لماذا يعيش مليار نسمة تحت خط الفقر؟
في العصْر الرقمي، بات النقاش العام يخضع لقاعدة الأكثر شيوُعًا «Trending»، بَدل الأكثر إثارة للتفكير. وذلك راجعٌ في الأسَاس إلى عَاملين مُهمين هُـمَا: سَيطرة أجندة وَمَصَالح أصْحاب رؤوُس الأموال على كبريات المُؤسَسَات الإعلامية وَالصَحافية، وَسيطرة الغوغاء على مِنصَات التواصُل الاجتمَاعي. وَعليه؛ نَجد أن غالبية المُفكر وَالمناقش فيه في الفضاء العُمُوُمي هُو الأقل إثارة للتفكير والنقاش، وَالأبعد عْن الحَاجة البراغماتية للإنسان.+/
وَعليه نجد أن بعضًا مِن المواضيع بَاتت مُهمشة، لا تثير النقاش وَالجدال على اعتبار أنها قديمة، مُستهلكة، وَغير شائعَة «Not Trending»، على غرار أزمَة الفقر في العَالم؛ التي باتت لا ينظر إليها باعتبارها “الأزمَة العالمية” الأكثر تأثيرًا على الإنسانية، وَالأكثر تأثيرًا على الأزمات وَالظواهر الأخرى على غرار الحُرُوُب، تفكك الأنسِجة الاجتماعية، والهجرة، وغيرُها الكثير؛ بل أصْبحت تعُالج باعتبارها القضية الهامِشية التي يتمْ التطرق إليها بعْد الانتهاء مِن المواضيع الأكثر شيوُعًـا والأكثر إثارة للتفاعْل.
في القسْم الأول مِن المادة الخامسَة والعشرين مِن الإعلان العالمي لحُقوق الانسان، نجد أنها تنص على أن: “لكل شخص الحق في مستوى مِن المعيشة، يكفي لضمان الصِحة والرفاهية لهُ ولأسرته؛ خاصة على صعيد المأكل، الملبس، المسكن، العناية الطبية، وَصَعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية. ولهُ الحق فيما يأمَن به العوائل في حالات البطالة، أو المرض، أو العجز، أو الترمُل، أو الشيخوخة، أو غير ذلك مِن الظروف الخارجة عَـن إرادته والتي تفقده أسْباب عيشه”.
لكن مُعطيات واقع الحَال تشير الى غير ذلك. نظرًا لكون مِثل هذه النصُوُص -التي من المفترض أن تكون فاعِلة، مُحترمة وَمَعمُوُل بها دوليًا-، هي في الواقع مُجرد شِعارات مَنصُوُصَة على الورق تنتظر التنفيذ –خاصَة في النصف الجنوبي من العالمْ. تشير تقارير الأمم المُتحدة سَنة (2023) إلى أن توقعات نهاية العام (2022) أسفرت على أن (8,4%) من سكان العالم أو مَا يصِل إلى (670) مليون شخص يعيشون في فقر مُدقع.
نظرًا لتفاقم أزمة الفقر في العالم وبالأخص في الدول الواقعة جنوب العالم، وَلتنامي تداعياتها على صَعيد الاستقرار العالمي، نحاول من خلال هذا المقال الاقتراب مِن هذه الأزمة بناءً على قسْمين أسَاسيين، يتمثل الأول في مُقاربة فلسفية اجتماعية لمفاهيم الفقر وَجذوره التاريخية، والثاني في مُقاربة اقتصادية قائمة على إعادة قراءة كتاب أستاذ عُلوم الاقتصاد “بول كوليير” مُدير مركز دراسات الاقتصادات الأفريقية في جامعة أوكسفورد، وَالموسُوم بـ “مليار نسمة تحت خط الفقر”، ولمترجم عن الأصْل الإنجليزي «The Bottom Billion» والذي نشره عَام (2008).
الخلفية الفلسفية والتاريخية لأزمة الفقر
عديدة هي الاتجاهات الفكرية التي تحاول تفسير أسباب أزمة الفقر في العالم؛ فهناك من يرجع أسبابها الى عَوامل اقتصادية بحتة، راجعة الى اختلال التوازن مَا بين الثروات الطبيعية والمنتوجات الصناعية مِن جهة، وَالكثافة السكانية من جهة أخرى. وَمنهم من يتجه إلى كون الإشكال قابعًت في الطبيعة الطبقية للأنظمة الاجتماعية وَالسياسية في العالم، وقيامها على مبدأ الطبقات؛ الشأن الذي يستلزم وُجُوُد الفقير كشرط أسَاسي لوُجُود الغني، على مبدأ أن لا غني مِن دُوُن فقير.
