لا يغيب مشهد النزوح الجماعي لأهل فلسطين عبر الحدود الشمالية نحو لبنان إبان النكبة في العام (1948)، عن ذاكرة أهل الجنوب اللبناني. آلاف مؤلّفة من الكبار والصغار يركبون الحمير والبغال، ويشدّون أمتعتهم بما تيسر منها تائهين في الأرض، باحثين عن الأمان؛ خصوصًا بعد مذبحة دير ياسين التي كانت نقطة التحول في قرار الفلسطينيين ترك أراضيهم والخروج منها تجاه المناطق المجاورة بعد انتشار الأخبار المرعبة عمّا ارتكبته العصابات الصهيونية من قتل لسكان البلدة واغتصاب نسائها ونهب ممتلكاتهم؛ في ظلّ قناعة كانت لدى هؤلاء أن عودتهم قريبة، وأنّ الجيوش العربية ستعيد تلك الأراضي وتقضي على تلك العصابات.
لا يمكن فهم ما يحصل حاليًا في جنوب لبنان وشمال فلسطين دون العودة الى تاريخ هذه المنطقة، والتي كانت حتى العام 1920 امتدادًا جغرافيًا وتاريخيًا وثقافيًا واحدًا، وكما يظهر بشكل جلي فيما كتبه عالم الدين اللبناني السيد هاني فحص في إصداره ( في وصف الحب والحرب) عن هذه العلاقة المتجذرّة بين المنطقتين: “إن جبل الجليل شقيق جبلنا ورفيقه إلى الأبد، لم يغب عن عيوننا، وشوقنا أن نرى القدس من قممه”.
جبل عامل والجليل تحت الراية العثمانية.
يقول أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر الدكتور طليع حمدان في مقابلة مع مواطن: “كان جبل عامل والجليل جزءًا من ولاية بيروت ضمن السلطنة العثمانية ابتداءً من العام 1888، وقبلها كانت تلك المنطقة تتبع إداريًا ولاية صيدا، وكانت المنطقتان تاريخيًا تمثل امتدادًا حيويًا مفتوحًا للتواصل اليومي، بما يشمل النواحي الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية؛ بل عاشت تلك المنطقة تجربة سياسية أخذت طابعًا أمنيًا، لم تكن مسبوقة في حجمها وخطورتها في ظل السلطنة العثمانية، عندما تحالف الشيخ ناصيف النصار زعيم جبل عامل، مع الشيخ ظاهر العمر، حاكم عكا والجليل بعد النصف الثاني من القرن الثامن عشر، للحدّ من سطوة الولاة العثمانيين في صيدا ودمشق على منطقة شمال فلسطين وجبل عامل، وحماية المصالح الاقتصادية بينهما؛ حيث أراد الشيخ ظاهر العمر حماية ميناء عكا على الساحل الشرقي للبحر المتوسط بالتوازي مع مصلحة الشيخ ناصيف النصار، في تأمين طرق تجارية لمحاصيله الزراعية “.
تشارك أهل المنطقتين (الشيعة في جبل عامل والسنة في الجليل وعكا) النضال ضد الوالي العثماني أحمد باشا الجزار، ولم يكن الاختلاف المذهبي والعقائدي حاجزًا أمام تضافر مصالح الطرفين في مواجهة النفوذ العثماني
في هذا السياق، يذكر أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية في بيروت شارل الحايك، أهمية البعد التجاري والاقتصادي بين المنطقتين: “كان جبل عامل مزدهرًا اقتصاديًا بسبب مردود زراعة التبغ وإنتاج القطن وتصديرهما إلى المناطق المجاورة في فلسطين وسوريا، كما كان يزخر بالحياة الفكرية والثقافية المرتبطة بآل بيت الرسول والسلالات الشيعية الاثنى عشرية”.
