أهُناكَ حَياةٌ قبلَ الموت؟
نعيد نشر هذا المقال الحائز على جائزة سمير قصير لحرية الصحافة، في فئة مقال الرأي، بالتعاون مع “المنصة“
“أهناك حياة قبل الموت؟”
استحضرتُ تساؤل مريد البرغوثي في قصيدته “لا مشكلة لدي” وأنا أراقب الأعلام الفلسطينية ترفرف في سماء مدينة بيتسبرج الأمريكية في 13 أكتوبر/تشرين الأول الماضي. كانت هذه المظاهرة الأولى التي تشهدها المدينة للتضامن مع فلسطين منذ اندلاع مجازر الاحتلال في غزة ردًا على طوفان الأقصي.
كانت كذلك هي مظاهرتي الأولى منذ اعتقالي في القاهرة أثناء المشاركة في مظاهرة ضد الانقلاب عام 2013. بمجرد بدء المنظمين العرب في بيتسبرج خطاباتهم ملأني الانزعاج. أنصَتُّ إلى الخطاب الاستباقي الذي أمقته عن كوننا العرب المتحضرين، محبي السلام، لسنا المعادين للسامية المتوحشين. خطاب يستهدف درء هجوم وتشويه متوقعين، لم يقعا بعد لكنهما سيحدثان رغم ما قيل على أي حال.
اخترقَت صرخة حادة سكونَ الحشد، فالتفتُّ لأرى رجلًا أمريكيًا أبيض ضخمًا يدفع المتظاهرين من ظهورهم ويلكم من يعترض طريقه. وصل الرجل لمنتصف الدائرة ثم وقف رافعًا إصبعه الوسطى في وجوهنا، مرسلًا وابلًا من الشتائم. سرعان ما أحاط به بعض المتظاهرين، موجهين إياه نحو الشرطة الموجودة في المحيط.
لم يكن قط أوضح من اليوم أن الثمن البخس لحياتنا ليس خللًا في النظام العالمي بل هو جزء لا يتجزأ منه
لم يعلق بذاكرتي من هذا المشهد الكراهية أو العنف اللذان حملتهما عيناه. لم أكترث لذلك كثيرًا. ما جعل الدم يغلي في عروقي هو يقينُه الراسخ بأنه لن يُصنف “إرهابيًا” أو “همجيًا” بعد هجومه على الناس المرتعبين من تلك التهم حتى وهم يُبادون.
في الأسابيع التالية، ظلت عيناي، كما الملايين حول العالم، ملتصقتين بشاشات الأخبار. يرتج قطاع غزة يوميًا تحت قصف عنيف وحصار محكم يُنفِذُه جيش الاحتلال والنظام المصري. في أكتوبر، قطع الاحتلال عن غزة المياه والكهرباء والوقود. بحسب وزارة الصحة الفلسطينية، تجاوزت أعداد القتلى العشرين ألف فلسطيني، في رقم غير مسبوق عبر خمسة وسبعين عامًا من الاحتلال.
أترك هاتفي وأنتقل إلى اللابتوب، عَلَّ الشاشةَ الأكبر تحمل احتمالاتٍ أوسع. أُقَلّبُ بحثًا عن خبر يبعث الأمل، وأجدني أعود إلى كلمات مريد:
أتلمَّس أحوالي منذ وُلدتُ إلى اليوم
وفي يأسي أتذكر
أن هناك حياةً بعد الموتِ
هناك حياة بعد الموت
ولا مشكلة لدي
لكني أسألُ: يا الله.. أهناك حياة قبل الموت؟
خلال الشهرين الماضيين، شاهدنا حملة إبادة جماعية مروعة للفلسطينيين على يد جيش الاحتلال. رأينا تغطية مُشَيطِنةً للفلسطينيين في الإعلام الغربي وشهدنا رعاية أمريكية غير مشروطة للمذبحة، بينما يقف العالم متفرجًا، إن لم يكن مصفقًا.