لكل شخص الحق في مستوى مِن المعيشة، يكفي لضمان الصِحة والرفاهية لهُ ولأسرته؛ خاصة على صعيد المأكل، الملبس، المسكن، العناية الطبية، وَصَعيد الخدمات الاجتماعية الضرورية. ولهُ الحق فيما يأمَن به العوائل في حالات البطالة، أو المرض، أو العجز، أو الترمُل، أو الشيخوخة، أو غير ذلك مِن الظروف الخارجة عَـن إرادته والتي تفقده أسْباب عيشه
الإعلان العالمي لحقوق الإنسان
إن مشارب وَجُذوُر الفقر مُتعددة، ولكل رأيه الخاص في أسبابه، وَتاريخ ظهوره مختلف فيه؛ فمن الآراء مَن تقول إن الفقر مَوجُود منذ الأزل مَعَ وُجُوُد الإنسان؛ فالأقدمُوُن كانوا يُعانون من شح مَوارد الأرض؛ فصَاروا فقراء، بمَا مَعناه أنه لا يمكنهم إطعام أنفسهم ولا عائلاتهم بالاعتماد على مثل هذه الموارد، أما فقراء اليوم فهم أولئك الذين يجهلون تركيبة وأسُس المجتمع الصناعي القائم على مبدأ التبادل النفعي المشرُوط. لكن الأرجح في ظهُوُر أزمة الفقر عَبر التاريخ يعُوُد إلى:
المعاش: قبل ظهور النظام القبلي في العالم، أي في فترة التجمعات السكانية الأقل كثافة –إنسان الكهف-، كان الإنسان في مثل هذه العصُوُر ينتقل من مكان الى آخر مِن أجل جمع القوت؛ فمكان الانسان حيث يكون العيش مُمكنًا، لذا لم يكن مفهوم الفقر يُسقط على الإنسان، وَلمْ يكن صِفة إنسانية مثلما سَار في واقعنا الحالي؛ بل كان الفقر والشح يُرد إلى الأرض غير الخصبة التي لا يمكنها إشباع احتياجات الانسان.
الإقطاع: وَهُو نظام طبقي يقوم على ثلاثة أقانيم هي: السيد، رجل الدين، وَالعبد أو القن، وَمِن المُرجح جدًا أن تكون هذه الحقبة شاهدة على أول ظهُوُر للفقر باعتباره صِفة إنسانية. أي أن الفقر لمْ يظهر إلا بظهوُر مَفهوم الملكية وَالإقطاع. فمنذ أن قامَ أول شخص بحيازة أرض وَوَضعَ سِياجًا عليها مُعلنًا: “هذه أرضي ولا تعني الآخرين”، ظهر بفعل ذلك نظام الإقطاع الذي ترتب عَليه ظهُوُر مَفهُوم الملكية. وَمِن تداعيات ذلك؛ انتقال الإنسان إلى حِقبة زمنية أخرى، توقف فيها عَن الترحال مِن مكان الى أخر، وامتلك الأرض ليزرعها، وَبذلك ظهر المجتمع الزراعي الذي ترتب عليه ظهور النظام القبلي، القائم على التراتبية وَالطبقية؛ حَيث أصبحَ للقبيلة كبيرها أو شيخها، وَمن هنا بدأ التدرج الطبقي للبشرية؛ فظهر إلى الوُجُوُد مَا يُسمَى بالعمالة أو الرعية، أولئك الذين لا يملكون الأرض –لعدم قدرتهم على ذلك نظرًا لافتقارهم للقوة وَالقسوة اللازمة-، وَعليه باتوا ينتظمُوُن وفق مَا يملى عليهم مِن طرف الشيخ أو سَيد القبيلة، إلا أن التمييز بَين البشر في هذه الحقبة كان طفيفًا؛ وَالفرق بين السيد والرعية لمْ يتأزم بَعَد؛ نظرًا لأن غالبية العَمَالة في أرض الإقطاعي كانت مُؤلفة مِن أفراد العائلة المُمتدة.
النظام الملكي: بَعْد قيام المَمَالك التي أنتجت نظامًا جَديدًا قائمًا على العَلاقة الطردية مَا بين الحاكم وَالمحكوم، برزت مشكلة الفقر بتعقيداتها التي نعرفها اليوم؛ حَيث انقسَمَت المجمُوعَات البشرية إلى ثلاث فئات رئيسة: أولها الطبقة الحاكمة، تليها طبقة النبلاء وَرجَال الدين، وأخيرًا طبقة العَوَام، وأغلبيتهم مِن الطبقات المُتوسطة –على قلتهم- وَالغالبية مِنهُم –العَبيد- تحْت خط الفقر، وَلقد توسَعَت في ظِل هذا النظام الجديد الهُوة بَين الأغنياء والفقراء، وبدأ إلصَاق مُصْطلح الفقر بالإنسان وَتحوله إلى مُصْلح بشري مُطبع مَعهُ.
