شهد العالم صراعين عالميين مدمرين في القرن العشرين. وبينما نخطو بحذر نحو القرن الحادي والعشرين، يظل السؤال قائمًا: هل العالم مضطرب إلى الحد الذي قد يدفعه إلى تجربة حرب عالمية ثالثة؟ إن الصراعات الجارية في أوكرانيا وغزة تشكل بؤر اشتعال محتملة، الأمر الذي يدفع المجتمع الدولي إلى حافة مواجهة عسكرية أخرى واسعة النطاق. سوف يدرس هذا المقال المناخ الجيوسياسي الحالي في ضوء هذه الصراعات، ويقيم قوة المؤسسات الدولية وقدرتها على منع نشوب حرب عالمية.
وبتحليل موسوعي يغطي الأبعاد العلمية والفلسفية لاحتمالية نشوب تلك الحرب، أعتقد أن تغطية تلك الأبعاد مهمة في السياق الحالي؛ حيث لا يكفي التحليل من منظور سياسي معتاد أصبح من السائد رؤيته وسماعه في الإعلام، بينما لا يشغل شيء الجانبين (العلمي والفلسفي) في التنبؤ أو تفسير ما يحدث.
1. القسم الأول: الصراع الأوكراني
1. القسم الأول: الصراع الأوكراني
كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 بمثابة بداية الصراع المستمر في أوكرانيا، ومن الجائز القول بأن الصراع أقدم من ذلك، ولكن في تقديري أن السابق على هذا التاريخ يمكن تسميته بالجذور، لكن الصراع الرئيسي اشتعل منذ هذا التاريخ؛ حيث وضع حاجزًا نفسيًا ونقل حالة التراكم في بناء الحواجز والجدران بين روسيا والغرب لحالة أكثر اشتعالاً وكثافة؛ فتوسع الطرفان في بناء الجدران في وقت كانوا يهدمون الجسور.
أولًا: من الأهمية فهم الأسس الفلسفية للحرب والسلام؛ فالواقع غالبًا ما يكون أكثر تعقيدًا؛ حيث غالبًا ما تؤدي سياسات القوة والاختلافات الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية إلى دفع الصراعات لتأزيمها وتعقيدها؛ فالأزمة الأوكرانية -على سبيل المثال- تمتد جذورها إلى التوترات التاريخية والمصالح الجيوسياسية المتنافسة، والخلافات حول التكامل الاقتصادي والسياسي بين الروس والسلاف من جانب، وبين شعوب الأنجلوساكسون والفرنسيين من جانب، وبين الروس من جانب وخصومهم من السلاف من جانب.
ومن الناحية العلمية، أدى تطور الأسلحة النووية وانتشارها إلى تغيير طبيعة الحرب بشكل كبير لتصبح أكثر تدميرًا، وعندما يملك الإنسان القوة ووسائل التدمير ينظر في فرض شروطه وهيمنته لمزيد من المصالح، مما يعني احتمال الدمار الشامل بناءً على تلك المقدمات، بينما العواقب البيئية طويلة المدى للحرب النووية دفعت الكثيرين إلى القول بأن الحرب العالمية الثالثة ستكون كارثية وربما وجودية للبشرية، علاوة على أن الترابط بين الأنظمة العالمية والمؤسسات الدولية كمجلس الأمن والأمم المتحدة، من التمويل إلى الاتصالات والقرارات، إلى أن تأثير صراع واسع النطاق، مثل هذا سيكون بعيد المدى ولا يمكن التنبؤ به؛ حيث يمكن القول بأن تلك الأنظمة العالمية والمؤسسات الدولية ستنهار، بمعنى أن تأثيرات الحرب العالمية المقبلة ستكون مؤثرة لعقود بعدها، والنتائج الكارثية تلك يصعب التبنؤ بها أو بآليات تطورها على وحدة وتماسك، ونظام العالم الذي شهدناه منذ الحرب العالمية الثانية.
يمكن اختصار أزمة غزة في رغبة الصهيونية الدولية ومقرها في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حماية إسرائيل بوصفها ثمرة تلك الصهيونية التي نمت وترعرعت في كلا البلدين قبل انتقالها للهجرة إلى فلسطين، وإنشاء دولة دينية يهودية الطابع
أما من الناحية السياسية؛ فينقسم العالم حاليًا إلى كتل وقوى مختلفة، أبرزها الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي على الصعيد العالمي، وبين إيران وحلفائها في محور المقاومة وبين إسرائيل وحلفائها على الصعيد الإقليمي. وقد أدت الأزمة الأوكرانية إلى تفاقم التوترات بين هذه الكتل؛ حيث يرى البعض أنها حرب بالوكالة بين الغرب وروسيا، وما أوكرانيا إلا ساحة استنزاف للروس، وكان الافتقار إلى استجابة عالمية موحدة للأزمة، إلى جانب الخطاب العدواني والإجراءات التي اتخذتها بعض هذه القوى، سببًا في تفاقم المخاوف بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، مثلما أعلن الروس ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014، إضافة إلى نوايا حلف الناتو لضم أوكرانيا، بما يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي وفقًا لرأي الروس.
وفي تقديري أن مستقبل الحرب في أوكرانيا، وعلاقة ذلك بنشوب صراع عالمي سوف يعتمد على خمسة أمور:
أولا: أهداف روسيا الاستراتيجية: حيث تعتمد مدة الصراع وشدته بشكل كبير على أهداف روسيا طويلة المدى في أوكرانيا، بمعنى طول مدة الصراع وتأثيرها في أهداف روسيا، يمكن أن ينقل الحالة الأوكرانية من مجرد سيطرة روسيا على إقليم دونباس إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فمن الممكن أن تتخطى الأهداف الروسية أوكرانيا بالمجمل وتنتقل جغرافيًا للغرب بشكل موسع.
ثانيًا: رد الغرب: حيث يؤثر مستوى الدعم والمشاركة من حلف شمال الأطلسي والقوى الغربية الأخرى بشكل مباشر على مسار الصراع، بمعنى أن ما نراه الآن من دعم عسكري وسياسي ومادي غربي لأوكرانيا ليس كافيًا لإشعال حرب عالمية؛ فما زال هذا الدعم عند مستوى الاستنزاف، ولم ينتقل بعد لمستوى الهجوم على روسيا، وفي حال انتقل الغرب بشكل مباشر إلى الهجوم على روسيا فسوف يقترب العالم آليًا لصراع عالمي مدمر، وقد رأينا مقدمات هذا الهجوم الغربي في الأخبار المتداولة عن موافقة الدول الغربية باستخدام سلاحها في أوكرانيا لضرب الأراضي الروسية.
ثالثا: الجهود الدبلوماسية: سيكون نجاح المبادرات الدبلوماسية في تهدئة التوترات وإيجاد حل تفاوضي أمرًا بالغ الأهمية، وفرصة نجاح ذلك طبقًا للسياق الحالي والمعطيات ضعيفة للغاية؛ فالمبادرات والجهود الدبلوماسية شبه معدومة، وتنحصر جُلّها في مفاوضات تحرير الأسرى من الطرفين لا غير، ويمكن تفسير ذلك بأن القوى العظمى الدولية الكبرى لا تصلح للوساطة كونها متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب.
رابعًا: الردع وضبط النفس النووي: حيث وبالرغم من التوترات المتزايدة، فقد أبدت روسيا والغرب ضبطًا للنفس في استخدامهما للأسلحة النووية، ويظل مبدأ التدمير المتبادل يشكل رادعًا قويًا ضد حرب نووية واسعة النطاق، ومن المأثور والمتعارف عليه أن الحرب العالمية القادمة هي (ذرية الهوى)؛ حيث صنع ذلك السلاح رغبة للردع وعدم تكرار ما حدث في الحربين العالميتين السابقتين، وبما أن الحرب الثالثة حدثت؛ فلا مناص ولا مفر من استخدام ذلك السلاح؛ إما للردع أو الدمار الشامل تجنبًا لما حدث في اليابان، والذي ما زال العالم يجني ثماره حتى الآن من تهديد شامل بالفناء.
خامسًا: الاعتماد الاقتصادي المتبادل والمصالح المشتركة: حيث وبالرغم من الصراع الحالي في أوكرانيا، تظل روسيا والغرب مترابطين اقتصاديًا، وإن كان هذا الترابط مهددًا الآن بالعقوبات والحرب الاقتصادية على روسيا ومصادرة أموالها، وفي قطع الروس الطاقة عن الغرب من نفط وغاز، ولجوء الدول الأوروبية لمصادر أكثر تنوعًا، بما يمثل فرصًا لخصوم الأوروبيين من الجنوب العالمي والشرق الأوسط لفرض شروطهم مقابل تزويد الغرب بما يكفيه من الطاقة.