نطرح كعربٍ تساؤلاتٍ جوهريةً عن مكاننا في هذا العالم. ندرك بشكل لم يكن قط أوضح من اليوم أن الثمن البخس لحياتنا ليس خللًا في النظام العالمي، بل هو جزء لا يتجزأ مما صُمّمَ لتحقيقه.
في كتابه كل رجال الباشا، يسرد المؤرخ المصري خالد فهمي قصة أول نسخة مما أصبح اليوم جواز السفر المصري “التذكرة”. في أوائل القرن التاسع عشر، تحت حكم محمد علي باشا، فرضت السلطات على الفلاحين حمل بطاقة هوية تسمى التذكرة لردعهم عن ترك قراهم وتنظيم تحركاتهم، كانت تحمل اسم الشخص ووصفه الجسدي، واسم والده وقريته. بدونها، يواجه الفلاح خطر الترحيل إلى قريته.
اليوم، يطلق مسمى التذكرة أيضًا على وثيقة يحملها كل سجين. خبرت هذا حين قضيت ست سنوات وثلاثة أشهر أتنقل بين سبعة سجون ومراكز اعتقال كسجين سياسي، ممسكًا بتلك البطاقة الصفراء الباهتة التي حَوَت بياناتي الشخصية ورقم زنزانتي وحكمي وسجلات العقوبات، من الحبس الانفرادي إلى حظر الزيارات. تذكرتي كانت تجسد مفهوم: امتلاك الدولة لجسدي.
لا تزال معظم جوازات سفرنا العربية اليوم تلعب الدور نفسه في بلداننا وخارجها. في مصر، ليس لجسدي ثمن. في حين أن ثمن هتك الجسد الغربي في بلادنا باهظ جدًا. كلما امتد بطش السلطة، على سبيل المثال، ليمس جسدًا غربيًا، توالت عليها الإدانات الدولية. حدث ذلك في مقتل الباحث الإيطالي جوليو ريجيني بوحشية على يد قوات الأمن عام 2016، وهي جريمة لا يزال شبحها يزعج النظام. وقتها قالت والدة ريجيني “قتلوه كما لو كان مصريًا”.
تُهَشَّمُ أجسادنا بلا ثمن.. ولذلك تُهَشَّمُ دومًا
حين تركت مصر عام 2020 بعد إطلاق سراحي من السجن، كنت أبحث عن بداية جديدة كإنسان تحمل معاناته وزنًا. لم أكن واهمًا بخصوص الحلم الأمريكي؛ كثيرًا ما صادفت النظرة المحتَقِرة المعتادة من الغرب، التي تُرجع هجرتنا لبلادهم لاستعلائهم القِيَمِي، لا لفرار من تاريخ طويل من الفوضى التي خلفتها حروب أشعلوها، والديكتاتوريات العسكرية التي أرسوا قواعدها واستمروا في دعمها لمصالحهم في المنطقة، ناهيك عن الدمار البيئي الذي تسببوا فيه ونستمر في دفع ثمنه لليوم.
غيرَ أن الشهرين الماضيين فاقا أحلك كوابيسي. يمنحني اسمي العربي سلسلة من المعرِّفات، تبدأ بـ”آخرَ مختلف” وتنتهي بـحيوان بشري.
خلال عراكي الفكري مع موقعي في العالم، يصف أصدقائي الأمريكيون انزعاجي بأنه “اضطراب ما بعد الصدمة”، ناجمٌ عن أهوال السجن. لم أدرك من قبل لِمَ يزعجني دومًا هذا المصطلح، حتى قرأت كلمات سماح جبر، رئيسة خدمات الصحة النفسية في وزارة الصحة الفلسطينية.
في مقابلة لها عام 2019، أوضحَت أن مفهوم “اضطراب ما بعد الصدمة”، المنبثق من الفكر الغربي، يفترض وجود زمن قبل الصدمة وآخر بعدها. لكن بالنسبة للفلسطينيين وكثير من العرب، تمتد الصدمة عبر الزمن والأجيال: واقع متصل لا ينقطع.