المجتمعات الصناعية ذات النظم الديمقراطية: في أعقاب الثورة الفرنسية وَبَعْد أن تمت الإطاحة بمُعظم الأنظمة الملكية وَتعطيل بعضها، تحولت المجتمعات البشرية من مُجتمعات زراعية الى أخرى صِناعية، وذلك راجعٌ في الأساس لعَجز الطبيعة وَالنظام الزراعي على إشباع جميع مُتطلبات الإنسان. في هذا النظام الجديد أصْبح المنتوج أهم شيء ترتكز عليه اقتصاديات الدول، وَهنا برز صِراعٌ جديد على أزمَة الفقر، كانت فواعلهُ الرئيسة مُمَثلة في أصْحاب رُؤوس الأموال مِن جهة، وَالعُمُال مِن الطبقات المُتوسطة مِن جهة أخرى. أصبح العَامِل في هذا النظام –بناءً على السرديات الماركسية التي كانت سَائدة- لا يمكنه شِراء مَا ينتجه؛ في حِين أن أصَاحب رؤوُس الأمَوال يزدادون ثراءً، وعليه ظهر النظام الاشتراكي كردة فعل على النظام الرأس مَالي الطبقي، إلا أن هذا الأخير لمْ يفلح هُوَ الأخر في تقليص الهوة بين الفقير وَالغني؛ بل أسَسَ لدُكتاتورية جديدة باسم الطبقة العاملة.
هل من المُمكن التنظير لسيكولوجية الفقير؟
للحياة السيكولوجية تأثيرات بالغة وَعديدة على سُلوكيات الأفراد؛ سَوَاء أكانت الشخصية أو الاجتماعية، وَلقد شاع في الأدبيات الروائية وَغير الروائية على غرار الكتب العلمية وَالتقنية، وَمُخرجات مِثل هذه البُحُوُث أن الحياة النفسية للإنسان تختلف باختلاف درجته الاجتماعية؛ بل وَتصْطبغ بنمط مُعين مِن الميولات والسلوكيات التي تشكل شخصيته، وَتقوم سيكولوجية الفقراء على ركائز نذكرها:
الأصل في الأشياء هي الحتمية: ترتكز نظرة الإنسان إلى أن وَضعه الاقتصادي وفقره، يعوزان أسبابًا خارجة عن إرادته، أو إلى ظروف فرضت عليه، وتتعدد تفسيرات كل إنسان فقير؛ فهناك من يرد مثل هذه الأسباب لحتمية القدر بمكان أنهُ لا بد للفقير أن يُوجَد، وهناك تفسير آخر يقول بأن الدُوَل الفقيرة أو ذات التسيير السيء، أو الواقعة في فخ الحُرُوب لَا بُد أن يكون أكثر مِن نصف سكانها تحت خط الفقر.
فمثل هذه الظروف لا يمكن للمرء أن يغيرها أو يلام عليها، لأنها حتمية، كما أن هناك مِن المتدينين الذين يردون أسباب الفقر للابتلاء أو الحُب الرباني –إذ يشاع أن الله يُحب الفقراء-، وَكل مِثل هذه الظروف تتسِم بالحتمية، بحيث لا يمكن مَلامَة أي طرف عليها.
قيـام العالم على مبدأ اللاعدالة: إن غياب العدالة في تقسيم الثروات على الشعُوب يؤدي بالضرُورة لتشكل ثكنات سُكانية فقيرة، كما أن غياب مبدأ العَدالة غالبًا ما تكون مُنطلقاته اجتماعية بسبب التمييز بين الطبقات الاجتماعية على أسُسٌ مُتباينة غير طبيعية، مِمَا يترتب عليه تبعيات مِن بينها وُجُوُد ثكنات سُكانية مُهمشة غير قادرة على الاندماج في النظام الاقتصادي والتأثير فيه.
الإغراء في الروحانيات: غالبية المُجموعات السكانية الفقيرة تتميز بمُيُولاتها الشديدة للرُوحانيات على غرار الأديان وَالأساطير، كسبيل مِنها لتخفيف العبء عنها، أو مُواساة لأنفسِهم، أو قـيامِهم بهذا الشأن كسبيل للاعتمادية. كمَا أن إيمَانهُم القطعي بوُجُوُد قوى عُليا مُفارقة للطبيعة مِن شأنها أن تكوُن مَلاذهم الأخير مِن الظلم الواقع عليهم، وَالذي لا يمكنهم بمكان أن يُغيرُوه أو أن يَرفعُوه عن أنفسِهم، غالبًا ما يدفعهم للتقرب أكثر مِن الله باعتباره مُخلصَهُم وَمُنجيهم.