الصراع في غزة
في الوقت نفسه، اندلع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرة أخرى؛ حيث تسببت الحرب الأخيرة في غزة التي بدأت 7 من أكتوبر 2023، في خسائر كبيرة في الأرواح وأضرار في الممتلكات، وفي حين أن الصراع إقليمي في المقام الأول بين إسرائيل ومحور المقاومة؛ فإن مشاركة الجهات الفاعلة الخارجية والقوى العالمية التي لديها القدرة على توسيع الصراع إلى ساحة أكبر، هو الذي أدى لإطالة أمد الحرب لتصل اليوم إلى شهرها التاسع دون حل؛ فالقوى الغربية وأبرزها الولايات المتحدة، داعمة لإسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي، بينما إيران داعمة لفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية بنفس الشكل.
علمًا بأن الشرق الأوسط هو منطقة مضطربة للغاية منذ عقود؛ حيث تعاني من عدم الاستقرار السياسي، ومن التوترات الدينية والعرقية والنزاعات الإقليمية، والوضع مثل ذلك يصبح عرضة للاشتعال إذا تميز الصراع بتورط جهات حكومية وغير حكومية؛ فقد سلطت الدراسات الحديثة في نماذج التنبؤ بالصراع الضوء على ديناميكيات تصعيد الحرب، على سبيل المثال تشير التحليلات الإحصائية التي أجراها معهد “أوسلو لأبحاث السلام” إلى أن الصراعات التي تشمل جهات فاعلة حكومية وغير حكومية متعددة، كما رأينا في الأزمة بين أوكرانيا وغزة، لديها احتمالية أكبر للانتشار والتكثيف، مثلما وصل لذلك هافارد هيغر وآخرون في كتابهم “التنبؤ بالصراع المسلح، 2010-2050”.
غزة هي منطقة اشتباك بين عدة قوى مهيمنة وصاعدة تتنوع أهدافها ومرجعياتها ومعتقداتها، وهي شديدة العداء للآخر منذ زمن، لذلك كانت فرصة الاشتباك بينها كبيرة وفقًا لمصيدة “دوقيديدس” أو فخ دوقيديدس، الذي قال بأن التاريخ يثبت وقوع حرب حتمية في ظل صعود قوى سياسية وأيديولوجية منافسة للقوى المهيمنة السائدة، حينها تكون فرص السلام والحوار أقل وأندر كثيرًا في ظل انفراد قوة واحدة، وهذا ما شهدناه في ظل صعود قوى المقاومة الإسلامية في ظل سيطرة إسرائيل وحلفائها، علما بأن ثوقيديدس (460 ق م – 395 ق م)، هو مؤرخ يوناني كتب عن الحرب بين أثينا وإسبرطة في اليونان القديمة، ووصل بتحليله الفلسفي أن الحرب كانت ضرورية في ظل صعود أثينا ضد إسبرطة المهيمنة.
توقع الكاتب الأمريكي “غراهام تي أليسون” حدوث حرب عالمية ثالثة بناءً على كلام هذا المؤرخ، ثم أطلق على نظريته “فخ ثوقيديدس“، وبالنظر إلى هذا الكلام؛ فحرب غزة بين محور المقاومة، وإسرائيل كانت ضرورية وحتمية في ظل صعود قوى المقاومة الإقليمية المعتمدة على الخطابين القومي والديني؛ فقد حدثت الحرب القومية قديمًا وانتهت، ونخوض حاليًا جولة جديدة من الصراع على أساس ديني.
ويمكن اختصار أزمة غزة في رغبة الصهيونية الدولية ومقرها في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حماية إسرائيل بوصفها ثمرة تلك الصهيونية التي نمت وترعرعت في كلا البلدين قبل انتقالها للهجرة إلى فلسطين، وإنشاء دولة دينية يهودية الطابع، وموقف الولايات المتحدة مؤثر للغاية في الصراع ومرتبط به بشكل مباشر؛ فقد حدث أن شرحنا ذلك على مواطن من الجانب الديني، ويبقى أن تصرفات القادة الأمريكيين تثبت ذلك الشرح؛ حيث تورط العديد من قادة أمريكا هذا التوقيت في تصريحات دينية مؤيدة لإسرائيل ضد العرب والمسلمين.
تحليل فلسفي وعلمي لما يحدث
ويفرض هذا علينا تحليلاً لما جرى من زوايا مختلفة؛ فطبقًا للمذهب الواقعي؛ فإن الحرب جزء أصيل من الطبيعة البشرية والعلاقات الدولية، وهي مدفوعة بالمصلحة الذاتية والسعي إلى السلطة وفرض الهيمنة بشكل مستمر لا يتوقف، وفي سياق الحرب بغزة وأوكرانيا، يرى الواقعيون أن الصراع هو مجرد مظهر واحد من مظاهر التوترات الجيوسياسية الأساسية، التي قد تؤدي إلى صراع عالمي أوسع، وبالتالي فرص اندلاع حرب عالمية في ظل تلك الأجواء أكبر بكثير طبقًا لكتاب “مأساة سياسات القوى العظمى” لجون جي ميرشايمر2014.
من ناحية أخرى، يعتقد المثاليون أن رغبات الأمن الجماعي والتعاون والدبلوماسية من الممكن أن تمنع الصراعات العالمية، ويشيرون إلى أن الالتزام بالقوانين الدولية والتعاون الوثيق بين الدول ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، يمكن أن يساعد في منع التصعيد إلى حرب عالمية ثالثة، مثلما قال ذلك نورمان أنجيل (1872- 1967) في كتابه “الوهم الكبير“. وفي تقديري أن دور الفهم المشترك والأعراف الاجتماعية والمصالح والهويات لم يأبه له نورمان أنجيل كثيرًا؛ حيث تتعارض هويات الناس وكثافة حياتهم وصراعاتهم النفسية والمادية مع رغبات الأمن الجماعي؛ فيتحول ذلك النوع إلى أمن خاص؛ فضلاً عن إصدار “أنجيل” كتابه في الثلاثينات قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بــ 6 سنوات تقريبًا، وقد قال هذا المعنى “ألكسندر وندت” في كتابه النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية المنشور في صحافة جامعة كامبردج عام 1999.
وقال هذا المعنى أيضًا بإمكانية حدوث حرب عالمية ثالثة قد تكون أكثر تدميرًا مما مضى؛ حيث يوفر علم الأنظمة المعقدة إطارًا لفهم ديناميكيات الحرب وإمكانية التصعيد؛ حيث تشمل المفاهيم الأساسية حلقات ردود الفعل الإيجابية ونقاط التحول ونظرية الفوضى، وغيرها من المفاهيم الحديثة التي صار من المألوف أن يُستعان بها في فهم المعارك الحديثة والتنبؤ بمستقبلها، وفي سياق الحرب في أوكرانيا وغزة، نستكشف كيف يمكن أن تؤدي هذه الديناميكيات إلى حريق عالمي، مثلما قال ذلك أندريه كوروتاييف وآخرون، في كتابهم عن ديناميكيات ونظريات الحرب قديمًا وحديثًا، والمنشور هنا وهنا.
وفقًا لنظرية الفوضى يمكن التنبؤ بالصراعات العالمية من خلال تحديد مؤشرات الإنذار المبكر؛ مثل التغيرات المفاجئة في التحالفات السياسية، أو التحولات في القوة الاقتصادية، أو التقدم التكنولوجي السريع
ومن أمثلة تلك الوسائل التي صار يُعتمد عليها لفهم الأحداث المعقدة لنظرية الفوضى، وهي فرع من الرياضيات يتعامل مع الأنظمة المعقدة وسلوكها؛ حيث تم اعتمادها بشكل متزايد في مختلف المجالات العلمية، بما في ذلك العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية، والفكرة الأساسية للنظرية تقول إن التغييرات الصغيرة يمكن أن تؤدي إلى عواقب كبيرة لا يمكن التنبؤ بها، ومهما كان الأمر صغيرًا فهو فرصة للتأثير وصناعة أحداث أكبر ضخامة، وهي تقدم إطارًا قيمًا لتحليل الصراع العالمي والتنبؤ به، مثل السيناريو الافتراضي للحرب العالمية الثالثة الذي نناقشه اليوم؛ فعلى الرغم صعوبة التنبؤ الدقيق للحرب، إلا أن نظرية الفوضى يمكنها تسليط الضوء على العوامل والظروف المحتملة التي قد تزيد من احتمالية نشوب صراعات واسعة النطاق.