وانطلاقًا من أهمية تلك المصالح في البنية الاقتصادية والاجتماعية للمنطقتين، برز البعد النضالي في العلاقة بينهما. يتحدّث أستاذ التاريخ الدكتور طليع حمدان لمواطن عن تلك المرحلة التاريخية: “تشارك أهل المنطقتين (الشيعة في جبل عامل والسنة في الجليل وعكا) النضال ضد الوالي العثماني أحمد باشا الجزار، ولم يكن الاختلاف المذهبي والعقائدي حاجزًا أمام تضافر مصالح الطرفين في مواجهة النفوذ العثماني، ورغم قوة هذا التحالف، كانت النهاية مأساوية، حين شنّت السلطنة العثمانية حملة عسكرية مباشرة أسفرت عن مقتل ظاهر العمر ومقتل ناصيف النصّار لاحقًا”.
عُرف عن أحمد باشا الجزار وحشيته وقساوته، التي كانت مثار مرويات كثيرة نقلت “أنّ أفران عكا اشتعلت أسبوعًا كاملًا بحرق كتب وتراث الشيعة”، ناهيك عن الإجراءات القاسية التي قام بها الجزار بهدف بسط سطوته وتصفية حسابه، والانتقام من أهل جبل عامل الذين هربوا تواليًا إلى دمشق وبعلبك.
سايكس بيكو والحدود الجديدة
يشرح الدكتور طليع حمدان لـمواطن، أبرز المحطات التي شهدتها تلك المنطقة قائلًا: “سبق انهيار الدولة العثمانية خلال الحرب العالمية الأولى ودخول جيوش الحلفاء إلى فلسطين وسوريا ولبنان، اتفاقية سايكس بيكو، التي قسمت المناطق العثمانية بين بريطانيا وفرنسا؛ ما جعل منطقة الجليل والجنوب اللبناني تتوزعان بين سلطتين أجنبيتين محتلتين، ومعها أخذت المنطقة مسارًا مختلفًا جغرافيًا وسياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا؛ فالاتفاقية السرية بين بريطانيا وفرنسا وضعت فلسطين تحت النفوذ البريطاني ولبنان تحت النفوذ الفرنسي، وخلّفت تأثيرات عميقة لم يكن من السهل على السكان التأقلم معها والاستسلام لها، هذا الواقع الذي كرّسته بريطانيا وفرنسا بالقوّة، وجرى تعديل ما ورد من ترسيم على الورق في اتفاقية سايس بيكو، بعد دخول فرنسا في مفاوضات حول ترسيم المنطقة الحدودية الفاصلة بين لبنان وسوريا وفلسطين، واستهل الاتفاق الأول بين الانتدابين البريطاني والفرنسي على ترسيم الحدود بعبارات عامة في “الاتفاقية الفرنسية-البريطانية، حول بعض النقاط المتصلة بالانتداب على سوريا ولبنان؛ فلسطين، والعراق”، الموقعة في باريس، في 23 من كانون الأول 1920 ثمّ تابعت المفاوضات مسارها حتى وصلت إلى اتفاق الترسيم النهائي المعروف بـ” اتفاقية يوليه-نيوكومب Paulet–Newcombe Agreement “، أو خط پوليه-نيوكومب Paulet-Newcombe Line، وبموجب اتفاقية 23 من حزيران 1923، الذي دعي باتفاق “حسن الجوار، تنازلت فرنسا المنتدبة بموجبه عما يقارب كامل المنطقة اللبنانية من الحولة لصالح الانتداب البريطاني في فلسطين، وبالتالي لصالح الحركة الصهيونية الناشطة هناك، وذلك منذ مطلع عام 1924، مقابل منح شركة فرنسية امتياز التجفيف لمناطق المستنقعات”.
يورد المؤرّخ منذر جابر في كتابه الصادر حديثًا (مسائل في أحوال الجنوب اللبناني- جبل عامل): “عندما دخلت فرنسا وبريطانيا في حزيران/يونيو 1920؛ في مفاوضات لترسيم الحدود، كتب حاييم وايزمان إلى تشرشل في بداية سنة 1921،عنه أن الاتفاق مع فرنسا حرم فلسطين من الوصول إلى الليطاني، وحرمها من امتلاك أعالي نهر الأردن ونهر اليرموك والسهول الخصبة شرقي بحيرة طبريا، والتي كانت تعتبر أهم الأماكن الواعدة لاستيطان يهودي واسع النطاق”.