لا “قبل” أو “بعد” لنا: الصدمة هي وجودنا. عندما تتقابل أعين اثنين عربيين في المنفى، يلمع سوادهما بشيء مألوف ومتبادل. تتجاوز تذكرتنا حدود الزمن وأسوار السجون والجغرافيا. نحمل غربتنا في ثنايا الوجه ونخاع العظام.
لم يهتم هذا العالم يومًا بالإفساح لنا لنشاركه الطاولة كمساوين
اليوم، أحمل خواءً في قلبي بعد سلسلة من الأحداث المأساوية في منفاي: طعن الطفل الفلسطيني وديع الفيومي ذي الست سنوات ستًا وعشرين مرة حتى الموت في ولاية إلينوي؛ إطلاق النار على الطلاب الجامعيين الفلسطينيين هشام عورتاني وكنان عبد الحميد وتحسين علي أحمد في ولاية فيرمونت؛ حادث الدهس المتعمد الذي تعرض له الطالب السوري عبد الوهاب عميرة في جامعة ستانفورد، وغيرهم الكثير.
أستطيع تقبل فكرة الموت. نعرف الموت جيدًا. نشأنا زمانًا في حضرته، ذقنا طعمه وحزنه الذي، كما يصفه مريد البرغوثي، شاركناه مقعده ومخدته ومنديله وملمس حذائه على زجاج ساعاتنا. موتٌ علمنا شَهِيَّتَهُ لأجسادنا عن دونها.
لم يهتم هذا العالم يومًا بالإفساح لنا لنشاركه الطاولة كمساوين. حتى في أكثر الدوائر تقدمية، نظل نحن العرب مصدر إزعاج يُتسَامح معه فقط حالَ بقائنا عربًا نموذجيين: محنيي الرؤوس، شاكري الأنعم، سهلي البلع والهضم، نقدم الإدانات المطلوبة قبل أن نطالب بإنسانيتنا. داعمونا قلةٌ، وحلفاؤنا أقل. نرى هذا الآن.
بين أوطان سحقتنا ومنافٍ تتعطش لسحقنا، يبدو أحيانًا أننا لن نعرفَ حياةً قبل الموت. إن كان هذا شعوري، أحاول تخيل ما يعيشه الفلسطينيون في غزة، وأفشل. في لحظة، هناك جسدٌ يتنفسُ، وسقفٌ. في اللحظة التالية: رَدْمٌ ممزوجٌ بما يشابه أطراف البشر.
اليوم نتخلى كعرب عن الشعور بالتبعية الذي أُشرِبناهُ سنينَ فأثقلَنَا
أتذكر حكمة عربية تقول إن الناس من انتظار الذل في ذل، ومن انتظار الفقر في فقر. أفكر، الناس أيضًا من انتظار الموت في موت. تحت ظلال هذا الموت الذي يلوح في الأفق، مهددًا كل لحظة بالحلول، أجد نفسي أعيش في كنفه. أتأمل بحيرة، كما فعل مريد يومًا: هل سنذوق أبدًا حياةً قبله؟
لا أملك الجواب، لكن ما أعرفه هو أن الصورة البراقة للتفوق الأخلاقي الغربي قد انهارت. اليوم نتخلى كعرب عن الشعور بالتبعية الذي أُشرِبناهُ سنينَ فأثقلَنَا. نحاوط سويًّا أسانا المشترك، محاولين نحت مسارنا من جديد داخل اللغة والتاريخ: لغتنا وتاريخنا.
في هذه الحياة التي ليست كالحياة، لا نتسول إنسانيتنا من العالم بعد اليوم. نسعى أن نتخطى مخاطبة قامعينا، أن نستبدلهم بأن نرى بعضنا بعضًا، وأن نجد في التقاء الأعين ملاذنا الكافي.
*تم نشر نسخة إنجليزية من هذا المقال بجريدة الواشنطن بوست بتاريخ 28 ديسمبر 2023.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.
BaddieHub There is definately a lot to find out about this subject. I like all the points you made
BaddieHub Nice post. I learn something totally new and challenging on websites
Simplywall very informative articles or reviews at this time.