نظرية الفوضى في جوهرها تدرس سلوك الأنظمة المعقدة، والتي تتميز بالعديد من المكونات المتفاعلة والمؤثرات عليها، والشرايين التي تعطيها الحياة والطاقة، وغالبًا ما تعرض الأنظمة المعقدة ديناميكيات غير خطية، بمعنى حركات وموادّ نشطة في إطار فوضوي غير منظم، مما يعني أن سلوكها لا يتناسب دائمًا مع القوى المؤثرة عليها، بالتالي فالعلاقة ليست بين مقدمة ونتيجة؛ بل أثر معلوم ومؤثر مجهول، ويمكن أن تؤدي هذه اللاخطية إلى خصائص ناشئة، بمعنى أن هذه الفوضى يمكنها أن تخلق ظواهر وأحداثًا جديدة غير متوقعة؛ حيث تُظهر الأحداث بأكملها سلوكيات لا يمكن التنبؤ بها من خلال مكوناتها الفردية من حيث الأصل، علمًا بأن الأنظمة المعقدة التي تشمل أنماط المناخ والأنظمة البيئية والاقتصاد والدين والقبيلة والعلاقات الدولية، هي فاعل ومؤثر في الأحداث، بعضها على نحو لا نراه أو نتوقعه، مثلما قال مارسين نوفاك وآخرون في كتابهم الفوضى وتطور التعاون رؤى من معضلة السجين المتكررة.
ووفقًا لنظرية الفوضى يمكن التنبؤ بالصراعات العالمية من خلال تحديد مؤشرات الإنذار المبكر؛ مثل التغيرات المفاجئة في التحالفات السياسية، أو التحولات في القوة الاقتصادية، أو التقدم التكنولوجي السريع، وهذا يمكن رصده بوضوح في أوكرانيا وغزة؛ حيث تتمتع كل الأطراف بتكنولوجيا متقدمة في الحرب منها الحرب السيبرانية والذكاء الاصطناعي، وأساليب حديثة في الهجوم، كالحرب عن بُعد مثل الصواريخ والمُسيّرات؛ فضلاً عن تغيرات مفاجئة في التحالفات السياسية رأيناها في موجة مقاطعة إسرائيل الدولية وطرد سفرائها بشكل غير متوقع، وحماية شبه دولية لروسيا من الصين في مجلس الأمن، وتحولات اقتصادية أيضًا؛ حيث تتمتع كل الأطراف بقوة اقتصادية تمكنها من الحرب لسنوات، أو على الأقل عدم فقدانها لمصادر دعم.
وأحد السيناريوهات المُحتملة للحرب العالمية الثالثة- وفقًا لهذا السياق- ينطوي على تكثيف المنافسة بين القوى العظمى؛ خاصة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، ويمكن أن تظهر هذه المنافسة في مجالات مختلفة، مثل النزاعات الإقليمية، أو الإكراه الاقتصادي (العقوبات)، أو الصراعات الأيديولوجية التي من أبرزها الدين والقومية، وكلاهما يتحققان في غزة، بينما يتحقق الجانب القومي في أوكرانيا وشكوك حول الدور الديني بين الأرثوذكس الروس من جانب، والكاثوليك البروتستانت الغربيين من جانب، برغم أن الشعب الأوكراني أرثوذكسي، وينفي هذا احتمالية وجود الدين في الصراع، لكن البعض قد يجادل بأن أوكرانيا بالأساس حلقة استنزاف غربية لروسيا، حتى لو كان السلاف الأرثوذكس هم الضحية بالأساس، وتشير نظرية الفوضى بهذا السياق إلى أن الأحداث الصغيرة التي تبدو غير مهمة، يمكن أن تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل التي تؤدي إلى صراع كامل؛ فما نراه من أدوار للدين والقومية والاقتصاد، هو في حقيقته أسباب ومبررات كافية لإشعال العالم.
المؤسسات الدولية وفرص اشتعال الحرب
ولمنع نشوب حرب عالمية ثالثة، يعتمد العالم على المؤسسات الدولية الرئيسية مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الإقليمية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأفريقي، ومع ذلك واجهت هذه المؤسسات العديد من التحديات، مثل الانقسامات الإقليمية، والجمود السياسي، والافتقار إلى آليات التنفيذ، وبالتالي فإن قدرتها على الاستجابة بفعالية لهذه الصراعات المتصاعدة ومنع نشوب حريق أكبر ما زالت غير مؤكدة.
ولاستطلاع ورصد دور هذه المؤسسات نراها ضعيفة للغاية؛ حيث أدى نظم الفيتو وحصر الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على خمسة، جميعهم منقسمون بسبب تفاقم الصراع، مما يسلط الضوء على واحدة من أكبر أزمات العالم، وهي ضعف الأمم المتحدة ومجلس الأمن في السيطرة على الصراعات أو وقفها وإرساء العدالة الدولية، مثلما يحدث الآن في غزة من جهود تلك المؤسسات لوقف الحرب بلا طائل، وعدم قدرتها على مناقشة أو حتى تفسير موحد لما يحدث في أوكرانيا، وقد أدى هذا الوضع المتردي لظهور تناقضات عالمية في منتهى الصعوبة؛ ففضلاً عن أنها تناقضات متسمة بالتعقيد؛ فهي أيضًا تناقضات ورثت كل سلبيات وآفات النظام الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية، وهي سلبيات تكفي وفقًا للقوى الصاعدة (روسيا والصين وإيران) في عدم الثقة بتلك المؤسسات والاعتقاد بأنها شرعت خصيصًا لفرض الهيمنة الغربية.
مع ذلك؛ فمن المهم أن نلاحظ أن النظام الدولي الحالي -على الرغم من عيوبه- لديه آليات لإدارة وحل الصراعات؛ حيث تلعب الدبلوماسية والقانون الدولي والمؤسسات المتعددة الأطراف؛ مثل الأمم المتحدة دورًا حاسمًا في منع الصراعات وتخفيف حدتها حتى الآن، علاوة على ذلك فقد أدت العواقب المدمرة للحروب الماضية إلى الاعتراف بقيمة السلام والتعاون على نطاق واسع، مما يعني أنه وبرغم عيوب النظام الدولي الحالي وعجزه عن السيطرة على حربي أوكرانيا وغزة، لكنه ما زال يتمتع بالقبول الكافي والرغبة في استمراره تفاديًا لأية كوارث متوقعة، وقد يساعد هذا في إنجاز أي مفاوضات مستقبلية.
نظرًا للتوترات المستمرة والأنشطة العسكرية في أوكرانيا وغزة؛ فلا ينبغي لنا أن نستبعد احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة باستخفاف. وبينما تسعى المؤسسات الدولية إلى الحفاظ على السلام والأمن العالميين؛ فإن القيود التي تعاني منها والضعف الذي يعتريها يجعلان العالم عرضة لتصرفات لا يمكن التنبؤ بها
من تلك الزاوية أسلط الضوء على نظرية الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) بأن الحروب ضرورية للتقدم البشري والتنمية والعمران، ورأيه في أن الحروب تسمح للمجتمعات بتطهير نفسها من صراعاتها وتناقضاتها الداخلية، مما يؤدي إلى ظهور مجتمع أكثر تقدمًا وتطورًا، وهي النظرية المعروفة في الوسط الماركسي بالمادية الجدلية، وملخصها في حتمية صراع المتناقضات وضرورة الحرب لتقدم البشر؛ ففي كتابه “فنومينولوجيا الروح” قال إن “الحياة الأخلاقية” للأمة تتحقق من خلال صراعها مع الأمم الأخرى، ويقصد أن “حالة الحرب هي الشكل السلبي للحياة الأخلاقية”، لكن هذا الجانب السلبي ضروري للدولة لتحقيق ذاتها وصياغة أخلاقها، وفي كتابه “أصول فلسفة الحق” يوضح “هيغل” رؤيته لدولة عقلانية وعادلة، معترفًا بأن الحرب يمكن أن تكون وسيلة ضرورية للدفاع عن مصالح الدولة وتأمين استقلالها.