المغالاة في العواطف والأخلاقيات النبيلة: تزداد حَسَاسِية الإيمان بالعَواطف والأخلاقيات لدى المجتمعات الفقير، أكثر منها لدى تلك المُجتمعات مَيسُورة الحال أو الغنية بشكل مُفارق جدًا، وَيُرجع بعض الفلاسفة وَالمفكرين ذلك إلى الطبيعة النفسية لمثل هذه الطبقات التي تتسم بالرهافة وَالحسَاسية الزائدة، أو الضعف بالنسبة لنيتشه، وإيمانهم الجازم بضرُورة احترام المُعتقدات وَالعادات الاجتماعية الراسخة في أذهانهم.
وَمَعَ شيوع الحديث عن فلسفة الفقراء، مِن الأهمية بمكان أن نشير إلى أن مثل هذه السيكولوجيات ليست فطرية في الإنسان، وَهي ناشئة بفعل العَوامل الخارجية التي تنشأ بفعل المُعاناة، وَمَا الحديث عَن فلسفة الفقراء والتنظير لها، سوى كون مثل هذه الطبقات ضعيفة، كما شاع فيما مَضى الحديث بَين العلمَاء النفسانيين بوُجُوُد حَياة نفسية خاصة وَمُمَيزة لدى السُوُد وَالعبيد وَالنسَاء.
الفخاخ التي وقعت فيها دول المليار نسمة
درس ” بول كوليير” في كتابه، وقائع الأوضاع الاقتصادية للبلدان الواقعة تحت خط الفقر، وَلقد خلص في ذلك الى أن مُعظم الدول القابعة تحت خط الفقر تكون قابعة تحت أحد مِن الفخاخ الأربعة التي سَوف نشير إليها. وَلقد وَصَف هذه البلدان قائلاً: “إن البلاد القابعة تحت الفقر، تعيش مثل غيرها في القرن الحادي والعشرين، بيد أنها تنتمي –واقعيًا- إلى القرن الرابع عشر”.*
حيث إن هذا القرن اتسم بكثرة الحُرُوُب الأهلية وَالكوارث وَالجهل، كما أن مثل هذه البلدان أصبحت عَاثرة في الفقر بمكان أصبح عليها تجاوز أزمة الفقر أمرًا صَعْبًا مِن دُون الانفلات مِن هذه الفخاخ.
تقوُم العولمة على ثلاث ركائز أساسية هي: التجارة العالمية، وتدفقات الأموال، وَهجرة الأدمغة، وكون العَولمة هادفة إلى تصعيد أم إنقاذ الدول الفقيرة؛ فذلك أمْر مُختلف فيه، الا أن ذلك يعُوُد بالدرجة الأولى إلى خطط واستراتيجيات البلد.
“إن البلدان التي تعيش تحت خط الفقر هي أقلية عاثرة الحظ، لكنها أقلية عالقة”،* أي أن مثل هذه البلدان ليست بالكثيرة، إلا أن وُقوعها في الفقر لا يعني أن ذلك شأن هذه الدول نفسها؛ فأزمتها تتعدى بفضل تداعياتها إلى عرقلة كل مِن الأمن والسلم العالميين؛ الشأن الذي يستدعي حتى تلك الدول الغنية والقوية الالتفات لمثل هذه الأزمة وَالمُحَاولة الجادة لمُعالجتها، إذ وَصَفَ بول كوليير حال هذه البلدان: “في الواقع، لقد دفع تدهور النمُو بلاد المليار نسمة الذين يعيشون تحت خط الفقر فعليًا إلى أقل مُستوى مِن قاع العالم”،* وَ”يبدو الأمر كما لو كان المليار نسمة عالقين في قطار تدُوُر عجلاته ببطء إلى الوراء، وهو يهوي بهم نحوَ أدنى مُسْتوى في قاع المنحدر”.*
- فخ الصراع:
يرى بول كوليير أن أول فخ تقع فيه دول المِليار نسمة تحت خط الفقر هُوَ فخ الصراع، مَهما كان نوع هذا الصراع حيث إن: “(73%) مِن شعوب بلاد المليار نسمة الذين يعيشون تحت خط الفقر، خبروا منذ عهد قريب الحرب الأهلية”،* وَلقد أشار الكاتب إلى التبعيات الفادحة للحُرُوُب الأهلية على اقتصاديات الدول، كما أشار إلى أن هناك مَجمُوُعَة مِن العوامل التي تجعل أي بلد كان، يجنح للحرب الأهلية أو الصِراع هي: البلدان ذات الدخل المنخفض؛ فالنمُو البطيء أو الركوُد الاقتصادي “أي بلد يعاني انخفاض دخل قياسيًا يُواجه خطر نشوب حرب أهلية كل خمس سَنوات بنسبة (14%) على وَجه التقريب”،* والتعويل على صَادرات المَوَاد الخام مِن نفط، مَاس، وَمَا الى ذلك، “تميل الحُرُوُب إلى الاستمرار مُدة أطول، إن زادت قيمة مُنتوُجات البلد القابلة للتصدير، ربما يُصبح في مثل هذه الحالات أمر تمويل الحرب أسْهل مَنالاً”،* إضافة لجغرافية البلد: فكلما زادت مسَاحة الأرض كلما كانت مُهيأة لذلك؛ (مثل جُمهُوُرية الكونجو)، والبلد الذي تكثر فيه التضاريس الجبلية (مثل نيبال) وَالأماكن الصغير المأهولة بالسكان.