وعلى الرغم من التراجع الفرنسي عن الأراضي التي كان من المفترض أن تكون تحت سيطرتها بموجب خريطة سايس – بيكو، فضلاً عن بعض القرى اللبنانية التي تنازلت عنها في اتفاقيات الترسيم بين 1920-1923، إلا أنها لم توافق على مطالب الحركة الصهيونية بضم المناطق الواقعة جنوب نهر الليطاني، ويذكر الدكتور جابر في كتابه أنّه: “وفي مقابل هذه المطامع كان الانتداب الفرنسي حاجزًا أمام الأطماع الاستيطانية الصهيونية، وفي العام 1920 ردّت السلطات الفرنسية طلبًا تقدم به حاييم وايزمن رئيس المنظمة الصهيونية العالمية في ذلك الوقت، يطلب فيه السماح لمستوطنين صهاينة، بالاستقرار في جنوب لبنان، وقد نقل وايزمن على لسان مسؤول فرنسي قوله: “بعد أن تحصلوا على صور وصيدا، ستطلبون تغيير الحدود من جديد..”.
تداعيات التقسيم على السكّان
في تلك الفترة، كانت فرنسا قد أسست دولة لبنان الكبير، وكانت رافضة لأي تعديل للحدود مع شمال فلسطين بعد اتفاقية پوليه-نيوكومب، ورافضة للهجرة الصهيونية إلى مناطق نفوذها، وأصبح جبل عامل هو جنوب لبنان وفق الخريطة الجديدة.
ونتيجة لهذه التغييرات كان على السكان في المنطقتين الرضوخ للقيود المفروضة على حركتهم، وسرعان ما تغيرت الروابط التقليدية التي كانت قائمة خلال العهد العثماني، وتفرّقت المجموعات السكانية المنصهرة تحت بوتقة الحياة الفلاحية والزراعية، وأصبحت المنطقة منقسمة إلى منطقتين؛ جنوب لبنان وشمال فلسطين.
بقي الجنوب اللبناني معزولًا عن العاصمة بيروت، واستمر الجنوبيون رغم هذه الترسيمات الحدودية بالسعي إلى شمال فلسطين بحثًا عن مصدر رزقهم وعملهم.
تتذكر الحاجة أم ناصيف من بلدة مارون الراس، كيف كانت السلال محملة بالخيرات، وتفيض مواسم العنب والتين، وينطلق التجّار إلى بلدات الجليل (هونين، الخاصرة، الناعمة، الزوية، الصالحة، الليطية، الدوارة والعبثية…).
يقول أبو أحمد عبدالله: “كانت القوافل تسير عند الصباح الباكر بواسطة الدواب، وثمة من كان يقطع المسافة سيرًا على الأقدام، والبعض الآخر كان لديهم رفاهية التنقل بحافلة “نخلة” التي عُرف أصحابها بعلاقاتهم الجيدة مع الإنجليز، وسهولة حصولهم على تراخيص المرور، يضيف أبو أحمد: “كان أبي وأعمامي يعملون في الناصرة، يبيعون الدجاج والبيض والتبغ هناك، ويشترون الذرة البيضاء والقمح والشعير والعدس والزيتون، ويبيعيونها في سوق بنت جبيل، السوق الذي أصبح ملتقى التجار وموعدًا ثابتًا في كل يوم خميس للتبادل التجاري، الذي سرعان ما تحول إلى علاقات صداقة ومصاهرة وقرابة.