ومن هذا المنظور يمكن النظر إلى الحرب العالمية الثالثة باعتبارها شرًا لا بد منه، ووسيلة لتطهير العالم من صراعاته وتناقضاته الداخلية، ويمكن أن يؤدي ذلك لصياغة أخلاقية جديدة مثلما حدث في صياغة ميثاق العالم لحقوق الإنسان عام 1948، وتفسيره ضمن السياق التاريخي، أنه أعقب حربًا عالمية مدمرة أدت لصدمة كبيرة في الوعي البشري، هي التي دفعت العالم لتلك الصياغة الأخلاقية العادلة، بالتالي فالحرب يمكن أن تؤدي ظهور مجتمع عالمي أكثر تقدمًا وتطورًا وليس فناء البشرية مثلما هو شائع.
ومع ذلك؛ فإن وجهة النظر هذه مثيرة للجدل إلى حد كبير، وقد انتقدها العديد من الفلاسفة والعلماء، على سبيل المثال جادل الفيلسوف النفعي جيريمي بينتام بأن مبدأ السعادة الأعظم يجب أن يكون المبدأ التوجيهي لجميع أفعال الإنسان، ومن هذا المنظور فإن حربًا عالمية ثالثة لن تكون مبررة، لأنها ستؤدي إلى قدر كبير من المعاناة الإنسانية والموت والدمار، وفي تقديري أن هذا المنظور مثالي وليس نفعيًا واقعيًا؛ فهو يخلط بين الأمنية والحدث، أو بين النظرية والتطبيق، أو بين الخيال والواقع.
وبعيدًا عن رؤية هيجل ومناقشة دور منظمات العالم، أعتقد أنه لا يمكن استبعاد احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة بشكل كامل، وذلك لعدة اعتبارات:
الاعتبار الأول الفلسفي: الصراعات العالمية الجارية معقدة، تجتمع فيها عوامل سياسية واقتصادية ودينية وأيديولوجية وعرقية أصيلة، وعندما تتصف أي حروب بتلك الصفات واعتبارها أصيلة وجذرية؛ ففرصة الاشتباك العالمي بناءً عليها أكبر، ومن جانب آخر واقعي؛ فالحرب هي جانب متأصل في العلاقات الدولية، مدفوعة بالسعي إلى السلطة والأمن وفقًا لما قاله “جون جيه ميرشايمر” في كتابه الوعد الكاذب للمؤسسات الدولية، ومن ناحية أخرى تفترض الليبرالية أن الترابط الاقتصادي العالمي يمكن أن يعزز السلام، وقد تنجم حرب عالمية ثالثة -في سياق هذه الفلسفات- عن السياسة الواقعية أو عن خلل في النظم الاقتصادية العالمية، مثلما وصل لذلك “روبرت أو كيوهان” وآخرون في مصنفهم بعنوان “القوة والاعتماد المتبادل: السياسة العالمية التي تمر بمرحلة انتقالية“، كتلك التي قد تنشأ عن الصراع في أوكرانيا مثلاً بالنظر إلى الطابع الاقتصادي الذي ميزها بالعقوبات على روسيا وتجميد أموالها، أو الحد التي وصلت إليه منذ أيام بتحويل الأموال الروسية وقدرها 50 مليار دولار لصالح أوكرانيا.
أما الاعتبار الثاني العلمي: فيفترض علم النظم العالمية أن التحديات العالمية المعقدة -بما في ذلك الحروب- يمكن فهمها بشكل أفضل من خلال عدسة الأنظمة المترابطة، وبتطبيق ذلك على أزمة غزة وأوكرانيا؛ فمثلاً يمكن للمرء أن يجادل بأن الصراع يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل للتحولات الجيوسياسية، والتي من المحتمل أن تبلغ ذروتها في حرب عالمية، علاوة على ذلك تسلط الأبحاث في علم النفس الضوء على دور التحيزات المعرفية والتفكير الجماعي والخطاب الاجتماعي والسياسي العاطفي في تصعيد الصراعات الدولية ،مثلما وصل لذلك جاك دريدا في كتابه 11 سبتمبر.
أما الاعتبار الثالث السياسي: فعند النظر إلى المشهد السياسي، يمكن من خلال تحليل حرب غزة باعتبارها مظهرًا من مظاهر العلاقات المتقلبة بين دول الشرق الأوسط، وتمثيلها للعديد من التناقضات الدينية والعرقية وصراعات التاريخ، فضلًا عن علاقاتها غير المستقرة مع القوى العالمية وانحسار داعميها في أعداء متربصين، يرغب كل منهم في فرض هيمنته على الآخر، وقد أشارت العديد من التصريحات والمواقف السياسية المؤكدة، بما في ذلك التقارير الصادرة عن الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة، وكذلك العديد من التحليلات إلى مدى تقلب الوضع وخطورته، وما لم يتم نزع فتيله من خلال الجهود الدبلوماسية؛ فهناك خطر من أن ينتشر الصراع ويتصاعد بسرعة.
والخلاصة: هي أنه نظرًا للتوترات المستمرة والأنشطة العسكرية في أوكرانيا وغزة؛ فلا ينبغي لنا أن نستبعد احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة باستخفاف. وبينما تسعى المؤسسات الدولية إلى الحفاظ على السلام والأمن العالميين؛ فإن القيود التي تعاني منها والضعف الذي يعتريها يجعلان العالم عرضة لتصرفات لا يمكن التنبؤ بها، وعلى هذا فإن الجهود لتعزيز هذه المؤسسات وتشجيع الدبلوماسية والحوار، يمكن اعتبارها محاولات أخلاقية هادفة، أو بقعة ضوء وسط ظلام دامس. وما دامت هناك محاولات مضيئة في ظل هيمنة الظلام؛ فالأمل ما زال موجودًا لتفادي أكبر حرب في تاريخ البشرية.
شهد العالم صراعين عالميين مدمرين في القرن العشرين. وبينما نخطو بحذر نحو القرن الحادي والعشرين، يظل السؤال قائمًا: هل العالم مضطرب إلى الحد الذي قد يدفعه إلى تجربة حرب عالمية ثالثة؟ إن الصراعات الجارية في أوكرانيا وغزة تشكل بؤر اشتعال محتملة، الأمر الذي يدفع المجتمع الدولي إلى حافة مواجهة عسكرية أخرى واسعة النطاق. سوف يدرس هذا المقال المناخ الجيوسياسي الحالي في ضوء هذه الصراعات، ويقيم قوة المؤسسات الدولية وقدرتها على منع نشوب حرب عالمية.
وبتحليل موسوعي يغطي الأبعاد العلمية والفلسفية لاحتمالية نشوب تلك الحرب، أعتقد أن تغطية تلك الأبعاد مهمة في السياق الحالي؛ حيث لا يكفي التحليل من منظور سياسي معتاد أصبح من السائد رؤيته وسماعه في الإعلام، بينما لا يشغل شيء الجانبين (العلمي والفلسفي) في التنبؤ أو تفسير ما يحدث.
1. القسم الأول: الصراع الأوكراني
1. القسم الأول: الصراع الأوكراني
كان ضم روسيا لشبه جزيرة القرم عام 2014 بمثابة بداية الصراع المستمر في أوكرانيا، ومن الجائز القول بأن الصراع أقدم من ذلك، ولكن في تقديري أن السابق على هذا التاريخ يمكن تسميته بالجذور، لكن الصراع الرئيسي اشتعل منذ هذا التاريخ؛ حيث وضع حاجزًا نفسيًا ونقل حالة التراكم في بناء الحواجز والجدران بين روسيا والغرب لحالة أكثر اشتعالاً وكثافة؛ فتوسع الطرفان في بناء الجدران في وقت كانوا يهدمون الجسور.
أولًا: من الأهمية فهم الأسس الفلسفية للحرب والسلام؛ فالواقع غالبًا ما يكون أكثر تعقيدًا؛ حيث غالبًا ما تؤدي سياسات القوة والاختلافات الأيديولوجية والمصالح الاقتصادية إلى دفع الصراعات لتأزيمها وتعقيدها؛ فالأزمة الأوكرانية -على سبيل المثال- تمتد جذورها إلى التوترات التاريخية والمصالح الجيوسياسية المتنافسة، والخلافات حول التكامل الاقتصادي والسياسي بين الروس والسلاف من جانب، وبين شعوب الأنجلوساكسون والفرنسيين من جانب، وبين الروس من جانب وخصومهم من السلاف من جانب.