- فخ الموارد الطبيعية
يرى الكاتب بأن فخ الصِراع ليس الوحيد الذي يقض مَضجع الدول ذات المليار نسَمَة؛ حيث إنهُ يرى أن تلك الدول التي تعتمد في اقتصَادها على المَوَارد الطبيعة، وترتكز عليها ارتكازًا أسَاسِيًا قد تخفق في تحقيق تنميتها وَتسقط في القاع. حَيث إن “الدخل السريع والمتقلب الناتج عن عائدات الصَادرات تصعب إدارة شؤونه”،* كما أن البلدان التي تعتمد على مثل هذه الموارد تميل لأن تكون دُولاً غير ناجحة سِياسيًا، وخصُوُصًا مِن ناحية التسيير لمَا يقع مِن اختلاسات وَغيرها مِن الأمُوُر التي تجعل مِن مثل هذه الدول سَيئة.
“عائدات الموارد الطبيعية تجعل الحكومات أكثر سوءا”*، تتمثل لعْنة المَوَارد الطبيعية في كون عائداتها تجعل مِن النظم الديموقراطية عاجزة عن أداء مَهامها بالطريقة المثلى، وَذلك راجع للاحتكار وَسَيطرة رجال الأموال وَالعِصَابات على مثل هذه الموارد، و”من دُوُن وُجُوُد عائدات مِن الثروات الطبيعية، تتفوق الديمقراطيات على الأوتوقراطيات”.*
كما استخلص الكاتب أن: “عائدات الموارد تؤدي إلى تآكل القيود المفرُوُضة على السلطة. وهذا يؤدي إلى انفلات المنافسة الإنتاجية مِن القيود التي تقتضي العملية الانتخابية وُجُودها، وهكذا تصبح الأحزاب السِياسية طليقة للتنافس في الأصَوات عَـن طريق المحسُوُبيات إن هي اختارت ذلك”.*
- الاحتباس وسط جيران سيئين
يتجه صَاحب الكتاب الى أن الدول التي تكون محاطة بدول سيئة أخرى، أو كون الدولة ذات علاقة سيئة مَعَ جيرانها فذلك يؤدي حتمًا إلى تراجع نموها وتفاقم أزمة الفقر بها؛ حيث يذهب “ساش” إلى القول:
“إن احتباس بلاد وَسَط جيران سيئين يُجهز على (50%) من نسبة نموه”؛* حيث إن الدولة دائما مَا تستفيد مِن نمُو جيرانها بشكل مباشر، كما أن الاحتباس لا يؤدي بالضرورة إلى الفقر، إلا أنه وَحَسَب الدراسات: “فإن %38 من الناس الذين ينتمون الى مُجتمعات المليار نسمة الذين يعيشون تحت خط الفقر، مَوجُوُدُون في بلاد حَبيسة وَسَط جيران سيئين”.* وَوفقًا للمقاييس العالمية فإن نسبة (1%) مِن النمو لدولة مَا؛ فذلك يعُوُد بما نسبته (4%) للبدان المُجاورة، بالإضافة إلى أن الكاتب أشار إلى أن الدول الساحلية يمكن أن تخدم العالم بأسره، في حين أن البلدان الحبيسة يمكنها فقط خدمة جيرانها، لذا فإن البلدان الحبيسة لا تملك حَلا أخر سِوى الاعتماد على دول الجوار مِن أجل تحقيق نمُوها، وذلك لأن كلاً من: “الاحتباس وشح الموارد والجيرة السيئة كلها عَوامل تجعل من التنمية أكثر صُعُوبة، وأشد تعقيدًا”* وَوَضع صَاحب الكتاب تسع استراتيجيات لتجاوز هذه المشكلة ندرجها فيما يلي:
- زيادة الاستفادة من دول الجوار.