الدراسة في الجليل
تعتبر بلدة رميش من البلدات الجنوبية الحدودية التي حظيت بعلاقة وطيدة مع مدينة صفد، يذكر الدكتور جوزيف فؤاد جرجورة في بحث له تحت عنوان (قراءة في تاريخ علاقات رميش الحدوديّة والجليل الفلسطيني )، أنّ هذه الروابط تعود إلى منتصف القرن الثّامن عشر، وتحديدًا إلى سنوات تدشين “الرميشيّين” كنيستهم، لافتًا إلى أن هذه العلاقات لم تقتصر على النواحي الاقتصاديّة والاجتماعيّة؛ بل كان العديد من أبناء البلدة يقصدون شمال فلسطين بهدف الدراسة باللغة الإنجليزية فيما كانت المدارس اللبنانية تعتمد اللغة الفرنسية.
بالإضافة إلى ذلك يظهر بشكل جلي التماثل بين المنطقتين في ظروف الحياة والسكن والمعيشة والعادات والتقاليد والزَّيّ والمأكولات واحتفالات الزفاف، وحتّى مراسم الجنازة، يفسر الدكتور خالد السنداوي المتخصص في الدراسات الإسلامية الشيعية، وجود بعض العائلات الشيعية في شمال فلسطين في بلدات مثل قدس، المالكيّة، هونين، النبي يوشع، آبل القمح، طربيخا وصالحة وغيرها، بسبب علاقات المقاربة والزواج وتضافر العائلات بين جبل عامل والجليل.
الفلسطينيون الذين هربوا إلى لبنان، كانوا يعتقدون أنّ الأمور ستنتهي خلال أيام وسيعودون إلى ديارهم، ولكن هذه الأيام أصبحت أسابيع وشهورًا، وانتقل معظمهم ليعيش في مخيمات في مدينة صور للعمل في البساتين القريبة.
الحاجة صبحية من مدينة بنت جبيل
بالإضافة إلى ذلك يبدو التشابه واضحًا بين اللهجة اللبنانية الجنوبية واللهجة الفلسطينية بسبب التفاعل بين السكان، يبدو هذا مختلفًا جدًا بالنسبة إلى اللهجات في المناطق اللبنانية الأخرى؛ حيث كلّ منطقة تتميز بلهجتها الخاصة.
نكبة 1948 والنزوح نحو جنوب لبنان
بسبب القرب الجغرافي؛ شهد جنوب لبنان تدفّق موجات من الهاربين من بطش العصابات الصهيونية، يتذكر الحاج أبو ملحم من بلدة كفر”كلا” كيف عاد والده من عكا مصطحبًا صديقه وعائلته، وأعطاهم غرفته ليستقروا فيها إلى حين.
تقول الحاجة صبحية من مدينة بنت جبيل إن الفلسطينيين الذين هربوا إلى لبنان، كانوا يعتقدون أنّ الأمور ستنتهي خلال أيام وسيعودون إلى ديارهم، ولكن هذه الأيام أصبحت أسابيع وشهورًا، وانتقل معظمهم ليعيش في مخيمات في مدينة صور للعمل في البساتين القريبة.
كان والد جورج عواد (78 عامًا) مثل غالبية أبناء راشيا، يعملون في صناعة الفخار وتجارته، وكانوا ينقلون إنتاجهم إلى قريتي صفد والخالصة، يتذكر جورج لجوء الكثيرين من أصدقاء والده إلى راشيا بحثًا عن مأوى، ويتذكر الظروف الصعبة التي عاشوها والمجازر والمآسي التي تعرضّوا لها.
هذه الذكريات التي لم تنته نسجت ذاكرة جماعية مؤلمة بين أهل المنطقتين، وخلقت قلقًا جماعيًا لدى سكان أهل الجنوب من مواجهة نفس المصير الذي عاشها أهل فلسطين؛ فاحتضنوا في أرضهم حركات المقاومة الفلسطينية وساندوها، وتحملوا معها تبعات الهجمات الإسرائيلية المتكررة على لبنان.
Technoob I truly appreciate your technique of writing a blog. I added it to my bookmark site list and will
dodb buzz Good post! We will be linking to this particularly great post on our site. Keep up the great writing
dodb buzz I really like reading through a post that can make men and women think. Also, thank you for allowing me to comment!
Masalqseen Very well presented. Every quote was awesome and thanks for sharing the content. Keep sharing and keep motivating others.