ومن الناحية العلمية، أدى تطور الأسلحة النووية وانتشارها إلى تغيير طبيعة الحرب بشكل كبير لتصبح أكثر تدميرًا، وعندما يملك الإنسان القوة ووسائل التدمير ينظر في فرض شروطه وهيمنته لمزيد من المصالح، مما يعني احتمال الدمار الشامل بناءً على تلك المقدمات، بينما العواقب البيئية طويلة المدى للحرب النووية دفعت الكثيرين إلى القول بأن الحرب العالمية الثالثة ستكون كارثية وربما وجودية للبشرية، علاوة على أن الترابط بين الأنظمة العالمية والمؤسسات الدولية كمجلس الأمن والأمم المتحدة، من التمويل إلى الاتصالات والقرارات، إلى أن تأثير صراع واسع النطاق، مثل هذا سيكون بعيد المدى ولا يمكن التنبؤ به؛ حيث يمكن القول بأن تلك الأنظمة العالمية والمؤسسات الدولية ستنهار، بمعنى أن تأثيرات الحرب العالمية المقبلة ستكون مؤثرة لعقود بعدها، والنتائج الكارثية تلك يصعب التبنؤ بها أو بآليات تطورها على وحدة وتماسك، ونظام العالم الذي شهدناه منذ الحرب العالمية الثانية.
يمكن اختصار أزمة غزة في رغبة الصهيونية الدولية ومقرها في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حماية إسرائيل بوصفها ثمرة تلك الصهيونية التي نمت وترعرعت في كلا البلدين قبل انتقالها للهجرة إلى فلسطين، وإنشاء دولة دينية يهودية الطابع
أما من الناحية السياسية؛ فينقسم العالم حاليًا إلى كتل وقوى مختلفة، أبرزها الولايات المتحدة وروسيا والصين والاتحاد الأوروبي على الصعيد العالمي، وبين إيران وحلفائها في محور المقاومة وبين إسرائيل وحلفائها على الصعيد الإقليمي. وقد أدت الأزمة الأوكرانية إلى تفاقم التوترات بين هذه الكتل؛ حيث يرى البعض أنها حرب بالوكالة بين الغرب وروسيا، وما أوكرانيا إلا ساحة استنزاف للروس، وكان الافتقار إلى استجابة عالمية موحدة للأزمة، إلى جانب الخطاب العدواني والإجراءات التي اتخذتها بعض هذه القوى، سببًا في تفاقم المخاوف بشأن احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة، مثلما أعلن الروس ضم شبه جزيرة القرم إلى روسيا عام 2014، إضافة إلى نوايا حلف الناتو لضم أوكرانيا، بما يمثل تهديدًا مباشرًا للأمن القومي الروسي وفقًا لرأي الروس.
وفي تقديري أن مستقبل الحرب في أوكرانيا، وعلاقة ذلك بنشوب صراع عالمي سوف يعتمد على خمسة أمور:
أولا: أهداف روسيا الاستراتيجية: حيث تعتمد مدة الصراع وشدته بشكل كبير على أهداف روسيا طويلة المدى في أوكرانيا، بمعنى طول مدة الصراع وتأثيرها في أهداف روسيا، يمكن أن ينقل الحالة الأوكرانية من مجرد سيطرة روسيا على إقليم دونباس إلى ما هو أبعد من ذلك؛ فمن الممكن أن تتخطى الأهداف الروسية أوكرانيا بالمجمل وتنتقل جغرافيًا للغرب بشكل موسع.
ثانيًا: رد الغرب: حيث يؤثر مستوى الدعم والمشاركة من حلف شمال الأطلسي والقوى الغربية الأخرى بشكل مباشر على مسار الصراع، بمعنى أن ما نراه الآن من دعم عسكري وسياسي ومادي غربي لأوكرانيا ليس كافيًا لإشعال حرب عالمية؛ فما زال هذا الدعم عند مستوى الاستنزاف، ولم ينتقل بعد لمستوى الهجوم على روسيا، وفي حال انتقل الغرب بشكل مباشر إلى الهجوم على روسيا فسوف يقترب العالم آليًا لصراع عالمي مدمر، وقد رأينا مقدمات هذا الهجوم الغربي في الأخبار المتداولة عن موافقة الدول الغربية باستخدام سلاحها في أوكرانيا لضرب الأراضي الروسية.
ثالثا: الجهود الدبلوماسية: سيكون نجاح المبادرات الدبلوماسية في تهدئة التوترات وإيجاد حل تفاوضي أمرًا بالغ الأهمية، وفرصة نجاح ذلك طبقًا للسياق الحالي والمعطيات ضعيفة للغاية؛ فالمبادرات والجهود الدبلوماسية شبه معدومة، وتنحصر جُلّها في مفاوضات تحرير الأسرى من الطرفين لا غير، ويمكن تفسير ذلك بأن القوى العظمى الدولية الكبرى لا تصلح للوساطة كونها متورطة بشكل مباشر أو غير مباشر في الحرب.
رابعًا: الردع وضبط النفس النووي: حيث وبالرغم من التوترات المتزايدة، فقد أبدت روسيا والغرب ضبطًا للنفس في استخدامهما للأسلحة النووية، ويظل مبدأ التدمير المتبادل يشكل رادعًا قويًا ضد حرب نووية واسعة النطاق، ومن المأثور والمتعارف عليه أن الحرب العالمية القادمة هي (ذرية الهوى)؛ حيث صنع ذلك السلاح رغبة للردع وعدم تكرار ما حدث في الحربين العالميتين السابقتين، وبما أن الحرب الثالثة حدثت؛ فلا مناص ولا مفر من استخدام ذلك السلاح؛ إما للردع أو الدمار الشامل تجنبًا لما حدث في اليابان، والذي ما زال العالم يجني ثماره حتى الآن من تهديد شامل بالفناء.
خامسًا: الاعتماد الاقتصادي المتبادل والمصالح المشتركة: حيث وبالرغم من الصراع الحالي في أوكرانيا، تظل روسيا والغرب مترابطين اقتصاديًا، وإن كان هذا الترابط مهددًا الآن بالعقوبات والحرب الاقتصادية على روسيا ومصادرة أموالها، وفي قطع الروس الطاقة عن الغرب من نفط وغاز، ولجوء الدول الأوروبية لمصادر أكثر تنوعًا، بما يمثل فرصًا لخصوم الأوروبيين من الجنوب العالمي والشرق الأوسط لفرض شروطهم مقابل تزويد الغرب بما يكفيه من الطاقة.
الصراع في غزة
في الوقت نفسه، اندلع الصراع الإسرائيلي الفلسطيني مرة أخرى؛ حيث تسببت الحرب الأخيرة في غزة التي بدأت 7 من أكتوبر 2023، في خسائر كبيرة في الأرواح وأضرار في الممتلكات، وفي حين أن الصراع إقليمي في المقام الأول بين إسرائيل ومحور المقاومة؛ فإن مشاركة الجهات الفاعلة الخارجية والقوى العالمية التي لديها القدرة على توسيع الصراع إلى ساحة أكبر، هو الذي أدى لإطالة أمد الحرب لتصل اليوم إلى شهرها التاسع دون حل؛ فالقوى الغربية وأبرزها الولايات المتحدة، داعمة لإسرائيل بالسلاح والغطاء السياسي، بينما إيران داعمة لفصائل المقاومة الفلسطينية واللبنانية واليمنية والعراقية بنفس الشكل.
علمًا بأن الشرق الأوسط هو منطقة مضطربة للغاية منذ عقود؛ حيث تعاني من عدم الاستقرار السياسي، ومن التوترات الدينية والعرقية والنزاعات الإقليمية، والوضع مثل ذلك يصبح عرضة للاشتعال إذا تميز الصراع بتورط جهات حكومية وغير حكومية؛ فقد سلطت الدراسات الحديثة في نماذج التنبؤ بالصراع الضوء على ديناميكيات تصعيد الحرب، على سبيل المثال تشير التحليلات الإحصائية التي أجراها معهد “أوسلو لأبحاث السلام” إلى أن الصراعات التي تشمل جهات فاعلة حكومية وغير حكومية متعددة، كما رأينا في الأزمة بين أوكرانيا وغزة، لديها احتمالية أكبر للانتشار والتكثيف، مثلما وصل لذلك هافارد هيغر وآخرون في كتابهم “التنبؤ بالصراع المسلح، 2010-2050”.