- إدخال تحسينات على السياسات الاقتصادية لبلدان الجوار.
- إدخال التحسينات على حُرية الوُصُوُل إلى السَواحل.
- أن يُصْبح البلد ملاذًا إقليميًا.
- لا تكون حبيسة الجو أو الأرض.
- تشجيع تحويل الأموال.
- إيجاد بيئة ودية وَشفافة فيما يتعلق بالتنقيب على الثروات، والمَوَارد الطبيعية.
- التنمية الريفية.
- مُحاولة استقطاب المُسَاعدات.
- حكم سئ في بلد صغير
هنا يكمن التداخل مَا بين الحكم الرشيد المبني على الديمقراطيات وَتجلياته على مَدى النمو والتطور الاقتصادي، والذي يلعب دورًا مُهما في تقليص تداعيات أزمة الفقر على الدولة؛ “فالحكومة والسياسة الجيدتان تستطيعان الإفادة من الفرص المتاحة، بيد أنهما غير قادرتين على توليد فرص لا وُجُود لها على أرض الواقع”.*
وَهنا يبرز للعيان الأهمية الكبرى للشفافية والاعتدال في الحكم السياسي على الجانب الاقتصادي، والذي بدوره يؤثر بشكل مباشر على الجانب الاجتماعي لأفراد الدول، وَمثالا على ذلك فقد “صنفت مُؤسَسَات الشفافية الدولية في عام (2005) كلاً من بنغلادش وتشاد على أنهما أسوأ بلدين في العالم على صعيد تفشي الفساد”.*
كما أن تجاوز هذه الأزمة ليس بالأمر الصعب والمستحيل؛ حيث إن مثل هذه الدول لها حظوظ أوفر على غيرها في تحقيق التنمية؛ “فانطلاقا من كون الدولة متخلفة، تكون حظوظها أكبر في إحداث تحول مُستدام كلما كان عَدد سكانها أكبر، ونسبة مِن أنهى التعليم الثانوي فيها كبيرة. وَمما يدعو للدهشة أكثر هو أن حظوظ البلد في التغيير المستدام تكون أكبر إن كانت قد خرجت لتوها من حرب أهلية”.* ولإحداث مَا يسمى بالتحول المستدام؛ فإن ذلك يتطلب وقتًا من الزمن، وهو الذي يطلق عليه بالاستثناء الرياضي؛ وَهو متوسط الزمن الذي تحتاجه دولة متخلفة للخروج مِن دائرة تخلفها، وغالبًا ما يكون ناتجه هو أنها تحتاج الى (59) سنة لتحقيق ذلك”.*
العولمة وأزمة الفقر في العالم: تصعيد أم إنقاذ؟
تقوُم العولمة على ثلاث ركائز أساسية هي: التجارة العالمية، وتدفقات الأموال، وَهجرة الأدمغة، وكون العَولمة هادفة إلى تصعيد أم إنقاذ الدول الفقيرة؛ فذلك أمْر مُختلف فيه، الا أن ذلك يعُوُد بالدرجة الأولى إلى خطط واستراتيجيات البلد.
فمن الممكن على الدول الفقيرة الاستثمار في العوامل الثلاثة السابقة مِن أجل تحقيق تنميتها، أو مِن الممكن أن يتم استغلالها من طرف الدول الأخرى والشركات مُتعددة الجنسيات، وَتحويل فرصة هذه الدول لتحقيق النمُو إلى مَادة ربحية لهم. وَفي هذا الصدد يقول الكاتب في ديباجة هذا الفصل: “إن تأثيرات العولمة على اقتصادات البلدان النامية تنشأ عن ثلاث عمليات واضحة المعالم؛ إحداها المتاجرة بالبضائع، والثانية تدفقات الأموال، والثالثة هجرة الناس”.*
وَبما أن الاقتصَاد في أساسه يقوم على رُؤوس الأموال؛ فإن البلدان غير النامية تكون أكثر استقطابًا للاستثمارات الخارجية؛ حيث إن هناك قاعدة اقتصادية أسَاسية تقول: “إنه في المجتمعات التي تفتقر إلى رؤوس الأموال، تكون عائدات رؤوس الأموال مرتفعة، وهذا ما يجتذب رؤوس الأموال التي تتدفق عبر القطاع الخاص”.*
