر يرجع لوزارة النقل، يقول محمود:
"وزارة النقل بتقول مليش دعوة أنا عايزة أشغل القطار، طيب على أي أساس عايزة تشغل القطار وينزلنا بعيد في آخر المدينة، على الأقل كان محتاج محطتين؛ واحدة في أول المدينة عند الإسكان والتانية زي ما هي موجودة عند جهاز المدينة".
John Doe Tweet
من وجهة نظر محمود، لن يتغير الوضع بعد تعمير المدينة، ولن توفر الدولة وسائل مواصلات جديدة لمحدودي الدخل. ومع الانتهاء من “مدينة نور”، أحد أرقى الأحياء السكنية الجديدة في المنطقة، ستكتفي الشركة المطوّرة بتوفير “أتوبيسات” داخلية لسكان مشروعها، مثل ما فعلت سابقاً في مشروعي الرحاب ومدينتي، وفق محمود.
ومع اقتراب العمر التشغيلي لقطار العاصمة (المرحلتان الأولى والثانية) من العامين، لم تتوقف خلالهما حالة الجدل الدائر عن جدوى المشروع، ومدى تحقيقه للأهداف التي أنشئ من أجلها؛ أعلنت الحكومة إنشاء مرحلة خامسة داخل العاصمة، ليكون إجمالي عدد محطات القطار بالعاصمة ثماني محطات فقط، ومحطة واحدة لمدينة حدائق العاصمة.
أما باقي مدن شرق القاهرة، التي يتجاوز عمر بعضها نصف قرن، كان نصيبها محطة واحدة خارج الحيز العمراني للمدينة، وما زالت تعاني أزمة مواصلات؛ حيث لم تتأثر بوجود قطار العاصمة على أطرافها، وبالتزامن وقّعت وزارة النقل مذكرة تفاهم جديدة لإنشاء قطار كهربائي جديد من العاصمة الإدارية الجديدة إلى مدينة الرحاب بالتجمع الأول بالقاهرة الجديدة.
أُنجز هذا التحقيق بدعم وإشراف من أريج – إعلاميون من أجل صحافة استقصائية عربية.