غزة هي منطقة اشتباك بين عدة قوى مهيمنة وصاعدة تتنوع أهدافها ومرجعياتها ومعتقداتها، وهي شديدة العداء للآخر منذ زمن، لذلك كانت فرصة الاشتباك بينها كبيرة وفقًا لمصيدة “دوقيديدس” أو فخ دوقيديدس، الذي قال بأن التاريخ يثبت وقوع حرب حتمية في ظل صعود قوى سياسية وأيديولوجية منافسة للقوى المهيمنة السائدة، حينها تكون فرص السلام والحوار أقل وأندر كثيرًا في ظل انفراد قوة واحدة، وهذا ما شهدناه في ظل صعود قوى المقاومة الإسلامية في ظل سيطرة إسرائيل وحلفائها، علما بأن ثوقيديدس (460 ق م – 395 ق م)، هو مؤرخ يوناني كتب عن الحرب بين أثينا وإسبرطة في اليونان القديمة، ووصل بتحليله الفلسفي أن الحرب كانت ضرورية في ظل صعود أثينا ضد إسبرطة المهيمنة.
توقع الكاتب الأمريكي “غراهام تي أليسون” حدوث حرب عالمية ثالثة بناءً على كلام هذا المؤرخ، ثم أطلق على نظريته “فخ ثوقيديدس“، وبالنظر إلى هذا الكلام؛ فحرب غزة بين محور المقاومة، وإسرائيل كانت ضرورية وحتمية في ظل صعود قوى المقاومة الإقليمية المعتمدة على الخطابين القومي والديني؛ فقد حدثت الحرب القومية قديمًا وانتهت، ونخوض حاليًا جولة جديدة من الصراع على أساس ديني.
ويمكن اختصار أزمة غزة في رغبة الصهيونية الدولية ومقرها في الولايات المتحدة وبريطانيا، في حماية إسرائيل بوصفها ثمرة تلك الصهيونية التي نمت وترعرعت في كلا البلدين قبل انتقالها للهجرة إلى فلسطين، وإنشاء دولة دينية يهودية الطابع، وموقف الولايات المتحدة مؤثر للغاية في الصراع ومرتبط به بشكل مباشر؛ فقد حدث أن شرحنا ذلك على مواطن من الجانب الديني، ويبقى أن تصرفات القادة الأمريكيين تثبت ذلك الشرح؛ حيث تورط العديد من قادة أمريكا هذا التوقيت في تصريحات دينية مؤيدة لإسرائيل ضد العرب والمسلمين.
تحليل فلسفي وعلمي لما يحدث
ويفرض هذا علينا تحليلاً لما جرى من زوايا مختلفة؛ فطبقًا للمذهب الواقعي؛ فإن الحرب جزء أصيل من الطبيعة البشرية والعلاقات الدولية، وهي مدفوعة بالمصلحة الذاتية والسعي إلى السلطة وفرض الهيمنة بشكل مستمر لا يتوقف، وفي سياق الحرب بغزة وأوكرانيا، يرى الواقعيون أن الصراع هو مجرد مظهر واحد من مظاهر التوترات الجيوسياسية الأساسية، التي قد تؤدي إلى صراع عالمي أوسع، وبالتالي فرص اندلاع حرب عالمية في ظل تلك الأجواء أكبر بكثير طبقًا لكتاب “مأساة سياسات القوى العظمى” لجون جي ميرشايمر2014.
من ناحية أخرى، يعتقد المثاليون أن رغبات الأمن الجماعي والتعاون والدبلوماسية من الممكن أن تمنع الصراعات العالمية، ويشيرون إلى أن الالتزام بالقوانين الدولية والتعاون الوثيق بين الدول ومعالجة الأسباب الجذرية للصراع، يمكن أن يساعد في منع التصعيد إلى حرب عالمية ثالثة، مثلما قال ذلك نورمان أنجيل (1872- 1967) في كتابه “الوهم الكبير“. وفي تقديري أن دور الفهم المشترك والأعراف الاجتماعية والمصالح والهويات لم يأبه له نورمان أنجيل كثيرًا؛ حيث تتعارض هويات الناس وكثافة حياتهم وصراعاتهم النفسية والمادية مع رغبات الأمن الجماعي؛ فيتحول ذلك النوع إلى أمن خاص؛ فضلاً عن إصدار “أنجيل” كتابه في الثلاثينات قبل اندلاع الحرب العالمية الثانية بــ 6 سنوات تقريبًا، وقد قال هذا المعنى “ألكسندر وندت” في كتابه النظرية الاجتماعية للسياسة الدولية المنشور في صحافة جامعة كامبردج عام 1999.
وقال هذا المعنى أيضًا بإمكانية حدوث حرب عالمية ثالثة قد تكون أكثر تدميرًا مما مضى؛ حيث يوفر علم الأنظمة المعقدة إطارًا لفهم ديناميكيات الحرب وإمكانية التصعيد؛ حيث تشمل المفاهيم الأساسية حلقات ردود الفعل الإيجابية ونقاط التحول ونظرية الفوضى، وغيرها من المفاهيم الحديثة التي صار من المألوف أن يُستعان بها في فهم المعارك الحديثة والتنبؤ بمستقبلها، وفي سياق الحرب في أوكرانيا وغزة، نستكشف كيف يمكن أن تؤدي هذه الديناميكيات إلى حريق عالمي، مثلما قال ذلك أندريه كوروتاييف وآخرون، في كتابهم عن ديناميكيات ونظريات الحرب قديمًا وحديثًا، والمنشور هنا وهنا.
وفقًا لنظرية الفوضى يمكن التنبؤ بالصراعات العالمية من خلال تحديد مؤشرات الإنذار المبكر؛ مثل التغيرات المفاجئة في التحالفات السياسية، أو التحولات في القوة الاقتصادية، أو التقدم التكنولوجي السريع
ومن أمثلة تلك الوسائل التي صار يُعتمد عليها لفهم الأحداث المعقدة لنظرية الفوضى، وهي فرع من الرياضيات يتعامل مع الأنظمة المعقدة وسلوكها؛ حيث تم اعتمادها بشكل متزايد في مختلف المجالات العلمية، بما في ذلك العلوم الاجتماعية والعلاقات الدولية، والفكرة الأساسية للنظرية تقول إن التغييرات الصغيرة يمكن أن تؤدي إلى عواقب كبيرة لا يمكن التنبؤ بها، ومهما كان الأمر صغيرًا فهو فرصة للتأثير وصناعة أحداث أكبر ضخامة، وهي تقدم إطارًا قيمًا لتحليل الصراع العالمي والتنبؤ به، مثل السيناريو الافتراضي للحرب العالمية الثالثة الذي نناقشه اليوم؛ فعلى الرغم صعوبة التنبؤ الدقيق للحرب، إلا أن نظرية الفوضى يمكنها تسليط الضوء على العوامل والظروف المحتملة التي قد تزيد من احتمالية نشوب صراعات واسعة النطاق.
نظرية الفوضى في جوهرها تدرس سلوك الأنظمة المعقدة، والتي تتميز بالعديد من المكونات المتفاعلة والمؤثرات عليها، والشرايين التي تعطيها الحياة والطاقة، وغالبًا ما تعرض الأنظمة المعقدة ديناميكيات غير خطية، بمعنى حركات وموادّ نشطة في إطار فوضوي غير منظم، مما يعني أن سلوكها لا يتناسب دائمًا مع القوى المؤثرة عليها، بالتالي فالعلاقة ليست بين مقدمة ونتيجة؛ بل أثر معلوم ومؤثر مجهول، ويمكن أن تؤدي هذه اللاخطية إلى خصائص ناشئة، بمعنى أن هذه الفوضى يمكنها أن تخلق ظواهر وأحداثًا جديدة غير متوقعة؛ حيث تُظهر الأحداث بأكملها سلوكيات لا يمكن التنبؤ بها من خلال مكوناتها الفردية من حيث الأصل، علمًا بأن الأنظمة المعقدة التي تشمل أنماط المناخ والأنظمة البيئية والاقتصاد والدين والقبيلة والعلاقات الدولية، هي فاعل ومؤثر في الأحداث، بعضها على نحو لا نراه أو نتوقعه، مثلما قال مارسين نوفاك وآخرون في كتابهم الفوضى وتطور التعاون رؤى من معضلة السجين المتكررة.