وَيعكس هذا الوضع وُجُوُد فرصة سانحة للنمو، شريطة توازي ذلك مَعَ الحكم الرشيد القائم على الديمقراطيات، والانتقال من الارتكاز على الموارد الطبيعية إلى المواد المصنعة إذ: “توفر المواد المُصنعة، والخدمات إمكانيات أفضل، وأكثر تحقيقًا للعدل والإنصاف، ثم إنها توفر تنمية ذات وتيرة سريعة؛ إذ إنها تعتمد على العمل أكثر من اعتمادها على الأرض”.*
إن الشركات متعددة الجنسيات والشركات الأجنبية تشكل خطرًا على اقتصاديات الدول النامية، والدول التي ترضخ تحت خط الفقر، الشأن الذي يجعل إيكال الاستثمارات لمثل هذه الشركات أمرًا خطرًا وَمُضرًا لاقتصادات هذه الدول
أما فيما يخص تدفقات رُؤوس الأموال؛ فعلى مثل هذه الدول الارتكاز على الاستثمارات طويلة الأمد، على حساب الاستثمارات الموسمية والمؤقتة التي من شأنها تأزيم الأوضاع؛ “فالتمويلات الخارجية المتدفقة قصيرة الأمد، يمكن أن تعرض البلاد إلى هزات مالية عنيفة، بيد أن الاستثمارات طويلة الأمد مُرشحة لأن تكون ذات نفع دائم”.*
أما الشيء الذي يؤخذ على مثل هذه الدول فيما يخص تدفقات رؤوس الأموال، هو أن المناطق الأكثر افتقارًا للأموال، هي المناطق الأكثر تصديرًا لأموالها “إن كان تهريب الأموال واقعًا، لكن فما لا نستطيع معرفته حقًا، هو حجم تلك الأموال”.*
في حين أن التأثير الثالث للعولمة، والذي يتمثل في الموارد البشرية؛ فإن حاجة مثل هذه البلدان إلى كوادر بشرية مؤهلة أكثر؛ في حين أننا نشهد ظاهرة عكسية تتمثل في هجرة الموارد البشرية إلى دول أخرى؛ “فالهجرة تستنزف أبناء تلك البلدان المتعلمة أكثر مِمَا تستنزف غير المتعلمين من أبنائها”.*
ماذا عن التوازن؟ الغرب المتخم والجنوب الكاسح
بينما تعيش مُعظم الدول الغربية المتطورة في تخمة مَعيشية تحْسَد عليها؛ فغالبية شعوبها فوق خط الفقر، لدرجة انتشار بعض أمراض الغنى كالتخمة، وهي كثيرة، كالدول الإسكندنافية وَدُول الخليج، والولايات المتحدة الأمريكية، وغيرها الكثير؛ في حين أن هناك دُولاً غالية شعوبها تحت خط الفقر مثل الهند، لاوس، كمبوديا وغيرها؛ والتي غالبًا ما تنتشر فيها الحُرُوُب الأهلية والأمراض وَغيرها، ومثل هذه المؤشرات هي في الحقيقة تنفي الاتجاه الذي يقول بعدم توازن الموارد الطبيعية والمنتوجات الغذائية بنسبة لسكان العالم، وَتعُوُد مثل هذه المفارقات إلى سببين هما:
طبقية النظام الاقتصادي العالمي، واحتكارية الشركات مُتعددة الجنسيات: إذ إن النظام الاقتصادي العالمي الجديد يقوم على مبدأ العرض والطلب؛ حيث إذا زاد الطلب نقص العرض، وإن نقص العرض ازداد الطلب، وفي حالة نقصان الطلب كان من الطبيعي على العرض أن يزداد الشيء الذي يتحتم على أثره امتلاء الأسواق بالمواد الأولية، وانخفاض قيمة المنتوجات، إلا أن استراتيجيات الاحتكار تقوم على إتلاف أو ادخار كل المنتوجات الزائدة مِن أجل إبقاء كفة الأسعار دوما مُرتفعة، بينما مُعظم الشركات مُتعددة الجنسيات والتي تتوجه للاستثمار غالبًا في الدول النامية والمتخلفة، ترصُد أيادي عَاملة بخسة، غير قادرة على شراء مَا تنتجه بأجرها السنوي، بالإضافة إلى استغلال الموارد الأولية بأقل تكلفة، وتصعيد أسْعار المنتوجات الشأن الذي يخلق طبقات مُتوسطة وَطبقات غالبيتها مَا دُوُن خط الفقر.