Usually I do not read article on blogs however I would like to say that this writeup very compelled me to take a look at and do so Your writing taste has been amazed me Thanks quite nice post
Your blog is a testament to your dedication to your craft. Your commitment to excellence is evident in every aspect of your writing. Thank you for being such a positive influence in the online community.
Thank you for the good writeup It in fact was a amusement account it Look advanced to far added agreeable from you However how could we communicate
I just could not leave your web site before suggesting that I really enjoyed the standard information a person supply to your visitors Is gonna be again steadily in order to check up on new posts
of course like your website but you have to check the spelling on several of your posts A number of them are rife with spelling issues and I in finding it very troublesome to inform the reality on the other hand I will certainly come back again
Wow amazing blog layout How long have you been blogging for you made blogging look easy The overall look of your web site is magnificent as well as the content
Tech to Force I truly appreciate your technique of writing a blog. I added it to my bookmark site list and will
I wanted to take a moment to commend you on the outstanding quality of your blog. Your dedication to excellence is evident in every aspect of your writing. Truly impressive!
Fantastic beat I would like to apprentice while you amend your web site how could i subscribe for a blog site The account helped me a acceptable deal I had been a little bit acquainted of this your broadcast offered bright clear concept
I simply could not go away your web site prior to suggesting that I really enjoyed the standard info a person supply on your guests Is going to be back incessantly to investigate crosscheck new posts
I do not even know how I ended up here but I thought this post was great I dont know who you are but definitely youre going to a famous blogger if you arent already Cheers
I am not sure where youre getting your info but good topic I needs to spend some time learning much more or understanding more Thanks for magnificent info I was looking for this information for my mission
Hello Neat post Theres an issue together with your site in internet explorer would check this IE still is the marketplace chief and a large element of other folks will leave out your magnificent writing due to this problem
Hi my loved one I wish to say that this post is amazing nice written and include approximately all vital infos Id like to peer more posts like this
Thank you I have just been searching for information approximately this topic for a while and yours is the best I have found out so far However what in regards to the bottom line Are you certain concerning the supply
Wow superb blog layout How long have you been blogging for you make blogging look easy The overall look of your site is magnificent as well as the content
Fantastic site A lot of helpful info here Im sending it to some buddies ans additionally sharing in delicious And naturally thanks on your sweat
you are truly a just right webmaster The site loading speed is incredible It kind of feels that youre doing any distinctive trick In addition The contents are masterwork you have done a great activity in this matter
What i do not understood is in truth how you are not actually a lot more smartlyliked than you may be now You are very intelligent You realize therefore significantly in the case of this topic produced me individually imagine it from numerous numerous angles Its like men and women dont seem to be fascinated until it is one thing to do with Woman gaga Your own stuffs nice All the time care for it up
Usually I do not read article on blogs however I would like to say that this writeup very compelled me to take a look at and do so Your writing taste has been amazed me Thanks quite nice post
Fantastic site Lots of helpful information here I am sending it to some friends ans additionally sharing in delicious And of course thanks for your effort
I loved as much as youll receive carried out right here The sketch is tasteful your authored material stylish nonetheless you command get bought an nervousness over that you wish be delivering the following unwell unquestionably come more formerly again since exactly the same nearly a lot often inside case you shield this hike
Thanks I have recently been looking for info about this subject for a while and yours is the greatest I have discovered so far However what in regards to the bottom line Are you certain in regards to the supply
Simply desire to say your article is as surprising The clearness in your post is simply excellent and i could assume you are an expert on this subject Fine with your permission let me to grab your feed to keep up to date with forthcoming post Thanks a million and please carry on the gratifying work
Its like you read my mind You appear to know so much about this like you wrote the book in it or something I think that you can do with a few pics to drive the message home a little bit but other than that this is fantastic blog A great read Ill certainly be back
I am not sure where youre getting your info but good topic I needs to spend some time learning much more or understanding more Thanks for magnificent info I was looking for this information for my mission
Excellent blog here Also your website loads up very fast What web host are you using Can I get your affiliate link to your host I wish my web site loaded up as quickly as yours lol