ووفقًا لنظرية الفوضى يمكن التنبؤ بالصراعات العالمية من خلال تحديد مؤشرات الإنذار المبكر؛ مثل التغيرات المفاجئة في التحالفات السياسية، أو التحولات في القوة الاقتصادية، أو التقدم التكنولوجي السريع، وهذا يمكن رصده بوضوح في أوكرانيا وغزة؛ حيث تتمتع كل الأطراف بتكنولوجيا متقدمة في الحرب منها الحرب السيبرانية والذكاء الاصطناعي، وأساليب حديثة في الهجوم، كالحرب عن بُعد مثل الصواريخ والمُسيّرات؛ فضلاً عن تغيرات مفاجئة في التحالفات السياسية رأيناها في موجة مقاطعة إسرائيل الدولية وطرد سفرائها بشكل غير متوقع، وحماية شبه دولية لروسيا من الصين في مجلس الأمن، وتحولات اقتصادية أيضًا؛ حيث تتمتع كل الأطراف بقوة اقتصادية تمكنها من الحرب لسنوات، أو على الأقل عدم فقدانها لمصادر دعم.
وأحد السيناريوهات المُحتملة للحرب العالمية الثالثة- وفقًا لهذا السياق- ينطوي على تكثيف المنافسة بين القوى العظمى؛ خاصة بين الولايات المتحدة والصين وروسيا، ويمكن أن تظهر هذه المنافسة في مجالات مختلفة، مثل النزاعات الإقليمية، أو الإكراه الاقتصادي (العقوبات)، أو الصراعات الأيديولوجية التي من أبرزها الدين والقومية، وكلاهما يتحققان في غزة، بينما يتحقق الجانب القومي في أوكرانيا وشكوك حول الدور الديني بين الأرثوذكس الروس من جانب، والكاثوليك البروتستانت الغربيين من جانب، برغم أن الشعب الأوكراني أرثوذكسي، وينفي هذا احتمالية وجود الدين في الصراع، لكن البعض قد يجادل بأن أوكرانيا بالأساس حلقة استنزاف غربية لروسيا، حتى لو كان السلاف الأرثوذكس هم الضحية بالأساس، وتشير نظرية الفوضى بهذا السياق إلى أن الأحداث الصغيرة التي تبدو غير مهمة، يمكن أن تؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل التي تؤدي إلى صراع كامل؛ فما نراه من أدوار للدين والقومية والاقتصاد، هو في حقيقته أسباب ومبررات كافية لإشعال العالم.
المؤسسات الدولية وفرص اشتعال الحرب
ولمنع نشوب حرب عالمية ثالثة، يعتمد العالم على المؤسسات الدولية الرئيسية مثل الأمم المتحدة، والاتحاد الأوروبي، والمنظمات الإقليمية مثل منظمة حلف شمال الأطلسي والاتحاد الأفريقي، ومع ذلك واجهت هذه المؤسسات العديد من التحديات، مثل الانقسامات الإقليمية، والجمود السياسي، والافتقار إلى آليات التنفيذ، وبالتالي فإن قدرتها على الاستجابة بفعالية لهذه الصراعات المتصاعدة ومنع نشوب حريق أكبر ما زالت غير مؤكدة.
ولاستطلاع ورصد دور هذه المؤسسات نراها ضعيفة للغاية؛ حيث أدى نظم الفيتو وحصر الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن على خمسة، جميعهم منقسمون بسبب تفاقم الصراع، مما يسلط الضوء على واحدة من أكبر أزمات العالم، وهي ضعف الأمم المتحدة ومجلس الأمن في السيطرة على الصراعات أو وقفها وإرساء العدالة الدولية، مثلما يحدث الآن في غزة من جهود تلك المؤسسات لوقف الحرب بلا طائل، وعدم قدرتها على مناقشة أو حتى تفسير موحد لما يحدث في أوكرانيا، وقد أدى هذا الوضع المتردي لظهور تناقضات عالمية في منتهى الصعوبة؛ ففضلاً عن أنها تناقضات متسمة بالتعقيد؛ فهي أيضًا تناقضات ورثت كل سلبيات وآفات النظام الدولي السائد منذ الحرب العالمية الثانية، وهي سلبيات تكفي وفقًا للقوى الصاعدة (روسيا والصين وإيران) في عدم الثقة بتلك المؤسسات والاعتقاد بأنها شرعت خصيصًا لفرض الهيمنة الغربية.
مع ذلك؛ فمن المهم أن نلاحظ أن النظام الدولي الحالي -على الرغم من عيوبه- لديه آليات لإدارة وحل الصراعات؛ حيث تلعب الدبلوماسية والقانون الدولي والمؤسسات المتعددة الأطراف؛ مثل الأمم المتحدة دورًا حاسمًا في منع الصراعات وتخفيف حدتها حتى الآن، علاوة على ذلك فقد أدت العواقب المدمرة للحروب الماضية إلى الاعتراف بقيمة السلام والتعاون على نطاق واسع، مما يعني أنه وبرغم عيوب النظام الدولي الحالي وعجزه عن السيطرة على حربي أوكرانيا وغزة، لكنه ما زال يتمتع بالقبول الكافي والرغبة في استمراره تفاديًا لأية كوارث متوقعة، وقد يساعد هذا في إنجاز أي مفاوضات مستقبلية.
نظرًا للتوترات المستمرة والأنشطة العسكرية في أوكرانيا وغزة؛ فلا ينبغي لنا أن نستبعد احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة باستخفاف. وبينما تسعى المؤسسات الدولية إلى الحفاظ على السلام والأمن العالميين؛ فإن القيود التي تعاني منها والضعف الذي يعتريها يجعلان العالم عرضة لتصرفات لا يمكن التنبؤ بها
من تلك الزاوية أسلط الضوء على نظرية الفيلسوف الألماني هيجل (1770- 1831) بأن الحروب ضرورية للتقدم البشري والتنمية والعمران، ورأيه في أن الحروب تسمح للمجتمعات بتطهير نفسها من صراعاتها وتناقضاتها الداخلية، مما يؤدي إلى ظهور مجتمع أكثر تقدمًا وتطورًا، وهي النظرية المعروفة في الوسط الماركسي بالمادية الجدلية، وملخصها في حتمية صراع المتناقضات وضرورة الحرب لتقدم البشر؛ ففي كتابه “فنومينولوجيا الروح” قال إن “الحياة الأخلاقية” للأمة تتحقق من خلال صراعها مع الأمم الأخرى، ويقصد أن “حالة الحرب هي الشكل السلبي للحياة الأخلاقية”، لكن هذا الجانب السلبي ضروري للدولة لتحقيق ذاتها وصياغة أخلاقها، وفي كتابه “أصول فلسفة الحق” يوضح “هيغل” رؤيته لدولة عقلانية وعادلة، معترفًا بأن الحرب يمكن أن تكون وسيلة ضرورية للدفاع عن مصالح الدولة وتأمين استقلالها.
ومن هذا المنظور يمكن النظر إلى الحرب العالمية الثالثة باعتبارها شرًا لا بد منه، ووسيلة لتطهير العالم من صراعاته وتناقضاته الداخلية، ويمكن أن يؤدي ذلك لصياغة أخلاقية جديدة مثلما حدث في صياغة ميثاق العالم لحقوق الإنسان عام 1948، وتفسيره ضمن السياق التاريخي، أنه أعقب حربًا عالمية مدمرة أدت لصدمة كبيرة في الوعي البشري، هي التي دفعت العالم لتلك الصياغة الأخلاقية العادلة، بالتالي فالحرب يمكن أن تؤدي ظهور مجتمع عالمي أكثر تقدمًا وتطورًا وليس فناء البشرية مثلما هو شائع.
ومع ذلك؛ فإن وجهة النظر هذه مثيرة للجدل إلى حد كبير، وقد انتقدها العديد من الفلاسفة والعلماء، على سبيل المثال جادل الفيلسوف النفعي جيريمي بينتام بأن مبدأ السعادة الأعظم يجب أن يكون المبدأ التوجيهي لجميع أفعال الإنسان، ومن هذا المنظور فإن حربًا عالمية ثالثة لن تكون مبررة، لأنها ستؤدي إلى قدر كبير من المعاناة الإنسانية والموت والدمار، وفي تقديري أن هذا المنظور مثالي وليس نفعيًا واقعيًا؛ فهو يخلط بين الأمنية والحدث، أو بين النظرية والتطبيق، أو بين الخيال والواقع.