علينا أن نغير من نظرتنا لأزمة الفقر على غرار ما كنا ننظر إليها قبل أربعين سنة، بكونها تقبع في بلدان عاجزة عن الحركة والتقدم. وعلينا الأخذ بيد المُصلحين في البلدان الفقيرة، كونها مَحل صراع داخلي مَعَ الجماعات المناوئة لها. وأخيرًا؛ على المُجتمعات ألا تقف مَوقف المشاهدة؛ بل القيام بأعمال تكميلية باستخدام وَسَائل غير تقليدية كجزء من ذخيرة التنمية
إن الشركات متعددة الجنسيات والشركات الأجنبية تشكل خطرًا على اقتصاديات الدول النامية، والدول التي ترضخ تحت خط الفقر، الشأن الذي يجعل إيكال الاستثمارات لمثل هذه الشركات أمرًا خطرًا وَمُضرًا لاقتصادات هذه الدول، ويبقى الخيار الوحيد لمثل هذه الدول هو الاعتماد على الاستثمارات المحلية، وإيجاد فضاءات أخرى للاستثمار غير الموارد الأولية (البترول، الألماس..).
قيام الأنظمة المحلية للدول الفقيرة على اللاعدالة وتفشي الفساد: إن أكثر العوامل التي تساعد على تفشي الفقر، وبالأخص للطبقات الدنيا للمجتمع، غالبًا ما يعود إلى تفشي الفساد السياسي للبلدان، والذي تمخض عنه سُوُء التسيير وَعَدم القدرة على التوزيع الرصين للثروات في مثل هذه البلدان، والعجز عن خلق فرص شغل كافية، وكذلك انتشار المال الفاسد والمحسوبية والرشوة داخل هذه الأنظمة الحاكمة، الشأن الذي ينتج عنه أزمات اقتصادية حَادة تؤثر بالسلب على القاعدة الشعبية، والتي يؤول مصيرها إلى خلق طبقات اجتماعية فقيرة غير قادرة على مُواكبة الغلاء المعيشي مِن جهة، وَالتضخم المالي مِن جهة أخرى، الشأن الذي يعمل على خلق أزمات اجتماعية وأخرى سِياسية كنتيجة لتلك الأزمات الاقتصادية التي تعيشها البلدان التي تقوم على اللاعدالة الاجتماعية، وتفشي آفات الفساد والمحسوبية وغيرها.
وَبالتالى فإن الطرح الذي ينص على الموازنة ما بين الثروات في العالم الثالث والعالم الأول غير مجدٍ، وذلك لأن أسباب الفقر في العالم الثالث غالبًا ما تعود أسبابه إلى عوامل داخلية لهذه البلدان، على غرار فساد الأنظمة الحاكمة لهذه البلدان، أما فيما يخص سيطرة الشركات متعددة الجنسيات التي تقوم مقام دول؛ فذلك أيضًا يعود إلى سُوُء التسيير الداخلي لمثل هذه البلدان، واستسلام أنظمتها لاحتكارية هذه الشركات، كسبيل لتقليل والتغطية على عجزها في تحقيق الاكتفاء الذاتي لها ولشعوبها.
برنامج العمل من أجل الصراع على المليار نسمة تحت خط الفقر
عَرض “بول كوليير” برنامجًا متكاملاً يعتمد على الربط ما بين الفخاخ التي وقعت فيها بلدان المليار نسمة تحت خط الفقر، والتي تعد من بين أهم الأسباب الرئيسة لأزمة الفقر في العالم، وَربطها بالوسائل المقترحة لتفادي هذه الفخاخ ربطًا منطقيًا كالاتي: في الإنفوجراف أدناه
خاتمة: ما الذي بوسع عوام الناس فعله؟
يرى صاحب الكتاب أن علينا تضييق الهدف، وَتوسيع قاعدة الوسائل مِن أجل مُجابهة أزمة الفقر في العالم، وذلك عبر ثلاثة اقتراحات، مفادها أنه علينا في الأول أن نغير من نظرتنا لهذه الأزمة على غرار ما كنا ننظر إليها قبل أربعين سنة، بكون أن هذه الأزمة تقبع في بلدان عاجزة عن الحركة والتقدم. أما الشيء الثاني فهو أنه علينا الأخذ بيد المُصلحين في مثل هذه البلدان، كونها مَحل صراع داخلي مَعَ الجماعات المناوئة لها. وأخيرًا فعلى المُجتمعات أن لا تقف مَوقف المشاهدة؛ بل القيام بأعمال تكميلية باستخدام وَسَائل غير تقليدية كجزء من ذخيرة التنمية ( سياسات تجارية، استراتيجيات أمنية، تغير في القوانين، تشريعات دولية جديدة).
* بول كوليير. مليار نسمة تحت خط الفقر: لماذا تخفق البلدان الأشد فقرا في العالم؟ وما الذي يمكن عمله حيال ذلك؟. المملكة العربية السعودية: العبيكات للنشر، 2010.
- الآراء الواردة في هذا المقال تُعبّر عن رأي الكاتب ولا تعكس بالضرورة مواقف وآراء “مواطن”.