وبعيدًا عن رؤية هيجل ومناقشة دور منظمات العالم، أعتقد أنه لا يمكن استبعاد احتمال نشوب حرب عالمية ثالثة بشكل كامل، وذلك لعدة اعتبارات:
الاعتبار الأول الفلسفي: الصراعات العالمية الجارية معقدة، تجتمع فيها عوامل سياسية واقتصادية ودينية وأيديولوجية وعرقية أصيلة، وعندما تتصف أي حروب بتلك الصفات واعتبارها أصيلة وجذرية؛ ففرصة الاشتباك العالمي بناءً عليها أكبر، ومن جانب آخر واقعي؛ فالحرب هي جانب متأصل في العلاقات الدولية، مدفوعة بالسعي إلى السلطة والأمن وفقًا لما قاله “جون جيه ميرشايمر” في كتابه الوعد الكاذب للمؤسسات الدولية، ومن ناحية أخرى تفترض الليبرالية أن الترابط الاقتصادي العالمي يمكن أن يعزز السلام، وقد تنجم حرب عالمية ثالثة -في سياق هذه الفلسفات- عن السياسة الواقعية أو عن خلل في النظم الاقتصادية العالمية، مثلما وصل لذلك “روبرت أو كيوهان” وآخرون في مصنفهم بعنوان “القوة والاعتماد المتبادل: السياسة العالمية التي تمر بمرحلة انتقالية“، كتلك التي قد تنشأ عن الصراع في أوكرانيا مثلاً بالنظر إلى الطابع الاقتصادي الذي ميزها بالعقوبات على روسيا وتجميد أموالها، أو الحد التي وصلت إليه منذ أيام بتحويل الأموال الروسية وقدرها 50 مليار دولار لصالح أوكرانيا.
أما الاعتبار الثاني العلمي: فيفترض علم النظم العالمية أن التحديات العالمية المعقدة -بما في ذلك الحروب- يمكن فهمها بشكل أفضل من خلال عدسة الأنظمة المترابطة، وبتطبيق ذلك على أزمة غزة وأوكرانيا؛ فمثلاً يمكن للمرء أن يجادل بأن الصراع يمكن أن يؤدي إلى سلسلة من ردود الفعل للتحولات الجيوسياسية، والتي من المحتمل أن تبلغ ذروتها في حرب عالمية، علاوة على ذلك تسلط الأبحاث في علم النفس الضوء على دور التحيزات المعرفية والتفكير الجماعي والخطاب الاجتماعي والسياسي العاطفي في تصعيد الصراعات الدولية ،مثلما وصل لذلك جاك دريدا في كتابه 11 سبتمبر.
أما الاعتبار الثالث السياسي: فعند النظر إلى المشهد السياسي، يمكن من خلال تحليل حرب غزة باعتبارها مظهرًا من مظاهر العلاقات المتقلبة بين دول الشرق الأوسط، وتمثيلها للعديد من التناقضات الدينية والعرقية وصراعات التاريخ، فضلًا عن علاقاتها غير المستقرة مع القوى العالمية وانحسار داعميها في أعداء متربصين، يرغب كل منهم في فرض هيمنته على الآخر، وقد أشارت العديد من التصريحات والمواقف السياسية المؤكدة، بما في ذلك التقارير الصادرة عن الهيئات الدولية مثل الأمم المتحدة، وكذلك العديد من التحليلات إلى مدى تقلب الوضع وخطورته، وما لم يتم نزع فتيله من خلال الجهود الدبلوماسية؛ فهناك خطر من أن ينتشر الصراع ويتصاعد بسرعة.
والخلاصة: هي أنه نظرًا للتوترات المستمرة والأنشطة العسكرية في أوكرانيا وغزة؛ فلا ينبغي لنا أن نستبعد احتمالات نشوب حرب عالمية ثالثة باستخفاف. وبينما تسعى المؤسسات الدولية إلى الحفاظ على السلام والأمن العالميين؛ فإن القيود التي تعاني منها والضعف الذي يعتريها يجعلان العالم عرضة لتصرفات لا يمكن التنبؤ بها، وعلى هذا فإن الجهود لتعزيز هذه المؤسسات وتشجيع الدبلوماسية والحوار، يمكن اعتبارها محاولات أخلاقية هادفة، أو بقعة ضوء وسط ظلام دامس. وما دامت هناك محاولات مضيئة في ظل هيمنة الظلام؛ فالأمل ما زال موجودًا لتفادي أكبر حرب في تاريخ البشرية.
Thank you for the auspicious writeup It in fact was a amusement account it Look advanced to more added agreeable from you By the way how could we communicate
Hi i think that i saw you visited my web site thus i came to Return the favore I am attempting to find things to improve my web siteI suppose its ok to use some of your ideas
What i do not realize is in fact how you are no longer actually much more wellfavored than you might be right now Youre very intelligent You recognize thus considerably in relation to this topic made me in my view believe it from numerous numerous angles Its like men and women are not fascinated until it is one thing to do with Lady gaga Your own stuffs excellent All the time handle it up
Attractive section of content I just stumbled upon your blog and in accession capital to assert that I get actually enjoyed account your blog posts Anyway I will be subscribing to your augment and even I achievement you access consistently fast
Thanks I have just been looking for information about this subject for a long time and yours is the best Ive discovered till now However what in regards to the bottom line Are you certain in regards to the supply
Hello i think that i saw you visited my weblog so i came to Return the favore Im trying to find things to improve my web siteI suppose its ok to use some of your ideas
I loved as much as you will receive carried out right here The sketch is attractive your authored material stylish nonetheless you command get got an impatience over that you wish be delivering the following unwell unquestionably come more formerly again since exactly the same nearly a lot often inside case you shield this hike
Thank you I have just been searching for information approximately this topic for a while and yours is the best I have found out so far However what in regards to the bottom line Are you certain concerning the supply
Just wish to say your article is as surprising The clearness in your post is just cool and i could assume youre an expert on this subject Fine with your permission allow me to grab your RSS feed to keep updated with forthcoming post Thanks a million and please keep up the enjoyable work
Your ability to distill complex concepts into digestible nuggets of wisdom is truly remarkable. I always come away from your blog feeling enlightened and inspired. Keep up the phenomenal work!
I was just as enthralled by your work as I was by yours! The visual display is polished, and the text content is of high quality. However, you appear to be concerned about presenting something the audience may believe is questionable. I believe that you will be able to correct this difficulty immediately.
I just could not leave your web site before suggesting that I really enjoyed the standard information a person supply to your visitors Is gonna be again steadily in order to check up on new posts
Thank you I have just been searching for information approximately this topic for a while and yours is the best I have found out so far However what in regards to the bottom line Are you certain concerning the supply
helloI like your writing very so much proportion we keep up a correspondence extra approximately your post on AOL I need an expert in this space to unravel my problem May be that is you Taking a look forward to see you
Fantastic beat I would like to apprentice while you amend your web site how could i subscribe for a blog site The account helped me a acceptable deal I had been a little bit acquainted of this your broadcast offered bright clear concept
I do trust all the ideas youve presented in your post They are really convincing and will definitely work Nonetheless the posts are too short for newbies May just you please lengthen them a bit from next time Thank you for the post
you are truly a just right webmaster The site loading speed is incredible It kind of feels that youre doing any distinctive trick In addition The contents are masterwork you have done a great activity in this matter
I simply could not go away your web site prior to suggesting that I really enjoyed the standard info a person supply on your guests Is going to be back incessantly to investigate crosscheck new posts
hiI like your writing so much share we be in contact more approximately your article on AOL I need a specialist in this area to resolve my problem Maybe that is you Looking ahead to see you
Excellent blog here Also your website loads up very fast What web host are you using Can I get your affiliate link to your host I wish my web site loaded up as quickly as yours lol
Just wish to say your article is as surprising The clearness in your post is just cool and i could assume youre an expert on this subject Fine with your permission allow me to grab your RSS feed to keep updated with forthcoming post Thanks a million and please keep up the enjoyable work
My brother suggested I might like this blog He was totally right This post actually made my day You can not imagine simply how much time I had spent for this info Thanks
of course like your website but you have to check the spelling on several of your posts A number of them are rife with spelling issues and I in finding it very troublesome to inform the reality on the other hand I will certainly come back again
My brother recommended I might like this web site He was totally right This post actually made my day You cannt imagine just how much time I had spent for this information Thanks
My brother recommended I might like this web site He was totally right This post actually made my day You cannt imagine just how much time I had spent for this information Thanks
Thank you for the good writeup It in fact was a amusement account it Look advanced to far added agreeable from you However how could we communicate
you are in reality a just right webmaster The site loading velocity is incredible It seems that you are doing any unique trick In addition The contents are masterwork you have performed a wonderful task on this topic